بالطبع تغير كثيرا، لقد كان الدرس طوال هذه السنوات كثيفا وقاسيا. فقد تعلمت (من الحياة والكتابة) ما يمكن وصفه بالحس الكوني الذي صقلته التجربة، بحيث انتقلت الروح من كوكب الى آخر، ليس في شكل الكتابة الأدبية ولكن في معناها الجوهري كفعالية انسانية.
بدأت مع جيل واسع من الكتاب الذين تماهت عندهم تجربة الحياة في تجربة الأدب منذ اللحظة الأولى، حيث لحظة الكتابة هي لحظة نضال بنفسر الدرجة من الوعي والفعل. وبالرغم من انتباهي المبكر لمسألة العلاقة بين المناضل والشاعر في حياتي (مما أسعف تجربتي كثيرا)، الا ان هذا لم يمنع (بل كان سببا) لبعض الاحتدامات التي لم تخل من عنف، في شكل مجالات متفاوتة الجدية والعمق وتتراوح بين الصمت والطن، كلما أثير موضوع دور الأدب في المجتمع. وسوف يتميز نصيبي في هذه السجالات بالشراسة بصورة ستصل أحيانا الى الاتهام والتخوين، كما هو الحال في الاوساط اليسارية العربية.
عندما أثير موضوع الالتزام في سجال ستينات البحرين الأدبية الجديدة، كان ذلك المفهوم يكاد يكون مختلطا على غير صعيد، فقد كانت المنظومة التقليدية (بما فيها أجهزة السلطة) ترى في هذا المصطلح اشارة صريحة الى الانتماء الحزبي وسوف يكون كل من يتحدث عن الالتزام شيوعيا في نظر تلك المنظومة التي استنفرت كل آليتها ضد هذا الاتجاه.
غير أن المشكل لم يكن في تلك المنظومة، فعلى صعيد الحركة الأدبية كان معظم الذين نادوا بالالتزام (من الشيوعيين) يقعون في الخلط ذاته بصورة تدعو الى الرثاء، كما لو انهم كانوا يزايدون على الآخرين بتأكيدهم اليومي بأن على الأديب والكاتب اذا أراد أن يكون كذلك لابد له من ان يلتزم (بالمعنى الحرفي للالتزام الحزبي) في الحزب الشيوعي، وهذا ما كان يضاعف الالتباسات النظرية التي تعرض لها مفهوم الالتزام.
وظني أن الذي جعل احتدام ذلك السجال يتميز بالعنف، كون عدد كبير من الأدباء والشعراء لا ينتمون الى أية فعاليات سياسية او حزبية، كما ان ثمة من ينتمي الى اليسار ولكن التزامه الحزبي لمنظمات غير شيوعية. مما جعل السجال يأخذ طبيعته السياسية أكثر من كونه حوارا بين مفاهيم أدبية مختلفة.
بالنسبة لي، دخلت ذلك السجال في اتجاه ينقض بالنسبة لي، دخلت ذلك السجال في اتجاه ينقض المفهوم الستاليني للالتزام، الامر الذي جعلني هدفا مركزيا لهجمات المنتسبين الشيوعيين ليمر في البحرين فقط ولكن في عموم المنطقة، بوصفي أحد الذين يقعون في تناقض مع الزعم النضالي وعدم الالتزام بقضايا الجماهير. غير أن ثمة شبابا يشكلون اتجاها مؤثرا ويقدمون تجربة أدبية مهمة، كانوا يرون نغمر المنظورات التي أقول بها، وكنا معا نمثل النقض اليومي لمفهوم الالتزام الستاليني الذي تكفل الوقت لاثبات بؤسه. الا ان ذلك السجال، بالرغم من كونه مضحكا، لفرط سذاجته أحيانا، الا انه كان مهما لأطراف مختلفة، من بينها أصحاب الدعوة أنفسهم، لكي يكتشفوا معنا بأن الأدب والابداع هو الباقي بالنسبة للأديب وبالنسبة للحياة أيضا، وان الحرية هي الشرط الي يتوجب على المبدع ان يدعوا ليها ولا يفرط بها.
سوف يترتب على تلك التجربة كل التحولات الجوهرية في منظوري للأدب.
فبعد ان اختلطت علينا في البدايات الحدود بين الأدب والسياسة، سوف أتوصل سريعا الى أن الأدب هو قدرة الشخص على التعبير عن العالم صادرا من ذاته بالدرجة الاولي، وهذا ما سوف أسميه (تشخيصا) فيما بعد، الحدود الواضحة بين الذاتية والموضوعية التي كان المنظرون يحار بوننا بها، فحين يطالبك احدهم بان تكون (موضوعيا) في كتابتك، فانه بالضبط يصادر حقك في التعبير عن نفسك، ويقتل لديك كونك الذات المبدعة قبل كل شيء، وصرت أقول بأنك بقدرها تكون صادقا في التعبير عن (ذاتك) ستكون قادرا على التعبير عن العالم من حولك، فالشرط الاول هو أن تكون ذاتيا وليس موضوعيا، فليس ثمة ما يمكن تسميته بالموضوعية في الفن والأدب.
من جهة أخرى، سوف تحتدم السجا لات مع اصحاب الالتزام عندما يطرحون علينا الصوت بأسبقية وأهمية المضمون على الشكل، بالصورة التي كانوا يعبرون عن احتقار فادح لشكل التعبير الأدبي، واضعين المضمون كحكم قيمة في العمل الأدبي، وكنت من بين أصدقاء شففوا بالحداثة مبكرا، عرضة لتهمة مضحكة أخرى هي الشكلانية، بسبب انتصارنا لتجديد الشكل وحريته في العمل الابداعي، ولم يستمر هذا السجال طويلا لكي نرى كل من بقي يكتب من أصحاب الالتزام يتخلون عن أوهامهم السابقة ويصطفون للمناداة بدورهم بالتجديد وبحرية التعبير الفني وبغير ذلك مما لم نعد نمل الحماس للكلام فيه في السنوات الاخيرة.
أما عن مفهوم الأدب فانه يتعرض للتغير(بمعنى التبلور) كلما توغل الكاتب في التجربة، وبما اننا تعرضنا لكل تلك التجربة الكثيفة من المعرفة والمعاناة الروحية والفنية، فان الأدب (كفعالية انسانية يومية) هو الآخر اتصل بالأفق الحقيقي لدور الابداع في التكوين الروحي والحضاري للمجتمع الانساني.
بهذا المعنى يمكنني القول ان ما تغير في مفهومي للأدب موفي الدرجة وليمي في النوع، أي أن الأدب، بوصفه فعل حرية دائما، تسنى له ان يتفتح على تطور الموهبة الفنية وتراكم المعرفة الثقافية والانسانية.
بناء على ذلك فانني قد تداركت مبكرا وهم التغيير المباشر الذي يمكن أن يحدثه الأدب في الواقع، ولم أخضع للمفهوم الميكانيكي لدور الأدب في تغيير الوعي المادي في الجمهور، ناهيك عن عبثية الكلام (عندما يتصل الأمر بالابداع) عن الجمهور ككتلة كمية هلامية غامضة، لذلك فان الدور الحقيقي الذي يمكن ان يحققه الأدب في الحياة سوف يتوقف دائما على المستوى الثقافي والحضاري لدى القارئ. وكذلك درجة حضور الثقافة في بنية المجتمع بحيث يصبح العمل الفني والأدبي جزءا من تكوين الثقافة العامة في حياة الشخص، بهذا المعنى سيظل دور الأدب في الحياة العربية في الجزء الأصفر من برنامج التحول الشامل في سياق المجتمع العربي.
يستمر العرب (كتابا وقراء) يمارسون هذه الادوار لأنها طبيعة عفوية في حياة الانسان، الكتابة والقراءة ليست طبيعة عربية، انها من خصائص البشر دائما، اكثر من هذا، فان العرب مازالوا يجدون في الكتابة الأدبية ديرانهم (وان كان من الناحية النفسية في العصور الاخيرة) الذي يجابهون به تحولات وصعوبات الحياة التي يعيشونها بما لا يقاس من الاحباط والهزائم والانحسارات، وهو أيضا أحد أبرز أشكال اثبات وجودهم في مقابل كل ما من شأنه اثبات أنهم ليسوا موجودين (بالمعنى الحضاري الحديث للكيان الانساني) بجانب حضارات الشعوب الأخرى التي تسنى لها عبور القرن العشرين بجدارة، والاستعداد للقرن الواحد والعشرين، في حين أن النظام العربي السياسي والاجتماعي مازال يرزح تحت وطأة قرون صارت تاريخا.
بهذا المعنى، يمكن القول أن المفهوم الانساني للالتزام مازال موضوعا قابلا للتفهم، اذا نظر اليه كفعل أصلي سابق على التنظير الأدبي او الايديولوجي، بمعنى ان من طبيعة المبدع أن يكون ملتزما بانسانية سارسته الحياتية (كتابة وسلوكا)، وبالتالي فان التوهم بقطيعة الفعل الأدبي مع جوهر المفهوم الانساي للالتزام، ربما سيقذف بنا الى عبثية علاقتنا باللحظة الانسانية التي نعيشها.
قاسم حداد (شاعر من البحرين)