عبر أعداء الأفق المرئي للنهر الصاخب، أطلت مسناة كونكريتية بقاعدة غائرة في كهف الماء، ومجاورة الجسر الخشبي الممتد مع الساحل، وبين أشجار الشارع المتعانقة، انبثق كشك بنافذة تتمرأى بالنهر. في الشباك رجل وامرأة شابة، يبيعان تذاكر سفر، للمسافرين في البحر. جمرة الشمس تتلاشى، وضباب النهر يغمر الساحل، وفي الشارع الخلفي سابلة، تتلاحق أحذيتهم ويعلو صخبهم، قالت المرأة:
– أجد السابلة في منأى عن الساحل، إنهم يتزاحمون وراء الكشك !
قال الرجل:
– نعم. هم يطلقون عليها مسناة
– إن ذلك يعني، أن الجسر يفضي للنهر وليس للمرسى!
– هو كذلك يا عزيزتي!
الظلام يهمي بتؤدة، مثل رذاذ. رصاصي، وضباب النهر يعرش فوق عرائش الأشجار، قالت الفتاة:
– التذاكر أوشكت أن تنفد، أهنالك مسافرون لم يصلوا؟
– نداء النهر أرعبهم.
بقايا سابلة في الظلام، والنهر يزأر بموج قافز، ومسندة الرعب في المتاهة البعيدة، كبرج مراقبة للسفائن المغادرة.. وفي الأفق الضبابي، رجل يتأبط حافظة كتب جلدية سوداء، يغور في العتمة، كقرش الماء، متسلقا فضاء الشاطيء، حيث متاهة النهر.
ورمقته الفتاة وهو يغيب في المنعطف الساحلي. قالت الفتاة:
– إني شاهدته بين مسافري المساء، والباخرة غادرت المرسى!
– كان قلقا، كأنه أضاع تذكرة سفره !
– ستنفد التذاكر!
وفي ضوء الرصيف الشاحب، انبثق شاب بساق واحدة، يتبعه صبي، يلعق مخاط أنفه بلسانه، مثل جرو جائع. ارتكز الشاب بجسده على عكاز من ألومنيوم صديء، بشعر منسرح، بلون بنطاله، وانعطفا في الفراغ حيث النهر الغاضب، وجرى وراءهما فوق مساقط الضوء الناحل شاب وفتاة بزي مدرسي، كانا في المنعطف يلاحقهما نداء النهر الغاضب. قالت إمرأة الكشك:
– أشاهدهم في منعطف النهر!
– إنهم يسلكون عبر أفق المسناة !
– نداء النهر يومي، بحدوث شي ء!
– أجل، أجل.
***
تقافزت الأمواج، مثل ثعابين صقيلة، مرتطمة بصخور الساحل النافرة، وتشظت مرايا الموج، أسفل المسناة المشرئبة بوجهها المحنط، والعتمة تهطل فوق العرائش المتدلية في الفراغ:
– أهنا لك سواهم ؟
– كثيرون !
– يا للعنة ! مسافرون دون تذاكر سفر !
– هم يدركون ذلك يا عزيزتي النهر يزأر، يتصاعد النداء الأخرق، وأضواء الشارع شاحبة
وأعراش الأشجار تنسرح حيث الجذور المتخشبة:
– ماذا، أنت نائمة!
– مثل أولئك في كهف الماء! ما أكثر ما تآلفنا معهم.
– لكنهم معنا يا عزيزتي، معنا
– أهكذا ينخرط الحب، وتجري الكتب حيث الغرق ؟
***
في الأفق الساحلي أتاح الصمت لنوارس أن تنبثق عبر فضاء النهر، حومت بأجنحة خافقة في الأفق الرطب. وجذبتها مخالب المسناة. هبطت في رذاذ الضباب دائرة حول رائحة خارقة كرائحة الفلين. حلقت بعيدا عن الشاطيء، وهبطت مرة أخرى الرائحة الغريبة المتلفة، ملامسة الأمواج القافزة. وانحدرت في منعطف الأشجار التي كفكفت صخبها، وغابت هنالك. وفي زقاق الليل الطويل، كانت الفتاة تتأمل وجه الرجل، كأنها تشاهده أول مرة.
عبدالصمد حسن (قاص من العراق)