الفصل الثاني من كتاب ثلاث مدن مقد سة
تأليف الروائي الفرنسي جون ماري لوكليزيو
مقدمة
جون ماري لوكليزيو جدول مفرد, متفر د داخل الكتابة الحديثة في فرنسا. فقد جاء بعد تيار الرواية الجديدة الذي مثله في حينه أواخر الخمسينات وبداية الستينات الثلاثي آلان روب غرييه وميشال بيتور, ونتالي ساروت .وسبق من ناحية أخرى الن ص الحديث المفتوح, الرواية الحديثة التي مضت في كل الاتجاهات وكسرت إلى الأبد المعمار البلزاكي. ولوكليزيو متفرد في كل شيء: متفرد في الانتماء: لاجيل له ولامدرسة. ومتفر د في الصياغة,. فصياغته بسيطة تضع العالم قبل اللغة, قبل الأفكار حتى أن رواياته تبدو وكأنها بلا كاتب, فالمؤلف غائب لا يتدخل في النص; لأن النص لديه هوالحياة متجلية في اللغة ولهذا السبب فهو متسع اتساع الحياة نفسها. ولوكليزيو كما يقول عنه صديقه الشاعر الفرنسي الكبير جون غروجان لديه اطلاع واسع على العلوم الانسانية من تحليل نفسي إلى علم اجتماع إلى انثروبولوجيا ولكنه لا يستخدم معارفه في نصوصه, لايقحمها ,أو يفرضها على القارئ. وإنما هو يقول الفكرة اذا صادف ورآها تنبثق متجس دة في الوجود اليومي للبشر . الوجود اليومي الذي هو حقيقتهم الأولى والأخيرة . ولوكليزيو متفرد في المواضيع فموضوعه هو حياة البشر الذين انتبذوا بالنسيان, أقوام الثقافات الن ائية, والشعوب التي لايذكرها أحد, قد يكون كتابه عن شعب صغير يعيش في واد ناء من أميركا الجنوبية أو افريقيا أو آسيا أو أستراليا, مما أعطى أعماله نكهة اثنوغرافية, فنصه يقع في جغرافيا ملتبسة بين تقارير الرحالة المكتشفين, وبين التحقيق الصحفي والتسجيل الاثنوغرافي .و هذا أيضا منحه تفردا آخر, اذ نادرا ما تعرض الأدب للأقوام الأخرى إلا في شكل أدب رحلات, أو بطريقة ذهنية بحتة كما فعل أندري مالرو – في ما دعاه بالمتحف التخييلي لدى حديثه عن الهند ومصر واليمن والغرب وتكرر التجارب, وتشابه الرموز عبر الحضارات المختلفة, والمتنائية في المكان وفي الزمان, وبالتالي فهي لم تتواصل ابدا – أو بأسلوب الوصف الخارجي; كما هو شأن بيرل باك, وجوزيف كنراد, وهنري ميللر في كتابه عملاق ماروسي.
لا .. لوكليزيو شيء مختلف كل الاختلاف عن هذا التعاطي مع الشعوب الأخرى. فكتابته لا تتأسس على قاعدة ذهنيه أو معمار روائي محدد, أو وصف خارجي. إنه يكتب باستمرار عن الحياة اليومية التي خاضها مع هؤلاء البشر, وعاش بينهم كواحد منهم; لأن له هذه القدرة الفائقة كما يقول جون غروجان على التقاط أشياء العالم المباشرة: عندما نلتقي أنا ولوكليزيو يكلمني عن الشيء الذي رآه في حينه. قد تكون غيمة رائعة او شجرة بدأت اوراقها بالتساقط. يتكلم لوكليزيو آنيا عن شيء مجسد, عن تجربته المباشرة مع الاشياء المحيطة بنا.. وفي نفس السياق يقول جون غروجان في مكان آخر عن لوكليزيو: عندما يكون لوكليزيو يعمل على موضوع فانه يترك نفسه تتشرب الموضوع. ويقدم لنا بعدها العالم الذي استسلم له, العالم الذي سكن داخل لوكليزيو, ومن هنا فان للكاتب دورا ثانويا في نصه; ولكن هذا لا يمنعه من استعمال ضمير المتكلم من حين لآخر.
و لكن ماذا يريد لوكليزيو أن يقول من وراء هذه الكتابة?
في الأو ل تبدو أعماله وكأن ها تحقق كتابي لصيحة أنطونان آرتو في تولهه بطرائق التفكير المكسيكية .
ورغم أن لوكليزيو يعتبر كتابه هذا: ثلاث مدن مقد سة شبه تحقيق فإنه لا يبدو في هذا الكتاب موثقا اثنولوجيا, أو دارسا تقنيا للهنود الحمر. وإن ما الثقافة الهندية بالنسبة له هي مصدر معرفة, وعلى الرجل الغربي أن يتعلم من الهندي الأحمر أشياء كثيرة: يتعلم محافظة الهندي على تلك العلائق الروحية التي تربط الانسان بوسطه الطبيعي. والتي افتقدها الإنسان في مدن الغرب الحديثة, فهذه الثقافات التي نقول عنها بدائية هي ثقافات أكثر طبيعية وبالت الي أكثر إنسانية. ولوكليزيو أحد الرواة النادرين الذي تعامل مع الأساطير من مقترب مادي, فيزيقي. ومن يوم ذهب إلى قبائل الأمبيراس وهو يبحث عن التناغم بين الذهني والفيزيقي, عن توازن فلسفي.. فهو يصغي لأصوات الصمت التي لا نسمعها لأننا محكومون بطرق تفكير مغلقة. يقول لوكليزيو وهو يتحدث عن ذهنية جماعة الأمبيراس الهندية: كل شيء مختلف لديهم, تصورهم للزمن, تصورهم للنفس البشرية تصورهم للهدف من الوجود, إن العلاقات التي تربط بين أفراد العشيرة أو الجماعة لهي أهم عندهم من التطور التقني …
و لكن من هو جون ماري لوكليزيو?
ولد جون ماري لوكليزيو في مدينة نيس الفرنسية سنة 1940 من اب انجليزي وأم فرنسية عاش طفولته أيام الحرب العالمية الثانية بمنطقة جبال الالب البحرية حيث التجأت عائلته.. طفولة مليئة بالقراءات حول الجغرافيات البعيدة والاصقاع العجائبية قراعن بركان باريكوتين المكسيكي وبعد ثلاثين سنة ذهب ليعيش في منحدر هذا البركان.. من سن الحادية عشرة بدأت أسفاره مع العائلة في غابات افريقيا حيث عمل ابوه طبيبا ريفيا .. بدأ الكتابة مبكرا كتب في افريقيا كتابين: الرحلة الطويلة, والأورادي الأسود . ومن ذلك الوقت لم ينقطع عن الكتابة التي تحولت لديه الى اسلوب حياة إلى وجود. فجر الستينات جرب التمثيل السينمائي وفي 1963 نال أول جائزة عن روايته التحقيق . في 1964 وضع دراسة أكاديمية بعنوان العزلة في أعمال الشاعر الفرنسي هنري ميشو.. من كتبه العديدة الحمى, التحقيق, الطوفان, الغبطة المادية, كتاب الهروب, الحرب, العماليق, سفر من الناحية الأخرى, نبوءات شالام بالام ,مجهول فوق الأرض, صحراء ,رحلة إلى رودريغيز, الس مكة الذهبية أناس السحب (عن عوالم صحراء الساقية الحمراء ووادي الذهب) , دييغو وفريدا …
يعيش لوكليزيو الآن في نيس ببيت العائلة ذي العمارة الايطالية ,أمام الميناء مع زوجته الثانية جامي ة المغربية التي جاءت من الصحراء والتي شاركته كتابه أناس السحب ; ويواصل أسفاره, ورحلاته وكتاباته عن الثقافات والشعوب المنسية بشكل تخييلي – انساني ليقول للغرب أنه عليه أن يستعيد من الثقافات التي يسميها بدائية الثراء والعنفوان وتأص ل الانسان في الطبيعة وفي الكون; ذاك التأص ل الذي افتقده الانسان الغربي ..
وفي الأخير يعد لوكليزيو مع جون جيني من أهم من كتب في فرنسا متعاطفا مع الوجع الفلسطيني ; لذلك استجلب لنفسه ريبة بل عداء الأوساط الصهيونية في فرنسا, وخاص ة بعد ظهور نصه العتيد عن الفلسطينيين في مجلة دراسات فلسطينية التي تصدر باللغة الفرنسية في باريس.
الفصل الثاني
ثلاث مدن مقدسة
تيكسكال
مرة أخرى يصعد برد الليل فوق الأرض, قادما من الأعماق, فيزيد من صلابة الهضاب الكلسية, ويضغط على جذور الأشجار. الريح تهب , ريح صحراء, ريح الشرق المصحوبة بالخطر. ويغلق البشر على أنفسهم داخل بيوتهم, محتمين بالسقوف التي من ورق الأشجار, يتدثرون بفرشهم المؤرجحة التي من سعف السيزال. لا ينتظرون. بيد أنهم لا ينامون. هنا مكان الترب ص الدائم, كما لو أننا نرصد الليل من فوق هضبة, مصغين إلى الهمهمات التي تحملها الرياح. البرد يصعد من فتحات الآبار, إنه تنفس ثالج قادم من باطن الأرض.والخفافيش تطير في الظلمة, تجن ح صائحة في تي ارات الهواء. إنها بداية الليل .و ما تكاد الشمس تنطفىء في غرب الإقليم المنبسط, حتى تخيم الظلال فجأة فوق الأرض. وفي الليل, هل تخمد الحروب ? زمن طويل مضى على نشوب المعارك الأولى. كل ليلة, تتناءى القرى مثل طو افات, تائهة عن مركز الإمبراطورية, عن مدينة شان سانتاكروز الطيفية. والغابة هي قياس الزمن, فهي التي تفصل هكذا بصمت بفعل تنامي أغصانها وجذورها, وتتطاول دروب الغبار. وياتي الليل, ليلة أخرى تصعد من قبة كنيس البالامنا الرمادية.وكنيس البالامنا بناء خاو, وهو الآن متروك مثل جزيرة, ضائعا في الليل. عندما ينسحب الضوء, ضوء السماء الحارق, لا يبقى سوى هذا الحقل المقفر, حيث تومض نيران بعض القرى. وبعد مسير طويل وعناء كبير, نظل نرتعد, فجمود هذا العالم مرعب, والطرقات مقطوعة.
الآن تتجلى السماء, شاسعة سوداء حيث تومض الن جوم الباردة. وبين الأشجار ترتفع بهدوء اسطوانة القمر البيضاء. الريح تجعل الحجارة تطق وتتفتت على سطح الأرض الكلسية. لا يوجد ماء. هناك فقط برد حاد , إنه برد الفضاء.
على هذا الن حو يمر الليل, في قلب البلاد المسط حة, وبعيدا عن البحر, بعيدا عن الجبال, بعيدا عن المدن. وعندما يأتي صقيع الليل يعزف الناس بتاتا عن الكلام. حتى الكلاب تكف عن النباح. والأطفال الصغار يلتصقون بأجساد أمهاتهم ملفوفين في أردية معقودة, والشيوخ يتأرجحون في فرشهم المعلقة وأنظارهم شاخصة لليل. ليس هناك ما يقال الآن. ليس هناك ما يقال. الأسرار مغلقة داخل الأفواه بتأثير البرد. وبتأثير الظلمة. وكل ما نترجاه لا يجيء في الليل. الأحلام تع طلت, وليس ثمة ذكريات . وما نفع الذكريات? فهنا الحاضر هو المهيمن, وهذا الموضع هو المكان الأكثر يقظة فوق البسيطة.
البرد يصعد إلى سطح الأرض, قادما من الكهوف, وينتشر فوق ساحة القرية, ويغطي الغابة. يتملك الأشياء واحدا إثر الآخر.ويلج كل بيت مع الريح ومع الضوء القمري. ويتسرب البرد في أجساد البشر المتمددين في الفرش المتأرجحة, يوتر العضلات, يفقد الشفاه حساسي تها, ويشد على النخاع . انسحبت الشمس والليل قاس. علينا أن نظل بلا حراك مدة ساعات, لساعات نظل جامدين: العيون مفت حة على اتساعها, ناظرة من بين شقوق خشبات الجدران إلى المشهد الذي يضيؤه القمر.
هنا لا نستطيع أن ننام ولا أن نغيب عن الوعي, هذا هو مركز اليقظة, في هذا الجزء من العالم الذي أشاحت عنه الآلهة وجوهها وتركته للبشر. في أماكن أخرى بعيدة عن هذا المكان, هناك الجرائم, والتجديف, والتكالب على المال, وسيطرة الأجانب في القصور البيضاء, هناك الشعوب المجو عة والمهانة, في المدن الاسمنتية, هناك الهرج والانحطاط, هناك ذاك الذي يكذب, وذاك الذي يسرق, وذاك الذي يقتل, في مدن فالادوليد, وتيزيمين, وفي فيليب كاريو بويرتو, وفي شيتومال, وفي مدينة بويرتو خواريث, هناك الحياة الحيوانية الدميمة التي تتطاول على كرامة الص لبان . هناك الحنث والتجديف, وكل هذا يتكر ر كل يوم, بيد أن العقاب لا يحل أبد ا, الجفاف, الذي هو غياب كلمة الماء . ولكن الماء يتدف ق في البلاد الأخرى سائبا بلا جدوى, في الخزانات وفي أحواض السباحة. في حين أن الصلبان هنا صم أمام الآبار, والكتب منسية. وكل الأحداث التي وقعت: إنتصار الجنرال برافو, الإستيلاء على مدينة شان سانتاكروز, وخيانة انجليز منطقة بيليز, وخيانة الجنرال ماي, كل هذا غير مدو ن في الذاكرة, ولكن ه يتجلى فوق الأرض, وفي ساحات المدن.
في وسط البلد الأفقي, في مركز المدينة المقدسة, وداخل كنيس نيت نوهوخ تاتيش, يوجد الوجه الذي بلا انفعال, الوجه الشامخ للجندي العجوز المسمى مرسالينو بوت. وجه بلون الأرض, له خطوط عميقة. ووجنات عريضة مع الفم ذي الأشداق المتهد لة ,والأنف المقو س الكبير. والعينين برموشهما الثقيلة ترسل نظرات بلاحقد ولكن بثقة هادئة ومتعالية يخفيها إلى حد ما وهن الشيخوخة. والوجه لا يقول شيئا. إنه يهيمن وسط البيت. في ضوء النهار الغارب, ونظرته البعيدة تتابع تحر كات الرجال من حول دار الحر اس, فهو الذي يقود خطاهم.
أيام وليال كثيرة تتباعد ببطء عن قلب الامبراطورية, عن الحرم المهجور لكنيس بالامنا, تتباعد عن ساحات القتال, وعن المقابر.وصراع الناس وتقاتلهم هنا ليس من أجل الحصول على بعض فدادين من الأرض, ولكن لإنقاذ الكلمة الحقيقية. الكلمة التي كنا قد سمعناها من قبل عندما كان الكاهن نوحوخ تاتيش يلقي أوامره لجنود كريزوب, وعندما كان الكاهن التاتابولان مفسر الصليب, يملي رسالاته الأخيرة. كان وقتها ياوم بول إيتزا يدو ن ما يوحي به إليه خوان دو لاكروز من كلمات, وكان كلامه كلام الأرض كلها, والغابة بأكملها, وكان كلامه هو كلام الماء البارد الذي يتدف ق في الدياميس تحت الأرض. وكان كلامه هو كلام الحياة التي لا تنسى أبدا.
هكذا, أيها الأخوة المسيحيون, أوصيكم كلكم كبارا وصغارا, اذ يجب أن تعلموا أن هذا اليوم هو اليوم والسنة الذي سيهب فيه هنودي مرة أخرى لمقاتلة البيض, كما قاتلوهم في الماضي, أوصيكم كلكم كبارا وصغارا حتى تعلم كل المفارز التي تحت امرتي, فأنا أوصيهم أن يحفظوا ماسأقول في قلوبهم وفي أنفسهم, حتى إذا ما سمعوا وشاهدوا اطلاقات بنادق البيض موجهة لهم لا يرهبونهم, إذ سوف لن يلحقهم أي اذى. إذ ها هو قد حل الآن اليوم, وجاءت الساعة التي على هنودي أن يقاتلوا فيها من جديد الجنس الأبيض…
الوجه القاسي واللطيف, والذي بلون الطين – لون الأرض المحروقة بفعل تسعين سنة من الشموس والحرائق, الوجه الذي براه المطر, وظهره الجوع والعناء, الوجه الحقيقي الأكثر جمالا والأكثر هدوءا, إنه يهيمن على مركز القرية. لم يعد يحرض أبدا على الحرب. ولم تعد نظرته تشع بالإنتقام. والآن ها قد صار منسيا, تفصله الغابة, بينما ينمو ظل الليل القريب الذي قد يمحو صورته إلى الأبد, بعيد ا عن عنف وعن أطماع غزاة المدن. ويمتد سلطان الظل على بلد الأشجار, وعلى حقول الذرة والل وبياء, وعلى بيوت الورق, وعلى الآبار. إنه حاكم القرى الحقيقي, حاكم بيوت إيكسم ابن الطينية وبيوت سينار, وتوزيك, وإيكسكيشي المبني ة بصفائح القصدير وبالآجر.الظل يهيمن على قصور تيهوسيكو, وآكام بالام, وزاسي الخربة. والرجال المسل حون لم يعودوا يجوبون السهوب. وفوق الطريق المسفلتة التي تنحدر من الشمال إلى الجنوب, تمر الشاحنات سريعا وهي تهدر بمحركاتها. وعلى الدروب المغبرة تزحف الحيات تاركة آثارها الشبيهة بآثار الدر اجات فوق الر مال. إنها تمضي لصيد الجرذان والضفادع في ضوء القمر.
بيد إنه هنا, في مركز البلد المسطح, لا توجد حركة. وجه الرجل العجوز يهيمن بإستمرار, بلا حراك وبلا كلام. ومن قبله, من عينيه ومن كل ملمح من ملامحه ينبثق الوعي, وتنبثق القوة التي تنظ م هذه الأرض.
أجل, هنا يقع المكان الأكثر يقظة في الأرض, مكان الوعي الشامل. الوعي لا ينتظر. لا يتأمل نفسه. ولا يتطل ب شيئا.لا يتذكر الأيام ولا يحسب الليالي, ولايحفظ الساعات, ولا يسجل المناقب, ولايرسل أحكاما. وكل ما يطلبه يطلبه هكذا بصمت, وبكبرياء. وما يطلبه ليس هو الإنتقام, ولا هو المال. فالوعي متوافق مع إرادة الآلهة, ولا يطلب سوى هذا: الخبز والماء.
العطش شديد, فوق الأرض, نهارا وليلا ,عطش ييبس الشفاه, ويجفف الحلوق, ويدمي أطراف الأصابع, الحقول أيضا عطشى, الأرض متشققة, مصدعة, تخترقها أثلام خاوية. وحول المدينة الأشجار ذات الجذوع الن حيلة صامدة, وداكنة في الهواء الثلجي . والليل شبيه بالزجاج الحجري يلتمع ضوؤه الأسود, رحيبا وبلاماء. والريح تزفر ولكن ها لا تحمل غيوما ولا ضبابا. لا تحمل سوى برد الس هول الحجرية اللاسع. الهواء. والأرض, والسماء كلها عارية. في أماكن أخرى ربما هناك أنهار وبحيرات, ومواسير مفعمة بالمياه وبفقاقيع المياه. في أماكن أخرى هناك أحواض السباحة الشديدة الزرقة, والمغاطس الدافئة, والأحواض الشفافة التي تفور في قصور أصحاب المصارف, وتجار ورق السيزال. هناك المروج الناعمة لقطعان الثيران, وهناك الينابيع, وعيون الماء. في أماكن أخرى, وعلى طاولة ما هناك كأس ماء, نستطيع شربه بيسر وملأه بإستمرار.
بيد أن الوجه القاسي والناعم للر جل العجوز يهيمن هنا من وسط الغابة. إنما هنا يقع مكان ولادة دورة المياه. هنا, بفضل صلاة الرجل العجوز في مركز الغابة.
في هذا المكان, لا يعرف الماء الولادة اليسيرة. إنه ينبثق بعد عذاب, مثل الحياة التي نصلي لها مد ة أشهر طويلة, نترج اها, نرغبها, ونتأم لها, ونناجيها بأرواحنا وبأجسادنا ليلا نهارا.
داخل الليل الوجه العجوز جامد. ولكن وبلا توقف تنبثق منه الكلمة. الكلمة القديمة التي تقود أعمال البشر, وتقود حياة الأرض. ربما لم يعد لنظرته الآن ذاك الحقد, بل رأفة كبيرة لأنه صار يرى التاريخ من بدئه حتى نهايته. وبصره يرى عبر سجف الليل ما يحدث في الناحية الأخرى من الغابة, يرى القرى التي تلتهب, والمزارع المخر بة, والأطفال الميتين, والأفق الذي تغطيه الأدخنة الحمراء. بصره يخترق الليل البارد, ويرى كل شيء يذوي. إن صدى كلمة المدحورين يترجع أعلى من كلمة الغزاة. فهو يمرق فوق أوراق الأشجار مثل الر يح. يتحر ك في شقوق الأرض, ويكدر صمت الآبار العميقة.
الصوت الشاكي ما يزال يتكلم في الظلمة . يتكلم عن الحرب التي لا يمكن أن تتوقف, بما أن الماء غير متاح للبشر, ولكنه ينهمر من السماء في الوقت الذي يتدفق فيه الدم من القلب ويغوص في الأرض. ولكن الأرض باردة اليوم, ضاغطة من حول قرية الحرس. وجه مارسيلينو بوت صلب كالحجارة, وتجع داته غائرة, وبشرته ساخنة بالنهار وباردة بالليل. مرسيلينو بوت, إنه آخر سدنة الصليب, والجندي الأخير لمعركة لم تنته بعد. وهو لا ينام, إنه الرجل الأكثر تنبها في العالم, إنه حارس أرض السهوب. وهو المطلع على الغيب. والساهر على الذ رة, وعلى الآبار, والأشجار, وهو الذي يرصد الغيم اللامرئي الذي لابد أن يأتي, وهو الذي يصغي إلى كلمة الصليب بيدرو باسكوال باريرا الأخيرة, وهو الذي يرى من وسط بيته, الطرقات التي تقود إلى جهات الكون الأربعة.
إنما هنا داخل الليل. يعطي الوجه أوامره في الفضاء ليس بالقوة, ولا بالعلم, وإنما وببساطة بالنظرة. ونحن لا نستطيع أن ننسى, لأن التاريخ متواصل لم ينقطع. وفي القرية, للنساء وللرجال تنفس متناغم, والأشجار والن باتات تنمو بإيقاع واحد. الأيدي تقوم بنفس الحركات, والشفاه تتلفظ بالكلمات نفسها. أجل لم يتوقف أي شيء. والماضي شيء لا وجود له, فقط تجد البشر يشيخون ثم يموتون, والكلمة المهموسة تنزلق من جسد إلى آخر.
الوجه منغلق وهادئ. وسلطانه قوي لدرجة أن الكلمات الأجنبية لا تقدر على المجيء. تظل حيث هي صخب, تعجب, نداءات ناشزة وبلا جدوى .والأجانب تعدادهم بالملايين. تراهم يشعلون أضواءهم, ومحركاتهم الميكانيكية تهدر; وهم يشربون الماء بيسر, ويأكلون خبزهم بلا اشتهاء. سفالتهم تنمو بسرعة, وأموالهم تتحرك: تشتري وتبيع وتشتري بلا توقف. في بلدانهم المليئة بالعنف لم يعد للآلهة وجود, وهي لا تظهر أبدا. كيف تريدها أن تأتي, والسماء مفصولة عن الأرض بالسقوف وبالجدران.
في هذا المكان السماء شاسعة إلى درجة تبدو كما لو لم تعد هناك أرض. فوق البلد المسطح السماء منتصبة, سوداء, عميقة. النجمات الباردة تلتمع بوميض جامد, والقمر مكتمل. وفوق الغابة ضوء الليل جميل وقصي , وفي ساحة القرية ظلال البيوت شديدة الدكنة. قد تكون هناك بعض الحيات تعبر المسارب, والخفافيش اللامرئية تصيح وهي تطير حول الآبار. الليل كثيف وبارد, كما لو كنا على قمة جبل عال .
الجنود لا ينامون, لا ينامون أبدا. عندما يطلع النهار يذهبون للعمل في مزارع الذرة. وعندما يجن الليل يذهبون إلى الدار الكبيرة, ويتأملون نيران الشموع التي تشتعل أمام الصليب. أو يتطلعون إلى الليل وهم ممد دون في فرشهم المأرجحة وأنفاسهم تتردد بيسر. والآن ها الأطفال ملتصقون بصدور النساء. والنيران مطفأة. وفي وقت متأخرمن الليل, عندما يبدأ القمر بالنزول نحو خط الأشجار, رب ما في ذلك الحين يغلق الناس جفونهم. ولكن الرجل العجوز يظل وحيدا. نظره لا يكف عن الإنبثاق من وجهه, ساهرا على المدينة.
أمام بو ابة دار الصلبان, يقف الحارسان متكئين على عصيهما. لا ينبسان بكلمة. لقد جاءا من القرى الأخرى للقيام بالحراسة. العناء, والبرد والجفاف موجع. ولكن نظرة الرجل العجوز المتوحد متمازجة بالل يل, وبالبرد وبضوء الكواكب الجامد.
ليس ثمة بشر حول بيت الصلبان.وهنا, فوق هذا القفر تولد النظرة التي تراقب الأرض, والآبار, والأشجار. والحرب لا يمكن أن تنتهي لأن الأجانب غزوا الامبراطورية. لو أخفض الر جل العجوز نظرته, وأنزل الحارسان عصيهما أمام باب الكنيس, ولو يستسلم الرجال والنساء للنعاس, ربما وقتها تقفر السماء وإلى الابد من الغيوم, وتحترق الذرة فوق الأرض الجافة, وقد لا تعود وإلى الأبد الشمس التي انطفأت في المغرب للطلوع مرة أخرى من المشرق. فهذا هو المكان الأكثر يقظة على وجه البسيطة, إنه المركز الذي يقوم على الحراسة, حتى يتسن ى للمياه أن تأتي: تولد في السماء فوق البحر, وتجيء وسط الريح, فوق دربها وتتدفق في الخزانات, وتتسرب إلى أعماق الأرض عبر التشققات, إنها المياه, إن ها الحرية. وصوت الكاهن خوان دو لاكروز مايزال يتلو:
إذن اعلموا يا أبنائي, هذه تعاليمي على الأرض, اذ يجب أن تعلموا, ياشعب القرى المصطفى إنه اليوم هو اليوم الذي حد ده الرب لأخاطبكم فيه, يامخلوقات الأرض وأقول لكم, ياشعب القرى المحبوب أني ذهبت أمام الرب حتى أستسمحه الكلام إليكم من جديد, ذلك أنه محرم علي مخاطبتكم, ولكن ها انا أفعل ذلك لأني أشفق عليكم. يا أبنائي, ولأني خلقتكم, وأنقذتكم, واهدرت دمي الثمين لأجلكم …
ألا ترون كيف أني مسمر على الصليب المقدس جد ا, تحملني ملائكة وسيرافيمات لا عد لها ? وأيضا ها أنا أغفر لكم يا أبنائي مخالفتكم لتعاليمي. لأنه أنا الذي خلق مسيحيي القرى, ولأني أذهب في كل آونة حتى أصل إلى الرب , إلهي في مملكة السماء, تحيطني آلاف الملائكة والسيرافيمات لأطلب منه أن يمنحكم رضاه ونعمه, ذلك أن الرب إلهي قال لي أيها الأبناء إن الغلبة لن تكون أبدا للأعداء, وأن الصلبان وحدها هي المنتصرة, ولأجل هذا يارفقائي الأعزاء, لن أترككم مطلقا للأعداء.
الجفاف متطاول فوق الأرض المنبسطة وفوق الأحجار الصلبة, وفوق ,الكاهن مرسلينوبوت وفوق آلاف الأشجار المحترقة. ولكن الماء يجب أن يأتي, الحري ة يجب أن تأتي, الماء دم الآلهة, حتى يرتوي الأطفال والنساء, حتى ترتوي جذور شجرة السايبا وحتى يرتوي شعب الحيوانات والبشر. في مياه السماء نلقى المرأة والرجل متحدين, في الماء تلتقي السماء مع الأرض. وفوق الحصيرة الكاهن آه بو مقعي على ركبتيه يخصب العذراء إيكسكي.
ولكن الكلمات تأتي بعد وقت يطول . وصمت الليل يهيمن على البلد المسطح, والسماء السوداء ممالك خاوية . لابد من أن تتلى كلمات كثيرة, وصلوات كثيرة, لتحفظ الحياة على الأرض. وعلى النظرة ألا تهن وألا تتوقف عن الإنبثاق من الرجل العجوز, المنعزل في وسط بيته . يجب ألا يتوقف صمغ الكوبال عن الإحتراق في الكنيس في مواجهة الصليب العملاق الملتف برداء أبيض.
إنها ليست دروب الغبارة هي التي تقود إلى الصليب, بل هي طريق النظرة, وذاكرة الكلمات التي كان قد ترجع صداها ذات يوم فوق الإمبراطورية, الكلمات الملتهبة التي جعلت الرجال يهبون في القرى في مواجهة جيش ومدافع الأجانب. والكاهن ياوم بول إيتزا المفسر مايزال يدون كلام الكاهن خوان سانتا كروز في مدينة شان سانتاكروز:
وهكذا إذن أيها المسيحيون الأعز اء, يا أبناء القرى, احفظوا في قلوبكم وصاياي, لأني أنا نفسي يا أطفالي, لا أستطيع أن أتوقف, فأنا دائما ماض على الدرب. حلقي وبطني ناشفان بفعل عطش لا يروى, ذلك أني دائما على مسير عبر أرض اليوكاتان للدفاع عنكم …
لم تخب الكلمات, إنها تطن في القفر بلا توقف, تطن فوق الغابة الداكنة وفوق حقول الذرة, وفوق فوهات الآبار. وفي الليل تومض بلا ضجيج في قلب السماء السوداء, إنها تضيء الأرض ببصيصها الشاحب الغريب والآتي من الأقاصي.الكلمات هي أيضا بشر يهربون عبر السباسب, يغلقون على أنفسهم أبوابا من عوسج, يقس مون الدروب البرية, يشعلون النيران في بقايا حصادهم. وعندما لا يبقى هناك شيء, سوى تلك الخرائب وتلك القبور, حينئذ تدلف الكلمات داخل الوجوه, وتنغلق عليها الشفاه. الكلمات تلج داخل جذوع الشجر, واللحي الصلب ينغلق فوق جروحها. الكلمات تؤوب إلى الآبار التي كانت قد صدرت منها, تؤوب إلى آخر ملاجئ الماء. في قلب الأجواء, بعيدا وراء الأفق تختبئ الكلمات ولا أحد يستطيع أن يسمعها. ولكن النظرات وحدها ما تزال تتكلم. النظرات ثابتة قوية وهي لا تغادر الأماكن التي ولد فيها البشر. النظرات لم تعد تعرف الحقد, ولا الإنتقام. إنها ملتفتة نحو ينبوع الماء, نحو المستقبل.
ونفر المعتزلة في حالة صلاة, المعتزلة متوح دون, ولكن ليس من أجل التخفي ولا للدفاع عن أنفسهم, ولكن للوصول إلى حالة الصفاء. هناك بعيدا ; في مدن التجار, الناس وهنون, شرسون, عيونهم تلتمع من شدة الطمع. ولكن ليس لأجلهم تشرق الشمس كل يوم, فالضوء والظل , الماء والرياح لا تجيء لأجلهم.
لم يكن المعتزلة هم الذين هربوا. لقد ظلوا في أماكنهم, مثل الأشجار المشدودة من جذورها إلى الأرض الصلبة, بينما ظل الأجانب من حواليهم مشتتين ومدفوعين مع التيار.
لم يغلق المعتزلة أعينهم. لقد حافظوا على نظرتهم حية, بينما نام الأجانب من حواليهم. والآن وقد انتهت الحرب. أين هم المنهزمون? أولئك الرجال الذين يشبهون الأرض, الرجال الذين هم كالأشجار, الر جال ذوي البشرة التي بلون الأرض, والنساء ذوات البشرة التي بلون الذ رة, أولئك الذين يعيشون فقط على الخبز والماء . لا, لم يهزموا أبدا.وهم لا يطمحون في الإثراء ولا في الإستيلاء على الأراضي الأجنبية. وهم لا يبغون شيئا آخر غير استتباب نظام العالم الذي يسكنون, هكذا هم بصلابة يبحثون عبر القوة الوحيدة للنظرة وللكلمة. لقد رأى المعتزلة الفراغ وهو يوغل في بلدهم, وشاهدوا الليل يأتي, وتعرفوا على الصمت. قوة نظرتهم مسكتهم في هذا المكان بينما العالم من حولهم ضعيف وقاتل. وليس الزمان هو الذي يفصل بين الاشياء, بل الأشجار, والبحر.
هنا مكان الانتصار, إنتصار الحقيقة الهادئ والدائم. لم تعد هناك كلمات ولا أفكار, لم تعد هناك آلهة ولا شرائع. هناك كل تلك الحركات التي للأيدي, حركات الجسد, وتلك النظرة. كل نهار يضيء نور الشمس حقول الذ رة, سقوف الأوراق ودروب الغبار. وكل ليلة يصعد البرد من فو هات الآبار ويجعل الأحجار تطق . لا صلاة أخرى. إذن من الممكن أن تظهر الغيوم في الناحية الأخرى من الأفق, وتنزلق ببطء, منتفخة بالماء, نحو كل الوجوه التي تترجاها.
نفر المعتزلة لايزالون يصغون إلى الكلمات, إن ها تتجاوب في السراديب المحفورة تحت الأرض, لم تعد الآن كلمات الحقد بل هناك فقط كلمات الحرية لأولئك الذين لم يهزموا أبدا:
ثمة أمر آخر, يجب أن أبوح به إليكم يا أعزائي المسيحيين, يا أهل القرى بإمكانكم رؤيتي كما أنا, لست سوى ظل شجرة, بيد أنكم تستطيعون كلكم أن تروني, جميعكم صغارا, وكبارا, وكل أولئك الذين يد عون أن هم كبار, ذلك أن الرب لم يضعني في صف الأغنياء, ولأن الرب لم يضعني إلى جانب الكرماء, ولا إلى جانب القواد. ولأن الرب لم يضعني في صف الذين يعتبرون أن لهم مالا كثيرا, ولا في صف الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب كرامة وأقوياء, ولكنه وضعني في صف الفقراء, والبائسين, لأني فقير, ولأني ذاك الذي يشفق عليه الرب , وهو يحبني ذلك أن ارادة الرب تنص على أن من يمنحني شيئا سوف يرى أملاكه تنمو… هل هناك رب آخر, قولوا, ذلك أنني سيد السماء والأرض.
حينئذ قد ينجلي الظلام , ويولد النور ثانية بهدوء. برد الليل يؤوب داخل الأرض, والظلال تمتد فوق الأرض المغبرة. النظرة الثابتة التي تخترق الفضاء, وتخترق الزمن, النظرة الشبيهة بإشراق الكواكب, تتحد بالنور الجميل. وقدام بيت الصلبان يلقي الحارسان المتعبان عصيهما, ويبحثان عن ملاذ للنوم. لم يحدث شيء, لا شيء. لا غيوم في السماء الصافية. والشمس ترتفع فوق الأشجار التي بلا حراك. ترتفع بلا صخب إلى عنان السماء. وفي الساحة التي ما تزال باردة, تخطو النساء نحو البئر.
ترجمة: خالد النجار مترجم من تونس