1- أصدرت مجموعتين شعريتين ورواية واحدة ونشرت مئات المقالات السياسية والأدبية ومقالات نقدية سينمائية واجتماعية.. الخ غير أنه إذا ما وجه أحدهم لى سؤالا أدبيا عما أنا حقيقة فإنني لن أتردد في القول:
– أنا قاص أولا وأخيرا.
وعلى الأقل فهذا ما كنت سأقوله قبل ثلاث سنوات تقريبا، حيث إنني منذ ثلاث سنوات توقفت عن كتابة القصة ولا أعرف ما إذا كان هذا المتوقف سوف يستمر الى النهاية أم أنه مؤقت.
2- قصة البئر
كتبت قصتي الأولى وعنوانها "البئر" عندما كنت في نهاية المرحلة الثانوية في كلية الحسين في عمان. كان مدرس اللغة العربية والانشاء هو المرحوم د. عبدالرحمن الكيال والذي كان ذا نزعة ثورية بشكل عام ، وفي أحدى المرات فاجأنا بأن طلب منا كتابة قصة قصيرة كموضوع للانشاء متجاوزا المواضيع التقليدية الشائعة في المدارس والتي لا تتجاوز الحديث عن الربيع أو كيف قضيت العطلة الصيفية أو الاشادة بالوالدين وما الى ذلك من المواضيع المعلبة التي لا يزال مدرسو اللغة العربية يحرصون على طلبها من الطلاب كمواد للانشاء.
فاجأنا ، إذن د. كيالي وهو فلسطيني من يافا، بكتابة قصة قصيرة.
كنت قد سمعت في طفولتي قصة غامضة عن علاقة غريبة حدثت في قريتنا بين مؤذن الجامع الأعلى «سلمان " وبين صبية جميلة كانت تبكر في الذهاب الى الجامع للحصول على تنكة من ماء البئر السخية في الجامع وخاصة في أواخر الصيف عندما تشح أو تنقطع عين الماء الوحيدة والبعيدة عن القرية.
ويبدو أنه مع تكرار اللقاء بين الصبية ومؤذن الجامع نمت علاقة حب بينهما كانت حديث القرية لسنوات طويلة.
تذكرت تلك الحكاية البعيدة والتي وقعت في قريتنا – المالحة – والتي أجبرنا على النزوح منها عام 48، وأخذت بتطوير القصة في اتجاه صادم غريب جريء حيث تخيلت أن حكاية الحب انتهت بلقاء جسدي بين الصبية والمؤذن داخل الجامع نفسه..
كان عمري ستة عشر عاما ومن الواضح أنني كنت راغبا في هذه السن المبكرة في اختراق المحرمات لسبب يتعلق بنزعة وجدت فيما بعد انها أصيلة في نفسي. لكن المفاجأة كانت في رد فعل د. الكيالي الذي تحمس للقصة بشكل غريب فاق كل الحدود مؤكدا لزملائي الطلبة بكل حماسه المعهود بأن هذه القصة هي أفضل مما يكتبه محمود تيمور والذي كان أبرز كتاب القصة القصيرة في الوطن العربي في ذلك الزمان… ويبدو أن الاستاذ والذي علمت فيما بعد أنه خريج الأزهر كان راغبا في الخروج من سجن الجبة وجو التزمت الديني الذي كان فرض عليه في شبابه المبكر كما فهمت فيما بعد.
3- صمت طويل
كان من المفروض أن يكون تشجيع أستاذي الاستثنائي حافزا لكتابة المزيد من القصص غير أن هذا لم يحدث وكان من الممكن أن يحدث لو طلب منا أستاذنا مرة أخرى أن نكتب قصة أخرى، إذ اتضح لي فيما بعد أنني لا أجيد العمل إلا تحت الضغط أو الطلب إلا في حالات قليلة.
وهكذا لزمت الصمت القصص – إذا صح التعبير – حتى جاءت تلك الليلة الغريبة بعد حوال أحدى عشرة سنة وكنت أيامها أعمل مذيعا ومعدا ومقدما لبرامج ثقافية في اذاعة الأردن.
في تلك الليلة الغريبة كتبت ثلاث قصص مرة واحدة وكانت الأولى عن شاب ينتظر فتاة في مكان ما، ولكنها لا تجيء. ويفعل الشمس والضجيج يغمى عليه.. أما القصة الثانية فكانت بعنوان "اللحن العظيم " قصة تعكس سوء تفاهم بين صديقين ذهبا للسباحة في بركة عامة.. أما القصة الثالثة فنسيت اسمها وموضوعها..
في اليوم التالي قدمت القصص الثلاث لصديقي الألمعي الشاعر والقاص والروائي المنتحر تيسير سيول الذي أصيب بالذهول عندما قرأ القصص ، وكان تعليقه انني أفضل قاص في الأردن بلا شك وأضاف بأنني ماهر جدا وحاذق في مسألة التكنيك..
وكما حدث مع استاذي الكيالي حدث مع صديقي تيسير. إذ لم أسع الى نشر القصص كما أنني لم أكتب المزيد منها وكان يجب أن يمر عشرون سنة أخرى حتى أنشر قصتي الأول. المنشورة بعنوان "قط مقصوص الشاربين اسمه ريس " وكان ذلك في مجلة الآداب في بيروت في شتاء عام 1977.
4- دوزنة
من الواضح اذن أنه كانت لدي الموهبة – أقولها بتواضع طبعا – ولكن يبدو أنه في عقلي الباطن كنت أؤمن باستراتيجية من نوع غريب نوعا ما..
لقد كنت أتحدث طيلة الوقت مع أصدقائي عن رغبتي في كتابة القصص – ولكنني لم أكتب أية قصة باستثناء قصة أخرى يتيمة عن رجل يعثر على دبابة اسرائيلية بالصدفة خلال حرب حزيران ويكتشف أن الدبابة ليس فيها أي جنود.. وحتى يحافظ عليها فإنه بنى حولها سورا من الحجر حتى لا ينكشف الأمر..
إذن احتفظت بصمت طويل مديد وعندما كان يسألني صديقي القاص والروائي رشاد أبو شاور متى سأكتب كنت أجيبه قائلا:
– سأكتب بالتأكيد.. ولكنني لا أزال " ادوزن "
5- قط مقصوص الشاربين اسمه ريس
هذا هو عنوان القصة الأولى التي نشرتها عام 1977 وكان عمري أربعين سنة بالضبط.وربما من خلال حديثي عن هذه القصة فإنني أستطيع الحديث عن فني القصصي عموما.
أول سمة من سمات هذه القصة أنها واقعية وبالمعنى المباشر للكلمة إذ أنني سجلت تجربة مررت بها وبكل تفاصيلها
بالفعل.
اذن فهذه القصة – كما هي معظم قصصي هي ذاتية وشخصية بالمعنى المباشر.. إن قصصي هي جزء من سيرتي الذاتية ، فأنا كاتب ذاتي 100في الـ 100 واستخدم ضمير الأنا بلا مواربة ولا أجهد في أي تمويه أو تحوير.. أبعد من ذلك فإنني أزعم أنني أصنع القصص ثم أكتبها..
وهكذا عندما نشرت هذه القصة أثارت نوعا من الدهشة والاستهجان وخاصة في صفوف كتاب المنظمات الفلسطينية وغيرها والتي كانت موجودة في لبنان.. الدهشة كانت ناتجة بالضبط كون القصة كانت نصا مضادا لما كان سائدا.. فكان الحديث يتم عن البطل الثوري كامل الأوصاف وعن اندغامه في الفن والقضية واجادته لاطلاق الشعارات الثورية.. الخ كما أن سلوكا الجنسي لم يكن مسموحا له بالظهور حيث إنه مناغم في رومانسية طهرانية مفترضة..
ذهبت الى الحد الأقصى وتحدثت عن نفسي مبرزا "الذات " في مواجهة ثقافة تغيبها..
كما أنني تحدثت عن أبعاد عبثية وعدمية في نفسي وتحدثت عن تجارب جنسية صريحة بلا تمويه أو تقنيع.. وباختصار تحدثت عن انسان هامشي أو رصيفي يقول كل شيء دفعة واحدة في قصة.. يقول التزامه وانسانيته واشكاليته وعبثيته ومرحه وتعبه في نفس الوقت..
لقد وصفني رشاد أبو شادر.. ودعني أعود اليه مرة أخرى بأنني عازف منفرد..
صحيح.. ولكن الآلة التي أعزف عليها هي نفسي بالذات وهي تقول مستويات متعددة من الألحان المتداخلة.. انها آلة منفردة ، ولكنها أشبه ما تكون ببيانو ضخم قادر على قول كل شيء.
ان مشكلة الكثيرين من الكتاب والشعراء الأن في فلسطين وغيرها هو كيف يكتبون بعد أن سقط مفهوم الثورة ! بعضهم عاد الى صوت فردي باعتبار ان الجمالي أهم من الوطني.. وعاد شعرهم الى مرحلة رومانسية معزولة الآن عن سياقها التاريخي.. فأثاروا استهجان قرائهم الذين تعودوا على أصواتهم ذات النزعة الوطنية.. إنها معادلة صعبة الآن بالنسبة للكتاب الذين جاءوا من خلفيات ثورية.
أنا أزعم أنني توصلت الى المعادلة الصعبة في وقت مبكر جدا.
رسمي أبو علي (كاتب من فلسطين)