حين أذيع هذا الحوار التليفزيوني في منطقة الخليج، قبل نحو عشرين سنة، كانت له اصداء واسعة طيبة، كان أشبه بكشف عظيم، في نظر عامة الناس والمثقفين في المنطقة، فقد قدم موهبة كبيرة فذة، ذات عطاء وافر بديع، لكن لم يكن قد نشر أو عرف طريقه الى القراء.
ومع أن سنين طويلة قد مرت منذ إجراء الحوار وإذاعته، ومع انة قد اعقبته حوارات أخرى معه، فان حوارنا هذا – بخاصة – يظل ذا قيمة متميزة، لا لانه اول حوار شامل اجري معه في المنطقة فحسب، وانما ايضا انه حوار اردناه وثيقة ذاتية، وشهادة موثوقا بها من الرجل عن نفسه: حياته وأفكاره وفنه، ولذلك فان السنين لم تزده الا قيمة وأهمية وصدقا في التعبير عن الانسان النبيل، والشاعر الكبير، الشيخ عبد الله ابن علي الخليلي، الذي فقدنا برحيله رجلا كان جماعا لكل ما يساق في الادبيات من فضائل ومناقب أهل عمان: العلم والادب، واللغة، وكرم الخلق، وسماحة الفكر، ورقة العاطفة.
– اسمح لنا بان نبدأ الحوار عن المكان الذي نلتقي في ظلاله الخضراء، سمائل التي اشتهرت كمهد للثقافة والعلوم الاسلامية.
– (سمائل) يبدأ تاريخها المضئ بالاسلام منذ عهد مازن بن غضوبة الطائي. كان من أهلها، وقد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، فأسلم، وعاد الى قومه بشيرا بالاسلام. وهو يعد من جملة الصحابة رضوان الله عليهم. ومن ذلك اليوم انتشر الاسلام وانتشرت الثقافة العربية الاسلامية في سمائل، بل في ربوع عمان كلها، بفضل مسيرة مازن بن غضوبة، الذي كان النواة الاولي لمبدأ الثقافة الاسلامية العربية في عمان.
– كيف كانت الحياة الثقافية في (سمائل) في الفترة التي ولدت ونشأت فيها؟
– أنا ولدت عام 1922، في مهد عمي الامام الخليلي رحمه الله، وكان هو مرجع الفتيا والامام. وكنت أنا من بعض تلامذته، ألازمه ليل نهار، فأخذت عنه مبادئ العلوم، وليتني اخذت الكثير، فأنا لم أخذ إلا البعض القليل منه. ثم درست على الشيخ حمد بن عبيد الخليلي، أحد العلماء البارزين في هذا البلد، ثم درست على الاستاذ حمدان بن خميس استاذ العربية، وأخذت اقرأ للادباء والعلماء والحمد لله.
– كيف كانت الدراسة في تلك الفترة ؟ أكانت في كتاتيب أم في المساجد ام غير ذلك ؟
– كنا نبدأ الدراسة بقراءة كتاب الله في الكتاتيب، وكان يدرس لي القرآن المرحوم زاهر بن مسعود الرحبي، وكان من أجود القراء والمقرئين. اما مبادئ العلوم العربية الاخري فقد اخذناها عن شيوخ المساجد، فكنا ندرس في المساجد، كما كانت الدراسة في الأزهر قديما، أي في حلقات، فحلقة فيها الادب، واخرى فيها الفقه، وثالثة فيها الحديث او التفسير وهكذا. وقد كنت ممن يميلون الى الادب ويهوون العربية، ففاتني ما هو خير منها.
– نعرف ان الاسرة كانت اسرة علماء وفقهاء، فهل كان فيهم من يعطي اهتماما واضحا للادب، كقرض الشعر مثلا؟
– نعم، كان جدي الوالد الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، رضى الله عنه، وهو مرجع الفتيا ومرجع العلماء في ذلك الزمان حتى توفى في عام 1287 الهجري (1870 الميلادي)، كان يقول الشعر، وخير ما كان شعره في التصوف. ومن ذلك قوله في (السموطية):
(ويا رب، لطفا، من لعبد مؤمل
بسيط لسان بالدعاء مريد
ويقصر منه الفول ذكر ذنوبه
وقبح الخطايا فهو أي بليد
ويفضي حياء هيبة ومخافة
لعزك اجلالا بكل شهود
فجد بمتاب عن مقر مصرح
بذنب وتقصير وطول صدود
فقير لما أسديت من كل نعمة
شكور لما أوليت غير جود
دعاك ولا يرجو سواك لفقره
وأنت الذي تدعى لكل شديد
وما ظن يوما ان يخيب آمل
بباب كريم في غناه حميد
وجودك اذ عز الشفيع وسيلتي
وجودك اذ عز البريد بريدي
واني لوقاف ببابك سائل
لفضلك راج منك نجح وعودي)
– لا شك في ان هذا الجو العلمي والادبي قد حفز موهبتك الشعرية، فكيف بدأت تفصح عنها؟
– كما سبق ان تفضلت، فان (سمائل) بلد الموهبة، فالحقيقة ان جوها الشاعري يوحي بالشعر. وقد بدأت الشعر بتوجيه اسئلة الى مشايخ العلم وكانوا يجيبون عنها.
– هذا يعني انك دخلت الى الشعر من باب العلم.
– هذا صحيح. واذكر انني بدأت الشعر في ولاية (بدية) حيث كنت في صحبة عمي الامام الخليلي. وكان زملائي الطلاب قد بدأوا قصيدة يذكرون فيها رحلة الامام من نزوى الى بدية، ثم عودته الى نزوى. فكتبت عدة ابيات لا اذكر منها سوى هذا البيت في وصف الناقة:
(تحركها بالاريحية همة
فتعدو بنا كالرائح المتحلب)
واراد اديب كبير تشجيعي، فأخذ الابيات الى الامام، وقال عنها انها أبيات جيدة. لكنني تركت الشعر فترة طويلة حتى عدت اليه بالقصيدة الرائية التي اذكر فيها سيرة الامام الخليلي، وفيها اقول:
(لقد صنت نفسي عن مظنة سيئ
وجشمتها ما لو تجلى لحيرا
فقمت ولى من نير العقل صاحب
وعدت وعيني ما تعاين قيصرا
أروم بنفسي همة لا يرومها
عداي ولو كانوا على الموت اصبرا
وأكرمها أن لا يدنس عرضها
وألزمها ما لا يلذ به الكرى
اليك فما من أنعم بي أعدها
فلم احصها الا من الله فانظرا
لك الحمد ان اكرمتني ورحمتني
الهي والا عدت من ذاك اصغرا)
– اذن بدأت رحلة العطاء الادبي. قبل ان نتتبعها معك، دعنا نتعرف الى قراءاتك الادبية في فترة الطلب تلك.
– بعد القراءة على الشيوخ في المساجد، عولت على الكتاب، فقرأت في الكتب والدواوين كثيرا، قرأت مثلا دواوين امرئ القيس، والنابغة الذبياني، والاعشي، من الطبقة الاولي. ثم قرأت للمخضرمين مثل شعر حسان بن ثابت والخنساء. ومن المولدين قرأت جريرا، والفرزدق، والاخطل، والحطيئة. وفي العهد العباسي قرأت المتنبي وابا تمام والبحتري. اما في الفترة الاخيرة فقد قرأت النبهاني الشاعر العماني، وابا مسلم. ومن شعر الاخوان العرب قرأت شوقي وحافظ ابراهيم والبارودي، ونزار قباني وعمر ابو ريشة، وايليا ابو ماضي. وكنت اخذ من كل شيء أحسنه.
– أظن بعد هذه القراءة الواسعة، يحق لنا ان نسألك عن رأيك في حال الشعر العربي في العصر الحديث.
– لا يسوغ لنا ان نسمى شعرا الا ذلك الشعر العربي الذي يرتكز على القافية ويرتكز على الوزن الذي هو عمود الشعر، ويرتكز على التفعيلة التي لا تتغير منذ بدء القصيدة الى نهايتها. والشعر العربي بهذا المفهوم هو الشعر العربي منذ بدأ حتى الآن. اما المجددون المحدثون فقد جددوا في المعاني، كشوقي مثلا الذي جدد في الوصفيات والاجتماعيات، وحافظ الذي تجد له شعرا بديعا في القوميات والاجتماعيات، والبارودي في حماسياته، وهكذا تجد لكل شاعر حسنة.
– ونزار قباني؟
– نزار قباني يجيد اذا قال في القوميات، ويجيد اذا وصف، على الرغم من انه يقال احيانا – كما قال طه حسين -: (انه دخل في كم المرأة)، لكني أنا لا أهتم بهذا، فأنا عندي ان نزار شاعر مجيد، وشعره في منتهى الجودة، وانه خلاق تجده يبتكر معاني واساليب ما جاء بها غيره.
– فماذا تقول في الشعر الحديث، الحر؟
– أنا سئلت عن هذا الشعر قبل اليوم وقلت فيه رأيا، فقلت: انه اذا كان هذا الشعر يلتزم بالتفعيلة، تقصر ام تطول، ويلتزم بالقافية، تقرب او تبعد، أي له تواقيع الشعر وموسيقاه، فهو شعر. أما اذا كان لا يلتزم بالتفعيلة، ولا يلتزم بالقافية، فقد خرج من الشعر وصار نثرا فنيا.
– في ظل هذا الرأي، وهو بلا شك يدل على تفتح وسعة صدر للتجديد، هل كتبت الشعر الحديث؟
– نعم، قلت هذا الشعر، ولعل الظروف هي التي لا تسمح لي بأكثر مما قلته، وهو ثلاث ملاحم طوال: الأولى بعنوان (الملك ووزيره) ولا اذكر منها الا الشيء اليسير. والثانية (كرامة الفاروق) وتدور بين الفاروق وعمرو بن العاص. والثالثة بين الوليد بن يزيد بن عبدالملك الذي كان ملكا فظيعا، وابن عمه يزيد بن الوليد بن عبدالملك، واذكر منها قولي:
(الله.. كيف أعمل؟
والدهر بحر غاضب مضطرب؟
مضطرب الامواج ليس يرحم ؟
ليس يهمل ؟
هذا يزيد. مارد،
الي كرا مقبل،
كجمل ماج به المرار،
بئس المأكل.
يهيب بالناس الى قتالنا،
لا يستحي، لا ينكل،
الله.. كيف أعمل ؟
الله.. قد اضعتها،
شغلت عن ايامها،
الخمر.. بئس المنهل،
اضاعني حزني، فماذا أعمل؟
وعشت في غيبوبة أعلل،
أعلل المنى..
هيهات، لا تعلل..)
– المعروف ان شعر التفعيلة هذا قد استفيد به في الشعر المسرحي. فهل قرأت شيئا من ذلك؟
– قرأت مسرحية (مأساة الخلاج) لصلاح عبد الصبور، لكني مع الاسف لم اطلع على غيوما.
– ما رأيك فيها؟
– فيما يتعلق بالمسرح لا استطيع الجواب، لانني غير ملم بفن المسرح ولم ادرسه ولم اعرف شيئا منه. لكني اعرف فن الشعر، وقد أعجبت بالمسرحية كهدف وغاية، أما الكلمة الشعرية فيها فتختلف عن الشعر العمودي، اللهم الا تفعيلة يلحظها الانسان من بعيد، وقافية تقرب او تبعد.
انني قرأت (رباعيات الخيام) وأعجبت بها اكثر، لان فيها الفن الشعري. اما المسرحية، فقد كانت لي حافزا على كتابة الشعر الحر حتى قلته. وقبلها لم أقل هذا الشعر قط.
– حديث المسرحية يفضي بنا الى القصة. فهل كتبت القصة ؟
– نعم، كتبت القصة النثرية. كتبتها وأنا في الهند. واظن انه لم يسبقني احد الى كتابة القصة في عمان، فأنا أول من كتبها منا. ولا اعرف اديبا كتب القصة او كتب مقامة سوى واحد من العمانيين في زنجبار. ولقد كتبت القصة والمقامة، بل قصدت ان اكتب قصة بلغة المسرحيات، أي بالكلام المتداول العامي.
– لعل عينك كانت على التليفزيون وأنت تكتب هذه القصص ؟
– لا، لم افعل ولم اقدم شيئا للتليفزيون سوى المقابلات التي تطلب مني. لكن لا مانع عندي من استفادة التليفزيون بها.
– وما رأيك فيما يقدمه التليفزيون من برامج ؟
– أعجب ببعضها، واستاء من بعضها. فاستاء مثلا حين أجد من يلقي القصة أو القصيدة بلا المام باللغة العربية، ويصل استيائي الى حد ترك القاعة. وتعجبني التمثيلية اذا كانت فيها روح البطولة، أو كانت تعالج قضية اجتماعية تهم الناس. اما اذا كانت فيها خلاعة او اسفاف في الحوار، فهذه لا اتقبلها، وربما يتقبلها آخرون ممن يضحكون ويقهقهون.
– نعود الى الشعر، ونسأل عن المعاني التي طرقتها في شعرك؟
– أنا طرقت كل المجالات تقريبا، فقلت في القوميات، وفي الشعر القصصي، وفي الغزل، وفي الفخر، وفي الحماسة، والوصفيات، والاجتماعيات والاخوانيات، والرثاء، وقلت في الموشحات.
– هل نقتطف شيئا من موشحاتك؟
– من ذلك اقول في موشح:
مغرمين التقيا فاجتمعا
في ظلال الآس
فنيا شوقا وذابا جزعا
خيفة الحراس
نسيا دهرهما فاندفعا
تحت حكم الكاس
يملآن الجام
أيها الساقي على تلك الظلال
دون اشفاق
أدر الكأس على لحن الجمال
بين عشاق
ان خمر الحب للصب حلال
أيها الساقي
على وحي الغرام
– هذا شعر غنائي جدير بان يلحن ويغنى.
– أنا لم أعن بذلك، لكن لا مانع عندي منه. وأنا احيانا اسمع الغناء. لكن للعلماء رأيا فيه، ونحن أولى بأن نقف مع رأي العلماء، وان كان بعض العلماء يبيحونه بشروط.
– وماذ عن قومياتك ووطنياتك ؟
– أنا قلت في كل القضايا العربية، فمثلا قلت في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956:
(غامري الاخطار يا مصر فلن
يدرك الأوطار من لم يغر
واركبي الاهوال حتى تركبي
صهوة العز بقلب حذر
اخوتي يا أهل مصر، ليتني
معكم كنت غداة النذر
علني اشرككم في موقف
بيراع او حسام ذكر
وأنادي العزم في تاريخكم:
قاحم الاعداء قفز بالظفر)
– هل نقتطف مثلا آخر من قومياتك؟
– قلت في الجزائر على سبيل المثال:
(جزائر الحرة، لا تجزعي
من مطبق الباب على قفله
فان يكن اوصده برهة
عليك حتى صرت في غله
جثا على صدرك في ظلمه
وامتص شريانك في دغله
فإنك المارد شق الدجى
منطلقا كالبرق في وبله
صاعقة أرسلها بالقضا
على العدى جبريل في رسله)
– الحق، ان موقفك ووعيك القومي، منذ عهد مبكر جدا، بكل اكبار واجلال.
– الشاعر بطبيعته حساس، يحس بالألم كما يحس كما يحس بالسرور. وحساسيته هذه تدفعه الى النظر الى اخيه وان غاب عنه. والشاعر لا يمكن له ان ينسى قوميته، أو يغفل عن اخوانه في شرق البلاد وغربها.
– هذا بطبيعة الحال هو الشاعر الملتزم بهموم أمته ووطنه، لا الشعراء الذين يهيمون في اودية ذواتهم.
– هذا يذكرنا بقول الله عز وجل: (والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون. الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا، وانتصروا من بعد ما ظلموا).
وقد سئلت عن هذا المعنى، وكان رأيي ان الشاعر ما جاء ذمه في الكتاب العظيم الا لصفات كان يتصف بها الشاعر القديم، فهو كان يتصف بالهجاء، وهو يمدح مستحق المدح وغير مستحقه، ويمدح مستحقه بما ليس فيه. ثم انه كان يتشبب ويتغزل بالبنات والنساء واعراض الناس وكرائمهم. لذلك ورد ذمه في الكتاب العزيز، واستثنى الذين تساموا عن هذه الصفات.
– يبقى ان نتمنى سعة انتشار فنك الجميل الملتزم على امتداد الوطن العربي كله.
– نرجو في المستقبل ما هو افضل، فلقد عشنا قديما فترة ركود وعزلة طويلة، وانتهت حين قام جلالة السلطان بالنهضة المباركة، وانفتحت الابواب لنرى الناس ويرانا الناس، ونشطت حركة النشر وبخاصة نشر التراث.