«الزواج بفنانة وشاعرة وروائية هو حظ كبير في الحياة» هذا ما قاله الروائي والكاتب الجزائري أمين الزاوي عن زوجته ربيعة جلطي، عندما زارا سلطنة عُمان سويا، ودلفا معا إلى مكتب مجلة نزوى، بينما قالت جلطي: « إن كان هذا هو الكلام فإن ما أعيشه معه في الممارسة اليومية هو أكثر من ذلك. الحياة معه أكثر ألوانا وبهجة بل أكثر خُضرة». هكذا تعمقت شراكتهما في التفاصيل الصغيرة كما قال الزاوي، تلك التي دفعت جلطي لأن تعتني بحديقته أكثر من حديقتها لإيمانها بأنه يقوم بذات الدور مع حديقتها. فما يدور بينهما لا ينضب ويشبه إلى حد كبير تجدد اللغة والموسيقى.
قدم الروائي الجزائري أمين الزاوي للساحة الإبداعية 12 رواية، ست منها باللغة العربية ومثلها باللغة الفرنسية، ترجم بعضها إلى أكثر من 13 لغة. منها «حادي التيوس»، «و يجيء الموج امتدادا»، «كيف عبر طائر فينيقس البحر المتوسط»، «صهيل الجسد»، «السماء الثامنة»، «الرعشة»، «رائحة الأنثى»، «يصحو الحرير»، «وليمة الأكاذيب»، «شارع إبليس» وغيرها، وله روايات أخرى كتبها باللغة الفرنسية من أهمها: «إغفاءة ميموزا»، «الخضوع»، «الغزوة»، «حرس النساء»، «ناس العطور»..
ربيعة جلطي لا تكتب الرواية السياسية بالمفهوم الإيديولوجي العاري بل تعيش عصرها بكل تفاصيله، وتعتني باللغة ككائن حي لا تليق به المتاحف. جلطي واحدة من أهم الشاعرات الجزائريات المستمرات بالكتابة منذ جيل السبعينات. أصدرت العديد من الدواوين كان أولها «تضاريس لوجه غير باريسي»، «من التي في المرآة»، ثم روايتها «الذروة»، ورواية «عرش معشق» وغيرها من الأعمال. ترجم الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي شعرها إلى الفرنسية. كما ترجم لها رشيد بوجدرة أعمالا أخرى.
** أنتما تشكلان ثُنائيا جميلا.. يجمعكما الرباط المقدس والترجمة والرواية أيضا، واستعير هنا جملة ربيعة جلطي « كبرنا معا»، وشهدتما معا العديد من التحولات في نضج التجربة، والتحولات على صعيد المتغير السياسي والثقافي.. فكيف يُذكي أحدكما نار الآخر ليستمر ، وهل تدخل المنافسة الكتابية بينكما لتفسد وهج الكتابة أو لتوقدها؟
– الزاوي: اعتقد أن الزواج بفنانة وشاعرة وروائية هو حظ كبير في الحياة، فكما أنّ الصدق في الكتابة فهو أيضا في الحياة. والصدق في الكتابة هو الصدق في السلوك أيضا، لذا اعتقد أنّ حياتنا منذ أن بدأت في السنة الأولى في الجامعة، كان مسارها مشتركا بكل معنى الكلمة. مشتركا ونحن طلبة ونحن نتقاسم كل شيء حتى المنحة كنا أخذناها معا. لا يوجد مُلك خاص، فكل ما هو بيننا هو مشترك. عمق الشراكة الحقيقية بين الزوجين تكون دائما في الأشياء الصغيرة. إذ لا يمكن تصور حياتنا كأديبين منفصلة عن الحياة اليومية. فالحياة الدراسية وحياة البحث والأطفال المشتركين حياة جمعتنا معا، ونصوصنا بالضرورة تتداخل في هذا المسار الذي نمشيه بأربع أرجل وليس برجلين فقط.
أنا سعيد في هذه الحياة التي جعلتنا نختلط ونتقاطع في كل شيء. وهذا لا يعني التفاهم والتطابق، ولا يلغي الاختلاف، لأننا ببساطة لسنا صورة طبق الأصل عن الآخر، فالرؤية للحياة وللكتابة تختلف، وهذا الاختلاف يُعطي للحياة عمقها الانساني وحرارتها . في مواقف سياسية كثيرة نتناقش ونختلف، وهذا ما يعطي لحياتنا الحياتية والحياة الأدبية طعما وشعرية خاصا بها .
** ألا يشتعل أحيانا فتيل الغيرة بينكما كونكما تشتغلان في الحقل الأكاديمي وتكتبان الرواية وتمارسان الترجمة أيضا؟
– الزاوي: بصدق الغيرة حالة انسانية لا يمكن نفيها، وهي جزء من تكوين الأديب، ولكن إن كان هنالك شخص في الدنيا لا أغار منه فهي ربيعة لأن ما أتمناه لنفسي أتمناه لها قبلي وأي نجاح أنجزه لنفسي أتمناه أن يكون لها قبلي. بطبيعة الحال نقرأ لبعضنا البعض قبل النشر.
** تمارس عين المحب أم عين الناقد على كتابات ربيعة؟
– الزاوي: عين الناقد.. أقول رأيي لها بكل صدق. مرات تُعيد النظر فيما تكتب وفقا لما اقترح وأنا أيضا قد أعيد النظر فيما اكتب وفقا لما تقول لي ومرات أخرى لا أغير لأني مؤمن بضرورة أن تكون المسألة هكذا بهذه الرؤية وبهذا الاختلاف مع ربيعة، وأنا أرى أنه بشكل عام من الجيد أن نستأنس بعيون أخرى لتقرأ لنا قبل النشر. أبناؤنا يقرأون لنا. الأصدقاء أيضا.
** ماذا تقول ربيعة جلطي فيما قال أمين الزاوي؟
ربيعة: لم يترك لي أمين شيئا لأقوله. في مجتمعاتنا الشرقية عادة ما يرفض الرجل تفوق المرأة عليه أو منافستها له. تأثرتُ كثيرا بما قاله أمين، ولكن أقول بصدق إن كان هذا هو الكلام فإن ما أعيشه معه في الممارسة اليومية هو أكثر من ذلك بكثير. الحياة معه أكثر ألوانا وبهجة.. بل أكثر خُضرة. كنتُ شاعرة الثانوية، وهو أتى من منطقة أخرى. التقى الحرف قبل أن يلتقي الشخصان. جمعنا عشق اللغة وحبها. نتعامل باللغة وهي العمود الفقري الذي جمعنا ببعضنا والعجينة اليومية التي نستخدمها. كما أننا نرتب حياتنا بالموسيقى . ولأن اللغة لا تنضب ولأن الموسيقى لا تنضب.. أيضا الحب لا ينضب بيننا ويكبر التجاذب النفسي والجسدي.
اعتقد أن الرجل العربي ما ينقصه هو اللغة كيف يستخدمها ويتعامل معها كيف يتعامل مع زوجته باللغة مع أولاده وجيرانه. لدينا للأسف ما يمكن أن نسميه حالة من الطرش والبكم.
هذه العلاقة التي تخصنا كثيرا ما تأسر الشباب من حولنا. نختلف أنا وأمين فأنا جئت من عالم مديني، وأمين جاء من مجتمع قروي جميل جدا، ولكل واحد منا حديقته التي يعتني بها. عندما أصبحت حديقة أمين أمامي صرتُ أعتني بها قليلا وبحديقتي كثيرا ، ومع الوقت أصبحتُ أعتني بحديقة أمين كثيرا وحديقتي قليلا، لأن أمين أصلا كان يعتني بحديقتي أكثر. هذه هي الحالة التي نعيشها الآن بكل زخم شاعريتها العالية.
** ألا تخشين أن تُشبه حديقتك حديقته نتيجة هذا التقارب والاعتناء المتبادل؟
– هنا تدخل شخصيتي وقناعاتي. اعتقد أنه لن يقول ما يضرني. يقرأ لي أمين بحب ومودة لكي يُشذب نصي وهذا يسعدني. لا يدفعني لأن أغير ما كتبت ولكن لأعمق بعض ما كتبت.
** ماذا عن عدوى انتقالك لكتابة الرواية بعد كتابة الشعر.. هل لأمين الزاوي علاقة بذلك؟
– ربيعة: عندما كنتُ في الثانوية كنتُ أكتبُ النصوص الشعرية والنثر أيضا وكنا مجموعة من التلاميذ نقرأ لبعضنا البعض. شكلنا مجموعة اسمها «الجبرانية» نسبة لجبران خليل جبران. نصي الشعري كما يقول النقاد يتضمن حكايات كثيرة، وأنا اتفق مع هذا الطرح. حتى أنّ نصي الشعري الذي يتألف من شطرين يفتح أبواب عديدة لشخوص وحالات وحيوات كثيرة ومجموعة من العقد الاجتماعية والسياسية. النثر كان يسكنني ولم يكن طارئا على تجربتي أو نتيجة عدوى. ولكني كنتُ بحاجة إلى الوقت، فنشرتُ روايتي الذروة عام 2010 م، عن طريق دار الآداب. أنا أفرقُ جيدا بين الكتابة الشعرية والكتابة السردية. الكتابة الشعرية كأنك تصنع من شجرة جيتارا، بينما السرد هو مثل أن يكون لديك مجموعة من الأشجار تصنع منها سفينة بها بشر وشخوص وحكايات ومصائر . في الكتابة الشعرية أذهبُ ناحية الإيجاز والدقة في القول والتكثيف. حتى في الرواية لا أحب التطويل. احترم القارئ واحترم وقته. أعمل على أن لا تتكرر الكلمة ولا يتكرر الحدث والفعل والوصف. فالمسألة عندي أن أضيف دون أن أكرر نفسي. ربما نتيجة قراءاتي للرواية العربية والفرنسية والانسانية العالمية. أشعر أحيانا كثيرة بالملل من الرواية العربية لأنها مترهلة.. الرواية الأمريكولا تينية لغة محددة ليس فيها زوائد، فالكاتب يحترم وقتك وعقلك وذكاءك .. يقال لدينا في الإعادة إفادة والحقيقة في الإعادة إضاعة وقت.
** سأحيل السؤال لك أمين الزاوي حول اللغة العربية التي تتهم بالترهل والتكرار؟
– اللغة العربية التي حملت كتاب الله، قادرة على أن تحمل كل شيء. قادرة على أن تحمل المقدس والمدنس في آن. المسألة في كفاءة الأديب ومعرفته. لا يمكن أن تكتب عن الجسد وأنت لا تعرف الجسد. فالمشكلة ليست فيها وإنما في الكاتب نفسه.
اللغة العربية لها جمالياتها فعندما نقرأ مثلا كتاب ألف ليلة وليلة نجد أنه كتاب مدور، لو نحذف الحكايات نجد نفس البناء السردي. قائم على انتظار الليل وانتظار الصباح.. ولكن هذا التكرار فلسفة وجمال خاص بالذوق العربي. الإيقاع في الأغاني الشعبية العراقية يتردد. نفس الإيقاع ولكنه جميل.
هذا ناتج عن أن العرب لم يكتبوا خارج الستة عشر بحرا التي عرفوها. هذه حالة جمالية لا يمكن أن نقول إنها جيدة أم غير جيدة لأنها شخصية العرب في الكتابة والإضافة.
** أين تكمن المشكلة ؟
– الزاوي: المشكلة عندما تنقل هذه الثقافة إلى لغة أخرى. هنا تحصل مشكلة كبيرة. كثير من الروايات العربية عندما تترجم إلى اللغات الأخرى لا تثير أي رد فعل حولها. لا تثير الدهشة مع أنها في الوطن العربي تثير الدهشة والقراءة والمتابعة على العكس مما يحدث على سبيل المثال مع رواية يابانية يكتبها موراكامي، فعندما تترجم إلى اللغة الفرنسية والأمريكية تبقى بذات الوهج والقدرة على الإدهاش وتثير ضجة. ماركيز أحدث دهشة في بلده وفي اللغات الأخرى التي ترجم إليها. بينما عندما ترجم نجيب محفوظ لدى فوزه بجائزة نوبل لم يحصد ذلك الانتباه من القارئ الغربي، أيضا ترجم عبدالرحمن منيف وهو الكاتب الذي يعتبره العرب إضافة كبيرة لأدبهم. أذكر عندما ترجمت روايته «شرق المتوسط»، ضحكوا علينا في فرنسا. قالوا لنا: هذه ليست رواية هذا تقرير سياسي بوليسي عن حزب البعث والتعذيب لا أكثر ولا أقل. روايات أحلام مستغانمي التي تطبع منها ملايين في الوطن العربي ، لا تثير شيئا لدى الغرب. والمشكلة كما قالت ربيعة في التكرار. العالم الآخر لا يحب اللغة ولا يحب الوصف غير الضروري. الوصف في الرواية الفرنسية موظف. وكل معلومة تدرج فيها تدرج لسبب بينما الاسهاب العربي، وهذا القدر من الانشاء عندما يترجم إلى لغة أخرى لا يُعطي شيئا أبدا. اعتقد هذه العقبة التي تُعانيها اللغة العربية.
** بالمقابل هنالك أسماء أخرى عربية تُرجم لها وأحدثت بصمة، وإن كان مُختلف عليها عربيا من مثل علاء الأسواني، والكثير من الروايات السعودية كأعمال رجاء الصانع ؟
– الزاوي: هنا نستطيع أن نفهم لماذا ترجمت، ولماذا أثارت ضجة في الأطراف الأخرى. وذلك لموضوعها وليس لأدبيتها الخالصة. أنا قرأت الروايات باللغة العربية وباللغة المترجم لها. ما يعيشه الوطن العربي اليوم قائم على حالات. وما تعيشه سوريا ومصر وتونس والربيع العربي قائم على طرح السؤال الديني. المرأة وحقوق المرأة ليست لعبا وإنما قضية أساسية. شيء طبيعي أن يلتفت العالم لأن المرأة تمثل لديه قيمة. نحن نرى حقوق المرأة «تزويق» ورفاهية . أن تعين المرأة في البرلمان لا يعني شيئا عندما لا يتوفر ذلك في السلوك الجمعي والحياة اليومية.
أنا مثلا لا أشاهد رواية عربية مكتوبة عن علم البيئة. كأن العربي يعيش منفصلا عن الطبيعة والبيئة والأشجار وعن الرمال. يتم تخريب البيئة بدون دراسة بدون رفض. ثقافة المعرفة داخل الرواية العربية يجب أن يُعاد النظر إليها لأننا اشتغلنا على جمل «الإنشاء» أكثر ولم نشتغل على المعرفة في الرواية. مثلا موراكامي يكتب رواية عجيبة عن رياضي يجري في طريق، وتحكي هذه الرواية عن الحيوانات التي تصدمها السيارات السريعة في الطريق. يعدُ كل يوم عدد الطيور التي تموت. يعدُ كم قط تذهب حياته في الطريق. كاتب يدهشك في هذه الرواية بهذه الالتقاطات الذكية. تشاهد طائرا صدمته سيارة فتُصدم أنت.. لأنه هذه حياة أريقت. حياة مهمة.
** أمين الزاوي متى تختار أن تكتب بالعربية الأم ومتى تختار أن تكتب بالفرنسية المكتسبة؟
– اعتقد أنّ الكتابة هي حالة ثانية. تعاملي مع اللغة العربية هو تعامل مع حليب الأم. بينما علاقتي مع اللغة الفرنسية كعلاقتي مع الأشياء الجميلة. ولكن لكل لغة جمالها. لا اكتب اللغة الفرنسية من الخارج، وإنما عندما أشعر بأني منسجم مع هذه اللغة وأضيف لها. فعندما يقرأ فرنسي مادتي أعرف أني اكتب له ما لا يعرفه بواسطة هذه اللغة. حيث أضيف في هذه اللغة تراكيب جديدة لا يستطيع هو أن يُركبها بطريقتي أنا. لأني ببساطة أكتب من مخيال آخر. من مخيال عربي أمازيغي متوسطي. هذه الثقافة هي التي تجعلني وأنا اكتب بالفرنسية أقوم بعملية تكسير لهذه اللغة.
** هل يدرك القارئ الفرنسي ذلك؟
– الزاوي: نعم يشعر بذلك. الأديب الأصيل حينما يكتب باللغة الفرنسية ينقلُ من مخياله وشخصيته، وأنا عندما اكتب.. اكتب لغتي التي ليست هي لغة الجاحظ . لا أتحدث هنا عن المفردة وإنما عن النسيج. الشاعر الكبير رينه شار يقول عبارة جميلة، «الشعر هو كيف يُمكن أن تُلاقي بين كلمتين لم يستطع الآخر القيام بذلك بنفس الطريقة». أنا عندما اكتب باللغة الفرنسية أشعر بأني أقوم بحياكة نسيج بطريقة لا يستطيع الكاتب الفرنسي القيام بها، لأني أعطيها من جزائرتي ومن ثقافتي القادمة من أمي وأجدادي . الحالة النفسية تعطي مقترح الكتابة ومقترحها اللغوي أيضا. ولكن هنالك شيء أساسي أني لا أخون القارئ . فالموضوعات التي أطرحها باللغة العربية أطرحها بالفرنسية.. بمعنى أني لا اختار للقارئ الفرنسي ما يريد ولا أختار للكاتب العربي ما يريده، بل اكتب ما أريد أنا.
** هذا يقودنا إلى مشكلة أخرى تكابدها اللغة العربية. مشكلة التلقي ومشكلة محاكمة النص محاكمة أخلاقية؟
– الزاوي: تصل المسألة ببعض الكتاب لدرجة أن يخافوا من قرائهم أكثر مما يخافوا من المؤسسة. روايتي «صهيل الجسد» التي نشرتها منتصف الثمانينات في سورية تمّ سجن الناشر ومحاكمة اتحاد الكتاب على إثرها. قامت ضجة كبيرة على الرواية. ربما تلك هي الرواية الأولى التي اكتبها باللغة العربية وربما هذه الحالة جعلتني أفكر أن اكتب الرواية بلغة أخرى. فالكاتب لا يريد أن يموت، وإذا وجد المؤسسات مغلقة في وجهه. مشكلة التلقي في الوطن العربي مشكلة هائلة لأن القارئ العربي غير مدرب على فن الرواية. لم نتخلص بعد من قارئ الشعر. الثقافة السائدة هي ثقافة الشعر وهي الغالبة حتى الآن. نقرأ الروايات بمنطق النثر والنصوص الفقهية وكتب الشريعة وهي تحاكم بهذا المنطق للأسف. لو قرأت الروايات بمنطق الشعر لكان ذلك أكثر رحمة لها. ولكن لأنها مكتوبة بإيقاع نثري تقرأ بمنطق النصوص الفقية.
** هل تتفق معي بأن ثقافة التلقي تتراجع .. لأننا عندما نعود إلى التراث العربي سنجد الكثير من الجرأة في تراثنا منذ ألف ليلة وليلة وطوق الحمامة وغيرها ؟
– الزاوي: للأسف وقعت قطيعة بين تراث القراءة وتراث تكون القارئ العربي . القارئ العربي كان يتعامل مع المخطوط آنذاك حيث الكتب الجريئة.
نقرأ سيرة ابن هشام فنجد أشياء جريئة، كالحديث عن السيدة عائشة لا يمكن أن تقال الآن. بل لو قالها أحدهم ربما اتهم بالكفر. وقعت قطيعة مع قراءة التراث لو أنّ القارئ العربي واصل علاقته مع التراث وانفتح على الحداثة والمعاصر بذات الوتيرة التي كان عليها كنا سنصل إلى مجتمع معرفة وثقافة وأدب.
** ما هي الأسباب التي تقف وراء هذه القطيعة؟
– الزاوي:عامل الاستعمارات. العهد التركي الذي استمر لمدة 5 قرون أحدث قطيعة كبيرة. وكذلك الاستعمارات الأوروبية وعندما جاءت الدولة الوطنية كانت في حيرة من أمرها هل تكون دولة كالدولة العثمانية أو تكون كالدول الأوربية. لأننا لم نعرف الدولة الوطنية كما ينبغي، فقد جاءت متأخرة في منتصف القرن الماضي. الصدمات الأولى كانت مع طه حسين وكتابه «الشعر الجاهلي»، وما حدث لـ لويس عوض في كتابه «فقه اللغة العربية». جيل كان يؤسس للاستمرار الطبيعي مع التراث بكل تناقضه وتنوعه، ولكن كان أمامه حاجز كبير جدا هو حاجز الدولة الوطنية الجديدة التي لم تكن قادرة على أن تكون على درجة من التنوع، فبدأ عصر القمع الحداثي.
** تذهب أغلب مواضيعك الروائية إلى المسكوت عنه والمغضوب عليه فهل أنت تختار مواضيع تصدم بها المجتمع؟
– الزاوي: اعتقد أن الأدب الذي لا يثير والرواية التي لا تشوش الطمأنينة هي نص آخر. الروائي عليه أن يُشوش الطمأنينة الكاذبة للقارئ. لأن القارئ عندما يقرأ نصا به أسئلة حول الممنوعات يجد أنه يعيشها أصلا ولكن يعيشها بنوع من الكبت. ويقولها بسرية ولكن عندما يراها في عمل روائي يشعر أن ما يكتبه الكاتب موجود في الحياة أصلا . السؤال هو: ما الذي أريده من هذه الأسئلة أو من هذه الأطروحات كالدين والجنس والسياسة والمرأة والطبيعة؟
اعتقد أني أريد من خلالها أن يخرج القارئ بسؤال. بسؤال عن الحياة، من قبيل: هل ما أعيشه في حياتي هو الصدق؟ هل هو الذي يجب أن أعيشه؟ هل يمارس جاري المقابل لبيتي ما أعيشه أنا؟ هذه الأسئلة التي يجب أن يطرحها القارئ. فالروايات ليست أجوبة الروايات هي أسئلة دائمة.
** ربيعة جلطي.. إذا كان الأمر كما يقول أمين الزاوي أنّ الروايات تُقدم صدمتها للقارئ، فهل يفعل الشعر ذلك أيضا ؟
– الحضارة العربية هي حضارة شعرية قبل أن تكون حضارة نثرية. طبعا لا نُلغي كل النثر التراثي الذي كُتب، ولكن نقول العرب هم قوم شعر. قوم الستة عشر بحرا. اعتقد بأن القصيدة الحديثة بدأت مع الأندلسيين من مثل: ابن زيدون، ولادة بنت المستكفي وغيرهم . حيث كانت الصدمة الأولى التي غيرت من نمطية شعر العرب. الشعر الحديث في بنيته يقدم صدمة للقارئ ولكن إلى الآن هناك كثر يروجون بعدم شرعية القصيدة الحديثة. بينما القصيدة الكلاسيكية تُشجع بالجوائز والأموال والبرامج التلفزيونية. مع العلم أن القصيدة الكلاسيكية ليست سيئة فأنا أحبها كثيرا.
تربيتُ على شعر جرير والفرزدق وأمرؤ القيس والشنفرى والمعلقات. ولكن لا أرى نفسي أكتب مُعلقة. خرجتُ من طور المراهقة وأنا احفظ كل هذا الشعر الجميل الراقي الكثيف، لأن أبي كان يحب الشعر العربي القديم وفي مكتبة بيتنا كل أصناف الشعر العربي القديم. أبي لم يستسغ القصيدة الحديثة التي أكتبها. كان يسخر من كتاباتنا نحن الكوكبة الجديدة. اعتقد أنّ القصيدة الحديثة بقيت مع من بقي من روادها.. جماعة شعر، وأدونيس كمُنظر وسعيد عقل.
كتابتي للشعر الحديث كلاسيكية في بنيتها، ولكن شكله وهندسته وطريقته تغيرت ولكن مضمونه لا يزال كلاسيكيا. أنا اعتمد كثيرا على اللغة. بما أن القصيدة النثرية فجرت كل سلاسلها وقيودها. الآن بدأ عمل آخر. عمل داخل اللغة. لأن اللغة أيضا مُقيدة بالذاكرة الجمعية التي هي يقف أمامها قارئ أو ناقد ليقول لك: هذه الكلمة لا تجوز ، فهو لا يعرف أنك تقصدها لذاتها.
هي محاولة الصراع مع ذاكرة اللغة وصراع مع ذاكرة قارئ اللغة أيضا. مع نفسك ومع ذاتك كشاعر.
عندما أنشر قصيدة في الفيس بوك، أعارك اللغة طويلا. فاللغة هي ضرتي. أنا أريد أن آخذ حريتي وهي تريد أن تفرضُ عليّ أساليبها. هذه الأمسيات الالكترونية يتفاعل معها آلاف الأشخاص يحبونها ويكتبون تعليقاتهم عليها، وكلما مرّ الزمن كلما تلاءم الجيل الجديد مع هذه الذاكرة الجديدة التي تشتغل عليها قصيدة النثر اليوم، فالشعر العربي رغم كل شيء هو مثل الماء يخرج من كل مكان.
التقيتُ بالشعراء الكبار. قرأتُ إلى جوارهم. وكنتُ دائما أبحثُ عن الدهشة في عيون الناس. أريد دائما أن اكتب عن شيء جديد. قصيدتي «المجرى» ربما تكون أول قصيدة تحدثت فيها عن ظاهرة «الحرقة» المُتعبة للمجتمعات المغربية، أعني ظاهرة الهجرة غير الشرعية. كتبتها في أواخر الثمانينات وقرأتها مع ثلة كبيرة من الشعراء. النقاد والأصدقاء اعتبروها ملحمة. ربما لأنها تتحدث عن شيء يراه كل الناس ويعيشونه ولكنهم لا يكتبونه. أنا لم اكتب قصيدة «المجرى» من الخارج. كتبتها لأني احترقت بها واكتويت بنارها. فقد كتب شاب رسالة وهو يوشكُ على الغرق في أوراق السجائر وألقى بها في البحر داخل قنينة ماء. رسالة اعتذار إلى والديه عن الألم الذي سيسببه موته لهم. وقد أذيعت الرسالة على الملأ وتأثرتُ بها كثيرا.
** أمين الزاوي.. نُشر لك عام 1986 رأي يتعلق بالرواية الجزائرية: «لا نملك مدنية حتى وإن كنا نسكن العمارات والبيوت المصطفة، إنّ الذهنية الرعوية والذهنية الفلاحية لا تسمحان بولادة رواية، لأن الرواية نص حضاري مديني، وهي بنية لا تزال تحكم عقلياتنا وسلوكياتنا في الحياة الاجتماعية والحياة الكتابية.. أمام هذا أقول إنّ الرواية الجزائرية لا تزال كلاسيكية ومحتشمة، أو بالأحرى رواية تأسيسية» .. الآن في عام 2014 هل تغير رأيك.. هل أصبحت لدينا مُدن قادرة على أن تقترح أعمالا روائية متميزة؟
– الزاوي: سؤالك يطرح عدة أسئلة. هل هنالك مدينة؟ بعد الاستقلالات الوطنية تشكلت الصدمة الأولى. كانت لدينا المدينة الأوروبية، بينما المدينة العربية كانت هي مدينة الهامش. في الأحياء العربية تشكلت حياة بأساليب خاصة تختلف وتتقاطع مع المدينة الأوروبية، ولكن بعد الاستقلال دخل الحي العربي إلى الحي الأوربي، ووقعت صدمة حضارية كبيرة جدا، ثم بدأت تتأسس حياة مدينية عام 62 في الجزائر. لكن هذا الجيل تعرض مرة أخرى لصدمة العنف الديني، الأمر الذي هجّر كل الناس من القرى إلى المدن فتم اختراق المدينة من جديد. وهذا طبعا لا يعني أن العرب لم يكن لديهم مُدن. كانت لديهم حواضر ولكن بتقاليدها الخاصة، من مثل «تلمسان» فالعرب الذين جاءوا من الأندلس أسسوا مدنا، ولكن هذه الحواضر تم تكسيرها عن طريق الاستعمار فتهجنت. وبالتالي الرواية والأدب تهجّن أيضا نتيجة لتهجن المدينة. هذا العنف الذي وقع على المدن نلاحظه في الروايات. أغلب النصوص حتى عام 2000 هي نصوص ريفية.
** نريد أن نفهم أكثر مزايا وخصائص الرواية الريفية التي تتحدث عنها، على الرغم من أنّ لوكاتش قال بأن الرواية هي ابنة المدينة؟
– الزاوي: الرواية الريفية هي التي تعرف أدوات الحرث، مواسم الحصاد، حياة الفلاح وخصائص هذه الشخصية النفسية والجهاز الاجتماعي الذي يعيش فيه، وأدوات العمل والحياة. وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون الكاتب موجود في الريف وإنما مثقف ثقافة ريفية. لكن التكنولوجيا اليوم هجنت كل شيء، وكسرت مسافات هائلة بين القرية والمدينة. الكتابة عن الريف كتابة خطيرة للغاية خاصة وأنّ الريف غير مستقر. الريف متغير أيضا وبشكل كبير. هنالك عنف كبير يُمارس على الريف. الحليب يصل معلبا إلى الريف، انتهى زمن البقرة. الفلاح يشتري الخبز من المخبز، وانتهى زمن أفران الخبز اليدوية. وعلى سطوح المدن نجد عش الدجاج، وحبل الغسيل، بل قد يتجرأ أحدهم على أن يذبح ذبيحته في الحمام، وهذا يتنافى مع ثقافة المدينة. هذا العنف والاختراق يحتاج إلى رواية وربما رواية هجينة أيضا. نظرية جورج لوكاتش التي تقول بأن الرواية هي ابنة المدينة أرى إمكانية نسفها. لوكاتش ليس نبيا، وهذه النظرية يمكن أن تُدحض. ربما العنف الذي يُمارس على المدينة يُغير من هذه المفاهيم الجاهزة، فليس هنالك بوليس الآن بين الريف والمدينة. الذهاب والإياب موجود. الثقافة متقاطعة. مثقفو الأرياف دخلوا إلى المدينة. نحن بحاجة الآن إلى مُنظر جديد لوضع نظرية للرواية مع الحالة الهجينية التي يُكابدها الريف والمدينة.
** ربيعة جلطي .. ترى هل باتت مهمة الروائي أصعب مما كانت عليه أمام الشكل الهجيني الذي تحدث عنه الزاوي؟
– الروائي المعاصر مطلوب منه الكثير من الأشياء. لا يكفي معرفة اللغة، والحياة العادية. لا يكفي الروائي ما كان يكفي نجيب محفوظ على سبيل المثال. نجيب محفوظ كان يجلس في مقهى الفيشاوي ينتبه إلى ما يقوله الناس، ويُشكل عالمه الروائي. الثقل على كاهل الروائي المعاصر كبير للغاية خاصة وأن القارئ العربي اليوم يقرأ لغات أخرى، ويقارن وإذا لم يُعجبه كاتب عربي، فذلك يعني موته حتى وإن كان اسمه يتردد في الصحف والتلفزيونات. الروائي الجديد عليه أن يعرف كيف يمزج الألوان، كيف يتعامل مع الموسيقى، كيف يقرأ التاريخ والجغرافيا والتكنولوجيا، أسماء المغنين، أسماء القتلة، أن يفهم في السياسة. ينبغي أن يكون الروائي العربي الحالي موسوعة. أن يكون لديه انجذاب حقيقي للمعرفة. وربما افتقار الروائي العربي لما ذكرت سلفا، هو الأمر الذي يجعل الرواية العربية تمشي ببطء كبير جدا.
** الدول العربية تلعب لعبة الغميضة فيما يتعلق بالحرية.. فهي تعطي الكاتب حق الكتابة وتمنع وصول كتابه متى شاءت إلى القارئ.. هل يبدو لك هذا السلوك مُنظم؟
– الزاوي: نعم هذا السلوك مُنظم في الفوضى. لا توجد دولة في الوطن العربي لديها قانون واضح للرقابة. بل يتدخلوا في أي وقت يريدون. لا يوجد لدينا قانون واضح يمنع الكتاب إذا احتوى على كذا وكذا. هذا غير موجود، وهذه هي الفوضى المقصودة، وهي من أخطر أنواع الرقابة عندما لا يكون هنالك تنظيم أو قوانين. فهذا الكتاب ممنوع اليوم وغدا مسموح به، والعكس بالعكس. كما حصل لرواية «وليمة لأعشاب البحر» للروائي حيدر حيدر. رواية منشورة من 25 سنة، ومنذ وقت ليس ببعيد أقاموا ضدها الدنيا ولم تقعد. كتاب الأيام لطه حسين المنشور من سنوات طويلة، حذفت منه فقرات، وأيضا كان لا يخلو بيت من كتاب «ألف ليلة وليلة»، وقبل سنوات قليلة ثاروا عليه. وقصص عجيبة غريبة للرقابة لدينا.
وقد يتساءل أحدهم: لماذا نجح أدب أمريكا اللاتينية وانتشر؟ نعم هم كتاب كبار، من مثل غارسيا ماركيز وكارلوس فوينتس أو خورخي لويس بورخيس غيرهم، ولكنهم بالمقابل يعيشون في مناخ ملائم للكتابة. بينما على سبيل المثال عبدالرحمن منيف يعيش في دولة مستبدة من مثل سورية وهو محارب من العراق وأصله سعودي. يُمارس لدينا عنف ثقافي كبير من قبل مؤسسات الثقافة. هذا الذي جعلنا نعيش القمع ولا ننكش ثقافة القمع أو نحاول أن نفهمها ونعرفها. هنالك كتب سياسة ولكنها ليست كتب في خصوصية القمع العربي. هنالك ظاهرة في الثقافة العراقية ارتبطت بالقمع الشديد. تجربة عبدالرحمن منيف هي واحدة من أهم التجارب التي كتبت عن القمع في الشكل النثري. أظنه متخصص في الكتابة عن الاستبداد والدم، فرواية «أرض السواد» قرأتُ جزءا منها وشعرتُ بالخوف الرعب.. كلها قطع رؤوس ودماء. العراق نموذج لثقافة القمع بامتياز. الروائي الآخر المشتغل على هذا الهم إلى حد ما هو الروائي نبيل سليمان.
** أنت معروف ككاتب المرأة وكاتب التابوهات المغلقة، لديك رواية مهمة «لها سر النحلة» تناقش شيئا من ذلك. أنت تؤمن بأن تحرير الشرق لن يكون إلا عن طريق المرأة ولكنك تشير إلى وجود مؤامرة ضدها، فالمرأة في مواقع السلطة تحكم بمنطق الذكورة.. كيف تجد المرأة في المجتمعات العربية خصوصا وأنها تشغلك كتابيا؟
– الزاوي: قيمة المجتمعات تتحدد بالخطاب مع المرأة. الشعب الذي لا يعرف كيف يتخاطب مع المرأة شعب متخلف. المجتمع الذي لا ينتج خطابا عن المرأة ولأجل المرأة مجتمع متخلف. يتحدث الرجل مع الرجل كأنه يتحدث مع إنسان، بينما يتحدث مع المرأة كأنه يتحدث مع كائن آخر. ولكن الثقافة التي تُصاحب هذا التواجد للمرأة هي ثقافة ذكورية. على سبيل المثال: عدد النساء في الجامعة الجزائرية أكثر بكثير من الذكور، فهل تأنثت الجامعة من خلال الخطاب؟ وهل أصبح لديهن ثقلهن؟ لا اعتقد ذلك. لأن الثقافة الذكورية تحكم زمام الأمور. ثقافة الحشمة والحرام والعيب.
مقياس تحضر الشعوب هو عندما تجد المرأة مبدعة في الاقتصاد والسياسة والأدب ونواحي الحياة المختلفة. أظن أنها لحظتها ستتمكن من أن تُغير من الخطاب لصالحها. ولكن الخطاب الآن كما نراه في واقع الأمر يكشف عن أنّ المرأة تنتج خطابا ذكوريا.
** ربيعة جلطي يقال: المرأة عدوة نفسها.. على الرغم من أنّها هي التي تهزُّ مهد طفلها بيد وتستطيع باليد الأخرى أن تهزّ العالم ؟
– المرأة هي التي تعيد انتاج المعرفة، وبيدها أن تُغير العادات والتقاليد وتشذبها لتجعلها صالحة للعالم الآن. هي التي تصنع منطق ابنها وابنتها الذي سيكونان عليه مستقبلا. كل الرجال يولدون ذكورا، ولكنهم لا يصلون جميعا إلى مصاف الرجولة. الرجولة مكتسبة. المولود الذي تزغرد عليه أمه ثلاث مرات لأنه ذكر بينما لا تزغرد لميلاد البنت سيبقى ذكرا، لأنها تُغذي لديه إحساسا بالأفضلية عن أخواته البنات فيظن أنّ الذكورة امتياز، وأنه يكسب العالم بذكورته.
بعض نصوص النساء أيضا فيها رجولة أكثر من الأنوثة أحيانا. الأنوثة التي لا ترقى الى الإنسانية تبقى عرجاء. النص الذي أحبذ أن تكتبه المرأة هو النص الذي تخترق به عالم الرجل وعالم المرأة بالمعرفة والفهم بالدراسة العميقة. الكتابة ليست فقط من الخارج. بل بالدخول لمعرفة الرجل من الداخل. أن تعرف الكاتبة نقاط ضعفه ونقاط قواه. الرجل انسان وليس غولا. الغول هذا صنعته أمّه ونساء أخريات من حوله. لذلك أفضل أن تكون المدارس الابتدائية مختلطة. لتعرف الطفلة أنّه طفل مثلها تضربه المعلمة فيبكي. يسقط ويتألم وليس كائنا خُرافيا. بل ترى مواطن قوته وهشاشته في آن.
** الأدب الجزائري يطرح إشكاليات كبيرة في الحوار مع الآخر، إشكاليات كبيرة حول العنف الذي عرفته الجزائر، وأيضًا كيف يمكن خلق صورة أخرى عن الإنسان العربي المسلم وغير المسلم في ذاكرة الآخر، ولكل هذه الصراعات سياقها الروائي، ولكن ألا تظن أن هذه السيطرة تؤدي إلى روايات ذات طابع واحد. روايات لا تحاول الانفلات من بؤرة الموضوع الرئيسي كما هو حال الكتابة الفلسطينية كجزء من مشروع المقاومة؟
– الزاوي: كتبتُ ذات مرة عن أدب الاستعجال الذي يُكتب بالتوازي مع الحدث. علينا أن نُحدد كيف نقرأ هذا اللون من الادب أولا. فلو قرأنا هذه الأعمال على المستوى الجمالي فقليل جدا منها سيصمد ويبقى للخلود. ولكنها على المستوى السياسي والتاريخي فكلها مُهمة. على سبيل المثال: شهادة صحفي متورط بالحدث كتب رواية، أظن أنّ أمرها يهم المؤرخين وعلماء الاجتماع أكثر من القراء العاديين. هنالك المقياس الأدبي والمقياس السياسي والاقتصادي. فالكتاب الذين يكتبون الحدث بشكل مباشر يتحملون مسؤولية خطيرة للغاية.. والسؤال: هل يستطيع الكاتب أن يتجرد ويصنع مسافة جيدة بينه وبين الحدث ليتأمله فلسفيا؟ للأسف نحن نكتب عن القتل ولا نكتب عن الموت. الموت حالة فلسفية بينما القتل حالة عابرة. وما هو مكتوب في الأدب الجزائري مكتوب عن القتل أكثر مما هو مكتوب عن الموت. الذي يستطيع أن يُحول حالة اغتيال سياسي من حالة قتل إلى حالة موت هذا هو الأدب الذي سيخلد، فالكاتب يكتب المفاصل والقيم. يكتب مالا يكتبه المؤرخ .
الرواية الجزائرية لها ثلاثة مواقع. رواية الثورة الجزائرية، روايات بناء الدولة الوطنية ، وروايات المرحلة الدموية. ثلاث مراحل تشغل الرواية الجزائرية ولكن بالمقابل هنالك كتاب خرجوا عن هذه المواضيع الثلاثة إلى التراث والحب والعلاقات الإنسانية. كتبتُ سنة 97 رواية باللغة الفرنسية اسمها «الخضوع»، كانت الجزائر وقتها في جهنم وروايتي هذه كانت عن الحب وعن المرأة وقد حازت على جوائز مهمة في فرنسا. كنتُ في حوار مع قنوات فرنسية عندما قال لي أحدهم: الجزائريون يكتبون عن القتل والدم وأنت في وقت القتل تكتب عن الحب والمرأة؟ قلتُ له: أنا أردت أن اكتب عن سبب هذا القتل، فسبب الدمار الذي نحن فيه أننا لا نخلد قيمة الإنسان، ولا نحترم المرأة. قيمة الإنسان هي التي تُنجينا من القتل والدمار. كتابة الحدث يمكن أن تكون بطرق غير مباشرة أو باستعادة حدث تراثي. مفهوم السلطة في التراث العربي يكشف أن الكثير من الأحداث التي تقع عشناها في عبر التاريخ، لذا البعض يشتغل على ثيمة استدعائه.
** هنالك أسماء روائية كبيرة جدًّا في باب الكتابة باللغة الفرنسية من مثل آسيا جبار، ومحمد ديب، ومالك حداد، وياسمينة الخضراء، وبوعلام صنصال، وأسماء أخرى أصبحت مقروءة من اليابان إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن للأسف لم تصل بعد إلى العالم العربي بسبب غياب اللغة الوسيط؟
– الزاوي: كنا أنا وصديقي سيف الرحبي نتحدث عن موقع آسيا جبار ككاتبة كبيرة جدا. تصوروا أنّ آسيا جبار لم يترجم لها سوى كتاب واحد فقط للعربية. هذا أمر خطير. ترجم لها مسرحية غير معروفة وليست من أعمالها المهمة. كارثة العالم العربي أنه لا يقرأ للكتاب العرب الذين يكتبون بلغات أخرى. أتساءل: هل يعرف الشباب أنّ كتاب «النبي» لجبران خليل جبران لم يُكتب باللغة العربية وإنما باللغة الإنجليزية، كتاب يحتفظ بكل هذا الجمال المؤثر حتى في لغته غير الأصلية. لو ذكرنا أربعة كتب عربية أثرت في كل الأجيال، أكاد أجزم أنها لن تخلو من كتاب «النبي». كل من يقرأ النبي يظن أنها نص عربي. هذه المشكلة نحن لا نترجم لكتابنا الكبار. ياسيمنة الخضراء غير مقروء في العالم العربي. محمد ديب كاتب خطير جدا. عندما تقرأ رواية من رواياته من مثل «عودة الصحراء» تجد متصوفا بكل معنى الكلمة. عندما يكتب فهو يكتب عن الديانات كلها بطريقة عجيبة. بينما الطاهر بن جلون الذي تُرجم له كثيرا -مع احترامي الشديد له- فهو ليس كمحمد ديب، ليس كمحمد خيري الدين، ليس كرشيد بو جدرة.
** لماذا برأيك يذهب المترجم إلى الكُتاب الأقل أهمية للترجمة ؟
– الزاوي: لأنهم يترجمون ما هو سهل. الكتب الشعبية هي الأكثر قراءة . ترجمة محمد الديب ستطلب قارئا بمستوى محمد الديب. الترجمة في العالم العربي في فوضى عارمة. لا توجد مؤسسات لها تقاليد في الترجمة. تتم المسألة بالصدفة والمزاج. علينا إعادة النظر في استراتيجية الترجمة في العالم العربي. ينبغي الخروج من ترجمة الزمالة والتوصية. فعندما تترجم الرواية اليابانية أو الكورية أو الصينية إلى الفرنسية أو الانجليزية فذلك لأن هنالك جديدا تقوله هذه الروايات. بينما نحن للأسف ليس لنا علاقة بالسؤال الحضاري حول الترجمة.
** نُكابد اليوم كثرة الروايات العربية واللهاث وراء النشر السريع والمتعجل؟
– الزاوي: أنا اختلف معك حول كثرة الروايات العربية. لا اعتقد أنّه لدينا كم كبير من الروايات. على سبيل المثال: في بداية كل موسم تطبع فرنسا 600 رواية لشعب يقرأ بهذه اللغة لا يتعدى 80 مليون – أتحدث هنا عن بداية الموسم فقط- بينما الوطن العربي يبلغ عدده 300 مليون تقريبا، ويطبع ما يقارب 300 رواية. شعورنا بالكثرة جاء من عدم وجود الجودة. فالروايات مُتشابهة لذا تبدو لنا كثيرة، كما أنها لا تُشكل «لقفة» وعي جديد غالبا. بالإضافة إلى غياب الناقد. الجامعات العربية للأسف لا تقوم بدورها أيضا. في الزمن الماضي كان للجامعات دور بارز خصوصا في العواصم الثقافية. القاهرة والشام وبغداد.. كان بها نُقاد متميزون.. يعرفون الشاعر والناقد وهو لا يزال على مقاعد الدراسة. الجامعات العربية اليوم كثرت وقل خيرها .
الرهان اليوم على نجومية النصوص. لا كما كان عليه الأمر من نجومية الكاتب نقول الآن: «هذه الرواية يُراهن عليها» ، وربما لا نعرف من كتبها وهذه حالة ايجابية. أعني أن نتحدث عن العمل أكثر عن الكاتب.
حاورتهما: هدى حمد\