سمعت صوت طرقاته خافتة فوق الباب الخارجي. شعرت بخوف مفاجيء، لأنه لم يستخدم الجرس وفضل هذه الطريقة الهامسة ، كان الصمت سائدا حتى أن ذرات السكون قد تراكمت فوق بعضها، الشارع الذي لم يكن يخلو من السيارات والشاحنات أصبح قفرا. الريح خائرة . وقطرات الماء التي كانت تتساقط دوما من الصنابير توقفت . حتى الثلاجة القديمة كفت عن الطين.
وقفت مترددا والطريق يعود خافتا ملحا.
حركت الباب في فتحة ضيقة فبدأ وجهه المستطيل ضائعا في الفتحة . خشيت أن أخبيء النور ودخل هو مسرعا وأغلق الباب خلفه وهو يتلفت حوله بحذر وقال هامسا:
– هل مازلت وحدك؟
كنت أكره دائما صياغته للسؤال بهذه الطريقة التي تذكرني
بأنني وحيد. بلعت ريقي مداديا ضيقي وأنا أقول :
– كيف خرجت رغم حالة الطواري؟
قال في سرعة : تعرف أنني لا أهتم بذلك ..أرتد ثيابك سنهبط معا.
شيء آخر كنت أكرهه فيه . ذلك الغموض الذي يحيط به نفسه . غموضا جعله شخصا كئيبا مثل يوم ضبابي . هتفت وأنا أتراجع :
– سوف تعرضنا للقتل . لقد أعلنوا أنهم سوف يطلقون الرصاص الحي.
قال بحدة ونفاد صبر: هيا لا تضيع الوقت .
سرت الى غرفة النوم وأخذت أغير ملابسي في تردد وحيرة . نظرت من النافذة الى الشارع .
لا أثر لمخلوق . لا شيء يتحرك إلا بعض الكلاب الضالة . أعمدة الاضاءة لم تشتعل بكامل طاقتها بعد . لم ينبعث منها سوى أضواء شاحبة . والسماء أيضا داكنة الزرقة جرداء بلا نجوم .
عدت اليه . كان مازال واقفا في نفس المكان بالقرب من الباب متأهبا للخروج . عاودت سؤالي مرة أخرى دون جدوى:
– الى أين سنذهب .. ومتى سنعود؟
لم يأبه بالرد علي . اندفع خارجا فاندفعت خلفه . تقافز على الدرج المظلم وأنا أتعثر.
سيارته أمام المنزل . ترتعش في وهن بسبب محركها الدانى. كيف أمن أن يتركها هكذا؟
ركبت بجواره وقبل أن أغلق الباب جيدا كان قد انطلق .
لم أكن قد شاهدت المدينة أبدا بهذه الصورة . مدينة مغلقة . منازلها ونوافذها ومحلاتها وأكشاكها الخشبية ، شوارعها مليئة بأكوام القمامة .
أشبه بحيوان عاجز مستلق على الأرصفة . عربات المترو معطلة . والأتوبيسات متكومة في الميادين وعربات الباعة الخشبية مقلوبة ومحطمة . هتفت مدهوشا:
– لا يوجد أحد حتى رجال الجيش المكلفين بحفظ حالة الطواري، غير موجودين . المدينة كلها تبدو ميتة بلا بشر كأنها قد أصيبت بالوباء.
قال وهو يزيد من سرعة السيارة :
– لقد انسحبوا . عادوا جميعا الى الثكنات . من الأفضل الا يبقى الجيش داخل شوارع المدينة لفترة طويلة . هتفت حائرا : هل انتهى التمرد؟
قال متصنعا الدهشة : أي تمرد؟
هل كان يسخر مني..؟ قلت في إلحاح :
– تمرد جنود الأمن المركزي.
قال في استهجان : آآه
ثم صمت . بدا مستهينا بكل ما حدث . زم شفتيه وواصل الضغط على مقود السرعة فازدادت السيارة جنونا. عبرنا كل الاشارات الحمراء. وسرنا في عكس اتجاهات السير واجتزنا كل التقاطعات القي يجب عدم الدخول فيها ولا شيء يقابلنا أو يعترض طريقنا هتفت حائرا
– لا أصدق أننا جلسنا ثلاثة أيام في منازلنا ونحن نرتجف من الخوف دون أن يكون هناك أي تهديد في الشوارع.
قال بنبرة يسودها الزهق من كثرة ملاحظاتي.
– الشوارع كانت خطرة بالفعل . وكما قلت أنت كانوا متأهبين دوما لاطلاق الرصاص الحي وقتل أي شخص .
وقد حدث هذا بالفعل . قتل البعض وهناك عدة إصابات في المستشفى.
كنت قد سمعت صوت إطلاق الرصاص بالفعل . وسط هدأة الليل ورعبه وظلمته لحظتها خشيت الاقتراب حتى من النافذة أو إضاءة النور. تقرفصت في أحد أركان الغرفة وخبأت رأسي بين ركبتي . شعرت بعدها بالخجل ولم أجرؤ على قول هذا.
حاولت أن أجره الى المزيد من التفاصيل تساءلت :
– أين ذهب الجنود إذن ؟
– قلت لك من قبل .. انسحبوا..
– هل انتهت حالة الطواري؟
– لنقل إنها على وشك الانتهاء لأنه لم يعد هناك ما يبررها. قلت في إلحاح طفولي:
– التمرد انتهى إذن ؟
قال في إيجاز : سترى بنفسك .
وواصلت السيارة انطلاقها . خفتت الأضواء، وتراجعت البيوت وتكسر الأسفلت . تحول الى بقع متفرقة ثم اختفى تماما لم تبق تحت إطار سيارتنا إلا صخور صغيرة متكسرة تجعلنا لا نكف عن التقافز . اختفى كل شيء. وغاب كل شيء وأصبحنا فجأة وسط خلاء شاسع ومظلم وممتد. انفرش ضوء السيارة أمامنا فرأيت الرمال ولمحت حواف الهضاب المظلمة ترتفع على جانبي الطريق أصبح الهواء ساخنا مليئا بأنقاس الصهد فصرخت في فزع :
-الى أين تمضي بي . إنها الصحراء. أنت تدرك أنها الصحراء المظلمة حيث لا طريق ولا دليل .
كف عن اللعب بي .. ليس ذنبا إنني وثقت بك وانقدت خلفك …عد فورا.
أوقف السيارة وأطفأ أنوارها فجأة . ساد الظلام والصمت وسمعت صوته يهتف بي:
– انزل لو أردت .. أفعل شيئا لو استطعت .
كان صوته غاضبا وحانقا وشريرا . رأيت عينيه تبرقان رغم الظلمة . هبط وأغلق باب السيارة فأسرعت بالهبوط خائفا من أن يتركني وحدي. تعودت عيني على الظلمة فاستطعت أن أراه وهو يقف أمامي متحفزا هتف بي:
– الى متى سوف تبقى مفزوعا من العالم هكذا.. لماذا لا تخرج من داخل هذه النفس المريضة بأحلام اليقظة التي حبست نفسك فيها.
لم أدر بماذا أجيبه .. أو أن الموقف مناسب للرد عليه أم لا: ارتفعت نبرات صوته وتحولت الى صيحات يرددها الصدى القادم من خلف الهضاب :
– لماذا لم تتزوج حتى الآن ؟ لماذا لم تكف عن إعطاء النصائح للآخرين ؟
لماذا لا تغامر وترتكب أي خطأ مثل بقية البشر؟ ماذا تنتظر .. من تنتظر على وجه التحديد؟
ظللت صامتا. أحسست بطعم الرمل في فمي. كنت لا أزال مباغتا بهذه الثورة المفاجئة .
لا أدري عن أي شيء يتساءل . هل يتحدث الي ؟ أم ال ذلك الخلاء الموحش الذي يمتلكنا في قبضته ؟
واصل الصياح وهو يلوح لي بأصبعه :
– سوف تكف عن الأسئلة منذ الأن فصاعدا .. وسوف تكمل معي المشوار الذي بدأناه والا تركتك هنا وسط الصحراء.
ركب السيارة وقبل أن يفلق بابه كنت قد ركبت بجواره . لم أجرؤ على التنفس بصوت ملحوظ حتى لا يزيد هذا من هياجا وعادت السيارة للتقافز فوق الرمل والحصى. والهضاب المنخفضة.
وأخيرا بعد رحيل طويل حسبت أنه لن ينتهي . رأيت :ضراء واهنة تلوح من على بعد. سراب ليلي واهن . زفرت في ارتياح . بدأت الأضواء في الازدياد. كشفت قليلا عن وجه الصحراء وبدت الهضاب التي تحيط بنا أكثر وضوحا ثم بدأت الضجة في الارتفاع التدريجي. كانت هذه أضواء سيارات. ليست عادية . ولكن شاحنات ضخمة . عربات مصفحة ودبابات ومدافع مقطورة . كتل مظلمة ينبعث منها طنين معدني متواصل . جنازيرها الضخمة تطحن الصخر وهي تدور حولنا. ثم بدأت أشباح الجنود في الظهور. صفوف متتابعة منهم يسيرون في مربعات على رؤوسهم الخوذات وأطراف الأسنة المدببة ترتفع من فوق أكتافهم . امتلأت الصحراء بنداءات التمام والتجمع . تهادت سيارتنا البالغة الضالة بينهم دون أن يأبه أحد بالنظر الينا. لم أستطع أن أخفي انفعالي أو أعليه تحذيره لي بعدم إلقاء أي أسئلة .. هتفت :
– ما هذا .. هل يستدرن للحرب ؟
– أدهشني أنه رد علي هادئا:
– حالة الطواري، انتهت داخل المدينة ولكنها لم تنته هنا .. مر من جانبنا رتل من الدبابات . بدت على قمتها رؤوس الجنود وهم يتطلعون ال أفق بعيد مظلم . شجعني أنه تجاوب معي أخيرا:
– التمرد مازال قائما إذن :
قال في حدة :
– هل كنت تعتقد أن هذا التمرد الذي قام به بضعة مز الجنود التافهين من الأمن المركزي هو السبب . هل تتصور أن إعلان حالة الطواريء والسماح بنزول الجيش الى المدينة كان من أجل هؤلاء . يكفي أن تقدم لهم وجبة ساخنة كل يوم أو بضعة جنيهات كل شهر. ولو استلزم الأمر يمكن وضعهم
جميعا داخل أحد السجون المركزية . إعلان حالة الطواريء يستحق أمرا أهم من ذلك .
قلت في ضيق : ما هو هذا الأمر المهم ؟
اكتشف أنه قد تحدث معى أكثر مما ينبغي فعاد لغموضه
قائلا:
– سوف ترى بنفسك .
دخلنا بالسيارة خلف حاجز من الأسلاك أسرار من الأسلاك المتكورة والممتدة من السهل حتى قمم الهضاب الرملية . رفع حارس مسلح يده ليوقف تقدمنا.
رفع المصباح الذي بيده ليتأمل وجوهنا بدا أنه قد تعرف على وجه صاحبي. تقدم بضعة جنود آخرين وخبط أحدهم على مؤخرة السيارة . فتح صاحبي الحقيبة دون أن يتحرك من مكانه . راقبتهم بواسطة المرآة الجانبية وهم يرفعون المصابيح لأعن ويفتشون الحقيبة بكل دقا أغلقوها وأشار لنا أحدهم أن نواصل السير. تناثرت حولنا الخيام والأكواخ الخشبية . كان في مواجهتنا برج خشبي عال على قمته مصباح متحرك يقوم بمسح المكان في دورات متصلة .
لم أجرؤ على التفوه بأي حرف . كل ما يحيط بنا كان باعثا على الرهبة . بدأ جسدي في الارتعاد دون أن أستطيع التحكم فيه . لم يكن الجنود يكفون عن الحركة من حولنا وهم شاهرو الأسلحة كان من الواضح أن شعور الخوف يجتاح الجميع . توقفت السيارة وترددت قليلا قبل أن أهبط تقدم أحد الجنود وفتح الباب بسرعة وظل واقفا كأنه يأمرني بالامتثال والهبوط .
كان أمامنا مبنى عن الأحجار القديمة . جدرانه لامعة من كثرة الرطوبة والطحالب التي تنام عليه . قبو معلن كي قديم . كيف جاء الى هذا المكان وكيف احتفظ برطوبته وسط جفاف الصحراء . تقدم صاحبي فسرت خلفه . انحدرنا الى جوف المكان أحاطت بنا أنفاس الرطوبة العفنة . لم يكن ينير القبو الواسع الممتد إلا شعلات من النار معلقة على الجدران . بجوار كل واحدة منها يقف أحد الجنود . يحملون البنادق لا السيوف . واصلنا الانحدار هابطين على درج مستعرض . لابد أن الخيول كانت تهبط عليه قديما اختفت الفتحة التي دخلنا منها وأصبحنا أسرى القطن وأدخنة القطران المحترق وشيح البابونج . أنهكت تماما فلم أعد أستطيع السيطرة على خطواتي. اندفع جسدي من تلقاء نفسه حتى أوشكت على الانكفاء. استندت الن حاجز من الأحجار كان في مواجهتنا . ردد الصدى صوت أنفاسي مضخما . أدركت أن هذا الحاجز يفصلنا عن هوة مظلمة قال صاحبي أمرا:
– احضروا شعلة .
حمل أحد الجنود واحدة كانت معلقة فوق الجدار وتقدم من الحافة الحجرية أشار صديقي الى أسفل قائلا:
– القها.
طوح بها الحارس . هبطت وهي تضيء الى أسفل كاشفة عن جدران بئر قديمة مكسوة بالأحجار والطحالب ، لا تزال تنز منها قطرات الماء. استقرت في القاع وهي مازالت مشتعلة . كشفت عن كل ما في القاع لم يكن هناك ماء بل . بقايا عظام بيضاء عارية .وأوان فخارية محطمة . وشخص مزعور. رأيته بوضوح وهو يحاول الابتعاد عن مسار الشعلة والالتصاق بالجدار كأنه يريد أن يختفي فيه . كان ملوثا بالطين . ممزق الثياب رفع رأسه ونظر الينا تأملنا كما كنا نتأمله .
توهجت الشعلة أكثر فرأيت وجها النحيف الرقيق بدا كأن جلد وجهه على وشك التمزق من فوق عظام وجنتيه البارزتين ، تحيط بهما لحية خفيفة مهوشة .
رأسه عار وشعره الذي يخالطه الشيب منسدل حتى مؤخرة عنقه . فبرغم الظلام رأيت الذي يشع من عينيه . بريق أخاذ. أنار كل قسمات وجهه .. متى رأيت ملامح هذا الوجه من قبل ؟ أم أنه كان مطبوعا في أعماقي دون أن أدري.. أهو أنت يا أبي؟ أم أنه الولد الذي حرمت من انجابه ؟ وما تلك النظرة . المستكينة المشعة المليئة بالدهشة والخوف والرجع والشوق الممض والوله والانتظار والتوق . لماذا يسلطهما علي دائما؟ لماذا لا يبعدهما قليلا حتى آخذ أنفاسي وأملك إهابي. رغما عني تتجمع كل لحظاتي الشوارد.
وداعات وأمال ضائعة وأحلام مطفأة . كان في بريق هاتين العينين شيء من بقايا الكون . أخر أشعة الشهب قبل أن تهوي والنجوم قبل أن تذوي. تضيع لكنها لا تتبدد. تبحث عن حدقتين مثل هذا فتسكن فيهما وتتحول الى بريق دافيء جارح أميان تأخذه الى الأغرار. كأنه قد وضع خلاصة روحه فيها. ظللت أرتعد. عاجزا حتى عن التقاط أنفاسي . تثاقلت على رائحة القطران والبابونج . تراجعت عن الحافة الحجرية واستندت الى الجدار المقابل . ظل بقية الجنود واقفين بنفس جمودهم الذاهل .
اقترب صاحبي كان وجهه هو أيضا شاحبا يقطر بالعرق . بللت فمي الجاف بلساني وتساءلت :
– هل هذا هو السبب في إعلان حالة الطواريء؟
أومأ برأسه موافقا قلت في خشية من أن أسمع الجواب :
– من هو؟
قال في استغراب :
– ألم تتعرف عليه بعد. انه هو المنتظر.
– أي منتظر.
– أطلق عليه ما شئت من أسماء .. المهدي .. الامام الغائب . أي شيء .. ولكنه هو .. انتهى الأمر لن يغادر هذا المكان وهو حي.
محمد المنسي قنديل (قاص من مصر)