شعر الشاعرة السويدية كارين بوي كما حياتها يُعنى بأسئلة بسيطة : كيف نعيش وكيف يجب أن يُعاش هذا المأزق المسمى «حياة»، شعرها عن ألم الشعور بالنقص عندما ننشد الكمال او التكامل مع الآخر سوءاً كان بشراً أم طبيعةً أم مقدساً .
«بالطبع إنه مؤلم حين تنبثق البراعم.
وإلا لماذا يتعثر الربيع ؟
لماذا كلُّ رغباتنا المتوهجة
تقيّدٌ ذاتها بالعتمةِ الجليدية المُرّة ؟»
هكذا تصرح في إحدى قصائدها الشهيرة «بالطبع انه مؤلم» من مجموعتها الشعرية الرابعة (من أجل شجرة/1935 ). لكن ألم الشعور بالنقص هو ما جعل قصائدها طازجة ومليئة بالحياة رغم مرور عقود على انتحارها 1941 بعد ان خرجت من بيتها في مدينة ألنغسايس الى الحقول المجاورة تحمل معها علبة للحبوب المنومة ، اختارت الموت بين الطبيعة التي أحبت، بعد خمسة أيامٍ على موتها اكتشفها فلاحٌ عابرٌ نائمة بين التلال في 23 من أبريل.
أيها الموت العزيز , ثمة شيء في كينونتك
يواسي المكافحين :
ما همك أنت إذا صار المرء عظيما
أو إذا ضيّع حياته هباء !
أيها الموت العزيز ثمة شيء في كيونتك
ينقي الأجواء
أنت كما أنت
مع الصالح والطالح
مشرّعا تتمدد عارياً وأعزل
«من قصيدة خطوات هادئة خلفي»
بعد شهر من ذلك التاريخ انتحرت عشيقتها الالمانية (ماركوت هانل) بالغاز في شقتهما المشتركة في ستوكهولم وفي شهر اغسطس من السنة ذاتها توفيت صديقتها وحبها الأول (أنيتا ناثورست) بسرطان الجلد.
الكثير من قصائد كارين بوي تتناول موضوع الحب والتوق للآخر بل في بعض الاحيان الذوبان به ، أليس هي من كتبت الى (ماركوت):
أنت يأسي وقوتي
أخذتِ كل ما ملكتُ في حياتي
ولأنك طالبتِ بكل شيء
قدمتِ ما هو أعظم ألف مرة
قصيدة «لك انت» من مجموعتها الاخيرة (الذنوب السبعة المميتة 1941 )
شعرها عن الحرية والانفتاح والعدالة والوضوح مع النفس والمجتمع ، معذبةً بنقائها عاشت عمرها القصير في بحث ومثابرة لا تكلّ لفهم لغز التناقض والازوداجية التي مُنيت بها في روحها ومشاعرها، هذا البحث الذي قادها من البوذية ومحاولة تعلم السنسكريتية وهي طالبة في المرحلة الاعدادية ثم المسيحية والمثالية ثم اليسار أثناء وبعد دراستها في جامعة أبسالا وزواجها القصير من الشاعر السويدي الماركسي (ليف بيورك) ، ثم الى التجريد وتبني نظرية التحليل النفسي وأخيراً الانتصار للإنسان المخذول بيأسه في انتحارها.
لأنها يأست من نقاء الحياة حاولت البحث عنه في الفن والشعر والرواية، أصدرت خمسة مجاميع شعرية هي على التوالي: (غيوم 1922/ الاراضي المخبوءة1924 / المداخن 1927/ من اجل شجرة 1932 / الذنوب السبعة المميتة 1941) كما نشرت أربع روايات ، اثنتان منهما حازت على شهرة كبيرة ورواج وهما (الأزمة 1933 / المصل 1940 ). كما رسمت معاناتها في عدد من اللوحات المائية أثناء مراهقتها .
نعم، هناك معنىً وهدف لحياتنا
لكن الدرب هو ما يستحق عنائنا.
«من قصيدة الخطوة من مجموعة المداخن»
حينما نقرأ نصوص كارين بوي للمرة الاولى نلمس الازدواجية بين الحلم والواقع ، كلماتها بسيطة ومعبرة جدا ونصوصها صدى لموسيقى أعماقها وقلقلها الروحي ونزعاتها الجسدية المنقسمة والمزدوجة.
حياتها المليئة بالاحباطات والانتكاسات النفسية إنحدرت نحو مسارات منخفضة بعيداً عن آمالها العالية التي تماثل (الغيوم/ مجموعتها الشعرية البكر). هذا التناقض الداخلي في قصائدها هو الذي منح نبرتها الشعرية بعدا يتعدى زمانها ومكانها. شعرها كثيف وشفاف بلا غموض يبلغ الأعماق النائية ويلامس احباطنا وآلامنا جميعاً، كانها تمد يداً دافئة ًغير مرئية وتطبطب على أكتافنا المثقلة تيهاً وحيرة، عبر التياعها وعذابها الداخلي وشجاعتها في البوح.
ولدت كارين بوي في تشرين الأول عام 1900وعاشت الاحداث القاسية والرهيبة بين الحربين العالمتين، أحبت الرجال والنساء لكنها مالت الى النساء أكثر، واشتاقت العودة الى ينبوع الموت كي تُغمر الى الابد، إنتحرت في أبريل 1941 لكن كل اطفال السويد الان يحفظون لها قصيدة او أكثر عن ظهر قلب.
أمنية
أريدُ أن أحيا بطريقةٍ صحيحة
وأموت بطريقة صحيحة أيضا.
دعوني أمسكُ الجوهر
في الأسى كما في الفرح
وأتمنى أن أبقى ممسكة به
وسأبجلُ كل ما موجود هنا
لأجل إنه إنوجد
ولا شيء أكثر.
لأفترض أن كل مابقي من حياتي
يوم واحد فقط
حينئذ أريد أجمل شيء تحتويه هذه الارض
أجمل شيء على الارض
وهو بكل بساطة، الصدق
لأجل الصدق وحده أستدعي الحياة للحياة
وأستدعي الحياة لواقعها.
العالم برمته
هو كأس زهرة الكاميلا،
قطرة ماء تهطل صافية
تستريح في أخضرها.
تلك القطرة ما زالت تهطل
وهي تفاحة عين الحياة
آه إجعلني قادرة على رؤيتها،
آه نقني !
«من مجموعة الأراضي المخبوءة»
كيف يمكنني البوح
كيف يمكنني البوح أن صوتك حلوٌ.
جلّ ما أعرفه انه يخترقني عميقاً،
ويجعلني أهتز مثل ورقة نبات
ويمزقني إرباً ويفجرني.
وماذا أعرف أنا عن بشرتك وأطرافك
التفكير فيها يجعلني أنتفض لمجرد انها لك
ولهذا فلا نوم لي ولا راحة
الى أن تصير كلها لي.
«من مجموعة الذنوب السبعة المميتة»
____________
عيوننا هي مصائرنا
عيوننا هي مصائرنا.
وحيدة تكبرين بمفردك أيتها العيون البائسة
بين النجوم التي لاترأف
بنا بطريقتنا الأرضية.
رأيتُ القليل .
ربما كانت أفكاري قد تغيرت،
منبوذة تنمو ومهجورة
وغير آبهة.
مقدسةٌ ، مقدسةٌ ، مقدسة
هي الحقيقة، الحقيقة المفزعة
أعرفها ، أنحنِ لها ،
لها الحق في الحفاظ على كلها.
لكن الجسد والدم يختلجان
الأحياء يلتمسون الحياة
دافئة هي الرفقة الانسانية،
والفتور مزدر .
متضرعةٌ أهيم
عبر السنوات الثلجية المضيئة،
أبحث عن من يعينني
كي أقف في ضريحي
أستدعي بوجدان متوهج
عيوناً من زمن سحيق
تلك التي تاهت
في أمواج عزلتها.
ولهذا، أعجزُ عن النواح
ولهذا، أمنح عرفاني.
للذين شاركتهم
بكل ما أعرفُ، بكل ما أتذكر.
وعبر العتمة أتلمس
البيت والرفقة.
أيتها العيون الحبيبة يا أختي!
عشتِ. وستبقين حية.
«من مجموعة لأجل شجرة»
__________________________________
نحن الذين لا نجرؤ على رؤية أنفسنا
القلة التي تجرأت أن تحيا
«مباركون هم»
قد شُوهوا وذُبحوا مرةً إثر إخرى
من قبلنا، نحن الذين لا نجرؤ على الرؤية.
إيقونات مظلمة
متناظرة، لها الحجم ذاته
صورٌ معلقة للأحياء المكتوين
بالتوتر بين الاغلبية القليلة.
القرون صقلت عميقاً
ملامحهم الغريبة.
مثلما نطحن نحن توقنا
يوماً بعد آخر.
كما نلمع ونزخرف
كل ما في وسعنا
الى الحد الذي لا نميز فيه الروح عن التهذيب.
للبحث يذهب اليافعون،
عن النار التي تحرق
سيذهبون بعيون فارغة
تلك التي لن تجد شيئا
وسيتعذبون من جديد.
يا لـ عذابهم! المساكين ،
لقد بددنا ثمرة ذواتنا المقدسة-
تلك التي لا تجرؤ على الرؤية
«من مجموعة الذنوب السبعة المميتة»
_______________________________
المصادر:
* «Karin Boye: Complete Poems»
by David McDuff
Bloodaxe Books1994
*Karin Boye Society
إعداد وترجمة: فـيء ناصر\
\ شاعرة وصحفية من العراق