نادية هناوي
كاتبة وناقدة عراقية
الأسماء العلمية والبحثية في عالمنا العربي من ذوات المشاريع الفكرية الريادية والتجارب الخاصة المتميزة قد لا تكون كثيرة. وعلى الرغم من ذلك فإن القليل منها فقط هو الذي يحظى بما يناسبه من التقدير والاهتمام. فلقد اعتدنا على تمجيد الأسماء المعروفة والمشهورة، مكتفين بما تعارفنا عليه منها، محيطين إياها بآيات الإجلال والتقدير، غير مكترثين بالكشف عما غاب أو تغيب من عقولنا العربية عمدًاً أو تغربت هي لسبب أو لآخر، ومن ثم يضمحل أثرها ويتلاشى ذكر إنجازاتها من قبل مؤسساتنا الرسمية وغير الرسمية المعنية بالشأن الثقافي التي تهمل أرشفة عطاءات باحثينا ومفكرينا من ذوي الجهود الكبيرة والمميزة والمشهود لهم بالتقدير والسمعة العلمية عربيًا وعالميًا.
وقد يكون لفاعلية ما في عالمنا العربي من تلازم قوي بين السياسة والثقافة دور مهم في عدم الاكتراث ذاك وعلى الأصعدة كافة، وأهمها الصعيد الإعلامي؛ فتتضخم أسماء شخصيات معينة في الصحف والمجلات والفضائيات، وتسوق على حساب غيرها حاجبة عنا أعمال سواها ومنجزاتها التي قد تكون حاجة ثقافتنا إليها كبيرة.
بالطبع هذا الحال ليس وليد اليوم ولا ينطبق على وضعنا العربي الراهن حسب، بل هو سائد في عقود خلت فمنذ الحربين العالميتين الأولى والثانية والى يومنا والسياسة تلعب دورًا في تمجيد أسماء أو إقصاء أسماء أو توخي الحذر في النظر إلى أي عقل جديد والاحتياط له بكثير من الارتياب والتوجس واللااطمئنان حتى صار الأمر كأنه عُرف أو نهج نسير على هديهما في تقدير قيمة هذا العقل دون ذاك.
وهو ما يدلل على الانغلاقية الثقافية والتقصير التاريخي في تقدير كفاءاتٍ ذات فرادة من أعلامنا العرب، فتظل المشاريع والابتكارات رهنا لا بما تستحقه أو تقدمه من خدمة للإنسانية، بل بما لأصحابها من انتماءات إيديولوجية.. وهكذا نبقى في دوامة الاتباع والتقليد وتظل الانغلاقية الثقافية غالبة في سلوكياتنا.
وإذا كان هذا الحال ينطبق على أعلامٍ كثيرين علماءَ وكتابًا ومفكرين عاشوا ورحلوا ولم ينالوا أي تكريم أو اهتمام، فكيف بعد ذلك سيكون الحال مع العقول الجديدة ذات الجهود المبدعة التي ما زالت في طور التبلور والتي تستدعي من المؤسسات العلمية والثقافية الرسمية -وكنوع من التنبؤ بالمستقبل الذي ينتظر هذه العقول- تقدير كفاءاتها وتقديم كل ما يدعم جهودها ويساعد في تعزيز تفوقها وتفردها.
ومن العقول الفريدة ذات العطاء العلمي الكبير العالِم العراقي الدكتور محسن مهدي (1926–2007) الذي طال النسيان عطاءاته ولفّ الصمت مؤسساتنا إزاء ما حظي به من صيت وتقدير عالميين. والسبب ما بذله من جهود كبيرة ومميزة في سبيل إحياء التراث الفلسفي الإسلامي، ممتلكا الحصافة المعرفية وبدأب علمي ومصابرة مضنية، متخصصا في فكر فيلسوفين من فلاسفة المسلمين هما ابن خلدون وأبو نصر الفارابي، كما أنه المحقق الجليل والمترجم المقتدر والناقد الفذ والباحث الذي عُرف بدقته وأمانته في الكشف عن مسائل فكرية أصيلة تخص دراسة التراث الفلسفي والأدبي كحكايات ألف ليلة وليلة التي تتبع مظان مخطوطاتها مبتغيا تصحيح المغالطات والتحريفات التي طالت هذه الحكايات على مدى حقب طويلة، متوصلا إلى نتائج باهرة لم يتوصل إليها سواه. فنال بذلك مكانة علمية بمرتبة عالية، وضعته في مصاف كبار الباحثين والعلماء.
وإذا أردنا أن ندلل على عالمية ما أنجزه الدكتور محسن مهدي من فكر علمي، فإننا سنجد ذلك كله مركزا في ما عُرف به من فرادة علمية منحته بصمة أكاديمية، ميزته عن سابقيه وسائر مجايليه من العرب والغربيين ومنحته امتيازا أيضا على من أتى بعده في حقل تخصصه الذي برع فيه. ولأجل أن نتعمق في تفاصيل فرادة محسن مهدي العالمية متعرفين عن كثب إلى أهم إنجازاته البحثية والتحقيقية، علينا تناول الأسس التي نهض عليها معماره المعرفي وكما يأتي :
1 – تنوع المرجعيات وتعدد العلوم
كان لدراسة محسن مهدي في الجامعة الأمريكية ببيروت مطلع خمسينيات القرن العشرين دور مهم في أن يتعرف إلى أستاذين عربيين كبيرين كانا قد تخصصا في التاريخ والفلسفة هما شارل مالك (1906-1987) وقسطنطين زريق(1909-2000) متتلمذا على أيديهما. وهو ما عزز في داخله التطلع المعرفي نحو آفاق جديدة ومجالات علمية عدة، منها علم الاقتصاد الذي نال به رسالة ماجستير ومارس تدريسه في جامعة بغداد لمدة عام أو أكثر حتى إذا حصل على منحة للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية مطلع خمسينيات القرن الماضي راح يهتم بالتخصص في علم الاجتماع. وهنا بدأت بوادر انفتاحه الإيجابي على العقل الاستشراقي تأخذ أمداءها في النمو والنضج خلال دراسته للدكتوراه في جامعة شيكاغو على أيدي اثنين من المستشرقين هما ليو شتراوس ونابيا أبوت.
وقد أسهم نيله الدكتوراه عام 1954 في زيادة توجهه نحو الفلسفة الإسلامية وإعادة قراءتها بمنهجية جديدة، معمقا عبر ذلك انفتاحه الإيجابي مقلِّصا المسافة داخل فكره بين اتباع الأعراف وبين التحرر منها بالابتداع خارج سياقات ما تواضع عليه الفكر الأوربي والفلسفة الغربية وبخاصة القروسطية وما فيهما من فكر تبشيري لاهوتي.
وكان لقربه من الباحثين الأمريكيين والأوربيين ولعلاقته ببعض الفلاسفة والمفكرين الغربيين الكبار مثل أرلوند بركستراس وإيف سيمون أثر مهم في توجهه نحو الفلسفة الإسلامية، محاولا إحياءها عبر تحقيق مصنفاتها وبيان مقدار تأثيرها الكبير على فلاسفة القرون الوسطى.
وكان من نتائج هذا التوجه أن شجعه على المضي قُدما في مجال البحث الفلسفي وبالمنهجية الانفتاحية ذاتها في دراسة فلسفتنا الإسلامية. وهو ما أغرى باحثا عراقيا شاءت الصدف أن يزامن مهدي الدراسة في الولايات المتحدة هو الدكتور علي الوردي الذي آثر أن يكون موضوع أطروحته نفسه الذي اختاره محسن مهدي وهو فلسفة ابن خلدون.. بيد أنه اتبع منهجية حصرت تخصصه في فرع من فروع علم الاجتماع هو علم اجتماع المعرفة بعكس محسن مهدي الذي انفتح تخصصه الفلسفي على علمي الاجتماع والتاريخ.
ولم يشر الدكتور علي الوردي – الذي صار له بعد أن عاد إلى العراق شأن علمي كبير بوصفه الأستاذ الأول في علم الاجتماع إلى أثر محسن مهدي عليه، بل إنه لم يذكره على مدى عقدين كان فيهما يُؤلف كتبه ويُحاضر ويُناظر في الاجتماع وعلم النفس والتاريخ سوى مرة واحدة حين ألف كتابًا عن ابن خلدون مطلع ستينيات القرن العشرين، فذكر محسن مهدي في مقدمة الكتاب فقط، وبشكل مقتضب ، مبينا أن سبب التأليف هو ما وجده عام 1957 بالصدفة من أطروحة لمحسن مهدي منشورة في بريطانيا باللغة الانجليزية(1) مكتفيًا بذلك عن تعريف القارئ بصاحب الأطروحة ومن دون أن يذكر أنه زامله إبان دراسته للدكتوراه ولم يشر إلى ما يحظي به مهدي ـ-وقت تأليف الوردي لكتابه- من حظوة عالمية كما لم يعترف بأن د.مهدي وعالمًا عراقيًا آخر هو “”عبد الفتاح إبراهيم”” سبقاه في دراسة علم الاجتماع والتخصص فيه.
وما لا خلاف عليه أنّ دراسة الدكتور محسن مهدي لفلسفة ابن خلدون هي التي قادته إلى الجمع بين علم الاجتماع وفلسفة التاريخ والتخصص في علمٍ مهمٍ ثالث هو علم التحقيق الذي أظهر فيه تميزًا واضحًا وبراعة عالية من ناحية النظر المنهجي وآليات عمل المحقق والشروط الواجب الأخذ بها تحريا للدقة والأمانة أو من ناحية ممارسة العمل التحقيقي بحثا عن المظان وقراءة دقيقة في النسخ الأصلية والمنسوخة ودور الناسخ فيها. وساعده في ذلك ما تمتع به من مقدرة أدبية وذوق بلاغي هو حصيلة مرجعيات قرائية في مختلف فروع اللغة من نحوٍ وفِقهٍ وبلاغة وأدب ونقد، وهو ما جعل كبار العلماء من المستشرقين والعرب يعترفون بأهمية ما أنجزه من كتب محققة وما تحلى به من جودة وبراعة و( بحثٍ مضنٍ وتفسيرات دؤوبة وتحقيق متمعن)(2) ، جعلت منه باحثا ضليعا بالتأسيس للفكر الفلسفي الإسلامي.
وبسبب هذا التنوع في المرجعيات والتعدد في العلوم صار الدكتور محسن مهدي يُعرف بالفيلسوف وعميد دراسات الفلسفة القروسطية التي ظل يُدرِّسها على مدى عقود، موزعًا اهتمامه بين الفلسفات الإغريقية والوسطى وبين الفلسفة السياسية الغربية كفيلسوف حر ومحقق وببليوغرافي قلَّ نظيره، وكمؤلف ومحاضر ومشرف واستشاري في مراكز بحثية ومجلات علمية في أكثر من بلد غربي.
وتتمحور بعض مؤلفات الدكتور محسن مهدي حول الفكر الفلسفي مثل(فلسفة ابن خلدون في التاريخ) 1957 والفلسفة السياسية الوسيطة 1963 والاتجاه السياسي للفلسفة الإسلامية 1982 ويتمحور بعضها الآخر حول تحقيق المخطوطات، منها خمسة كتب تخصصت في تحقيق إرث الفارابي الفلسفي هي: (أبو نصر الفارابي وفلسفة أرسطو طاليس) 1961 وقد ترجم إلى لغات كثيرة و(كتاب الملة ونصوص أخرى) 1986 و(كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق) 1986 و(كتاب الحروف) 1970 و(الفارابي تأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية) 2007 إلى جانب كتب أخرى مثل (ملكتان في بغداد) 1982 وكتاب (في الواحد والواحدة) 1990.
2 – تحقيق كتاب مهم
واكتشاف مخطوط نادر
ليس خافيًا ما للتحقيق كعلم نظري وممارسة عملية من أهمية من ناحية البحث عن مظان النسخ الخطية ومن ناحية التمرس بأسلوب مؤلف المخطوط.. إلى جانب مسائل أخرى تجعل التحقيق عملا لا(يقوى عليه إلا من وهب خلتين شديدتين: الأمانة والصبر)(3) وهو ما يحتاج إلى المثابرة في بذل الجهد والوقت مع التمتع باليقظة والفطنة في القراءة ودقة النقل تمييزًا بين الصحيح الأصيل والمصحَّف المحرَّف.
ويُعدُّ تحقيق الدكتور مهدي لـ(كتاب الحروف) للفارابي هو الإنجاز الأشهر له، ليس لأنه منح محسن مهدي منذ سبعينيات القرن الماضي الصيت العالمي وحسب، بل لأنه تبوأ به عمادة الفلسفة القروسطية متخصصًا في إرث الفارابي خاصة والإرث الفلسفي الإسلامي عامة.
ولم يكن تحقيق هذا الكتاب بالعمل اليسير، فهو أكبر مصنفات الفارابي وأكثرها تعقيدا، وفيه فسَّر الفارابي أهم كتاب لأرسطو هو (كتاب ما بعد الطبيعة) وبسببه سُمي الفارابي بالمعلم الثاني. ومعروف أن هذا الكتاب لم يغرِ الباحثين بتحقيقه بسبب وجود أجزاء كثيرة منه محققة ومنشورة كمختصرات وهو ما يجعل عملية تحقيقه مُضنية.
بيد أن ما تمتع به محسن مهدي من قدرة بحثية واسعة مكّنه من تحقيق هذا الكتاب، كاشفًا بذلك عن باع معرفي كبير في الجمع بين الفلسفة وفقه اللغة والمنطق والفلسفة والملة أي الدين وهي (أمور لم نكن نعرف قبل العثور على أصل كتاب الحروف أنّ الفلاسفة الذين كتبوا بالعربية قد استقصوا البحث فيها)(4) شارحًا المصطلحات العلمية في علاقتها بالمعاني الحرفية والمعاني العلمية ومدللًا على مرجعياته اللغوية وهو يبحث في حروف الفارابي وحروف واضعي علم كان مزامنا له هو علم الحروف كفرع من فروع علم الجفر(5).
وتتمثل أهمية كتاب الحروف في كونه المصدر الذي منه استقى شرَّاح كتاب ما بعد الطبيعة آراءهم مثل ابن سينا وابن رشد وغيرهما، ولصلته أيضا بسييويه وابن السراج ومتى والسيرافي. هذه الصلة التي تخيلها د. محسن مهدي أدت بكثير من تلامذة الفارابي إلى أن يسألوه كيف يجيب عن الأسئلة التي أثارها السيرافي عن اللغة وصلتها بالمنطق وعن الحروف..فكان الفارابي(يجيب عن هذه الأسئلة.. في حلقة كان يشرح فيها معاني الحروف ويفسر فيها كتاب ما بعد الطبيعة.. فأطنب في أصل اللغة والنحو وفي نشأتها وفي صلتها بالفلسفة والملة)(6).
ومثلما لا يختلف اثنان حول ضلاعة محسن مهدي في التاريخ الفلسفي بدءا من سقراط وأفلاطون وأرسطو ومرورا بابن رشد وابن سينا والرّازي وابن خلدون ووصولا إلى مفكري العصر الحديث من الغربيين والعرب أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وطه حسين، فكذلك لا اختلاف حول إلمامه المعمق والكبير بعلم التحقيق متّبعًا الأسس نفسها التي سار عليها المحققون الأوائل وهي كالآتي:
ـ أهمية القراءة الصحيحة بتأنٍ وإعادة القراءة بصبر وإمعان حتى تطمئن له النفس.
ـ ضرورة إعلام المحقق قارئه بالأمكنة التي صحح فيها النسخة الخطية مشيرا إلى جميع المواضع كبيرها وصغيرها مع عدم الإكثار من الحواشي كي لا يضل القارئ في بحرها.
ـ معرفة عادة الناسخ في الكتابة وطريقته في اختصار الكلمات وطريقة رسمها كي لا يعرقل قراءته إعجام الحروف وإهمالها أو التباس حرف بآخر ورسم الحركات .
ـ ضرورة تصحيح كتابة الهمزات والأغلاط النحوية والصرفية والأسماء غير العربية إلى جانب العناوين التي يضعها المحقق بنفسه مقسما الكتاب إلى أبواب وفصول وفقرات.
ـ وضع الزيادات أمر مهم في التحقيق وتكون عادة بين أقواس كدلالة على أنها أضيفت من المحقق وليست جزءا من الكتاب و(هي من حرف أو حرفين أو جملة لا يستقيم النص دونها لغة أو معنى .. فمحقق النص لا يعلم الغيب ولا يرجم بالغيب، بل يعمل ما يعمل مستندا إلى دلائل يجدها في النص الذي احتفظت به النسخة الخطية وأخرى يجدها فيما كتب الفارابي ومن سبقه ومن أتى بعده في الفن الذي يبحث فيه الكتاب)(7).
وهذه الدقة في التحقيق كانت قد رافقتها تخصصية عالية، جعلته يبتكر ويكتشف كل ما هو جديد، ومعلوم أن منزلة الباحث والمفكر (في تاريخ العلوم والأفكار لا تتعين بملاحظة جميع الآراء الصائبة والخاطئة المنبثة في كتاباته ومؤلفاته المختلفة، بل تتقرر بملاحظة الآراء المبتكرة التي يسمو بها على معاصريه والحقائق الجديدة التي يضيفها إلى المكتسبات الفكرية البشرية)(8) وهو ما تجلى بدقة في تحقيقات الدكتور مهدي.
وإذا كان تحقيق كتب الفارابي ذا أهمية، فإن تحقيق حكايات ألف ليلة وليلة هو عمل مهم أيضا، فقد قدم الدكتور مهدي عبره للعالم أهم كشف يتعلق بهذه الحكايات، ويتمثل في كتابه (ألف ليلة وليلة) 1984 الذي أنجزه في ثلاثة مجلدات كرَّس لها أكثر من عشرين عامًا، باحثًا عن أصل هذه الحكايات، وهل هي فعلا ألف ليلة؟ وهل لها مؤلف واحد أم لها مؤلفون آخرون؟ وكيف زيد عليها ما ليس فيها؟ ومدى ما تحلى به من مؤلف الليالي من دراية بأساليب الحكاية وبنائها وتركيبها؟(9).
وهو بإنجازه لهذا الكتاب يكون قد كسب الرهان، حاصدًا سبقًا علميًا وواضعًا يده على مخطوطة مجهولة من القرن الرابع عشر الميلادي، فيها ما يقارب مائتين واثنتين وثمانين ليلة هي مجموع الليالي، منتقدًا بذلك النسخ المطبوعة من كتاب ألف ليلة وليلة التي وصلت بالليالي إلى الألف كزيادات وتحريفات بدءا من الطبعة الأولى عام 1818 ثم طبعة بولاق 1835.
وإذا كان المستشرق ماكدونالد قد سبق محسن مهدي في نفي وجود أصول خطية لنسخة برسلاو في أوربا عام 1843م مبينا أنَّ الناشر قامَ بتلفيقها، فإنّ الدكتور محسن مهدي أضاف إلى ذلك مسائل أخرى دقيقة تتعلق بالتلفيقات الحديثة التي طالت ألف ليلة وليلة.
وقد يُخطئ من يظن أن تحقيق محسن مهدي لألف ليلة وليلة لا يمت بصلة إلى تخصصه في الفلسفة، بل هو يصب في هذا التخصص وبقوة، ذلك أن الإبداع الأدبي هو ربيب الفلسفة وصنوها، وكثير من الأفكار والطروحات الفلسفية وجدت مراتعها الأولى في الأدب. وفي حكايات ألف ليلة وليلة مغازٍ كثيرة ودلالات غير مباشرة تتعلق بالحاكم والمحكوم والسلطة وعلاقتها بالشعب أو علاقة الهامش بالمركز ومسائل أخرى ذات صلة بالمحظورات الثلاثة السياسة والدين والجنس.
وقد وضع الدكتور محسن مهدي لهذا الكشف العلمي المهم والأصيل مقدمة بحثية مهمة، لم يكن فيها محققًا وحسب بل كان ناقدًا أدبيًا أيضا ذا علم وتعمق في علم التحقيق من جهة والفكر والسياسة والفلسفة من جهة أخرى.
3 – إحياء الفارابي والخُلق التنويري
تمتع الدكتور محسن مهدي بفكر تنويري رحب ومتزن، دللت عليه مختلف كتبه ودراساته وأهمها كتابه (الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية) الذي قال عنه المفكر الأمريكي تشارلز بتروورث: (يقدم محسن مهدي في كتابه هذا عرضا شاملا جديدا تمام الجدة لتعاليم الفارابي في حقلي الملة والعلم المدني (السياسة) وهو يقوم بهذا العمل متحليا بفهم عميق وتبصر فلسفي مستندًا إلى عقود من البحث الأكاديمي وإلى ما حققه من مخطوطات وكذلك إلى إعادة اكتشافه لمجال الفلسفة المدنية الوسيطية في التراث الإسلامي ولمركز اهتمامها)(10).
فلقد وضع الدكتور مهدي في هذا الكتاب خلاصة أربعة عقود من البحث في تاريخ الفلسفة، مفيدا من فلسفة التاريخ كعلم حديث يمتد ظهوره إلى القرن الثامن عشر وفيه يتعدى الباحث (حدود التاريخ ويدخل في نطاق الاجتماعيات)(11)، موظفا إياها في دراسة أهم فيلسوف إسلامي هو الفارابي، مرّكزا على ثلاثيته (آراء أهل المدينة الفاضلة وكتاب إحصاء العلوم وكتاب الملة) (12) مشتقا منها لب الفلسفة الفارابية حول العلم المدني والشريعة والفلسفة المدنية والأفلاطونية الحديثة مطورًا (علمَ كلامٍ إسلاميًا أفلاطونيًا محدثًا)(13) منتهيا إلى كشوفات جديدة غير مسبوقة لاسيما ما يتعلق بالعلم المدني وتعاليم الفارابي الجديدة والتي فيها تتجلى إسهامات الدكتور مهدي الفريدة في فهم الفارابي والتأسيس للفلسفة السياسية.
وبسبب أهمية هذه الكشوفات وجدّتِها، استند إليها كثير من الباحثين الغربيين مثل آن ك. لامبتون التي درست فلسفة الفارابي المدنية 1983 وميريام غالستون 1990 ويواشوا بارينز وبعض من طلاب الدكتور مهدي الذين تأثروا بآرائه.
وبإحياء الدكتور محسن مهدي لفلسفة الفارابي من جديد يكون قد أسس قاعدة للفلسفة الإسلامية السياسية، ستُمكِّن الباحثين من بعده أن يبنوا عليها، متعمقين في فكر فلاسفة آخرين كاشفين عما في مصنفاتهم من تجليات علم السياسة أو الفلسفة المدنية.
وليس وراء هذا التأسيس وذاك الكشف سوى تنوير فلسفي ينم عن عقل منفتح بايجابية من ناحيتين: علمية وأخلاقية. فلقد تحلى الدكتور محسن مهدي بخصال الباحث المتنور فكان متواضعا لا يغمط السابقين حقهم، ولا يقلل من شأن مجايليه كما كان مرنًا متزنًا لا يعرف التبجح ولا التعالي.
والأمثلة على ذلك كثيرة، منها إقرار الدكتور محسن مهدي للباحث الدكتور إبراهيم مدكور بالسبق في دراسة الفارابي قائلا: ( إن أول دراسة شاملة كرست لمكانة الفارابي في الفلسفة الإسلامية نشرها إبراهيم مدكور في العام 1934 حيث كان ذلك العمل من أول الأعمال الناضجة عن الفارابي في العصر الحديث. وقد مثّل ما يمكن للدراسة الأكاديمية أن تحققه انطلاقا من الأعمال المنشورة والمخطوطات المعروفة آنذاك)(14).
وسنقدر هذا الإقرار أكثر إذا علمنا أنّ الدكتور إبراهيم مدكور ـ في تصديره للكتاب التذكاري الذي أشرف عليه وأعده بمناسبة الذكرى الألف لوفاة الفارابي عام 1983 ـ قد قدّم المستشرق دنلوب، قائلا:( للمستشرق الألماني الكبير ولوعٌ بالفارابي وقد أخرج عام 1960 مع زميل له شرح الفارابي لكتاب العبارة لأرسطو)(15) ثم ذكر محسن مهدي قائلا: ( ولا ننسى جهود الزميل الدكتور محسن مهدي فهي نشيطة وقيمة واستطاع أن يخرج منها بين عامي 1961ـ1970 أربعة من كتب الفارابي الهامة إلى جانب رسائل صغيرة أو شروح وتعليقات تتصل بها وأهمها كتاب الحروف الذي يعد أوسع ما وصلنا حتى الآن من مؤلفات المعلم الثاني)(16). وبدلا من أن تكون للدكتور مهدي مشاركة في الكتاب التذكاري ــــــ الذي لم يتعد عدد الأبحاث فيه أصابع اليد، واقتصرت على باحثين مصريين ــــ كلّفه الدكتور مدكور (إعداد دراسة ببليوغرافية عن مخطوطات الفارابي ) وبعد أن ذكر هذا التكليف أردفه بالقول: ( وقد سبق للدكتورين حسين علي محفوظ وجعفر آل ياسين أن أخرجا بمناسبة مهرجان بغداد مؤلفا ضخما يقع في نحو 500 صفحة من القطع المتوسط وينصبُّ على مؤلفات الفارابي عامة ولذلك رغبنا في أن تقف جهود الدكتور محسن مهدي عند المخطوطات وحدها آملين أن يكون في ذلك ما يحفز إلى إحياء ونشر جديد)(17).. وكان الأرجح هنا بالدكتور إبراهيم مدكور وهو يؤشر لهذه الغزارة في عطاء مهدي وصلته الوثيقة بفلسفة الفارابي أن يقدمه على دنلوب.
ومن الأمثلة التي نضربها للتدليل على موضوعية الدكتور مهدي في التعاطي مع إنجازات من سبقه، ما ورد في تقديمه لتحقيق كتاب( الواحد والواحدة) من أن محققه حازم مشتاق استند إلى نسختين وقدمه كرسالة إلى جامعة أكسفورد في صيف عام 1960 ولم يرجع إلى نسخة خطية ثالثة، وعن ذلك قال الدكتور مهدي: (وعندما حصلنا على نسخة مصورة من رسالته ظهر لنا أن تحقيق الزميل الكريم بني على نسختي آيا صوفيا.. وأن تحقيق هذا الكتاب كان جزءا صغيرا من دراسة بحثت في أصول الفن الذي ذكره الفارابي عند فلاسفة اليونان.. وأن الرسالة جمعت إلى كل هذا ترجمة للكتاب إلى اللغة الإنجليزية وبعض الشروح والتعليقات وأن العمل في كل هذا على أهميته ونفعه جرى في ظروف دراسية تطلبت إنجازه في وقت محدد)(18)
ثم تبين للدكتور مهدي أن حسين أتاي أيضا حقق الكتاب بناء على نسختين ولم يعد إلى الثالثة وعندها سعى الدكتور مهدي إلى( إكمال) ما شرع به مشتاق وأتاي لكنه تراجع حين وجد أن من الضروري مقابلة النسخ الثلاث، وقرر(إعادة) تحقيق الكتاب من جديد. ولكي لا يغمط حق الباحثين فإنه أهدى عمله لهما (إلى الزميلين حازم مشتاق وحسين أتاي) مقدرا سبقهما له في الجهد وعرفانا لما قدماه وأبدياه من تعاون وتواد.
وهذا العلم المزدان بالخُلق لم تؤثِّر فيه أو تغيّره استعانة كبريات الجامعات الغربية بعلمه وكفاءته واعترافها له بطول الباع والألمعية البحثية، فمنحته جامعة هارفارد كرسي جيمس جيويت كما ترأس أهم مراكز البحث في أوربا كأستاذ للدراسات القروسطية لا يشق لأكاديميته غبار، ولا يختلف في علو علمه ولا في أمانته اثنان.
مؤدى القول، إنّ هذا المفكر الذي نال عالميًا في حياته بعض ما يستحقه فكره وعلمه أو ما يكافئ خدمته الجليلة لتراثنا الفلسفي، لم ينل عربيًا غير التغييب واللامبالاة باستثناء ما قدمته الجامعة الأمريكية في القاهرة من تكريمين: الأول أنها منحت محسن مهدي دكتوراه فخرية قبيل وفاته بعام، والثاني أنها أقامت مؤتمرا في كانون الأول 2008 أي بعد وفاته بعام وحمل اسمه، ودارت محاور المؤتمر حول مؤلفاته ومنجزاته في التاريخ والتحقيق والأدب والفلسفة.
وباستثناء ذلك لا نجد من المتخصصين في علم الاجتماع والفلسفة لاسيما العراقيين المجايلين له من يذكره في بحث أو كتاب، خذ مثلا المفكر مدني صالح(19) الذي ألَّف كتابًا حول الفارابي ولم ترد فيه أية إشارة إلى محسن مهدي.. كما أن لا مؤسسة جامعية أو ثقافية أشادت بمحسن مهدي وأقرت بأصالة جهوده واعترفت بمكانته العالمية وفرادة إنجازاته وأهمية تعريف الأجيال الجديدة بمثل هذه الإنجازات لتأخذ العظة من مسيرته المعطاء، فتقتدي به وتواصل بانية إنجازات أخرى واكتشافات لحقائق جديدة تصب في باب إنصاف فلاسفتنا أو تسعى إلى إعلاء شأن علمائنا.
وقد يقال إن احتضان محسن مهدي من لدن المؤسسة البحثية الغربية هو الذي أبعده عن عالمنا العربي وأن هذا يعطينا العذر في أن لا نقدر حقه من التقدير والاهتمام. وهذا قول مردود ، لأن التقصير بالأساس ملقى على عاتق المؤسسات الرسمية وما ينبغي أن تقوم به من أرشفة منجزات الأعلام المتميزين والمشهود لهم عالميا وعربيا وحتى محليا.
أما المنظمات والهيئات غير الرسمية فيبدو أن عملها لا يختلف عن المؤسسة الثقافية الرسمية من ناحية عدم توفر أرشيف كامل لما تركه العلماء الأفذاذ ومنهم العالم محسن مهدي حتى أن ما نعرفه اليوم عن أبحاثه ودراساته باللغة العربية هو أقل من تلك المنشورة باللغة الإنجليزية.
الهوامش
-1 ينظر: منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته، علي الوردي، دار الوراق للنشر، 1962، ص 12. وفيها قال :” مما لفت نظري من هذه الناحية ظهور كتاب عن ابن خلدون في اللغة الإنجليزية.. لباحث عراقي هو الدكتور محسن مهدي وهو يتضمن الرسالة التي قدمها المؤلف لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة شيكاغو”
2 – القول للباحث الأمريكي تشارلز بترورودث الذي قدّم كتاب الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية، الدكتور محسن مهدي، ترجمة وداد الحاج حسن، دار الفارابي، ط1، 2009، ص12.
3 – تحقيق النصوص ونشرها، عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 7، 1998، ص 48.
4 – كتاب الحروف، أبو نصر الفارابي، حققه وقدم له وعلق عليه محسن مهدي، دار المشرق بيروت، 1986، ص 27
5 – من المصطلحات التي شرحها الدكتور محسن مهدي شرحا مستفيضا مصطلح “العلوم الإسلامية” وذلك في بحثه الموسوم ” المعتقد الديني والمعتقد العلمي”” مجلة دراسات شرقية، ترجمة أبو بكر باقدر، العدد 24، باريس، 2005، ص 165-185.
6 – كتاب الحروف، ص 48 ـ 49.
7 -المصدر السابق، ص55
8 – دراسات عن مقدمة ابن خلدون، ساطع الحصري، دار المعارف مصر، طبعة موسعة، 1953، ص5.
9 – رأى الدكتور محسن مهدي أن حكايات ألف ليلة وليلة اقتبست من ينابيع ومصادر كثيرة، وقد أعاد مؤلفوها صياغة قصصها بناء على معرفة واسعة بأساليب الحكاية وأشكالها وأمور تستحق الدراسة والبحث، ينظر بحثه: ملاحظات عن ألف ليلة وليلة، مجلة فصول، مجلة النقد الأدبي ، المجلد الثاني عشر، العدد الرابع، شتاء 1994، ص60ـ70.
10 – الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية، ص7.
11 – دراسات عن مقدمة ابن خلدون، ص 172.
12 – يعد كتاب إحصاء العلوم الأول في اجتراح علم جديد لم يكن الفلاسفة زمن الفارابي قد عرفوه. وقد عد تشارلز بتروورث الدكتور مهدي أول شخص يحاول تحليل هذا الكتاب. ويبحث كتاب الملة في الأصول التي بنى عليها الفارابي تركيب المدينة الفاضلة والسياسة المدنية، والكتاب صادر عن دار الشروق ببيروت عام 1991.
-13 الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية، ص18
14 – المصدر السابق، ص22
15 – الكتاب التذكاري أبو نصر الفارابي في الذكرى الألفية لوفاته 950م ، تصدير الدكتور إبراهيم مدكور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1983، ص 10.
16 – المصدر السابق، ص10
17 – المصدر السابق، ص12
18 – كتاب الواحد والواحدة، أبو نصر الفارابي، حققه وقدم له وعلق عليه محسن مهدي، دار توبقال، المغرب، ط1، 1990، ص22 . وحازم طالب مشتاق 1931 ـ 2016 باحث عراقي وأستاذ الفلسفة له كتاب (الفكر الاستراتيجي الأمريكي) درس في الجامعة الأميركية ببيروت 1953 ودرس الفلسفة اليونانية القديمة في أكسفورد 1960 وحسين أتاي فيلسوف وأكاديمي ترجم القرآن إلى التركية وله أعمال فلسفية ويلقب بمعلم المعلمين بسبب ما تمتع به من قدرة على الإقناع بالحجة.
19 -هذا هو الفارابي، مدني صالح، دار الحرية للطباعة، سلسلة الموسوعة الصغيرة 59، بغداد، 1980 .