* (في بداية حياتها برزت آنا فيازيمسكايا كممثلة مع روبرت بريسون في "صدفة، بلتازار" ومع با زوليني في "حظيرة الخنازير، تييوريما" ومع غودار في "الصينية، الساعة الواحدة ليلا، ريح من الشرق، فلاديمير وروزا" ومع ماركو فيويوي في "بذرة الانسانية " اتجهت للكتابة القصصية والروائية فأصدرت عن دار غاليمار فتيات مهذبات وحفنة من البشر. في هذا الحوار تستكشف خطوات المخرج الايطالي الكبير في رحلته ).
· فيلمك الايطالي الأخير "مأساة انسان مضحك " مؤرخ في سنة 1 198. وبعده توالت افلامك: "الديكتاتور الأخير" و"السماء المتوهجة " و" بوذا الصغير". وفي سنة 1996 تعود لتعمل فيلما ايطاليا، لكنه غير متوقع، هو "الجمال المسروق ".
· برناردو برتولوتشي: اولا، لم يعتقد أحد بأني سأعود الى ايطاليا، وانا نفسي لم اكن اتوقع ذلك، لكني- هذه المرة – عدت لاتعرف الوضع. وفيلم "الجمال المسروق ». ليس بالفيلم الذي يمكن ان ينتظره احد مني. انه لا يتحدث عن عودة القوى اليمينية، ولا عن برلوسكوني، ولا عن الواقع الايطالي المعاصر. ومع ذلك فانا- في هذا الفيلم – أتجول في ايطاليا. وهنا يخطر في ذهني فيلم «ان تحيا حياتك الخاصة " حيث الفيلسوف بريس بارن يتذكر بورتوس في كتاب «بعد مرور عشرين سنة »، حين وضع الديناميت لتفجير البرج، لكنه عندما اشعل الفتيل، خطر في ذهنه ان المشي يعني وضع قدم قبل اخري، ثم استرسل بالتفكير في معنى المشي، لذا صار يمشي ببطء شديد، حتى نسي الديناميت، الذي انفجر فنسفه مع البرج.
· أ.ف: لكن القضية هنا تختلف…
· ب.ب: نعم، لكني أتعلم المشي – من جديد- في ايطاليا، وادرك – جيدا- ان لدي مشاكل في التنقل.. ربما يحدث ذلك بسبب الايحاء الذاتي، لاني اسير على الارض التي كنت أحسبها في الثمانينات ارضا عدوة. وانا الآن هنا لادرسها ثانية. وهكذا، فما الذي سأعمله؟ اني اقتطع لنفي تلا صغيرا في توسكانا، حيث تجري احداث الفيلم، وحيث يختصر المنظر كل جمال توسكانا. لكن هذا الجمال الحقيقي اقرب لأن يكون ديكورا،. منه مكونا جدليا للفيلم. انه نوع من الجزيرة السعيدة (او التعيسة )، لانها جزيرة تقع خارج ما يحدث في ايطاليا. أعتقد ان الواقع الايطالي يتخلل الفيلم في عدة لحطات فقط، منة ظهور الطائرتين الحربيتين الايطاليتين المتجهتين الى البوسنة، او هوائي التليفزيون الذي يفسد جمال التل. وهناك- يضا- مومسان من نيجيريا واخري من روسيا، وهن جميعا جميلات جدا، وكثيرات في توسكانا، ثم الرجفة الخفيفة التي تظهر فجأة، فنرى الكروم والفلاحين الصم البكم، الذين يشكلون جزءا من الديكور، كما لو كانوا في لوحة من القرن السابع عشر. وماذا أيضا؟ عالم يدعي الرغبة في ان يكون كوسموبوليتيا ومثقفا وجماليا، قبل كل شيء، جماليا. عالم مغمور في حياته اليومية، لكنه يسعى للانعزال عن هذا اليوم، كما يقول أحد إلشخوص "لقد استطعتم ان تخلقوا كوكبا لانفسكم، فقريبا سيحتاج من يريد الدخول الى هنا الى جواز سفر». اريد فقط أن اقول، بانه بعد عشر سنين من الترحال البعيد، فانا احسب «الامبراطور الصغير» الذي صور في الصين، لكنه مصنوع كيلودراما فيردوية، فيلما ايطاليا اكثر من "الجمال المسروق ".
أ.ف: كيف خطرت لك فكرة هذا الفيلم؟
ب.ب: فجأة. بعد «بوذا الصغير» قلت لنفسي: «كفى، لم تعد بي حاجة لأوركسترا من خمسة آلاف عازف لكي أنسى متاعبي التي عانيتها في الثمانينات في إيطاليا. قد كنت بحاجة لخلق ديكورات شرقية من حولي، كي استطيع الاختفاء خلفها. وبعد الثلاثية الشرقية، و" بوذا الصغير» بشكل خاص، شعرت وكأني قد عشت نوعا من التناسخ. أنا أجدثك عن ذلك – كما ترين – بسخرية، لكني، مع ذلك احاثك…
أ.ف: والتناسخ هذا، اخذ شكل فتاة؟
ب.ب: نعم. لكن، كالعادة، اخذ- ايضا- اشكال شخوص اخري. فانا احاول التوحد مع جميع الابطال. ولهذا السبب، فأنا لا أصنع شخوصا سلبية بشكل معلق، اذ يوجد في احقرهم، جزء مني، واود اعطاءهم فرصة (سأتعمد استعمال كلمة كاثوليكية ) التكفير. انا اتكلم عن التكفير لان لدي انطباعا بأني عدت الى ايطاليا من حياة اخري. وكان يصعب علي وهذا مضحك – ان اتكلم الايطالية، في يوم التصوير الاول. وقد فسرت ذلك، بان اللغة الايطالية لم تعد لغة يمكن الكلام بها في السينما والمسرح. انها لغة ادبية يمكن الكتابة والقراءة بها فقط؟
أ.ف: لان لغة السينما- بالنسبة لك – هي الانجليزية؟
ب.ب: نعم، وليس لاسباب عملية واقتصادية، او بسبب توزيع الافلام وما الى ذلك. بل، بسبب المشاكل الهائلة، التي تواجهني مع اللغة الايطالية. مع اني اذكر ان هذه الصعوبات لم تواجهني في فيلم «العرابة الهزيلة "، لاننا استعملنا لهجات روما «من اصول » بازولينية. لكن حين أعيد مشاهدة فيلم «قبل الثورة " يحمر وجهي خجلا، لان اللغة الايطالية، في كل الافلام الايطالية، وحتى في افضلها، في افلام فلليني، لغة غير مريحة. انها لغة ادبية، لدرجة انها لا تستطيع ان تكون دقيقة، ولا تستطيع ان تعبر عن العفوية، كما تفعل اللغة الانجليزية، اللغة الفرنسية، ادبية ايضا، لكنها مرت من خلال فلتر المسرح، من خلال موليير وكورنيل وراسين وغيرهم. لذا فان ادبيتها، هي التي تجعلنا نستمتع بها. وهكذا فهي لغة ادبية سعيدة، يمكن بواسطتها ان نتكلم بحرية، كما يمكنها ان تكون دقيقة، مثل لغة الافلام الامريكية. اللغة الفرنسية، وحدها- في الحقيقة – تشبه اللغة الانجليزية – وبخاصة الامريكية – في دقتها.
أ.ف: ربما تكون "الموجة الجديدة " قد لعبت دورا كبيرا في ذلك؟
ب.ب: لقد حدث كل هذا، بفضل "الموجة الجديدة » التي كانت عيونها متجهة الى فرنسا، اما قلبها فلأمريكا.
أ.ف: وانت – لحد الآن – تشعر بالضيق حين تسمع اللغة الايطالية؟
ب.ب: نعم، في اليوم الاول، كان ذلك لا يطاق. ثم سألت نفسي: كيف يمكن التمثيل بالايطالية؟ فاجبت، بأن هذا مرتبط – لا محالة – بالتناسخ. كنت اشعر وكأني نزلت بالباراشوت على هذا التل التوسكاني، حيث تبين لي اني غريب، لكن التناسخ قادر على التحكم بالذاكرة، التي تحيي ما سبقت رؤيته او سمعه. وباستخراج اصداء اللغة، التي ما تزال باقية في داخلي، استطعت التغلب على اليأس، وبدأت – في النهاية – التحكم بهذه اللغة، بصورة جيدة. في مشاهد الفيلم التي ظهر فيها ابطال شبان، بعيدون عن تجربتي الثقافية السابقة، غرباء عن حياتي الواقعية الماضية ، بدرجة جعلتني اشعر وكأني استمع الى قبيلة ما، ربما تعيشى في افريقيا. وما ان فهمت ذلك حتى اخذت اللغة بالانبعاث من جديد.
أ.ف: لأن الذين يتكلمون اللغة الايطالية في فيلمك، هم الشباب. لكن ماذا بشأن ستيفانيا ساندريلي التي ترافقك دائما؟
ب.ب: نعم، ستيفانيا والشباب. لقد كان ذلك فى كأنه حبل سري مع افلامي الايطالية السابقة ستيفانيا احضرت ما كان عندها دائما، والذي لم تفقده لحد الآن: كياستها الطبيعية المتفردة. فهي في كل ما تعمل ظريفة، ابدا وكان وجودها مهما لي، لكي استند عليه. ومع ان دورها في الفيلم ليس اساسيا، ففي قصة حبها القصيرة، شيء يمكن ان يقال عنه: "خفة موزارتية ».
أ.ف: هذه الخفة في فيلمك، موجودة في كل مكان.
ب.ب بعد "ثقل" افلامي عن الاباطرة والفلاسفة الشرقيين، اردت ان افهم، هل سأستطيع ان اجد الخفة ثانية؟ قد تذكرت ما حدث معي قبل خمس عشرة سنة، في احد البيوت الذي يشبه البيت الموجود في هذا الفيلم. كان هناك انجليز وايطاليون وامريكيات وفتاة صينية عمرها عشرون سنة، نتوء تحت عبء عذرتها، لان تصبح راشدة. عندئذ قررت «ان اتغير وان افهم، ان كان عندي فرصة – مهما كانت – لان اشعر- من جديد- بأني شاب ". كان ذلك رهانا، ولم اكن متأكدا ربحه، لقد اردت التعامل مع الشبيبة، لكني لم اجرؤ، فالشبيبة في ايطاليا، خلال السنتين الاخيرتين، اصبحت قوة تعلي الدفع للفاشية الجديدة. لكن من هم هؤلاء الشباب؟ لقد كنت اخاف الاقتراب منهم.
أ.ف: لم يتكون لدي انطباع باني شاهدت فيلما عن الشبيبة، او عن فتاة نتوء تحت عبء عذرتها، وتريد التخلص منها. انه شيء يشبه النزهة، او التكريس…
ب.ب: لكن هذه طريقتي في عمل السينما، سواء أكان الفيلم انتاجا صينيا
ضخما، ام فيلما حميميا- فانا أبحث – دائما- عن امكانية توحيد السينما، بصفتها، حقيقة حياتية، والسينما بصفتها اختلاقا. وأحاول مراقبة الشخوص (ويعبر عن ذلك في هذا الفيلم بصورة شفافة، المراقب الذي يظهر منذ البداية ) وترك الفرصة للاشياء غير المنتظرة.. ولنقل، نسمة الريح التي تذهب بتنورة لوسي.
واردت – أيضا- العودة الى ما كان موجودا في أفلام مثل "استراتيجية العنكبوت » وحتى في «العرابة الهزيلة ". واقصد هنا، التوقف عند شيء ما وتفحصه… عند هذه الشجيرات، التي بدأت تختلج فجأة، انها يمكن ان تكون مهمة جدا للتاريخ. او عند الباب المصطفقة في هذا الفيلم، او عند اطراف بارما في طفولتي، او عند شعر والدي.
أ.ف: في فيلمك، يشعر المرء بالاستمرارية، بالنفس الطويل.
ب.ب: مع ان ذلك صحيح، فان "الجمال المسروق » اقصر افلامي.
أ.ف: هذه المناظر جميلة جدا، فعلا. لكنك لم تبالغ في استغلال الجمال، ولا في لقطة واحدة، مع ان ذلك كان ممكنا.
ب.ب: عندما صورت الصحاري الجميلة – موضوعيا- كانت ميتافيزيقيا الكثبان تبتزني. الحمد لله، ان توسكانا ليس لها قوة ميتافيزيقية، لان رسامي سيبنا قد «نهبوها». توسكانا جمال مسروق على امتداد القرون، انها جمال مسروق. كانت لدي فكرة (حين بدأنا كابة السيناريو مع سيوزن مينو) ان اعرض ما الذي يتبقي من الجمال الذي يستنسخ على جدران الاديرة، وفي اللوحات الفنية، ويجسد في المنحوتات. توسكانا لا تزال رائعة، لكن كمنظر طبيعي بالمعنى الاسلوبي، كمنظر طبيعي بعد معركة جمالمية. ولهذا اردت – في البداية – أن اضمن الفيلم كثيرا من اللوحات الفنية الرائعة. لكني فضلت لاحقا، الاقتصار على نسخة من صورة للفتان مايستروديل اوسيرفانتسى، نراها على باب الغرفة، في لقطة قصيرة. وهنا- ايضا- كنت ابحث عن عدم الالحاح… في هذا الفيلم كثير من الخفة، لكنها ترتبط ارتباطا لا ينفصم مع عمق الشخوص. وهذا يشبه ارتباطا لا ينقسم مع عمق الشخوص. وهذا يشبه تكريس الفتاة، التي هي- منذ البدء- جمال مسروق، لانهم يصورونها بكاميرا فيديو. وترى البطة من خلال نظرة ومنظار الشخص الذي يصورها. بالمناسبة، هل فهمت من هو؟
أ.ف: انه الجار، الذي تحسبه، هي جذابا.
ب.ب: نعم، الجار، المراسل الحربي، عشيق امها.
أ.ف: ظننته سيفتح باب قصة الفيلم الرئيسية على مصراعيه، لكن حصل العكس. وبصورة عامة، فمن الصعوبة بمكان، النظر الى كل هذه الابواب المغلقة، التي بقيت مغلقة، حتى النهاية، ولم تفتحها، وهذا- بالتحديد- ما يجعل هذا الفيلم لا يشبه بقية افلامك.
ب.ب: كاتبة السيناريو اضافت شيئا ما، حين تعرفتها شعرت بالقربى من رينوار، وكنت بعيدا جدا عن روبر بريسون، الذي يطالب بالحدود الدنيا، مع اني اعبده. سيوزان كاتية تؤمن بالحد الادنى.، فأحبت ان اجره نفس. فى هذا الاتجاه.
في البداية، عندما قرأت السيناريو، بدا لي انه لا يحوي شيئا، ولا شيء يحدث فيه، في حين أحب أنا الابطال واشباع الاحداث.. لكن من خلال العمل مع سيوزان، شعرت بجاذبية الشيد الذاتي. بريسون يمثل الأقتصاد، ورينوار يمثل الغزارة.
أ.ف: اثناء مشاهدة الفيلم، فكرت – احيانا- ببريسون. انه – كما راى- أحد ثلاثة مخرجين، هم افضل من يصور البنات، وسرهن، انت – ايضا- لديك ذلك.
ب.ب: لقد ضحكت البارحة، حين قلت "مدام بافاري هي انا،. وانا لتطابق مع لوسي. وقد ساعدتني ليف تايلر، لانها تمتلك صفة نادرة، هي الحضور الخاص امام الكاميرا. انها لا تحتاج الى مدرسة «التمثيل الفاعل ». انها مثل ستيناني، لا تشعرك بانها تبذل اي جهد.
أ.ف: أ لهذا السبب انت تسخر من استوديو الممثل، الذي تقوده لي ستراسبيرج؟
ب.ب: نعم، مع اني كنت أحب هذا الاستوديو، وكل ما عملته مع مارلون براندو "التانجو الاخير في باريس»، هو نزع قناع تلميذ هذا الاستوديو عن وجهه. وقد قبل قواعدي للعبة، وبعد ذلك لم يكلمني عشيرين سنة. وعندما عرض الفيلم، شعر بنفسه عاريا مفضوحا، وهذا لم يعجبه. لكنهم اليوم يقولون انه كان رائعا.
أ.ف: هل يبدو لك انك فضحت هذه الفتاة، ايضا؟
ب.ب: كلا. ان الذي يثيرني فيها، هو ما يولد ومأسوف يزدهر عندها، حيث لايوجد ماض يتعين كشفه. في ليف تايلر قدر من «الانفعال العاطفي» لا يمكن تفسيره. ولديها شعور غريزي بالسينما، لم اجده الا عند الممثلين العظام، مثل بوب دي نيرو او دي ديبارديو. ان عادية دي نيرو الخارقة، تتحقق به جهد هائل، اما ديبارديو، فممثل عفوى، اسم الآن، عقلانيا اكثر من أي قبل، لكن حين مثل عندي، في فيلم "القرن العشرون »، كان طبيعيا خالصا. ويتمظهر ذلك، عند ليف في شعورها بالكاميرا، وكيف تغازلها، وكيف تنسدها، وكيف تدير لها ظهرها او وجهها. انت تفهمين لعبة الاغواء واللامبالاة، هذه، فقد كنت – انت نفسك – ممثلة.
أ.ف: البارحة، عندما شاهدت الفيلم، فكرت ان السينما تصنع للشبيبة.
ب.ب: انا لا اوافق.. مع ان.. السينما عبدة للواقع.. اولئك الذين يقفون خلف الكاميرات، ينجحون في حالة واحدة فقط، هي ان يخفوا «اناهم » ويجعلوها غير مرئية. بعد مشاهدة «الجمال المسروق » قال لي اخي: للمرة الأولى، انت لا تظهر أمام الكاميرا بألاعيبك ». في فيلم «قبل الثورة »، حاولت مصالحة اكبار مع الصغار، الآباء والابناء. والفكرة ذاتها موجودة في «الجمال المسروق »، لان الفكرة الرئيسية في كل افلامي هي هكذا: فقدان الاب، العثور عليه او قتله.
أ.ف: من أين لك هذه المشاكل؟
ب.ب: لقد حاولت مرارا "قتل » والدي لكني لم انجح، لذا قررت عرض هذا الموضوع من زاوية مختلفة. ان دواستي الأولى لفرويد، ارتبطت بفيلمين: استراتيجية العنكبوت » و" الامتثالي ». ففي هذا الوقت- تحديدا- سمحت لنفسي ان انصاع لحافز «قتل الاب » اليوم اتذكر، مستغربا «استراتيجية العنكبوت »، حيث يرحل شاب الى بلد خيالي ملفق، يسمي تأر، للعثور على قاتل ابيه. ويجد القتلة المفترضين، ولا يخطر بباله، ولو لمرة واحدة، انه هو القاتل. لكن في «استراتيجية العنكبوت » كانت هناك ضرورة للتصالح، ولهذا فهمت، في النهاية، ان هذه هي عقدة اوديب معكوسة. وبعد المحاولات العديدة، لقتل الاب، في كل افلامي، اعترفت: ان بهذا التكرار، انه هو الذي يقتلني. هنا، الفتاة تريد ان تتخلص من عذرتها التي اصبحت تثقل عليها، فهي كبيرة على ان تبقى عذراء. في لحظة معينة، يقول أكس (جرمي ايرنس ): «امك ماتت، وتوقف كل شيء، ولن تستطيعي النمو». فتجيبه هي: "كلا، الامر ليس كذلك ». لكنها لا تقول ما الذي جرى.
أ.ف: المشهد الذي تفهم فيه من هو ابوها، مشهد رائع، انه مشهد هادىء.
ب.ب: كان مهما التمثيل بالصمت، بالصمت المختلج، وهذه هي الوسيلة الجيدة لتخليص المشهد من ميلودراميته. «الجمال المسروق »، هو الفيلم الوحيد من بين كل افلامي، الذي يخلو- تقريبا- من الميلودراما.
أ.ف: حدثني عن لقاثك مع رينوار.
ب.ب: كنت أبحث عن ممثلين لفيلم "القرن العشرون »، وكنت اريد ان أمد جسرا بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا، ليكون الحل الوسط التاريخي، الذي يوفر اللقاء للأمريكان والروس.
أ.ف: ما أبعد هذا عن اللهجة المتواضعة لفيلمك الاخير..
ب.ب: كنت في ذلك الوقت مهووسا بالعظمة، وللاسف. فان التعقيدات البيروقراطية للروس اتعبتني. فذهبت الى امريكا، بحثا عن ممثل شاب، فوجدت دي نيرو. وقال لي احدهم، ان رينوار شاهد فيلم «الامتثالي!، ويريد ان يراني. وهكذا وجدنا انفسنا، زوجتي كلير وأنا، في بيفرلي هيلز. دخلنا غرفة استقبال شاسعة، فيها نخلة. وكان رينوار يجلس على كرسي ويغطي ساقيه بحزام من الصوف المخطط. وادهشني ان بقربه تمثالا له حين كان في الرابعة من عمره، صنعه أبوه أوجست. كان لرينوار العجوز، ولرينوار الطفل، الابتسامة ذاتها، وكان رينوار التمثال بدون شعر، ورينوار العجوز أصلع، مع ان ابتسامة طفولية تشع من عينيه. واندمجنا في الحديث. ان له موهبة غير معقولة في القدرة على التفكير الشامل. لقد تحدث عن كل شيء، عما سمع من جودار او تروفو، ويتذكر كل ما تجادلوا حوله، معتقدين انهم لا يكشفون شيئا جديدا، فقط، بل ويخترعون ما لا سابقة له، لقد مارس رينوار ذلك ثلاثين – اربعين سنة، ودائما بمرحه المعهود. كان امامي القرن التاسع عشر، الذي تحول الى القرن العشرين بسهولة. غير معقول، تحدثنا عن كل شيء: عن الصوت، عن حركة الكاميرا.. وفجأة، قال: "عندما تصور، ينبغي ترك الباب مفتوحا، ذلك ان احدهم يمكن ان يعود فجأة، وهذا هو ما تعنيه السينما». وبد ساعة ونصف، نهض رينوار، وقال: «هل استطيع معانقتكم؟» واحتضنته، فشعرت برائحة صلعة جدي. خرجنا، زوجتي وانا، والدموع تترقرق في عيوننا. لقد وجدت من يحصل على الفرح من سينما جان لوك وترو فو وآخرين من الذين انظر لهم كاخوان أسن مني، لكني لم ار- سابقا مثل هذه الغبطة، كانت الفكرة المسيطرة علينا في الستينات (ربما بسبب طبيعتا المسيسة ) تتمثل في بتر المتعة من انفسنا. لقد كنا اخلاقيين وطهريين.. لكننا- في الوقت ذاته – كنا نعبد سينما رينوار، التي كانت تحتوي على فيض من الفرح. لم نكن نسمح لانفسنا بهذا التصرف، لاننا كنا نصنع ما يسمي بالسينما المعبرة، أما رينوار، فكان يصنع سينما التواصل. لهذا السبب، ولدت لدي رغبة في المخالطة، رغبة في معاناة الفرح، لكن ليس لوحدي، بل اقتسامه مع الآخرين.
أ.ف: واصبحت ابنا حقيقيا لرينوار..
ب.ب: يا ليت… تعرفين… كان في فيلمي مشهد صيد، كما في فيلم "قواعد الصيد»، لكني حذفته من الفيلم. في هذا المشهد، نرى لوسي في الجزء الاول من الفيلم،حيث لم يكن معروفا بعد، ما الذي سيحدث، وعماذا سيتحدث الفيلم، نرى في المشهد فتاتين، هما لوسي وديزي، تتطلعان الى بحيرة جميلة، وفجأة تسمعان مراحا: خنزير بري يجري نحوهما، وخلفه الصيادون، الفتاتان المرعوبتان تختفيان في الشجيرات اولا، ثم تحت الجسر، والصيادون حولهما يطقون النار بلا انقطاع، ويظهر ألكس، فيوبخ الصيادين، لقد أتلفت كل هذا…
أ.ف: هذه قصة ممتعة عن الفتاة والخنزير البري. حين كنت في الثامنة عشرة من عمري، ذهبت مع اصدقائي الى احد البيوت قرب الغابة في فونتينبو، للتحضير لامتحان اللغة، وخرجت – ذات مرة – للنزهة على الدراجة، فصادفت الصيادين يطاردون خنزيرا بريا، قطع علي الطريق، واخذ يدفع العجلة، فسقطت واصبت بجروح بقيت آثارها على حسمي. واصدقائي- لحد الآن – يقولون لي: اعترفي بأنك اختلقت هذه القصة مع الخنزير البري، وانك سقطت من الدراجة، حسب الشخص الوحيد الذي صدقني، هو جدي، الذي قال: "ان الخنزير البري للفتاة يعني اله الحب ".
ب.ب: لقد حصل في الفيلم الشيء ذاته، لكني لوأبقيت المشهد لضاعت الخفة ولحت محلها اهمية رمزية.
أ.ف: حسنا فعلت. في فيلمك لا يوجد أي رمز، مما يعطيه الرشاقة الموزارتية.
ب.ب: أتمنى ان تكون الرشاقة التي تتحدثين عنها، موجودة في كل الفيلم، حتى في مشهد الاحتفال الطويل، الذي لم يخل من مسحة ميلودرامية. وبعده عندها اهتاج الجميع: لوسي تأتي بالشاب لتريه للجميع، وهذا مضحك، لانها تنوي الذهاب معه الى الفراش، وهو ثمل، تماما، ولا يستطيع ان يعمل لها شيئا، أنا أحب رد الفعل عند الكس، وغيرته وانفعاله، تشعرين وكأنه يبحث عن شيء ما. انا احب هذا المشهد، وكيف يمثله جيرمي ايرونس. واضح أن لن يحصل لها شيء، الجميع يمارس الحب ما عداها.
أ.ف: أثارت انتباهي الأوراق التي تركتها لوسي في كل مكان. من أين لك هذه الفكرة الرائعة؟
ب.ب: انها تعود لأبي. عندما كان عمره عشر سنوات، وكان يدرس في بارما، كان يكتب القصائد ويرميها في غرفة معلمه، لتبدو وكأن الريح هي التي جلبتها. وهكذا، فهي من الذكريات، لوسي لا تثق بنفسها. احرقت القصيدة الاولى، ووضعت الثانية على المصطبة، والثالثة في طية كتاب، ووضعت الكتاب تحت وسادة جيرمي كطلسم سحري، ليحميه من الآلام المريعة.
أ.ف: قرأت في أحدى المقابلات معك، أنك تستعمل في أفلامك، ذكرياتك الخاصة، لكي تتخلص منها.
ب.ب: نعم، بمعنى أن السينما، هي تطهير، فالهدف – في الحقيقة- يتمثل في التحرر، لكي لا يثقل الانسان نفسه بالذكريات، فالنسيان- دائما- أصعب من التذكر.
ترجمة:عبدالهادي الراوي(مخرج سينمائي عربي يقيم في هولندا)