يحتفي خطابنا النقدي العربيا لمعاصر، بما أنه منتج حداثي، بالمصطلح ، ويطيل الوقوف عند الدال الاصطلاحي، ويتعقب المدلول المفهومي ( او المدلولات المتسعة عنه او المتمددة منه). وتلك سمة يشيح عنها ناقدو نقدنا العربي لساخطون تجنبا لمجاراة الاستقصاء اللغوي القريب من الفيلولوجيا، او التنظير الجمالى الممتثل للتذوق على مستوى نظرية الادب.
ولكن الخوف من التحليل اللغوي اوالجمالى للمصطلح لا يعفي المهتم من رؤية الكد المبذول في تدقيق المصطلح ومحاولة اجتراحه مستوعبا لمدلوله المفهومي. على هذا الاساس لن نتوقف طويلا عند وصف ( الكتابة) المهجرية الجديدة بأنها( ظاهرة) ولا نبحث في مستندات التسمية ومبرراتها، فهي لا تتحمل اصرارا نهائيا او تصنيفا متعاليا بل تحاول – اي التسمية – ان تحيط بانحاء تلك الكتابة الادبية العربية المنتجة في مكان محدد يمكن وصفه بانه ( الخارج) مقايسة بما يكتب عربيا من ( الداخل) او البعد الجغرافي للكاتب العربي.
لكننا سوف نتساءل عن المحذوف في عبارة (ظاهرة المهجرية) لنرى ان كانت المهجرية ونعتها بالجديدة يتصلان بالكتابة عموما أي الشعر والنثر؛ ام انهما يعنيان (الشعرية) تحديدا خاصا ام (القصيدة) بشكل أخص.
وسوف نصل دون عناء الى ان المقصود هو (الشعرية) المهجرية التي تقدم للقارىء والمتابع في هذه اللحظة الثقافية من حياتنا العربية المعاصرة ، مشهدا متفرعا وغنيا، نتفق مع القائلين بانه يستحق المساءلة والكشف بعد التشخيص والدرس والوصف.
هكذا، اذن ، أفهم اللافتة الاصطلاحية وانا اجتاز عتبة العنوان: (ظاهرة المهجرية الجديدة)(1) وصولا الى تفكيك عناصر هذه الاطروحة التي سأعاملها على انها مسألة معرفية وفنية اي موقف وجودي وشعري تكرر تاريخيا، لك التمثلات المعرفية والفنية لجيل المهاجرين الاوائل الذين كونوا اظاهرة المهجرية الشعرية الأولى ، وأترك نفي في سياق المقايسة والمعيار لاخلص الى رصد نظري وتطيبقي ينحصر لأسباب اجرائية بالشعر المكتوب في الخارج رغم ما تفرزه الكتابة السردية من محصول جدير بدراسة متنوعة تستقصي التيمات والاساليب والاشكال من جهة ، وصلتها بالمورث الكتابي للمهاجر والصلة بالمكانين: القديم والجديد.. ولن استطيع من اجل ذلك اعتبار المهجرية الاول مرجعا للمقايسة والمقارنة واستجلاء العلاقة بين ماضي الظاهرة الجديدة وحاضرها، فأنا اعد المهجرية والمهجر والمهاجرة والمهاجر ظاهرة واحدة سواء أحدثت في الربع الاخير من القرن العشرين أم في الثلث الاول منه. بل لعل التبدلات في (شكل) الصلة بمكان المهجر وروحه وضرائبه وامتيازاته وتمثلها عميقا ثم التعبير عنها، ما هي إلا تجسيدات وتحققات لجدل التقليد والتجديد الذي شهده الشعر العربي كله منذ ما عرف بالافاقة او النهضة او بدايات العصر الحديث عربيا.
ولكن.. ثمة اسئلة تلح على الباحث عند هذه المرحلة من ايغاله في رصد الظاهرة المهجرية ، من اهمها: إمكان وجود (صلة) ما بين جديد المهجر وقديمه ، لا سيما وان الحاضنة التي نشأ فيها شعراء المهجر الجديد تتمثل منجز المهاجرة الاوائل ، وتتجاوزه بحكم ابتعادها تاريخيا عن زمن الولادة التجديدية الحقيقية التي انطلقت في العراق في النصف الثاني من اربعينيات القرن العشرين.
أي أن المقترح التجديدي والميراث الشعري لشعراء المهجر الاول وكذلك شكل المغايرة وصيانماتها، قد اندرجت كلها في اصوات البدايات التجديدية وكفت الآن عن التأثير في الشعرية العربية المتكونة وفق مؤثرات اخرى.
يظل للصلة المفترضة بين جديد المهجر وقديمه وجه واحد ممكن على سبيل الافتراض أيضا.. وأعني المكان او أرضية (الخارج) المشتركة كهواء آخر يتنفسه المهاجر، ويجلب معه بالضرورة وبحضوره مكانا أخر غائبا وبعيدا هو (الداخل) الذي جاء منه المهاجر يجر مشاعر ومواقف ورؤى شتى، تتراوح بين الغضب والرفض لما لحقه من أذى فيه ، والحنين اللازم والقاسي اليه كرحم شهد الولادة والصبا والحلم والنشأة ، لكن ذلك (الخارج) الذي صار اليه المهاجر هو مكان معاد أيضا في تصور المهاجر ورؤيته لا سيما لأولئك الناشئين من المهجريين على تربية قومية او وطنية ، او في ظلال لافتات ايديولوجية معاكسة لما يسود المكان الجديد من نظم ومؤسسات. فالداخل إذن كما الخارج مكانان: مرفوضان ومطلوبان في آن واحد.
ويتحصل لنا من ذلك التقسيم المكاني لأرض الخارج أربعة أمكنة مفترضة:
– داخل مرفوض مهجور.
– وداخل مطوب شعوريا وعاطفيا.
– خارج مسكون ومستقر فيه.
– وخارج معاد ومعاكس للحلم القديم.
ومن هنا تتضاعف أغلفة الغربة لتغدو اغترابا حادا بالمعنى الفلسفي الذي يضمرا لوحدة والوحشة والعزلة.
وفي حالات كثيرة يتشقق عن فلسفة المكان الجديد وتأمله مكانان آخران يأتيان هذه المرة من ماض أبعد، ماض جمعي يمكن وصفه بأنه تراثي. فالمهاجر يستعيد هنا أندلسه التي هي حلم جماعي وهزيمة جماعية أيضا.. لكنه يردها الآن بحسرة أكبر وجزع أعمق.. فاذا كان المكان المفقود فردوسا تهرع اليه الجماعة لترهيب ذاكر تها وانعاش ذاتها المنكرة فانه يضيق عند النظر اليه من الخارج ويغدو أكثر خصوصية وانتماء لذات المهاجر الجديد الذي ينشغل وعبر جدلية مرهقة بتأكيد هويته واكساب وجوده المهجري معنى جديدا.
وبذا صار المكان التراثي أو الماضي المتعين مكانا ذا دلالتين أيضا لنستكمل بذلك ستة أمكنة مقترحة لفحص طرق النظرا ليها واجتلابها موضوعا شعريا واسلوب صياغة باضرورة.
وعلى اساس هذه الامكنة استة سنحتار نماذجنا في الجزء التطبيقي من ورقتنا هذه. لكننا نعود ثانية للصلة المفترضة بين مهجر اليوم والمهجر الأول لنشير الى احساس كامن غير معلن في لب أطروحتنا عن المهجرية الجديدة ، تلك هو هاجس التأهيل والبحث من أب شرعي لكل مولود، وهو ما يتحكم في خطاب الثقافة العربية منذ القدم ، فإن وجد شيء ما جديد، فلابد من البحث له عن رس او نسغ عربي: حصل ذلك حين اقترح شعراء الريادة في العراق القصيدة الحرة ، وحدث من قبل عند كتابة القصة القصيرة والرواية وفي مناقشة المسرح ووجوده التاريخي،. وعلينا الا نندهش، اذا ما جاء باحث ما لينفق جهده في تأهيل السينما مثلا عبر وقائع وارهاصات تاريخية كذلك !
إن المكان الجديد المهاجر اليه ، لا يعد للمهاجر الجديد مثل هذه الفخاخ ، فهو لا يرى جبران ونعيمة والريحاني وغيرهم من شعراء المهجر الاوائل وكتابه الا تعبيرا من لحظة تحديثية استوعبها مسار القصيدة العربية وتجاوزه ولن يكون لهذه الصلة نفع في ترسيخ اطروحتنا عن المهجرية الجديدة الا في جانبين:
تاريخي: يستذكر شعراء عانوا تجربة مماثلة برؤاهم وظروفهم وثقا فتهم.
وموضوعي:0(نسبة الى الموضوع الشعري) يقايس تشظيات المكان وتمظهراته والتعامل معه شعريا في حالة المهاجرين القداس والجدد.
فالمهجرية الجديدة إذن تبدأ من الانقطاع التام عن اي ماض وارث للمكان الجديد، سواء ماضيها الشخصي والثقافي أي كينونتها هناك في الداخل والانتماء الى مشروع ثقافي أوسع هو مشروع الحداثة العربية.
لقد كان الجيل الاول في ظاهرة المهجرية العربية يبدأ من انقطاع مماثل ولكن لسبب مختلف ، فشعراؤه لم يجدوا ارثا في مهجرهم يلهمهم كيفيات او اساليب التعبير عن المكان ، فكان ذلك الغياب فرصة لهم كي يولدوا أشكالا جديدة على مستوى الصلة بالمكانين (الخارج والداخل) ويقترحوا صياغات كانت تعد جديدة وجريئة ومغايرة في السائد من الكتابة الشعرية آنذاك.
لكنهم من جهة أخرى راحوا يرتبون صلتهم بثقافة المكان الجديد لأنهم لم يرتبطوا به ثقافيا ولم يتمثلوه في أوطانهم ، على عكس ما يحصل في حالة الجيل المهجري الجديد الذي جاء الى (الخارج) مستوعبا، بطريقة او أخرى وكجزء من عناصر المشروع التحديثي الشعري العربي، لثقافة الخارج ، فهو يعرفها قبل ان يحتك بها جسديا ومعيشيا. لذا كأن أثر (الخارج) شعريا وثقافيا أثرا بسيطا في حالة جبران وزملائه ، لا يتعدى في أحسن الفروض تجربة الشعر الحر والمنثور على وفق النموذج الويتماني (نسبة الى والت ويتمان) ويرقى الى نيتشه في عمل جبران المدهش والفريد: (النبي).(2).
ولكن المهجر ليس مكان استيراد واستلاف فحسب ، فثقافة الشعراء العرب وتمكنهم من لغة الخارج سمحت لهم في الجيل المهجري الاول ان يجسدوا مقولة التثاقف او التفاعل الثقافي بشكل واضح عبر جبران هذه المرة ايضا الذي صار لمؤلفه (النبي) وبعض مؤلفاته الاشراقية الاخري المكتوبة بالانجليزية إشاع معاكس، فدخلت ضمن أدبيات اللغة الانجليزية المهمة والمؤثرة حتى الآن.
إلا ان هذا لم يحصل في حالة المهاجرين الجدد، فم زاهدون في ذلك التأثير المعاكس، حتى لمن كان منهم يغامر قبل هجرته بالكتابة باللغة الاجنبية وبدلا عن ذلك عكفوا على تطوير رؤاهم واساليبهم بالاتجاه ذاته الذي بداوه في اوطانهم.. ونحن هنا نستبعد كتابا عربا في الشعر والسرد مثل (أمين معلوف وصلاح ستيتيه وبن جلون وادوارد سعيد- في الفكر-) نعلم انهم تكرسوا كتابا وشعراء بالفرنسية او الانجليزية ،. فحالتهم تقع خارج اطروحتنا، وتستلزم حوارا آخر بصدد كتابة العرب المهاجرين بلغة المهجر،. وما يتفرع عن ذلك من مشكلات اسلوبية واستشراقية تشكك في جوهر تجاربهم ووصفها- المشكوك فيه – ككتابة عربية.. ولكن المهجري الجديد وها قد تعدد الوصف الاصطلاحي: بين مهاجرومهجري- لا يجد من يتشك في لغته واسلوبه ، فهو متكون ضمن الحاضنة الثقافية العربية ذاتها، واخطاؤه وامتيازاته هي أخطاء الحداثة العربية ومزاياها.
أما المهجريون القداس الذين تفتحت مداركهم وتشكل وعيم في الخارج غالبا، فان لغتهم مطعون بها من نقاد عموهم وأدبائه ، وكثيرا ما نالتهم سهام التجريع والاتهام الذي يصل الى حد ومفهم – بعبارة رفائيل بطي عام 1924- بالوهن الثقافي وضعف النشأة والتعلم والخروج على اللغة والعجز من التعبير بالعربية تعبيرا صحيحا(3).، وذلك ما لا يرد في محاورة التجربة المهجرية الجديدة او مساءلتها، للسبب الآنف والملخص في مجيئهم الى الخارج متجاوزين الكينونة اللازمة والاعداد ومنغمسين في تجربة الكتابة كليا.
ولما كانت دوافع الهجرة مختلفة ؛ فتد كان النظر الى المكان القديم او الداخل مختلفا كذلك. فاذا كانت حالة الفقر والحروب تدفع الجيل الاول الى الهجرة فانهم يظلون مرتبطين شعوريا بالمكان الاول او الداخل: يحنون اليه حنينا حادا لا يشربه سخط او ذكرى شائهة او معاناة ذاتية إلا في كسرات نادرة من تذكر الفقر او الاحتلال ، وذلك يجعل كاتبا كالريحاني يقول كلمته الشهيرة ( في لبنان روحي.. وفي نيويورك جسدي)(4)ويلفت النظر هنا احتفاء الجيل الاول بالحرية والحضارة وهما سمتان منتقدتان في عموهما العربي، لذا نوه بهما المهجريون الاوائل كثيرا، ولم يجدوا المكان الجديد معاديا إلا في حالات نادرة تنبثق من الموازنة بين جمال الداخل وصفائه وهدوء قراه وأهله وبساطته وبساطتهم ، وبين قبح الخارج في لحظة معاينة إنسانه تاجرا او عابرا يزاحم سواه دون ان يعرفهم.. وتذهب بالمهاجر مخيلته الى لحظة ظاهراتية فذة يرى فيها- مثلا- «أشجار كاليفورنيا وهي من عجائب الدنيا مجرد جماد هائل لا سر فيه ولا معنى ليكون بالمقابل لشجرة الأرز- الاشارة اللبنانية المتجددة – صوت يدوي «حتى بعد الغناء»(5).
ولعل ذلك كان إقصاء لأي عامل ايديولوجي يكرس غربة المهاجر ويبعده لا عن المكان الجديد- الخارج – فحسب ، بل عن مواطنيه الذين يعانون الهجرة مثله. وهذا سبب في ظهور التجمعات المهجرية لا على أساس جغرافي فحسب أي المهجر الجنوبي والمهجر الشمالي ، بل عبر نزعات وحساسيات مختلفة يمكن ملاحظتها في اهتمام مهاجرة الجنوب بالوطن والهموم القومية ، وانصراف الشماليين من المهاجرة الى أفق انساني أوسع مع جرأة اسلوبية على الموروث ويمكننا تفسير غياب التجمعات المهجرية الجديدة ذات الطابع الاسلوبي او الفني بهيمنة عوامل الهجرة المختلفة وتغلب الدافع الايديولوجي لها، رغم التقائهم الممكن على أرض المكان الجديد ومؤثراته الشعورية والنفسية ، وكذلك برابطة التحديث التي يلتقون عند حدودها الدنيا وبدرجات متفاوتة.
واذا كان تجمع الرابطة القلمية قد أوحى للشعراء العرب في الداخل بثورات تجديدية محدودة ، تجسدت في حالة مدرسة (الديوان) واحتضانها لآراء (نعيمة لم تحديدا(7) فان شعراء المهجر الجديد زاهدون كذلك في مثل هذا التأثير، كما وجدناهم زاهدين في التفاعل والتأثير المعاكس في ثقافة المكان الجديد (الخارج).. بل اندمج الشعراء المهجريون الجدد في حركة الثقافة العربية في الداخل واستكملوا عناصرها بوجودهم الشعري على مستوى النصوص والمشروعات الشعرية او الحضور الثقافي صحفيا وحواريا وفي اللقاءات والندوات ، مع اطلاعي على منابر مهجرية ، بهيئة منتديات او صحافة ، لم اجد في أدبياتها ما يشير الى أنها تقدم نفسها تجمعا بديلا او مشتركا يفرز سمات محددة مغايرة او مبشرة. لكأن الهجرة ، والحال هذه ، صليب شخصي محمول في ارض تحتشد بالصلبان.. لكننا لا نستطيع ان نحكم ونحاكم درجة الصلة بالمكان المهجور (الداخل) على أساس ذلك ، كما جرى في حالة المهجريين الاوائل ، لعدة اسباب:
– منها ما هو فني يتصل بشكل التعبير عن ذلك الحنين. فهو مباشر وغنائي وصارخ لدى المهجريين الاوائل ، ومندرج في الكتابة والرؤية الوجودية للاشياء لدى المهجريين الجدد.
– ومنها ما هو تداولي يتصل مباشرة بالصلة بالوطن ، حيث لم يعد المهاجر الجديد بعيدا عن احداث وطنه وثقافته وحياته ، لما تقدمه الحضارة من سبل اتصال (8) لعل أهونها الصحافة والتليفزيون والمراسلة اليسيرة.
– ويترتب على السبب السابق ، حذف الانقطاع عن المقروء الثقافي سواء أعان تراثا ام حديثا، فالمقروء متيسر وحاضر، يسعف المهاجر الجديد على استكمال عدته ، بل وجدنا بعض الشعراء وقد توثقت صلتهم بذلك التراث درسا وتحليلا واسلها ما بعد هجرتهم.. مع استثمار رسال العلم الحديث وما يقدمه من تسهيلات في ذلك.
لقد تعددت مهاجر اليوم قاريا، ولم يعد بالامكان الحديث عن مناخ جنوبي وآخر شمالي ، فالشعراء العرب لم يظلموا احدا في استحقاقات هجرتهم ، حتى وصلت الى دول آسيوية قصية وأخرى افريقية.. لكن لقاءهم الثقافي يظل تابعا للمراكز الكبرى في امريكا وبريطانيا والمانيا وفرنسا واسبانيا وهولندا والسويد وسوأها: وهم بذلك يكرسون مركزية المركز الثقافي ويستفيدون منها ايضا. لكننا لا نتخيل استيعابا او تمثلا للخارج بالدرجة او القوة نفسها، فثمة من يتعمق المكان وينادي- ما يسميه أمجد ناصر- « روح المكان هي واستحقاقاته اليومية »(9). ومنهم ن يصبغه بسواد النوستالجيا للمكان الاول وينخرط في بكائيات او منادب عائمة او غارقة في الميوعة العاطفية ، ومنهم من يجعل من المكان معرضا لحشر الاسماء والمواضع بطريقة استعراضية داخل النص.. فيما يمكن للمكان ان يكون حافزا لفعاليات ثقافية متنوعة ، على رأسها الترجمة الى العربية وبالعكس ، الامر الذي غاب عن برنامج المهجريين الاوائل ، وصار الآن من علامات الهجرة الجديدة ، مع ملاحظة ان كثيرا من المترجمين بداوا مشروعاتهم اصلا في أوطانهم.. اما اولئك الذين فاتتهم فرصة الافادة من لغة الخارج فقد أدى بهم الامر، وبدافع الغربة اللغوية ، الى مضاعفة الحنين للمكان المهجور،. وتكريس الاغتراب عن المكان المهاجر اليه.. وسوف تفوتهم تلقائيا فرصة تقوية دم نصوصهم بأجواء المكان الجديد واشاراته وثقافته.
لقد استطاع كاتب مثل امين الريحاني ان يقدم جرأة اسلوبية لا تتحدد برفض الاطر التقليدية للقصيدة كالوزن والقافية ، بل بلغ به الامر حد اجتراح اشكال وانواع عصية على التجنيس في عمله (كتاب خالد) الذي يوصف بأنه "شبه قصة – نصفه قصة ونصفة قصيدة »(10)0وهو يماثل ما فعله جبران في (رمل وزبد) حسر الحكمة والنبوءة المعمقة مقدمتان بتركيز شعري وتكثيف عال. وشبيه ذلك ما فعله نعيمة في (كرم على درب 946) أيضا.
إن كشفنا للمزايا المهجرية الاولى: نقائص وحسنات ، إنما هو رسالة للمهجريين الجدد بحثا عن اجتراحات واجتراءات لم نرها فيما نتابع من شعرهم. ولهذا سننتقل الى جزء بحثنا الاخير معاينين تمثلات المكان الجديد وتعيناته الصورية والاسلوبية والموضوعية في نماذج مختارة من اشعار المهاجرين الجدد ولكن بعد ان ننهي بالقول ان مهاجرة الامس الاوائل لم يعدوا هجرتهم امتيازا لهم على شعراء الداخل المهجور، فيما نلحظ تكرارا مملا للقول بأن الداخل كف عن ان يكون صالحا لسياق ثقافي او ابداعي مناسب ، وكثيرا ما رفعت فرارات الرفض وسياط الجلد في وجوه مبدعي الداخل وجلودهم ونصوصهم لمجرد انهم ما زالوا هناك: أحياء يكتبون !
اننا لا نريد ان نزن النصوص جغرافيا؛ فليس لنص مكتوب في الخارج فضيلة اضافية لمجرد انه منتج هناك ، ولا لنص مكتوب في الداخل لانه كتب هنا.. كما اننا لا نطمئن لتهم قليلة مقابلة يرمي بها بعض شعراء الداخل زملاءهم المهاجرين ، للسبب نفسه.
ذات يوم ، من (على جسر بروكلين) اكتشف الريحاني رغم انبهاره بالعالم الجديد ان نيويورك مدينة قاسية ، رغم جمالها، لا تحفل بأحلام شعرائها، واكتشف خلف غطاء الحرية ، ما اسماه (العبودية الجديدة) التي تتخذ في الولايات المتحدة أنواعا واشكالا؛ حتى غدت الحرية والعدل والمساواة والاستقلال اسماء بلا مسمياتها.(11)
فهل نستطيع ان نرتب صلتنا بالخارج على اساس تجاوز ظاهر الكان وشعارات الحياة العابرة وكمائنها المهيأة لكل عابر اجتاز حدود بلاده ؟
يكون المكان الجديد في العادة مناسبة لاستدعاء الغائب (المكان القديم المهجور) وما تحف به من رؤى وذكريات. هنا تختلف بالشعراء الطرق ؛ فيبدأ بعضهم برؤية صلادة المكان الجديد ولا انسانيته ، اسقاطا شعوريا من وعيه هو؛ لكونا غريبا ومقلعا، ولان المكان الجديد لا يقوم بديلا من الداخل مهما ارتبط ذلك الداخل بالغيبة والانكسار وانحسار الحلم كثيمات موضوعية معادلة فنيا للمحمول الايديولوجي كما تبينه قصيدة بلند الحيدري (غدا اذا ما انفجرت):
يقال ان بيتنا كئيب
وكل ما في بيتنا
وكل من في بيتنا.. غريب
حتى صدى أصواتنا غريب
حتى النجوم لملمت بريقها وهاجرت
بعيدة عن ارضنا
..حتى رؤى صغارنا قد صدئت
فليس في قلوبهم قلوب(12)
ولكن قسوة ذلك البيت المهجور حيث الاحلام القتيلة والنجوم المطفأة والرؤى الصدئة ، لا تخففها جغرافية المكان الجديد حيث "الحانة مغتسل الرجال » يجرفون بمعاطفهم ضبابا»(13) وحيث الجمال الذي يجسده رمز الجوكندا ليس الا وليد "عرق الاكتاف المتزاحمة ، من زبد القطيع المائج في الانفاق "(14) كما يقول نوري الجراح الذي يرى في مكانه على الجزيرة (المقصود قبرص) «عصافير في ثنايا القرميد
اشبه ما تكون بالفئران »(15). وعند ذلك لابد من النكوص والعودة الى المكان المهجور..
فكما
للنوافذ المحطمة ذكرياتها عن العاصفة:
سوف نتذكر
الخفقات التي سقطت من قلوبنا
ونحن نحلم بالاجنحة (16).
وفي الاحداث الكبرى التي تعمق بالمكان المهجور يستجيب المهاجر بهياج عاطفي شديد أحيانا، يعكس هيجانات لغوية وصورية عارمة ، كما في قصيدة فاضل العزاوي (مرثية الاحياء- العراق 17 كانون الثاني ا 199) المكتوبة في عام القصف الجوي المروع على بغداد ومدن العراق ، فيرى ان الساعة ساعة الوحوش الخارجة من مغاورها، كما هي ساعة القتلة والمقتولين.
في هذه القصيدة القائمة على بنية التكرار وضم الجزئيات المتناثرة في يوميات الحرب وشظايا المكان القديم بأساطيره وثقافته وطبيعته ، تعلو نبرة الخطاب الموجه الى القنابل:
«أنت ايتها القنابل، يا حاملة اسماء حبيبات الجنود القادمين من قارة منتهكة ، انفجري فوق شارع الرشيد، امسحي ذكرياتنا، انشطري فوق مقهى الزهاري، فوق مقهى حسن عجمي، فوق مقهى البرازيلية ، فوق مقهى سمر، انفتحي فوق شاطىء أبي نواس ، حيث غادرت دجلة أسماكها…»(17)
وفي هذا السياق تتداعى الامكنة المحملة بعبق التاريخ من اور وبابل ونينوي وبذكريات الصبا في مقاهي بغداد وحاناتها ونواديها.. ولكون ذلك مناسبة لاعلاء الحنين الجارف الذي لم يكن في قصائد سابقة قد وجد له مكانا، اذ اتخذت القصائد أشكالا اكثر تماسكا واستقرارا فجاءت الحرب لتفجر ذلك الحنين كله.. الحنين الذي لا يمكن ان يخفيه مهاجر مهما كان مرائيا:
"مهما تكن ثعلبا في الغربة
سوف يضبطك الوقت يوما ما
في زاوية وانت تمارس
العادة اسرية مع الحنين"(18)
كما يقول الشاعر السوري المهاجر رياض العبيد الذي رأى هو الآخر هشاشة المكان الجديد وسخافته التي «تتجول في مدن الفلاسفة وكواكب الشعراء / تمتص كل ما فيها من ضوء وعشب وماء / ثم تخرج تاركة فيها شمسا مقتولة » وحيث «يطيب للتفاهة ان تتشمس على سواحل كاليفورنيا، عارية كملكة متوجة / بينما على القصيدة / أن تقبع في كوخها / مثل ارملة وحيدة !"(19).
هكذا يجري جدل الداخل والخارج بمعادلة صعبة: فالداخل مرفوض لانه قادم في سياق عذاب شخصي قاس: ولكنه الآن حاضر ازاء قسوة الخارج وهمجيته حتى لتغدو رموزه نفسها وابعاد هذا المكان الجديد شتيمة لازمة: انت يا قنابل ، تشبه طيورا مقتولة ، انني أعيدك الى كل مدينة وشارع وبيت في أمريكا، أعيدكم الى الاطفال في رياضهم ، الى المشردين في الطرقات / الى المدراء في مكاتبهم الانيقة ، الى العاهرات الصغيرات في الفنادق التي تؤجر غرفها بالساعات / الى جبل الماريوانا لي سان فرانسيسكو/ الى مبنى الامم المتحدة لي نيويورك / الى حكماء طريقة الحياة الامريكية ، الى محققي الجرائم في شيكاغو، الى قطاع الطرق في الاريزونا الى رعاة البقر المضحكين…»(20).
ان العيش في المكان المعادي سيعمق الاغتراب وستغدو المدن أمكنة تجهل ساكنيها كما يقول صلاح فائق في مقطع من قصيدة يجسد التعارض بين المكان والمهاجر، بين قسوة ذاك ورتابته ومظهريته القاتلة ، وبين هذا واحلامه وذكرياته:
في مدينة لا تعرفنا بعد اعوام
المنام وحده ينقذنا من ضياع الجمال
احيانا في العطل
نرى برجوازين في الساحات
يرقصون على رنين نقودهم
قبل عودتهم الى بيوتهم في الارياف
نلحظهم في امسيات يصلون امام المصارف
ونحن تحت اغطية اسرتنا
نعاين لمعان الكواكب
او تحت مصابيح المناضد نلتقط عللنا من كتابات
مدينة تعض حدائقنا
نسمع صراخها في غرفنا ونحن نتهيأ للنوم لكي نحلم..(21)
واذا كان المهجريون الاوائل قد عاينوا في مدة هجرتهم الجديدة ما تخفي وراء جمالها من ظلم وقسوة جسدها الريحاني بمقولة (العبودية الجديدة) المتركزة والمرمزة في عمال المناجم والنفط ومصانع الانسجة وفي البورصة والاسهم والتجارة ، فان الوعي الحاد للمهاجر الجديد- الشاعر دائما في بحثنا- انما هو محرك ومولد سلسلة من الصور والتعينات التي يصبح فيها البشر جزءا من المكان المتلون بأطياف متعددة ترتهن بجغرافيته لكنها تشتق منه شبيها لها، وترى الهامشي في غرابته وتفرده ، زوايا المكان وروائحه.. روحه الخفية التي لا ترى.. كثيرا ما نعاين نماذج هامشية او مهمشة واماكن منزوية وعابرة في شعر
سركون بولص الأبعد تجربة من زملائه في المهجر.. لكن قصيدته (حانة الكلب) من اكثر نصوصه تمثلا لروح المكان ورائحته.. واستيعابا لتاريخه وجغرافيته ،وحيث يبلغ الترميز أعلى درجاته فيرى الشاعر حانة تحمل اسما غريبا: (حانة الكلب) في شارع يرمز الى الطريق التي سلكها كهنة المكسيك الى اديرتهم المقدسة ، فيشعر «انه وجد سر امريكا اخيرا.. حانة الكلب عل طريق الملوك ! والملوك هنا يقصد بهم ملوك الروح مما يزيد طين المعنى بلة ، ذلك المعنى الجديد المتأرجح بين الكلبية والقداسة ، بين حضارتين متضاربتين ، عالمين بينهما فروقات شنيعة كلك التي بين امريكا الشمالية والجنوبية ، او بين الغرب والشرق..»(22)
لقد كتب سركون بولص هذه القصيدة عام 1975 اي بعد حوالي ست سنوات من اقامته في امريكا، وبالقدر الذي كان يلتقط فيه الجزئيات اليومية للمكان الامريكي، كان يوغل في روح المكان ليقرا تعارضاته.. بين الملوكية والكلبية اي القداسة والضعة وحيث تجد الروح مبررا لتوقها واشواقها وحنينها.
تحفل (حانة الكلب) بالسرد وبضمير المتكلم ، لكنها ذات اصوات متعددة ، تستحضر التراث والاسطورة وتتسم بالسخرية والتداعيات وبالشخصيات الطريفة لمهاجرين يكتشفون كلبية المكان وخواء روحه حيث عليك ان تؤجر شجرة او عمود تلغراف لتشنق نفسك !
ليس ثمة في القصيدة عوائق تحد من اندفاعها، فهي مسترسلة دون تكلف لا لانها تتنازل عن الايقاعات المألوفة او تزهد بالبلاغات المبتذلة ، بل لأن كل شيء ممكن في سياق شعريتها حتى نقل العبارات بالعامية ، وتقطيع الكلمة الى حروف ، والتعليق على الجمل الشعرية والصور من داخلها..
ماذا يفعل المهاجر بذكرياته ؟
إن طفولته تنادي كضوء نجمة بعيدة لكن لمعانها لا يكف عن ارسال مكائده. هكذا يتذكر المهاجر تلك الايدي التي لوحت له.. الايدي التي ودعته والتي لا سبيل لملامستها.. وبهذه المفردة (اليد يؤنث خالد المعالي مكانه الجديد ويستخرج تداعياته وصورها التمثيلية من (كيس ذكرياته) الذي يحمله و(طريق التراب نحو الطفولة)(23) ثم يتساءل:
أكل يد تلوح
ستمضي اخذة باطراف النهار.
لها صوت ينادي
ويمزج الزمان والمكان معا ليكتشف اليد التي تدله على ذكريات مضيعة:
الآن وهنا
تمد اليد
الى كل ذاكرة تبين
شعلة السراج تهتز
وليل الحياة مستريح
منه ياتي الذكريات
التي ضيعتها.. "(24)
ويلاحظ القارىء كثرة ورود (اليد) في شعر المعالي ، ووجودها في عناوين قصائده مثل (يد مرفوعة تنادي) و(مصير اليد) و(يدي وقفت) و(وصول اليد) و(يد ممدودة) و(ألوح باليد، اليد تلوح) ولعل في هذه الظاهرة اللغوية مجال دراسة اسلوبية تتقصى قاموس المهجر الجديد وتراكيب اللغة الشعرية وابنيتها، حيث تكثر مفردات السفر والابحار كالسفينة والقطار وجزئيات المكان كالبيت والطريق والحانة والمقهى..
إن اللغة في شعر المهجر الجديد ذات وجود حي يعاضد الذاكرة اكثر من خدمة المخيلة لذا ترتفع سقوف النصوص لتلامس المدى التصويري الممكن دون ايغال او تصنع في صنع فضاءات شعرية سابحة في مخيلة مهرمة بل هناك تعمد لتخفيف حدة العبارة والصورة ، وتبسيط التراكيب ، والتبسيط مع القارىء واشراكه في تمثل النصوص ومخاطبته كقرين وشريك في النص.. وذلك يقطب هذه النثرية المغايرة للبلاغات الفاقعة والصور الحادة..
وسنرى في مقطع من شاعرة سورية مهاجرة هي (لينا الطيبي) ما أعده تعمدا وقصدية في مجافاة المباشرة من جهة ، والزهد بميوعة العاطفة وتهويمات المخيلة ، مما يرتب من بعد، انفجار الذاكرة بتداعيات ، يحقق ترابطها الشعري، هيكل القصيدة الجديدة:
"الحنين أغنية عائد لامطر يجمع خطواته
فوق تلال يعبر رؤوسها تكسر الظلال
وهتاف الشمس في أوبة النهار
فوق الارض.. والسهل وفوق الكلمات الخاسرات
فوق الندرة
وفور ياسمينات تقصفت على المشهد
نثرت غرورها في لمعة الجبل
فوق سوريا
الحصان ينفض عرق قوائمه
يشتت ألوان صهيله في ذهل العبور
أعبرك سوريا
الواحة تخضل في شغف العين.. "(25)
إن المكان مقدم في النصوص السابقة بشفافية وحلمية وباحتماليه تهب القارىء متعة تشكيل صورة اثيرية تساعد على تمثله.
وحين يكون المكان تاريخيا مرتبطا بسياق حضاري مستدعى من الماضي الجمعي كالاندلس ؛ فان المهاجر يراه بعين مضاعفة ، لا عين الداخل التي تراه فردوسا مضيعا وسط الجحيمات القائمة ، وانما تكون الاندلس بعين الخارج – اي الآتي اليها من المهجر- مكانا لشجن روحي معمق. هنا تنخرط وقائع التاريخ وتفقد وثائقيتها وتسلسلها المتني- اي المروي عبر المتون قبل تشكلا الشعري- فيلتقط الشاعر من سلسلة الترابطات المنطقية للحدث ما يسمح له بملامسة الموضوع ذاتيا، اي بان يجعله موضوعه (هو) فتكون الاندلس (اندلسه) وتكون زفرات الاندلسيين الاخيرة بعد ضياعها زفراته هو ايضا.
في قصائد (مرتقى الانفاس) كلها يؤكد امجد ناصر شعريا، ما قاله عن غرناطة نثريا، ولكن بشطحات الصورة الشعرية ايضا حين يقول:
«غرناطة العربية: خفقة الروح ، اغنية الزوال الخالدة ، رمانة الحلم والتي انخرطت حباتها المكتنزة من الحب والسماحة حبة حبة ".
والديوان مهدى «الى ابي عبدالله في زفرته الاخيرة » وتتصدر كل نص من نصوصا الستة تنصيصات واقتباسات حول سقوط غرناطة وخروج العرب النهائي منها لكن اشارة الشاعر التي أنهى بها ديوانه تؤكد ان «اجواء الكتاب " تدين الى ما يسميه «ترنحي بين قصر الحمراء والبيازين عام 91» كما تدين تاريخيا ،الى مراجع ومتون عربية وغربية متنوعة ». لقد تآزرت معايشة المكان جسديا مع نداءات المراجع التاريخية والادبيات التي سجلت تلك اللحظة الدراماتيكية العاصفة التي تلخص افول (او ذبول) وجود العرب رمزا بزفرة اخيرة يطلقها الامير الصغير، فكان الشاعر بترنحه ذلك ؛ يريد تمثيل لحظة الاسي والرحيل ذاتها:
يقول في نص (توديع غرناطة):
".. وها نحن نعود
لنشهد مصير النجمة والغصن
ونرى الامير
خفيفا
على..الارض
بساقين من قصب يستنهض العاصفة "(28)
او كأن المشاعر يعيد تمثيل لحظة الوداع الاخيرة التي وضعها أحد المراجع الغربية والتي تتصدر نص (مشيئة الافول):
(واغرورقت عيناه بالدموع للمرة الثانية بعد ان شاهد عاصمته من على قمة الجبل وهي تختفي عن ناظره الى الابد).(28)
وتكاد لحظة الوداع هذه كما تصفها المراجع ، ان تطابق لحظة شعرية مماثلة يصفها الشاعر:
"لا شيء يهب الآن من الروابي االسبع
ولا في مقلتي كيما أشاطر نفسي العزاء(30)
وتحيط لغة الشاعر بأجواء الروح التي امتزجت بالمكان: فتحافظ على ايقاعية مميزة قوامها لغة عشقية معذبة بالحنين والحب والبوح ؛ وصور قليلة متقشفة تريد ان تحيط بدراماتيكية المشهد الحزين ، فتتعزز بالتناصات القرآنية والشعارات الاندلسية وكسرات من شعر العشق الصوفي:
"أخف من امل على جبل القنوط
الريشة التي تحررت من ورطة الجناح
اثقل مني في كفة الريح
فيا لنفسي
أمارة بالألم
ويا لفمي عطشان على حافة النبع
ويا ليدي
أدعتا وصلا
وعادتا خاويتين "(31)
لقد كان (مرتقي الانقاس) معادلا شعوريا عمقته الهجرة واكسبته وعيا مضافا لسبر اغوار المكان الذي كان حلما وخيبة دون ان يتأثث بالناس والاشياء فكأنما زفرة الامير الاخيرة هي مرتقى انقاس حفيد يتأمل خطاه ونبض روحه وانفاسه التي يقول إنها
(تشق الهواء الخالد أثلاما وتتركها لبذار الالم)
واذا كان المهاجرون الاوائل قد أسموا العالم الجديد الذي هاجروا اليه باسم (الاندس الجديدة) فان المهاجر الجديد يعلم انه مخذول قبل ان ينادي اندلسه لأنها ضائعة في الزمن ، ماثلة في المكان ، محفورة في الوعي، لكنها عصية كأرضه المهجورة: الحاضرة في الزمن والغائبة في المكان.. فأية أندلس من بعد ينشدون وهم على أرض وهم هاربون من أرض وهم لاجئون الى وهم يؤسسه التاريخ فيشعل مواجدهم
وأشواقهم تعويضا عن مرارات وخيبات غزيرة.
لقد كانت وقفتنا التطبيقية تكتفي بالاشارات وتلامس الادلة والاسانيد النصية لترينا أنماط التعامل مع المكان موضوعا؛ أما الكيفية التي استوعبت بها نصوص المهاجرين أمكنتهم الجديدة فهي بحاجة الى معالجة اسلوبية وبنائية مدققة وواسعة لا يتسع لها هنا المقام.
الهوامش
1) بكاد مصطلحا (المهجر) و(المهاجر) يسقران في خطابنا النقدي المعاصر، استبعادا لمصطلحي (المنفى) و(المنفي) اللذان لايعبران عن الحالة المدروسه هنا، بدقة واحاطة، اضافة الى ما يحف بالمنفى من مدلولى سياسي مصري لايمكن تعميمه على شعراء المهجر الجديد وكتابه يناقش كاظم جهاد ذلك في مقالته (مهجر جدبد ام مقرجدبد) ،مجلة نزوى، العدد الثاني اكتوبر 1996،ص23. بينما يتحدث حليم بركات عن (منفى)وهو يقدم بحثا حول رواية المنفى الى المؤتمر العربي الاول للروائيين بالقاهرة ، ويقرن النفي بالغربة مساويا بين ما يكتب بالعربية مثل رواية (موسم الهجرة الى الشمال) للطيب صالح ، وما يكتبه كتاب عرب بالغات الاجنبية مثل محمد دب واطاهر بن جلون وكاتب ياسين. ونحن فستخدم سطح (المهجر) أبعادا لأي التباس على مستوى التنظير او القراءة ، قد يتحمل بسبب كون المنفي اجباريا، والهجرة اختيارا.. ولاشك ان لكل من الحالتين اشتراطات فنية خاصة.
2) ميخائيل نعيمة في كتابه (جبران خليل جبران)، ضمن المجموعة الكاملة لنعيمة ، المجلد الثالث ، دار العلم للملايين ، بيروت 1979، ص 123، وينتبه الى أثر ويتمان في الهجريين الكاتب العراقي رفائيل بطي في مقالة له عام 1926 فيسمي أمين الريحاني (والت ويتمان العرب). ينظر: حاتم الصكر، رفائيل بطي وريادة النقد الشعري في العراق ، منشورات الجمل ، كولونيا 5 199، ص 63. ويشير الى اثر نيتشة في بني جبران ، اكثر من كاتب ، منهم ميخائيل نعيمة. تنظر المجموعة الكاملة لنعيمة ، المجلد الثالث ص152.
3) حاتم الصكر: رفائيل بطي…، ص 39- 40.
4) امين الريحاني: الريحانيات ، جـ 1، دار الكاتب اللبناني- دار الكاتب المصري، بيروت ، ط8 ، 1978، ص 124.
5) نفسه: من 289.
6) يؤكد ذلك كثير من دارسي شعر المهجر الاول. ينظر مثلا: عيسى الناعوري، مهجريات ، الدار العربية للكتاب ، ليبيا – تونس 1976ص11.
7) كتب عباس محمود العقاد مقدمة (الغربال) لنعيمة ، عام 1923 منوها بمآثر الحرية التي تمتع بها شعراء المهجر على مستوى الاسلوب وقال ان لذه الحرية مآثرها وبلغت به الحماسة لآراء نعيمة الى حد القول:" لو لم يكب قلم النعيمي هذه الآراء لوجب ان أكتبها أنا..». ينظر: الغربال ، ضمن المجموعة الكاملة لنعيمة ، ص 143، والصفحات 345-346.
8) يشير الى ذلك الشاعر أمجد ناصر في (سؤال المهجر)، جريدة القدس العربي، لندن 10/7/1998.
9) نفسه ، ويضيف الى وصف روح المكان بالخفية ، الاشارة الى «روائحه وآضوائه وظلاله ورطا نته ، ولسعة الغرب والمفارق فيه ».
10) الوصف للمستشرق كراتشكوفسكي عام 1910 وهو يقدم للريحانيات ، ج 1 ، ص 10.
11) الريحانيات ص ا 14.
12) مجلة (الاغتراب الاد بي) ، العدد 18، لندن 1991 ، ص 30.
13) نوري الجراح: مجاراة الصوت ، ورجل تذكاري، المؤسسة العربية للدراسات ، بيروت ، ط 2،1995، ص 28.
14) نفسه، ص 58، ويمكن مقارنة هذه الملاحظة حول الزحام في الانفاق والسير كالقطيع لدى عدد من شعراء المهجر الاول وكتابه: أمين الريحاني في مقاله (من على جمو بروكلين) 5 190. ينظر: الريحانيات ، جـ1، ص 118.
15) مجاراة الصوت ، ص 113. ويمكن مقارنة ذلك بوصف الريحاني لأشجار كاليفورنيا بأنها «جماد هائل لاسر فيه ولا معنى. هي عظيمة قديمة ولكنها مساء بكماء عقيمة لا قصة لها ولا تاريخ. لم يعثر في ظلها نبي ولا تغزل بها شاعر.. اما شجر الارز.. ففيه غير الظاهر من الضخامة والعظمة ، فيه غير المادة…»- الريحانيات ، ج 1، ص 89.
16) مجاراة الصوت ، ص 113.
17) فاضل العزاوي: في نهاية كل الرحلات ، منشورات الجمل ، كولونيا 1994» ص 124.
18) رياض العبيد: حديقة الرغبة ، دار المهتدي، كولونيا 1996، ص 70.
19) نفسه ، ص 53-54، ويتناول الريحاني هذا التعارض بين القصيدة ، والمكان الجديد في كثير من كتاباته ، تنظر: الريحانيات جـ1، ص 118مثلا.
20) فاضل العزاوي: في نهاية كل الرحلات ، ص5 12-126.
21) سلاح فائق: أعوام ، منشورات الجمل 1992، ص 65.
22) سركون بولص: اذا كنت نائما في مركب نوح ، منشورات الجمل ، 1998، ص152.
23) خالد المعالي: الهبوط الى اليابسة ، منشورات الجمل ، 1997، من 99.
24) نفسه ، ص 97.
25) لينا الطيبي: هنا تعيش، المؤسسة العربية للدراسات ، بيروت 1996 ، ص 163.
26) امجد ناصر: القدس العربي- لندن – الجمعة 22/5 /98( جرح الاندس).
27) امجد ناصر: مرتقى الانفاس ،دارا لنهار للنشر، بيروت 1997 ، ص 100.
28) نفسه ، ص 16.
29) نفسه، ص ا 6.
30) نفسه ، ص65.
32) نفسه ، ص 97.
حاتم الصكر(ناقد من العراق)