(مدن ونصوص)
البارحة كنت سعيدا مثل ثعلب يطارد الريح، واليوم صرت حزينا مثل جمرة الحميض المنطفئة في "الخابور" لم أكن أعرف أن بك كل هذا القدر من التفاهة، لم أكن أعرف أن بك كل هذه الحاجة للحب.
من "سليمان باشا" بدأت سيرك الليلي في الليلة الأخيرة تلك ليلة "القاهرة" المحملة بالشغف واللوثان. كان أزيز السيارات التي تمر بك عجل لا يثير في أعماقك إلا اللهاث المنطفيء، وكأنك يحر يريد أن يتخلص من زبده قبل أن ينام، ولكن لم كنت تضحك وحدك وأنت تسير ؟
في "ساحة التحرير" الشهباء توقفت قليلا قبل أن تمشي من جديد. توقفت تحت النور الخافت وانت تلاحق البشر المتغالبين. تلاحقهم بعيونك الكثيرة وأنت لا ترى إلا ما يسمع، توقفت وحيدا دون أن يتوقف أي منهم حولك أو فيك. الليل العكر، ليل "القاهرة" المعتليء بشرا وآلات، وحده، كان يستولي عليك. لكأنك لم تعد تثق بأحد، حتى ولا بحواسك، نفسها كيف ستواجه هذا العالم المتألف مع الغبار، اذن، كيف ؟
قبل قليل تركت ساحة "طلعت حرب" وهأنتذا تعود اليها، أو تريد أن تعود، أن تعود الى الساحة التي أحببتها منذ أول مرة داستها قدماك. لكأن الأمكنة تعرف كيف تسحبنا بهدوء اليها. لكأنها تعرف كيف تملؤنا بشغف خفي يطل يتراكم حتى يغدو جبا، جبا لا يقاوم. هذا المساء، أيضا، موت تريد أن تعود اليها، الى تلك الساحة الشاحبة، لتتخلص من شعور طاريء لوث بهجتك وحمامك.
منذ سنين وأنت تقعي قريبا منها، في "زهرة البستان" الملوث بالزيت، كنت تقعي مثل كلب أضاع أهله، منتظرا ما لم يعد ينتظره أحد سواك، على قارعة الطريق تقعد وأنت تحسر الشاي الأحمر الثخين الذي يذكرك بشاي "بادية الشام". تقعد متريثا، ويقعد حولك أصدقاؤك العبثون، أصدقاء الجلسة التي لا تتكرر، وفي "المستنقع"/القريب منها أيضا كنت تختل. تختل في الزاوية القصوى منه لترى أقل ما يمكن، ولكي يرى كل شيء كنت تقعد صامتا والصياح يتكاثر حولك، صياح رجال شهب، نحيفي القوام، يتلعثمون عندما يمشون وعندما يأكلون، عيونهم حمر كالحة، وشفاههم يابسة كالقش، كقش "الجزيرة" الذي حرقته الشمس، ومع ذلك لا يأبهون، لا يأبهون لأنهم تجاوزوا سن التوقع والانحياز، لا، لم يعد يتوقع أي منهم من أي أحد شيئا، حتى ولا من الشجرة الوحيدة التي تظلل بابه، باب "مستنقعهم" الذي أحبوه كثيرا دون أن يكترث أحد بذلك، لم تريد أن تعود، هذه الليلة، الى هناك، اذن ؟
كنت بحاجة الى أحد، وكنت تعرف هذا الأحد جيدا، ولم يكن، أي شيء يمكن أن يعوض الكائن غير المكان ؟ في الساحة الصغيرة، ساحتك المفضلة، تقف مبهوتا: ليس ثمة غير الغبار الدافق، والسيارات البائسة التي لا تتوقف عن المرور وكأنما يجرها خيط لامرئي، وبعض الجائلين بلا هدف. وحده، التمثال الشهير يقف منتصبا فيها، وقد نام كل شيء، يقف منتصبا، متحديا رذاذ الرمل المنهمر في المساء، في مساء الليلة الأخيرة، تلك، ماذا بإمكانك أن تفعل غير أن تقف لصقا في العراء، في عراء ليل القاهرة اللامبالي ؟ لا لم اكن اعرف انك كنت تعتقد ان للأشياء أرواحا وللتمثال هذا واحدة منها. ألذا صرت تحكي له عن حبوطك ونواياك ؟
عندما بدأت الليلة كنت تتهيأ للضحك. لضحك كير وكثير. لم تكن تدرك بعد أن "القاهرة" غيور. لم تكن تعرف أنها مثل ماء "النيل" تمشي عكسه، عكس "الخابور" و"الفرات" وعكس "جفجغ" و"البليخ". لم تراك، اذن، تركت نفسك لذلك الشغف الآسر، شفف تحويل الأمكنة المستقلة عنا الى أمكنة لنا نحن، لنا وحدنا، وهي التي لا يمكن أن تحيا إلا بتعدد الوالجين أي شيء يمكن أن يبرر تلك الحماقة غير غباء الكائن الذي لا يمكنه أن يدرك من نظرة خصائص الأمكنة والكائنات ؟ كيف تريدني الا أوبخك هذه الليلة، أيضا؟
كان شعور بالوحدة، ومن أجلها يستبدبك، يدفعك الى التخلي عمن حولك فورا الى السير وحيدا في ليلة القاهرة الأخيرة، تلك الليلة التي ملأتك بالحزن، الحزن الذي كان ينز منك وكأنه مطر ينبجس من صخور نفسك التي لانت، فجأة، وغدت ينابيع، من أجل من كان ذلك الشعور المتفجر يتلاعب بجسدك الجث ويغريه ؟ ولم كنت تتلامع كالبروق المخبأة بالغيم وأنت تمشي وحيدا تحت رذاذ الرمل الآتي من بعيد؟ رمل "الجزيرة" أم رمل "بادية الشام"؟ رمل الكلام المنطفىء في الوحدة، أم رمل الرغبة المنكسرة في الأعماق ؟ رمل ؟ رمل أم سماد حطب البطم المتطاير في الريح ؟
فجأة، فجأة ولكن بعد الوقت الضروري، تترك الساحة الى الساحة الأخرى. من "التحرير" الى "طلعت حرب"، ومن "طلعت حرب" الى "التحرير" تترك الأمكنة الى أمكنة أخرى، وتترك الكائنات الى كائنات أخرى غيرها، مع أنها هي هي بالذات، أية حيرة كانت تستول عليك في ليلة القاهرة الأخيرة، تلك ؟ ولم كنت تمشي عبوسا مع أن أحدا لم يكن يراك ؟ أيعبس الكائن، اذن، ليرى نفسه، لا ليراه الناس ؟ ولكن من يحب الأمكنة لا تعتليء نفسه بالعبس وهو فيها. ثمة سبب آخر من أجله لبست ذلك القناع: قناع العبسة التي لن تفرج. كيف لي أن أقنعك، هذه الليلة، بضرورة الابتسام ؟ ابتسامة واحدة تكفي لتغيير كآبة الليلة الأخيرة هذه، ولكن من أين أجيء لك بها وكيف أحطها على شفتيك ؟
بين الصمت والضجيج أعبر "التحرير" منطلقا الى الماء. الماء وحده، يكفيني. ماء "النيل" الذي يبدو راسخا في الأرض. تلويت وأنا أقطع الشوارع والانحاء. أريد النيل. أريد النيل. لكن المشي كالكلام لابد أن يكون ناضجا ليصبح ذا معنى وقابلا للسمع. للمشي معنى؟ كدت أضحك من جديد، ولم. كنت أفكر تحت ذرر الغمام المتناثر في فضاء الليل القاهري: أما أن تذهب بعيدا، أبعد مما أنت الآن، أو أن تظل واقفا هنا الى الأبد.
كان الليل المتخافت النور، ليل الظلمة المبللة بالماء، يحثني على السير، على أن أعود من حيث أتيت، ولم أكن أسير. كنت أتشبث بحواف الجسر مقاوما كل شيء. كنت أقاوم العجز والنكوص وأنا أذرع جسر "الخديوي اسماعيل" ذاهبا آيبا: هي التي لم تجيء، وأنا الذي جاء ولم يحضر. لابد أنها تعرف كل شيء عمن تخونه ولذا لم تجيء هذه الليلة، أيضا. ما همني أن يموت النور في قلب الماء المتواطيء. اذن ؟ ان يموت كالعشب الذي جف صيفا هناك. كنت لا أريد أن ابتذل اللحظة، ولا أن أهمل المكان، وكان السير وحده قادرا على تبجيلهما، ولم أكن أسير. لم حزنت، فجأة، كشهاري "الجزيرة"، ذات الأعراف الواقفة في الريح، عندما تفضل أن تموت ضربا على أن تمشي خطوة واحدة خطوة لا تريدها. ولم خطوتها بعد لأي.
من "جسر الخديوي اسماعيل" أبدأ الليل من جديد. ابدؤه للمرة العاشرة. على حوافه الرصينة أقف ورذاذ الماء يغشيني. أقف ناظرا الى البعيد، الى حيث عتمة الليلة الأخيرة تتلألأ بالأنوار المتكاثرة على الضفتين، كنت أبحث في العتمة اللماعة، تلك، عن قبرة طارت من يدي. قبرة رافقتني من "السنجق الى عامودا" وعلى قمة أحد التلال البعيدة حطت. كنت بعيدا عنها وقريبا منها ولم تكن تواني، قبرتي الحمراء النيلية ذات الأهداب المكومة حول عينيها البارعتين كينابيع "الجزيرة" المنبجسة من القاع.
كنت أريدها ولم تكن تريد. قلت أجيء بالتل الى علها تجيء. وبالفعل جئت به وظلت القبرة معلقة في الريح. تنظرني ولا أراها وأراها وهي بعيدة عني. أي خير في مكان لا يجمع الأحبة واللاعبين ؟ وكيف يتسنى لنا أن نموت قبل أن نحيا كثيرا، كثيرا في كثيرا؟
متعمدا، كنت أطارد الليل في الليلة الأخيرة، تلك. أريدهم كلهم بلا استثناء. أريدهم على ضفاف النيل المتكوم في القاع تحتي. ولكن لم لا يجيئون ؟ ماذا يريدون مني هذه الليلة، أيضا؟ أيريدونني أن أبكي؟ بلى، هأنذا أبكي ضاحكا في قلب العتمة المتوجة بالنور، نور "النيل " المتدفق قربي بلا مبالاة.
قبل سنوات، أيضا، مشيت "القاهرة" كلها، وحدي. كان الفجر يتلمس طريقه للوصول الى، وكنت قد وصلت للتو "عماد الدين". في ذلك الشارع الجليل، حيث تتقابل القصور القديمة مثل فيلة جريحة ثوت الى الأبد على القاع، وقفت أتأمل الفجر مأخوذا: فجر القاهرة التي لا مثيل لها، فيه، رأيت أشجارا وغمامات. أكواما من الأنس والجن. أبخرة تلوث الليل بأنينها المكتوم. وأنفاس بشر لم تكن تغلي وانما تفور. في ذلك الشارع المهيب صعدت طابقا وطابقين. ولجت قصرا عتيدا صار "لوكاندة" بلا ماء. انحاؤه متأكلة ومقشورة مثل أجربة الماء الناشفة في "بادية الشام": عبثا تحاول ماءها الذي نفد. تحس جلدك الصغير عليها فلا تحس الا بالظمأ والجوع. أي شيء يمكن أن يعيدني اليها، الى تلك اللحظات القاتمة سوى احساس متفجر على ضفة "النيل" ليلا؟ وكيف لي الا أعود، وأنا أقف على حافة الجسر وحيدا، منتظرا بلا روح ؟ فلتذهب قبرتي الى الجحيم، الى جحيم "الجزيرة" المملوء بالرعود. الآن أمشي.
أخيرا، أصل "قصر النيل". سريعا، أعبر المقاعد والانسكابات. على حافة النهر أقف، أقف متطلعا في الفضاء الملوث بالماء، وفورا، يحثني الرجل الصغير داعيا: "ألا تريد أن تقعد"؟ لا، أريد أن أرى. "يمكن أن ترى قاعدا، أيضا" يكرر. لا، أريد أن أرى واقفا. أردد. أردد نزقا وأنا أتهيأ للنزول، قاذفا بنفسي في أبهة الماء، لاحقا بقبرتي التي حطت، فجأة، قدامي ولكن أنى له أن يرى ما أراه، أن يرى ما لم يكن ينتظره، ما لم يكن قد راه، أبد،ا من قبل ؟
أهمل "الجسر" فجأة، وأعود مسرعا الى "الحسين". أبحث عن "ذبابة" أبحث الليل، كله، عنها، وما يهمني أن ينتهي الليل وهي الوحيدة التي يمكن لها أن تقودني الى هناك: الى أرض "الجزيرة" المملوءة بالشوك والعاقول ؟
"ذبابة" الصغيرة ذات الاسنان المتراكبة مثل أحجار الجبال المتساقطة من على. "ذبابة" التي شقت الناس مارقة بينهم كالمخرز لتتسلط علي: "عاوز حاجة "؟ وأتعجب من الشيطانة التي ترمقني بعينين ناريتين، وهي لا تملك إلا مخاطها السائل على الانفين: عاوز حاجة ؟ أردد بغباء. وتبتسم وهي تهز لي خصرها الطفولي البائس: "أيوه يا خويا" وأتطلع الى الشفة المشقوقة قليلا، والى العين المليئة بالحياة، وقبل أن أقول شيئا تعرض لي ما في حوزتها "ذبابة" تعرض مزهوة غرضها الوحيد. منديلا وسخا من الورق لا يثير في النفس الا الاشمئزاز. لكنه اشمئزاز تعاطف عميق. خليط من القرف والاعجاب، قرف من العالم واعجاب بها. بالآخر الذي تجرأ على اقتحام الخلوة البليدة التي تكبل الروح. أي شعور أقوى من هذا؟ من تعاطف من لا يملك شيئا سوى استجابته الودودة لمن يملك كل شيء: نقاء نفسه وحيويته التي بلا حدود.
"ذبابة" لم تتركني بعد ذلك، أبدا. صارت تروح وتجيء. تختفي فجأة لتظهر فجأة أيضا. تعبس لهم وتبتسم لي. تفتعل الحركات الغريبة لأضحك. ولأضحك من جديد كانت تهزأ بمن يمرون وبمن لا يمرون. كنت أضحك ؟ كنت أبكي حولها صمتا، ولكن لم لم تكن تراني أبكي، ذبابة ؟
كانت تروي لي أخبارها وهي تدير ظهرها الناحل للمرأة الجسيمة، ذات الشعر الفاحم المنصلق على اكتافها العظمي، المرأة التي تجالس "الخرتيت" المنتصب أمامها كالطود. امرأة صموت مثل غيم "الجزيرة" المليء بالحالول، ورجل جهمة يمص بشبق نارجيلته المزينة بالنقوش. "ذبابة" تحكي، وأنا أسمع صامتا، والناس لا تتوقف عن المرور، والليل لا ينتهي. أي ليل كان ذلك الليل الفائت في "الحسين" كيف لا أعود هذه الليلة أيضا الى هناك ؟ كيف لا أبحث عن "ذبابة" وقد استول الحزن كله، فجأة علي ؟
في الساحة المهيبة رأيت الرجل الضليع يشفط الريح شفطا. يغرفه براحتيه ليرده الى نفسه ولا يروي. ماذ كان يشرب ذلك الرجل الظميء في ليل القاهرة الأغبر؟ وكيف لي أن ألج أسراره وهو يدفنها عميقا في نفسه بحركاته الجذل تلك ؟ لا، لم يكن ينظر الى أحد، حتى ولا الي. لم يكن يملك ما يملكه البشر من عيون، من عيون بليدة. جلده هو الذي كان يري، يرى كل شيء، يراه حتى قبل أن يلج فضاءه المسور بالغبار.
وتلك النسوة الملفعات الجاثمات أرضا ماذا كن ينتظرن في ليل الساحة الجليل ؟ ماذا ينتظرن غير الحفيف، غير حفيف أقدام البشر التي لا تكف عن الانزلاق حولهن. ولكن لم تراني أقف مذهولا بينهن وأنا أبحث عن أحد لا أراه ؟ عمن كنت أبحث، في تلك العتمة البلقاء، ان لم يكن عن نفسي عن نفسي التي أضعتها منذ أن غادرت "دمشق"؟
بتصميم، أعبر الممر تحتهن. أعبره من "الحسين" الى "الأزهر" ومن "الأزهر" أعبره عائدا الى "الحسين". أعبره وأنا لا أرى شيئا، لا، لم أعد أريد أن أرى لئلا أنسى ما رأيت. أعبر المكانين معا، دون أن أترك المكان. أمتار محدودة تفصل أحدهما عن الآخر، وبينهما تساطر وتواريخ. وجوه الخلق المحيطة بهما وهيئاتهم تدلك على خطل الهمزة والحساب. ولكن لم تردك لا تهدأ، لم لا تكتفي بمن ترى ربما رأيت ؟ من أنت حتى تمسك "القاهرة" بيديك ؟ من أنت حتى تتلمس أثداءها العظمي في "الاهرامات"، وتتحسس بطونها الضوامر في "مدائن الموتى"؟ وتلك الأكمات الصفر المحيطة بها لمن تمنح فضاءها إن لم يكن للريح ؟ لريح الرمل التي لا تسكن حتى تهب من جديد، تماما مثل احساسك الملتهب، هذا المساء.
لم تراك تأمل شيئا وتفعل شيئا أخر اذن ؟ الا تكفيك المشقة التي عانيتها في "الشام"؟ الا تريد أن تبتعد قليلا عن نفسك، إن تدعها تذوب، تذوب في هذه الكتل الحافلة من البشر الكتل المملوءة تحفزا واستياء. الا ترى هذه الهياكل المتسارعة في الفراغ، وهذه الأفواه الجائعة للتعبير؟ أي شيء أكثر رعبا من كائنات لم تعد تحب أحدا حتى ولا نفسها؟ الا تريد أن تفهم ؟ "انظر. انظر الناس أين وأنت أين". وأنظر أسفل العين بشر وغبار تلك هي "القاهرة". "القاهرة" التي ابتلعتك كما يبتلع البحر زائرا غرق فيه. الا يكفي هذا، كله، لكي تقضي الليل ماشيا ليل الليلة الأخيرة هذه، ليلة "القاهرة" التي ستتركها، ستتركها بعد قليل. بعد قليل. بعد قليل.
خليل النعيمي (كاتب عربي يعيش في باريس)