في ألوانها يجد العالم براءته الأولى
حوار مع الفنانة الجزائرية باية محيى الدين
ترجمة: جمال الدين طالب (شاعر ومترجم من الجزائر)
تعتبر الرسامة الجزائرية باية محيى الدين التي رحلت في 9تشرين الثاني 1998 واحدة من الأسماء المتميزة في الفن التشكيلي ، ليس في الجزائر والوطن العربي فحسب بل في العالم .
كانت باية قد استطاعت أن تقفز فجأة الى مشهد الفن التشكيلي العالمي وتحتل مكانة لافتة وفيلم تزل مراهقة في السادسة عشرة من العمر، كان ذلك سنة 1947 بمعرضها الأول بقاعة ماغ بباريس . باية خلخلت فضاء فن الرسم ( المطمئن منذ عصرا لنهضة الأوروبية ) بريشتها العفوية الزاهية والباهرة بألوانها. لقد هزت لوحاتها المائية الوسط الثقافي والفني بباريس آنذاك ، يتقدمه زعيم السرياليين الشاعر أندري بروتون وفنانون مرموقون من أمثال بيكاسو وماتيس .
ولدت باية محيى الدين في 12(ديسمبر) 1931 ببرج الكيفان . وقد فقدت والديها مبكرا وهي في الخامسة فتكفلت بتربيتها جدتها. عندما بلغت العاشرة تبنتها سيدة فرنسية تدعى مارجريت كامينا، وهي رسامة ، . كانت تشتغل على الحرير كما كان زوجها الانجليزي رساما كذلك .
تأثرت الصغيرة باية بهذا الجو الفني، فكانت ترسم خلسة من والديها بالتبني، الى أن اكتشفتها أمها بالتبني (مارجريت) فأصبحت توفر لها كل ضروريات الرسم وتحثها عليه .
كان واضحا منذ البداية أن اسم باية (نسبة الى "باي" وهو لقب تركي على غرار باشا، خاص بحكام الولايات أيام الحكم العثماني للجزائر)كان سيكون مودتيا لها.. فمن أول انزلاقات فرشاتها البريئة كانت تحمل بوادر أن تكون "باية " الرسم الجزائري.
في 1947 جاء "ماغ " الى الجزائر والتقى بالرسام جون بايريسياك الذي سبق أن عرض له بقاعته الباريسية . فعرفه بايريسياك على رسومات باية التي كانت قد أهدتها له أمها بالتبني، فانبهر "ماغ " لأعمال باية . وقام بتنظيم أول معرض بقاعته لأعمال باية وكانت تبلغ السادسة عشرة آنذاك .
وقد حقق المعرض نجاحا كبيرا وأثار اعجاب وانبهار جمهور فني عارف ومتذوق في قطب ثقافي كبير كباريس آنذاك . ومن الأسماء الكثيرة التي كتبت عن معرض باية وعبرت عن انبهارها به آنذاك نجد مثلا اندريه بروتون ، وبراك ، وماتيس وبيكاسو.
الى جانب الرسم اشتغلت باية على الطين وانجزت العديد من الأعمال الفخارية . وقد كان معملها يقع الى جانب معمل بيكاسو، الذي قضت معه شهرا كاملا سنة 1948 بمنطقة ما دورا بباريس .
في سنة 1953 قامت عائلة باية الجزائرية بتزويجها من الحاج محفوظ الذي كان يكبرها بعدة سنوات . فانتقلت باية الى العيش مع زوجها الفنان الموسيقي الأندلسي ، بمدينة البليدة (تبعد خمسين كيلومترا عن الجزائر العاصمة ). ما يقارب عشر سنوات توقفت باية عن الرسم وتفرغت لرعاية زوجها وأولادها. ولم تعد للرسم الابعد سنة 1961. ومنذ ذلك التاريخ لم تتوقف باية عن الابداع إلا عند رحيلها في 9 تشرين الثاني 1998. اذا كان هناك جانب يجب الا نهمله عندما نتحدث عن الفنانة الراحلة ، هو أن الظروف العائلية لم تساعد (باية محيى الدين) للحفاظ على قوة انطلاقتها الفنية منذ معرضها الأول وإذا قارنا تميز أعمالها بعدد المعارض التي خصصت لها طيلة مشوارها ، لاحظنا أن هناك تقصيرا كثيرا. كما أن القيمة الفنية لأعمالها لم تلق المقابل المادي المشروع والمستحق مقارنة بما يحدث في سوق الفن العالمي.
… ولكن فوق كل شيء، فيبقى لباية مجد الوانها الساحرة.
باية محيى الدين في حديث الفن والحياة معرضي الأول كان بقاعة "ماغ " الشهيرة بباريس… وأنا في السادسة عشرة
بدأت الرسم وأنا في مقتبل العمر، بدأت عند مارجريت، أمي بالتبني، فقدت والدي مبكرا. أخذت أرسم لأن مارجريت كانت ترسم: كانت تقوم بمنمنمات وبالرسم على الحرير، وكانت متزوجة من رسام انجليزي مختص في البورتريه. لقد كانت تقوم بمنمنمات بنساء. أزهار، عصافير.. في الملساء كنت أنظر إليها وهي تعمل في احد الأيام، وهي لم تكن موجودة، أخذت الفرشاة وانطلقت في الرسم بدأت أولا الاستلهام من المجلات التي كانت تصلنا الى المنزل والموجهة الى الأطفال.
هكذا رسمت أولى لوحاتي.، بعدها، أعطتني مارجريت فرشاة، وأقلا ما.. وكانت تذهب الى العمل وتتركني أشتغل. الرسم كان يمتعني، كنت أرسم كل ما يمر ببالي، كنت يخفي رسوماتي في كل مكان، تحت الأسرة، تحت المقاعد.. وعندما تعود مارجريت، انطلق في الضحك كانت تقول لي "ماذا فعلت اليوم يا باية"؟ هل اشتغلت؟ هل رسمت ". كانت تجلس أرضا وتشاهد كل الرسومات وتشجعني على المواصلة. هكذا بدأت الرسم.
في يوم، وكنت أبلغ السادسة عشرة، زار ماغ أحد أصدقاء مارجريت الذي أهدته رسوماتي فطلب ماغ التعرف علي وعدى عملي. أحب ما كنت أقوم به وقرر تنظيم معرض لي، كان ذلك عام 1947. ومن ذلك الوقت لم أتوقف عن الرسم.
لم أثاير بأي فنان.. بل بالعكس أعتقد أنه تم الاقتباس عن أعمالي!
لست أدري إن كنت تأثرت بفنان ما أو أسلوب تعبير معين (..) أنا جد حساسة حقا، أحس بالأشياء برهافة. ثم انني عشت في منزل رائع. مارجريت كانت تعرف كل الكتاب.. لكن عندما نكون شبابا لا ننتبه ونجد أن كل شيء عادة.. هكذا فمثلا، في معرضي ا لأول، كان هناك براك وأشخاص آخرون مهمون، لكن بالنسبة لي كان ذلك عاديا، منطقيا.. لم أنتبه إلا فيما بعد وقلت: "لقد عرفت أشخاصا على قدر من القيمة ولم أستفد من ذلك ".
لهذا أعتقد أنني لم أتعرض الى أي تأثير.
كنت أعيش في منزل مليء بالأزهار. أخت مارجريت كانت تملك محلا للزهور بالجزائر العاصمة. وكان الجميع يعشق الزهور وكانت موجودة في كل مكان بالمنزل. كان هناك أيضا كثير من الأشياء الجميلة.. هكذا كان الجو والمحيط العام الذي أعيش فيه.
في بيت أمي كانت هناك أعمال لبراك، ماتيس، وهي رسومات أحبها، تهزني بعمق، لكن لست أدري هل يمكن القول أنني تأثرت بها. أعتقد أنني لا أحب الاقتباس، بل بالعكس أعتقد أنه تم الاقتباس عني، عن ألواني مثلا، فهناك رسامون لم يكونوا يستعملون الوردي الهندي، أصبحوا يستعملونه، في حين أن الوردي الهندي، والأزرق القيروزي هي ألوان "باية " كانت حاضرة في رسوماتي منذ البداية. انها ألوان أعشقها. (…) هي ألوان ربما استلهمتها من نساء منطقة القبائل، عملي جد سهل. بداية ليس لي مكان محدد للرسم. يرسم فوق طاولة المطبخ أو فوق طاولة قاعة الأكل بالنسبة للرسومات الكبيرة. أضع ورقتي وأرسم بالقلم، اذا كانت هناك امرأة، أبدأ برسمها ثم أرسم الأدوات أو مزهرية أو على حسب اللوحة. أبدأ عموما بالمرأة، ثم يأتي الباقي. المراة هي المركز، الباقي يأخذ مكانه حولها. إذا كانت آلات بمفردها، أبدأ بها ثم أرسم الأشياء الأخرى. في مرحلة ثانية أهتم بالألوان: ألوان الفساتين أولا ثم لون الشعر. إذا وضعت خمارا على الرأس، الون الخمار ثم الفستان.
(…) لقد جربت القماشة ولكن التجربة لم تكن ناجحة. بالنسبة لي الأمر مختلف فليس لدي المتعة الممافلة للاشتغال على القماشة عكس الورق. القماشة بالنسبة لي أصعب، أشعر أن فرشاتي لا تنزلق عليها. لقد حاولت الاشتغال عليها وأنا شابة لكني توقفت. وقمت بتجربة أخرى. لكني توقفت من جديد. على الورق وبالرسم المائي أشعر أكثر بالحرية، رغم أنه أكثر نعومة من الزيت حيث يجب الانتظار حتى يجف. فمثلا إذا وضعت نقطة يجب الانتظار حتى تجف لأحاطتها بشيء آخر، هذا المشكل لا نصادفه مع الماء، حيث أنا أكثر حرية على الورق.
(..) العصافير حاضرة بكثرة في أعمالي لأنني أعشقها. كانت هناك عصافير في المنزل. أعشق أيضا الفراشات، التي كنت أراها عند بعض أصدقائنا الذين يقومون بجمع فراشات من مختلف الألوان.
(..) أما الآلات الموسيقية فقد بدأت وضعها في رسوماتي سنة (1961). أي سنوات قليلة بعد زواجي من الحاج محفوظ الذي كان موسيقيا. لقد تزوجت سنة 1953.. وعندما دخلت البيت وجدت فيه آلات موسيقية في كل مكان وحياتي وسط هذه الآلات أثرت علي. وقد كانت حقا متوافقة مع عالمي. ثم أنا أحب الموسيقى، الاندلسية، العصرية.
توقفت عن الرسم لمدة ثماني سنوات فكنت أشعر شعور من فقد ابنا..
(..) أنا أرسم لأنفس عما بداخلي. أنا أحب ملامسة الفرشاة.. عندما نرسم والفرشاة في اليد، فإننا نهرب من كل شيء إننا في عالم مختلف ونخلق كل ما أردنا خلقه.. إنه مسار نوعا ما فردي.. وأحبه، إنه
ضرورة بالنسبة لي عندما لا أرسم أحيانا لعدة أيام، فإن ذلك ينقصني ويجب أن أعود إليه.
(..) رغم ذلك فقد توقفت عن الرسم عندما تزوجت، توقفت سنة 1953 ولم أعد إلا سنة 1961. عندما نتزوج يصبح الأمر مختلفا. لما دخلت الى بيت زوجي، كان الأمر صعبا نوعا ما أن أواصل العمل داخل هذا المحيط. ثم لم يكن لدى اتصال بالعالم الخارجي. كنت داخل المنزل ومن المتوجب علي البقاء داخله، فلماذا اذن الرسم؟ كنت مثبطة العزيمة.. لم أعد للرسم إلا سنة 1961، عندما اشترى المتحف الوطني الجزائري لوحاتي القديمة، بعض لوحاتي كانت بفرنسا والمتحف استرجعها من عند ماغ. أصدقاء جد مقربين، آل ميزونسال هم الذين دفعوني. لماذا لا تعودين؟ كنت أرد أنه لست أدري وأنني فقدت الأمل وأن كل شيء انتهى… كنت أشعر مثلما نشعر عندما نفقد ابنا ونعتقد أن كل شيء انتهى. لقد كانوا يصرون ويشجعونني. كانوا يهتفون لي وفي أحد الأيام قررت زيارتهم بالجزائر العاصمة- (كانت تقيم بمدينة البليدة التي تبعد خمسين كيلومترا عن العاصمة)- ثم تحدثت مع زوجي فكان موافقا على عودتي..
(فرصه استثنائية جعلت ويفضل باية، أن يترافق أمام أعيننا التياران اللذان يغذيان الشعر واللذان منحا فرصة فريدة لشخص رهيف لكن محظوظ لاكتشافهما في منبع مشترك. فرصة جد مواتية، سمحت بالفعل لهذا الظهور المتالق تحت. سماء مكفهرة لنوفمبر من عام 1947 بباريس
– باية كانت في الداخل كما في الخارج مشعة بكل سحر بلادها.
(…) من اليقيني أن أجواءها معبقة بعطور ألف ليلة وليلة.
(…) باية من مهمتها، أعادة الاعتبار لمعنى كلمتين نحن إليهما "العالم العربي السعيد".
أندري بروتون في خلف المراة، 1947.
"إنها هبة الله في كل كمالها" الفنان الجزائري حسن بو عبدالله (من تعليق الفيلم الذي انجزه حولها).
هذه المقاطع مترجمة من الحوار الذي أجرته مع باية محيي الدين الرتبة الجزائرية دليلة مرمسلي.
لوحاتها دعوة دائمة للسفر في رجاء عالم مقفل ملؤه الصفاء، كأنه خارج من القصص المدهشة عالم يذكر بفردوس. مسكون بالعصافير الأسطورية والنباتات كثيفة، حيث نبع شفاف يحيط شخصيات نسائية تزهو بساتينها الباهرة، عالم سحري خيم يتجلى بأشكال الزخرفة لعربية بنقوش مزيجة بالأسود، بتدرجات لونية مرهفة الايقاع تلك أساليب باية النقية البسيطة،
إنما لموحية بكل الينابيع القديمة التي تنبت الأسطورة الحلم، على الضفاف الجنوبية للبحر المتوسط تلك أسرار باية".
الصحفي اللبناني بيار أبي صعب
رسم باية هو رسم عطاء، رسم مقدس حيث كل شيء صمت وصرامة لا أية صخب، لا أية تداخل، إنه انسجام تام عندما ترسم باية الطبيعة، فكأنه خروج للربيع. باقات ومزهريات متعددة لألوان في فراديس لا تقبل فيها الا عصافير أسطورية، آلات طرب، أسماك.
رسم (باية) يريد أن يكون عفويا وخيالا خارقا أكثر منه مرآة سحرية للواقع فضاء للنساء فضاء مغلق… فضاء- حريم حيث الرجل مقصي منه، لكن ليس لأطفال.
(..) لوحاتها تظهر!كلها نفس كثافة الألوان ونفس الأسلوب ولا أية تدرج في الألوان، فقط تقارب صاخب، الأزهار، الأنهار، الأكواخ لها نفس الألوان غير الواقعية، إنه دائما الربيع والنساء كما عصافير استوائية تزدهي في فساتينها ذات الألوان البربرية أخضر، بنفسجي، ؟ ردي، احمر، أصفر فاقع في هذا الرسم كل شيء صمت ما على ،اللون ، الذي يتناغم بريفه مع الأشكال في تعدد ألوان احتفالي (..) باية تقطع أوصال الفضاء الرسمي الموروث عن عصر النهضة (الأوروبي)… الواقعية المتخيلة أو الواقعية التجريدية التي تبلغها على حساب واقعية بصرية، تدين بها باية الى حركية التباينات في الأشكال والألون.
(..) بادية تغترف طبعا من الرسم الغربي (..) لكن ألوانها تنتمي الى التقليد الى البربري بينما بالمقابل ميلها وتنظيم أعمالها ذاته تأثير عربي مثل منمنمات القرن
علي سلام (فنان جزائري)
ترجمة: جمال الدين طالب (شاعر ومترجم من الجزائر)