محرز راشدي
باحث تونسي
«لم يكن الشّيطان إلّا تشخيصًا وتجسيمًا لغريزة الحياة المكبوتة وغير الواعية». (سيغموند فرويد: الغريزة الثّقافية، 42)
لقد هيمنت في لحظة الحداثة الأولى (الرّومنطيقيّة) رؤيا للشّاعر والشّعر متعالية عن شرط التّاريخ والظّرف الواقعي، بمقتضاها تركّزت الحقول المعجميّة والدّلالية والصّور الشّعرية حول ما يُسمّى “الإنسان العظيم”. وهو عبارة عن نمط أصليّ تنحدر منه نسخٌ كثيرة ومتنوّعة تؤدّيه وتشفّ عنه، من ذلك: الملاك، القدّيس، النّبيّ، الكاهن، العبقريّ، وهلمّ جرًّا، وهي رؤيا سمتها العموديّةُ (1) والخفّة والطّهوريّة، لذلك نضعها في خانة القداسة والملائكيّة.
بعد ذلك حلّت الحداثة الثّانية متمثّلة في قصيدة التّفعيلة، ثمّ تلتها قصيدة النّثر التّي نرجّح أنّها العدول الأكثر عنفًا في مُستوى التصوّر والممارسة الإبداعيّة. وتبعًا لذلك تغيّر مفهوم الشّاعر وصورته بقدر ما تبدّلت صورة الشّعر وإجراءاته. في سياق هذا المُنعطف العنيف الممهور بقصيدة النّثر تتنزّل الرّؤيا الشيطانية، إذ تفكّكت صورة الشّاعر الملاك وتبخّرت، لتستقرّ في موضعها صورة الشّاعر الرّجيم أو الملعون (Poète maudit)، الذي لم يظهر في زمن العافية والبراءة بل تجلّى في خطّ زمنيّ آثم، وسمه هيدغير بزمن الضّيق والشدّة.
هذه اللّعنة التي رافقت الشّاعر الحديث والمعاصر شملت مستويات عدّة في التّجارب الشّعرية، لعلّها تتخطّى الشّاعر إلى تشكّل الملفوظ الشّعريّ نفسه. فبين ملاك قادم من السّماء وملعون لفظه جحيم الأرض ومخازيها مسافة إدراكيّة شاقّة، وبمعنى آخر كانت الرّومنطيقية تستلهم الطّبيعة الموشومة بالتّماسك والانسجام والاستقرار نقلًا وتحويلًا، أمّا قصيدة النّثر فتستلهم الحياة، بما هي أفراحٌ ضاجّة وآلام مُتشنّجة، وشبكة من الأضداد والمتناقضات، ومتوالية من التّفاهات والابتذالات والقمامات. الأمر عينه ينطبق على الملفوظ الشّعري، إذ حقيقٌ بنا أن نهتمّ بالنصّ لا بالأثر، وعلى النصّ أن يرفع شعار الإنسان الذي سكنته الشّياطين، لأنّه نسيج تعدّديّ أو شيطانيّ في حاجة إلى القراءة المُرهقة والمُضاعفة والعميقة (2).
والمقصود من ذلك أنّ الخطاب الشّعريّ الحديث استقرّ في بعض تمظهراته قصاصات وقطعًا يشوبها التّنافر وغياب الانسجام، ومرجعيّاتها يسوسها التّعدّد والاختلاف، منها الدّيني واليومي المبذول، والإعلامي الإشهاري، واللقطات السّينمائية، وألعاب المحو والشّطب وألعاب القصّ والإلصاق وغير ذلك كثير.
تحت هذا المنظور رأينا أن نتدبّر بالقراءة مجموعة شعريّة تونسيّة (ممرّات سرّية) (3)، لصاحبتها المُبدعة التّونسية المعاصرة أمامة الزّاير، لأنّها تتميّز بهويّة كتابيّة مخصوصة أقرب إلى “الأدب العنيف”، والعنف في هذا السّياق له طابع العودات البرّية المقوّضة للكائن والموجود والمستتبّ. وربّما هذه الكتابة تخترق خيوطَها وشقوقها أبالسةٌ عدّةٌ، «فالأبالسة في نظرنا، نحن، رغبات شرّيرة، مستهجنة، تنبع من دوافع مكبوحة، مكبوتة». (4)
وقد ارتكزت القراءة على المُحايثة النصّية، غير أنّها استفادت من تداخل المعارف والاختصاصات، نظرًا إلى أنّ القصيدة الحديثة قصيدة مثقّفة، تستوجب مُكاشفتها الحفر والنّظر في كلّ الاتجاهات، وملاعبة المعاني في حركتها الدّائبة.
اختارت هذه المقاربة الوقوف في أربع محطّات اعتقدنا في كونها تمثّل مفاتيح للولوج إلى عالم أمامة الشّعري، هي على التّوالي:
دلالة العنوان.
كتابة الهذيان.
كتابة القبح.
كتابة الفراغ.
دلالة العنوان
عنوان المجموعة
ارتأت أمامة الزّاير لمجموعتها الشّعرية عنوانًا دالّا هو “ممرّات سرّية”. ويعود الاهتمام بالعناوين والتّصديرات وغيرها من النّصوص الصّغرى والمجهريّة إلى المنظّر الفرنسي للعتبات “جيرار جينيت”، فالنّصوص لا ترد عارية بل محفوفة بعدد من المفاتيح الموازية التي وجب مُراعاتها في عمليّة القراءة وبناء الدّلالات.
إنّ عنوان “ممرّات سرّية” ورد جملةً منقوصة النّحوية، وتركيبًا نعتيّا (منعوت+ نعت)، وهو إلى ذلك دالّ مكانيّ، ذلك أنّ الممرّات وهي جمع الممرّ تحيل على موضع الاجتياز والعبور تناقضا مع هندسة الأمكنة التي تكفل الإقامة والاستقرار والثّبات، بما يعني أنّ الشّعريات الحديثة وما بعد الحديثة مُرتكزها المغامرة والمقامرة، حتّى أنّه بمُستطاعنا الأخذ بعبارة جورج غوسدورف (Gusdorf Georges) فنقول إنّ الشّاعر الحديث والمعاصر، في الغالب، “كولمبس ميتافيزيقي” يجوب بحر الظّلمات الكائن في أعماقه حيثُ الإعتام وانكتام السّرّ. (5)
ورد دالّ “ممرّات” عاريًا من التّعريف ممّا يُكسبه دلالة التّعميم والشّمول، وفي صيغة الجمع لتثبيت التعدّد والكثرة، ويتناسب هذا مع نسيج شيطانيّ عماده الاختلاط واللا استمرار واللاتجانس ولكأنّ الشاعر الحديث عاملٌ يدويٌّ متعدّد الحرف Bricoleur مهمّته التّرميق والتّرميم، فنجد في النصّ الواحد حطام كتابات أخرى كثيرة منها القريب المُشاكل والبعيد المُناوئ. (6)
لكن دالّ “سرّية” ترفع عن “الممرّات” صبغة النّهارية والوضوح، فهي ليست صقيلةً مطروحةً على الأرض وتحت الشّمس، بل فيها من الإخفائيّة والأسراريّة والحجب ما يُغري بركوب المغامرة. إذ إنّ السّرَّ لا يُكشف عنه إلّا سرًّا ولا يُعرف إلا كاختفاءٍ. وفي سيرورة العلامات وصيرورتها يمكن أن نستدعي إبدالات أخرى فالممرّات تحيل على المسارب والثّنايا والطّرقات، وطبيعتها السّرية تكسبها سمةً جوفيّة عمقيّةً سردابيّةً، ربما نصل بها إلى الشّرايين والشّعيرات اللامرئية. فمن يعبر من خلال هذه الممرّات: هل الشّاعر هو العابر أم القرّاء يعبرون على ظهر شاعر ملعون نحو ضفّة أخرى من التصوّرات والمعاني المُقلقة والمُجهدة والمُربكة؟ هل الممرّ السّرّي يكفل النّقل والتّحويل أم يؤمّن التّهريب؟ هذه الأسئلة وغيرها هي بمنزلة المُثير الذي لا يرشد بالضّرورة، بل يزوّد الذات القارئة بمهاميز تساعد على تصديع الأبواب المغلقة. وستكون عناوين القصائد أو بعضها هي الأبواب التي نطرقها ونليّن أقفالها.
عناوين القصائد
إذا كان عنوان المجموعة ثريّا معلّقة ومُشعّة فإنّ بقية عناوين القصائد لا تقلّ أهمّية، فهي منصّات أولى، تقع في الأعلى، متحفّزة، ومتهيّجة، تربطها بالـ”الممرّات السّرّية” شُعيرات دلاليّة تُدركها العين الفاحصة حفرًا وبناءً في الوقت نفسه، إذ إنّ القراءة المُساهمة هي الشّريكُ في ترميم سلاسل الدّوالّ المُحطّمة وتشييد الدّلالات غير المتناهية.
التّعامل مع هذه عتبات العنوان يسلك رؤيةً شموليّةً تأليفيّة نظرًا إلى أنّها ليست هدفًا في ذاتها بل إن شئنا هي محطّات ومعابر ومفاتيح تعزّز الإشكالية الرّئيسة وتنير جوانب منها.
ويبدو أنّ تصفّح المجموعة الشّعرية ومعاينتها تفصحان عن اثنين وعشرين عنوانًا يمكننا تقسيمها حسب وضعيّة دلاليّة محدّدة إلى تجمّعين كبيريْن: أمّا التجمّع الأوّل فارتأينا له وسْم العرضيّ، وتحته تنضوي هذه الدّوالّ العنوانيّة (هارمونيكا/ أغنية للجدّ/ ممرّات/ أصابع مهجورة/ هرطقة/ عادات سيّئة/ مشاكسة أشياء الزّوج)، وأمّا التّجمّع الثّاني فوسمناه بالمرضيّ، وفي أروقته تستقرّ هذه العناوين المتبقّية (أرق/ تداع/ ماليخوليا/ هذيان/ خرس/ خرف/ تأتأة/ توحّد/ دوار/ وسواس/ فصام/ ألزهايمر/ كوابيس/ بوليميا/ ليلة في الرّازي).
هذان التّجمّعان يُعتبران من أعمدة ما بعد الحداثة الفنّية التي سمحت للقطاعات الهامشيّة بالعودة والحضور في الممارسات الإبداعيّة، وهزّت هزًّا عنيفا مقولات المقدّس، والمُكتمل، والموقّر، والطّاهر، ودشّنت لامركزيّة الكائن الفاني/ الإنسان الأدنى، وعرّت هشاشتة، وأبانت عن إقامتة القلقة، في أطر جحيميّة خانقة وطاردة، وكلّ هذا يتناغم مع رؤيا شيطانيّة نطلّ من شرفتها على الأركان المُظلمة في هذا الكائن المتواضع المُسمّى “إنسانًا”. فـ«إذا كوبرنيك قد أرغم الإنسان على الإقرار بأنّ كوكبه الصّغير لم يعد مركزًا للعالم، وإذا كان داروين قد أوضح بأنّه ليس أكثر حظّا من الحيوانات الأخرى […]، فإنّ فرويد نفسه قد بيّن أنّ “الأنا ليست سيّدة بيتها الخاصّ”». (7)
وما استدعاء فرويد بترفٍ فكريّ، وإنّما لأنّ الملفوظ الشّعري كما توضّح في سلسلة من العناوين، ينوء بحمولة دلاليّة لا شعوريّة بالأساس، إذ هاجرت هذه الدّوالّ من عالم المصحّة والمرض والأعراضيّ، لتحطّ الرّحال في حقل الأدب وتغور في الأمشاج النّصّية، وتلوّنها بلونها، وتُعلّم على أزمنة حديثة فارقت أقاليم البراءة والنّقاء والصّفاء. يقول أنسي الحاج في هذا السّياق: «ما يُسمّونه بالأزمنة الحديثة هو انفصالٌ عن زمن العافية والانسجام. إنّه تكملةٌ للسّعي الّذي بدأ منذ قرنٍ لا من أجل تحرير الشّعر وحده بل أوّلًا لتحرير الشّاعر». (8)
يبدو أنّ الكتابة الشّعرية في المجموعة المطروحة للدّرس، كتابة مارقة، متنطّعة، تُناكف الطّرق المعبّدة، والمراسيم المسطورة، والأراضي المفتوحة والمأهولة، والكلمات الأليفة والأنيسة، لتُلقي بقارئها في سراديب معتّمة، وفي أقاليم تحتيّة مهجورة وموحشة، نقف من خلالها على أطلال الإنسان، ونُثار كيانه، ورواسبه اللّابدة تحت جلدة الوعي السّطحي، والنّور النّهاريّ المغشوش، «عبر جماليّة برّية أعيانًا لا تتورّع عن إظهار ما هو قبيح ونافر». (9)
هذه الكتابة، أيضًا، غادرت الطّمأنينة لتتلبّس بهوية المُضطرب والمُرتجّ، فعناصرها التّكوينية هي الطّاقة الجامحة، والقوّة الضّاربة، في بحر الفوضى والتّدمير والسّأم والاغتراب. إذْ «تحت سطح الحداثة (الحياة الحديثة) المُغطّى بالمعرفة والعلم، تكمن قوى دافعة، برّية، بدائيّة، وخالية من كلّ أثرٍ للرّحمة». (10)
بناءً على ما سبق، كيف ستؤثّر التّصاميم العنوانيّة في الكلمة الشّعرية التي نعتبرها مادّة النّسيج النصّي؟ ما طبيعة السجلّات اللّغوية والحقول الدّلالية التي ستهيمنُ على المدى النّصّي؟
كيف تؤثّر الرّؤيا الشّيطانية في تشكيل القصيدة وتشييد معمارها؟ هل نحن إزاء معمارٍ يصمّمه الشّاعر ـ المهندس أم إزاء ترميماتٍ يُنفّذها الشّاعر ـ متعدّد الحرف من خليط من المِزقِ والرُّقع والشّظايا؟
إنّ الأسئلة الماثلة والكامنة لا تنتظر أجوبةً صامدةً، ولكنّها ترافقنا في منعطفات البحث ومنزلقاته، فتشحذ القراءة وتمدّها بالأدوات المناسبة والمساعدة في كلّ محطّة. لكن ممّا لا ريب فيه أنّ الكلمة الشّعرية في قصائد أمامة الزّاير تشبه علبة باندور Pandor، كلمات مُثقلة بالمباغتة والكثافة، ما إن تلامسها القراءة حتّى تتقافز منها كلّ قدرات اللغة. بل بالمعنى الحرفيّ القريب: القصيدة ـ العلبة، ما إن نرفع عنها الغطاء حتّى تتطاير منها شرور الأرض ومقابحها دون خجل أو حرج، فكيف ذلك؟
كتابة الهذيان:
إنّ الشّاعر الحديث فتح عينيْه على عالمٍ من الكوارث والأهوال. هذا العالم يسوسه العقلُ المتجبّر الذي يترنّح على الأرض بكبرياءٍ، ويزرع البثور والتّشوّهات حيثما حلّ. لذلك قامت الحداثة الشّعرية منذ العصر الرّومنطيقيّ على تصوّراتٍ مضادّة للعقل تمامًا من أجل استعادة الإنسانيّة المهدورة، والامتلاء بالمعنى فـ«عالم المنافع العمليّة، أيْ الممارسات التّقنيّة والعلمويّة، هو عالم تحييد المعنى neutralization du sens). (11)
بعبارة مشاكلة، تمرّدت الشّعريّة الحديثة بدءًا من اللّحظة الرّومنطيقية على «إمبرياليّة العقل والدّولة، وكليانيّة الكوجيتو والنّظام». وفي الوقت نفسه ثارت على «إمبرياليّة فلسفة الحسّ المشترك»، فقفزت على مقولات النّسق والنّظام واللّوغوس، لتدشّن رؤيةً عمادها الكوجيتو الفارغ Cogito vide الذي كان للفلسفة الكانطيّة الفضل في بلورته. وثمرة ذلك أن اتّكأت التّجارب الشّعرية الحديثة على الأحلام، والجنون، والوجدان، والخرافة، والهذيان، وغير ذلك من المقولات البديلة، التي كانت تُعتبر في ما سبق سلبيّة. يقول فوكو: «منذ نهاية القرن 18 لم تعد حياة اللاّعقل تكشف عن نفسها إلّا من خلال التّجسّد في أعمالٍ كأعمال هولدرلين ونيرفال ونيتشه وأرتو…». (12) فالأدب هو المساحة التي يتسرّب إليها صوت الجنون والهذيان، وينفجر فيها اللاّعقل.
ويؤكّد جون كوهين أنّ أوّل من تكلّم لغة الشّعر الحديث هو رامبو من خلال كتابة الإشراقات التي يمكن حُسبانها كتابةً في البعد الخامس، بموجبها سقطت الحدود والسّدود بين العقل واللّاعقل. (13)
ونحن نحتسب الشّاعرة أمامة الزّاير انطلاقًا من مجموعتها الّتي نوليها الاهتمام، سليلةَ عائلة من المجانين المُتنطّعين مثل رامبو، والماغوط، وأنسي الحاج، وغيرهم. فمُتدبّر قصائدها يقف على حقيقة أنّها نصوصٌ مُرقّطةٌ، مُبقّعةٌ، أي هجرت الصّفاء العقلي، وتصالحت مع نداء الغريزة واللاوعي، فاحتضنت المنبوذ والمحظور والمكبوت، وأعادت إلى هذه المنسيّات والتّرسّبات الحضور والاعتبار، فكانت في الملفوظ الشّعريّ بؤرٌ وجيوبٌ نفسيّة متكاثرة ومتقاطعة، حتّى أنّنا أصبحنا على تخوم الفهم اللّاكاني للكلمة، فهي في مُتصوّره ليست علامةً بل “عقدة دالّة”.
للتّدليل على هذا الطّرح نورد مجموعةً من الشّواهد الدّالّة على شعريّة اللّامعقول:
هذه الأدلّة الشّعرية المثبتة، بمنزلة المطبّات النّفسيّة، التي لا بدّ أن تتعثّر فيها القراءة، بالنّظر إلى كثافتها العالية، وحضورها القويّ. وهي تشكّل حقلًا معجميّا واسعًا، يقع تحت لافتة القصيدة الّتي لا تُفكّر بل تهذي بنبرةٍ جهريّة لا شبهة فيها.
فالكتابة في أفق الرّؤيا الشّيطانية، تتمرأى على السّطح نسيجًا من العلامات أو شبكة متموّجة من العُقد الدّالّة، ولكنّها في حقيقة الأمر، اعتمالٌ غريزيّ متنكّر ومحرّفٌ ومُرمّزٌ. فنكون إزاء كلمات شبيهة بالهيدرا الصّاخبة، وفي حضور متواليات من الزّائح والمائل، إذ إنّ حقيقة الإنسان لم تعد مُختزلة في الإدارة العقليّة، بل باتت رُكامًا من السّقطات، والنُّشار والممنوعات. ولم تكن هذه الصّورة الشّيطانية لتستوي لولا جزّ الرّأس (الرّأس المقطوع: أنسي الحاج) والتّفويت في ملكة التّفكير وتفكيك العقلنة الشّاحبة التي قلّصت الوجود الإنساني واختصرته في الذّات المُفكّرة.
بالإضافة إلى هذه الغزارة الّتي تسم الهويّة الإنسانية، هناك وفرة منوطة بالنّصوص الشّعريّة. وينبغي للقارئ، أن يتحلّى بالصّبر، وهو يلتقي بشعريّة الكيان، بعد أن كان في الحقبة الكلاسيكيّة يتعامل مع شعريّة البيان. يمكن تشبيه النّقلة من البيان إلى الكيان، بانتقال الرّؤية من مجال سماء صافية إلى مدار سحابة متلبّدة داكنةٍ، وهو تشبيه له مسوّغاته، إذ يُنبئنا بارت أنّ النصّ الشّعريّ الحديث في حاجةٍ إلى ظلّه، و«هذا الظّلّ هو قليلٌ من الإيديولوجيا، وقليل من العرض، وقليلٌ من الذّات: وهذه أشباح، وأورامٌ، وآثارٌ، إنّها سحابٌ ضروريّ». (14)
وبذلك عبرت ممرّات أمامة الزّاير بالقارئ من إقليم المعقول إلى أقاليم تحتيّة مُنقطعة عن العقل، حيث القوى العمائيّة، والاختلاط والتّشويش بدلًا من النّظام والوضوح، فتهجّى تعويذةً دفينةً، وفتح أدراجًا وصناديق مختومة، ضربت عليها المؤسسات العقلانيّة والأخلاقويّة سياجًا وحصارًا. من هذه العلب المضغوطة، تسرّح الهذيان، والعته، والخبل، والوسواس…وهي كلّها مكبوتات ومنفيّات جديرة بالحضور، في نصوصٍ شعريّة، مشيمتها مشدودة إلى الظّلام والصّمت.
فهذه الكتابة، ضربٌ من التّفريغ والتّنفيس والتّحرير، لذلك وجب إلقاء النّظرة على ظلال النّصّ، وتدبّر تشقّقات العبارة، وهي كما أسلفنا القول في بداية المقال، لا ينهض بها الشّاعر النّقيّ والسّويّ، بل يتحمّل أعباءها شاعر دمغته الخطيئة، فأضاع الصّواب والتحق بعائلة المرضى والمجانين والملاعين.
لكن هل كتابة الهذيان ممكنة أم مستحيلة؟ وإذا كانت الإجابة إيجابًا: هل نكتبُ الجنون والهذيان واللامعقول بالجملة السّليمة نحويّا ومنطقيّا أم بجملة شعريّة من سُلالة النّقص والبتر؟
هل الرّؤيا الشّيطانية بحثٌ محضٌ عن الامتلاء أم هي كذلك معاينةٌ لعالمٍ تمزّقه المجاعات الرّوحيّة والفراغات والأهوال؟ كيف يمكن أن ينشط المُرعبُ والمُريعُ في شبكة النّصوص؟ وهل النّصوص الشّعرية التي تكتبها أمامة الزّاير تبني المعنى أم تحطّمه؟ وكيف يتلقّى القارئ المعنى المنقوص أو اللّامعنى؟ أليس من مهامّ الشّعرية الحديثة التّشويش على البلاغ عكس الخطابات التّقريرية وضجيج اليومي النّافع؟
إنّنا نتسلّح بهذه الأسئلة، ونتزوّد بها، لتدبّر منطقة فنّية أخرى، تندرج تحت سقف الإشكاليّة الرّئيسة لبحثنا، ونعني بذلك كتابة القبح.
كتابةُ القُبح:
تصدّرت جماليّة القبح اهتمام الفلاسفة والأدباء خلال القرن الثّامن عشر بصفة خاصّة. ويعتبر بودلير من أوائل الشّعراء الذين احتفوا بالقبح، وصمّموا على غزو هذه الأرض البرّية. يقول في هذا الصّدد: «إنّ الشّاعر يوقظ في القبح سحرًا جديدًا». (15)
الشّاعر الحديث لم ينزل من السّماء نبيًّا مُنيرًا مثل علي محمود طه أو غيره من أقطاب المدرسة الرّومنطيقيّة، بل نهض من تحت الأنقاض والخراب ومن بين النّفايات، ليصطدم بمصبّات من العلل والأمراض والأسقام والأوساخ، وليكون شاهدًا على عالمٍ بارحته المُعجزات ومسارب المنجاة وسكنته جرثومة الانحطاط والتعفّن والتّحلّل.
لذلك سيكون التّفكيك والتّحطيم من أسس الأعمال الفنّية، لا سيّما أنّ مهمّة المُخيّلة في هذا الزّمن المُسرطن هي أن «تفكّك Décompose العالم كلّه […]، بمقتضى قوانين تنبعث من أعمق أعماق النّفس». (16)
عملُ التّقبيح والتّقويض والتّشويه يضطلع به شاعرٌ ملعون في جسده وفي روحه، سها عنه المسيحُ المُخلّص، وتفسّخت أمامه سبل الخلاص، وعشّشت في كيانه الخطايا والنّواقص والرّذائل مثلما استوطنت الجسد الأيّوبي صنوف من الاختبارات القاسية. فهو يُخلخل الواقع القائم ويصدّع أعمدته ويرجّ سقفه رجًّا ليخلق بديلا لاواقعيّا متفلّتًا من سطوة الأنظمة والمواضعات والمؤسّسات.
وإذا عطفنا هذه الملاحظات على نصوص “ممرّات سرّية”، فإنّنا نصطدم بمُنجزٍ مُختلط Impur، يحتوي على بقع سوداء وأورامٍ هي ثمرة لغة متشنّجة، بدائيّة، حافظت على وحشيّتها. هذه اللغة هي سجلّات وحقول متماسّة ومتقاطعة من القبيح والبشع والمُنفّر. فأمامة الزّاير تواجه القبح بالقبح، وتقابل الثّأر بالثّأر، وتحقّق الرّابطة الوثقى بين الأدب والبشاعة، حينما تقدّ مُنجزها من معادن رخيصة وقميئة، وتجعل منه مصبًّا للدّناءة وتفريغًا لها عبر الكلمة المضطربة. ناهيك أنّ «الأدب تشفير نهائيّ لأعمق آلامنا ومصائبنا وأخطرها، وتتأتّى من ثمّ سلطته اللّيليّة “الدّجنة العظمى”». (17)
للتّدليل على هذه المعطيات نسوق أهمّ الأمثلة الدّالّة ثمّ يكون لنا فيها نظر:
هذه القرائن النّصيّة تؤكّد ما ألمعنا إليه سابقًا، عندما اعتبرنا الشّاعر الحديث يلتقط المشاهد والصّور وهو يتفحّص الأنقاض والنّفايات وحطام الإنسان. إذ يؤرّخ الصّوت الشّعريّ بطريقته الفنّية المخصوصة للتّدهور والفساد (بالمعنى الفلسفي)، ويرشم الأوجاع والانحدار والانهيار، وترد علينا القصائد مُكلّلةً بالفظاعة والبشاعة، فـ «نحن في زمن السّرطان: نثرًا وشعرًا وكلّ شيء. قصيدة النّثر خليقة هذا الزّمن، حليفته، ومصيره”. (18)
بالإضافة إلى ما وقّعنا، يمكننا أن نتدبّر خطوط الرّؤيا الشّيطانيّة الفاتحة لعصر للسّقوط في الحضيض واستنبات الفجيعة والشّقاء، انطلاقا من الأمثلة الشّعرية أو المشاهد المأسويّة الّتي أدرجناها في الجدول السّابق.
فلئن كان جبران خليل جبران، على سبيل الذّكر، يكتب بدماء القلب، وهي دماء طاهرة وزكيّة. ولئن عُدّ القلب في المُتصوّر الرّومنطيقيّ سراجًا يستضيء به الشّاعر، ومركزًا مُلهمًا، ومضخّةً للمحبّة والخير والجمال، فإنّ الأمر يختلف اختلافًا عميقًا مع شعراء قصيدة النّثر عامّة، ومع الصّوت الشّعريّ التّونسي أمامة الزّاير بصفة خاصّة. إذ تواجهنا بعض العلامات (طمثها/ جثّته/ القلب ليمونة فاسدة) التي تكشف عن أنّ الشّاعر الرّجيم تدبّ في شرايينه دماء ملوّثة، ولعلّها متعفّنة ومتخثّرة. وهي تصاريف من المياه الدّاكنة والدّماء التّي تقترن بتأنيث الخطيئة الأولى، وبحركة سقوط الإنسان من الجنّة على وجه العموم. ينضاف إلى ذلك استدعاء الأبعاد اللّحميّة المعقودة على الشّرور، والمُؤوّلة في الأنثربولوجيا الرّمزية حركةً كارثيّةً مُتّجهة من الأعلى إلى الأسفل، فـ«السّقوط يتمركز رمزيّا في اللّحم: سواء اللّحم المأكول أو اللّحم الجنسيّ» (19).
قصّة الهبوط إلى الهاوية هذه، (البطن/ الفم/ الفرج/ الشّرج: بدائل للهاوية في تمثّلاتها الأخلاقويّة على وجه الخصوص)، وسكنى أطر الخسّة والوضاعة والبشاعة، يعزّزها قلبٌ شابه العطبُ والشّحوب، فأخلّ بمهامّه المقدّسة وأنتج خطابًا شعريّا نازفًا ومارقًا، يغزو النّظم القائمة، ويمزّق شريعة الانسجام والألفة.
علاوةً على ما أنف ذكره، الكتابة الشّعرية من خلال بعض الدّوالّ/ العُقد الّتي أثبتنا لا تُبشّر بالخصب والعطاء والنّماء، بل تقتفي أثر الجدب والخراب والعقم واليباب، وكأنّنا بالتّجربة الشّعرية تصدرُ عن عينيْ ميدوزا Medusa، صاحبة النّظرة المُروّعة الّتي تحوّل الموجودات والكائنات مسوخًا وأعمدةً من الملح. هذا العقمُ يحضر بصورة مُواربةٍ ومُخاتلة، عبر بعض العلامات الفنّية التي تشتغل معانيها بالإحالة المستمرّة، وعلى القارئ أن يُسهم في ترميم المعاني لأنها متشظّية وغير مروّضة.
فعبارة “مفقوء العينين” تحيل حرفيّا على فقدان البصر وعمى الرّؤيا وتضييع البوصلة، وإذا تقدّمنا قليلا بمُستطاعنا ربط البصر بالبصيرة وبناء الجسور بين عطب الحاسّة وسيمياء الإعتام والإظلام. لكن السّيرورة الإحالية تظلّ في اشتغالٍ، فالدّالُ اللّسانيّ بمنزلة العدسة المٌقعّرة الّتي تترسّب في قاعها قصّة رمزيّة، ونعني بذلك أوديب الذي سمل عينيه بعد أن انتبه إلى أنّه تزوّج أمّه، وسملُ العينيْن ضربٌ من الإخصاء الذي سلّطه البطل التّراجيدي على نفسه الواحلة في الخطيئة.
الأمر ذاته يمكن أن ينطبق على الجملة الشّعرية “هذه خطواتي بركٌ راكدة”، فالذّات الشّاعرة فقدت القدرة على المشي بخفّةٍ، والانطلاق بسرعة، مثل زرادشت نيتشه الذي كانت معركته المشي، وزاده الحكمة الهازئة والضحكة المدويّة. فقدانُ المشي، الذي يعادل الثّقل والجاذبيّة إلى الأديم والرّغام، يستدعي إلى ذهننا صورة الشّاعر الكسيح (بدر شاكر السياب في مرحلة مرضه) الذي تتبدّل أحواله ومنازله من الإقامة العمودية إلى الزّحف الأفقي، وهذا مُنتهى الإذلال والإخصاء، إذ إنّ الشّعر في وجه من وجوهه قضيّة أقدامٍ.
يحلّ الدّالّ الجسدي في القصيدة متحلّلًا ومشوّهًا ومقطّعًا (جثّة/ مفقوء العينين/ مجدوع الأنف/ أصابع متقرّحة) وهذه عتبة من عتبات التّقبيح وتغريب العالم وإنتاج الفظيع والمُرعب منوطة بالصّور الكابوسيّة السّورياليّة الّتي تفتح خطّ الرّعب، ولكأنّ جسد القصيدة شاشة نتهجّى فيها تزعزع الكيان وتشظّي الذّات وحقارة المنزلة ورثاثة الإنسان.
وتشترك العلامات الشّمّية أو القريبة منها في إرسال أحاسيس الاشمئزاز والتّقزّز الرّاتبة عن الرّوائح الكريهة الّتي تلطم الأنوف وتخترقها دون إذن، وفي تعميق الشّعور بالمهواة وسوءات اللّحم البشريّ. فيكتب باشلار: «كلمة “نتن” هي محاكاة صوتيّة خرساء للاشمئزاز». (20)
ولنا في دوالّ (أبخر/ البول/ المراحيض/ طمثها/ المخيط) البرهان على هذه المحاكاة الخرساء للقرف، فهي مشدودة إلى إفرازات جسديّة موشومة بالنّتونة أو فضاءات حاضنة للصّرف الجسديّ/ اللّحميّ الكريه.
إذا كان الشّعراء في منظور هيدغير هم مؤسّسو الوجود والماسكون بأثر المُقدّس، فإنّ شاعرتنا في مجموعتها هذه تمسك بأثر المُدنّس والمُترذّل والمتسفّل ولنا في هذه القرائن الدّليل الأبرز (طمثها/ عاهرة/ أثر الجماع/ المبغى/ بول/ مواخير/المراحيض). هذه الدّوالّ سفّلت الإنسان وأدمجته في طينيّته، وكشفت عن حيوانيّته الشّرهة، خاصّة في ظلّ نظام رأسمالي متوحّش فوّت في الإنساني وأمعن في تسليعه وتشييئه.
فهذه الكتابة وفق المعطيات التي سُقنا لا تشكّل هوية للإنسان متميّزة ومكتملة ومتماسكة، ذلك أنّ الأدب الذي يُبئّر على القطاعات الهشّة والهامشيّة وعلى التّيمات المجهريّة المسكوت عنها، لن يُسهم إلّا في بنْينة «هويّات مُضاعفة ومُرتجّة وغير متجانسة وممسوخة ومُبدّلة ودنيئة» (21). إنّه تجلّي “الرّجال الجوف” والإنسان الفاقد الملامح والخصائص التّكوينيّة والتّمييزية، الذي مسخه الاستلابُ وأفرغه من القيمة والمعنى، ونشره في مدن الحديد والكبريت، وفي محارق الصّخب والضّجر، مُجرّدًا من الأبعاد والأعماق.
تأسيسًا على سابق الملاحظات، نذهب إلى أنّ قصيدة النثر التونسية من خلال “ممرّات سرّية” استقرّت معادلةً “لكتالوج” نتصفّح من خلاله صورًا العمدة فيها التّنابذ والتّنافر، وانزاحت عن الملاءمة الإسنادية المُنتجة للخطابات العقلانيّة، فولّدت في القراءة الحيرة، التي تبلغ مرتبة الإرباك والتّشويش. إنّها قصيدة سورياليّة، بكلّ دلالاتها وبنياتها وتخلّقاتها التي وقفنا عندها في محطّات مختلفة من البحث، وربّما تجد لها دعامات أخرى عندما نفحص طبيعة الكلمة الشّعرية من جهة النّحوية والعلاقة بين مكوّنات الجملة الشّعرية، ومراسم الكتابة الجديدة التي تُزاوج بين اللّسانيّ والطّباعي، وتشكيل الفراغات والثّقوب وتهوية النّصوص، بدلًا من الصّياغات المتلاحمة والمتراصّة…كلّ هذه الإشارات نحاول أن ندقّق فيها أثناء تدارس كتابة الفراغ.
كتابة الفراغ:
لئن كانت الشّعريّة الكلاسيكيّة تقوم على المعاني التّامّة والدّلالات النّهائيّة والكلمات الممتلئة والمثقلة، فإنّ هذا الوضع سيأخذ في التّغيّر شيئًا فشيئًا، مع الرّومنطيقية الّتي فتحت طريق المُتناقضات وفائض المعنى والقصور الإدراكي وسوء الفهم…وكلّ هذه الصّعوبات التي تحول دون أن يقول الشّاعر المعنى تامًا أفضت إلى ما يُعرف بشعرية ما لا ينقال L’indicible، وكتابة الصّمت والخرس.
ثمّ تطوّر الأمر كثيرًا مع قصيدة التّفعيلة وقصيدة النّثر، وأضحى الخطاب الشّعريّ رقعة يسري فيها التّدمير، ويسكنها الفراغ والغياب. بل ليس من سبيل إلى مقاربة المُنجز الشّعري الحديث دون مُراعاة هذا المُعطى وأبعاده واستتباعاته. إذ «تتكوّن القصيدة من الكلمة المكتوبة والكلمة الممحوّة ويتكوّن الرّمز من الموضوع والفكرة، من الحضور والغياب». (22)
هذا البياض ليس زائدًا عن الحاجة وإنّما يخلق ثقوبًا ومناطق صمتٍ هي ركنٌ رئيسٌ من أركان القراءة المُشاركة والمُساهمة. إنّها قراءة تُجنّد الحواسّ المُتعدّدة من أجل حيازة النّوى النّصّية وجبرِ الكسور والشّظايا المعنويّة المتلاطمة.
لكن هذه الخانات الفارغة التي تخترق النّصوص تمنح الجمل الشّعرية وعناصرها التّكوينية (الكلمات والرّوابط) وضعيّةً جديدة، فالرّسالة الشّعرية تُشوّش على الإبلاغ وتعطّل في أحايين كثيرة التّواصل. وبتعبيرة أخرى «جملُ الأريكة هي الجملُ اليوميّة التّي تلتمس شفافيّة ملائمة للتّبادل، أمّا جملُ المكتب فهي تحملُ في ذاتها مبتغاها الخاصّ» (23).
فالشّعر الحديث يذهب بعيدًا في تخريب العالم وتقبيح الأشياء والموجودات، وهو إلى ذلك يُدمّر الرّوابط اللّغوية ويهدم العلائقيّ والمُسترسل ليقترح على جمهور القرّاء شعريّة الانقطاع والمُنعزل والمٌنفصل، وبالتّبعيّة يجد القارئ نفسه يتحرّك بين محطّات من الكلمات هي بمنزلة الجزر المنقطعة عن بعضها البعض، ولا يقع تمثّل العالم والطّبيعة والموجودات إلّا على هيئة كتلٍ متنائية، وهذا أمرٌ باعثُ على القلق والفزع والحيرة.
والسّؤال المُتناسلُ هو الآتي: كيف يتشكّلُ ويتبنينُ الفراغ في مجموعة “ممرّات سرّية”؟ هل نقرأه في العلامة اللّسانية أم تحقّقه العلامات الطّباعيّة؟ ما الوظائف التي يمكن أن نعلّقها على كتابة الفراغ في صلةٍ بالحداثة عامّة وبالخطاب ثمّ بالقارئ على وجه الخصوص؟ ما وضعيّة الكلمة في خطاب شعريّ مُدمّرٍ؟ أليس تشظّي الممارسة الجماليّة علّة من علل انحسار رقعة القراءة؟
نتخيّر المعاينة النصّية، حتّى تؤانسنا الدّلائل الشّعرية وتكون لنا سندًا وحجّةً في هذا المستوى من البحث:
عطفًا على هذه الممارسات النّصّية الدّالّة في ما يتّصل بصوغ الفراغ وبنْينته، نحاول تثبيت بعض الملاحظات الّتي نراها مهمّة:
البياض في مُنجز أمامة الزّاير يعتبر عنصرًا تكوينيّا رئيسًا من عناصره، ولقد فقد الخطاب الشّعري التحامه وتماسك وحداته الدّلاليّة، وعلى العكس من ذلك لبس لبوس التّفكّك والتّناثر والتّبعثر. «فالتّماسك الدّلاليّ للوحدات، الّذي تؤمّنه عادةً المجاورة المكانيّة مفقودة هنا، وربّما بدون رجعة» (24).
ولعلّ لا عقلانيّة الممارسة الشّعرية تجد بعض تجلّيها في تشظيتها إلى قصاصات ومِزقٍ متعدّدة الألوان، لا رابط بينها ولا جامع منطقيّ، وكأنها تُجسّد لا عقلانية الحياة المدينيّة المترهّلة والمتوحّشة.
الطّابع الانفجاريّ للجملة الشّعرية يدشّن خطابًا ميسمه التّشتيت والنّهب والتّمزيق. هذا الخطاب يدمّر العلائق والرّوابط ويشفّ عن لا إنسانيّة الخطاب الشّعريّ الحديث المُروّع، «أيْ أنّه لا يربط الإنسان مع بقيّة البشر بل يربطه مع الصّور الأقلّ إنسانيّة في الطّبيعة…» (25).
فبدلًا من الإشباع والامتلاء، نلحظ أنّ القصيدة تتأكّلها الثّقوب والثّغرات، ما يعني أنّ مجاعةً روحيّة حالّة، ومسغبة وجوديّة قائمة. إنّها صورة الكائن الإنساني الّذي لازمه الخواء والتّجويف، فأصبح في حالة من التّشرّد واليتم والاغتراب في صحراء الوجود، مُضيّعًا الوحدة الأولى، ومفوّتًا في المركز وامتلاء الكيان.
وبذلك تتدعّم لا إنسانيّة الجميل الشّعريّ الحديث من خلال التّلازم بين جوع الكلمة والاحتفاء بالفراغات وإنتاج المُريع. يقول بارت: «إنّ جوع الكلمة هذا الّذي يشملُ الشّعر الحديث كلّه، يجعل من الكلام الشّعريّ كلامًا مُريعًا وغير إنسانيّ. إنّه يؤسّس خطابًا حافلًا بالثّغرات والأنوار، مملوءًا بالغياب […] وهو بذلك يعارض الوظيفة الاجتماعيّة للّغة» (26).
إنّ شعريّة المُتناثر والمُبعثر راشحة في بعض وجوهها عن إسقاط وظيفيّة الرّوابط وجعل المرور من الكلمة إلى الّتي تليها مستعصيًا، إذ تنطفئ الكلمة بمجرّد أن تتماسّ مع لاحقتها. لكنّها ناجمة أيضًا عن إحلال العلامات الطّباعيّة في محلّ العلامات اللّغويّة. لأنّ الفراغ تخريب للجملة الشّعرية الأفقيّة وتثمين للكلمة في تجلّيها العموديّ. وهذه وضعيّة خليقة بالدّرس والنّظر، إذ «إنّ الكلمة مثل كتل الصّخر أو العمود الّذي يغوص في كلّية المعنى والاستجابات والاسترجاعات: إنّها علامة مشدودة القامة» (27).
هذا الخطاب الشّعريّ المنذور للانقطاع والنّقص والبعثرة يؤدّي بنا إلى مغادرة الأثر الأدبي المتأسّس على قانون الحتميّة، والدّخول في منطقة النصّ النّسبيّ والاحتماليّ. وبمعنى أدقّ، تفتح القصيدة المُشبعة بمواطن الصّمت والسّكوت عهد التّدلال ولا نهائيّة المعنى، وتُشرّع لقيامة القراءة اللّاعبة، وهي مطلبٌ عزيز المنال.
الفراغات والخانات الشّاغرة Les cases vides تجعل الأدب نشاطًا لعبيّا يُشارك فيه المُتلقّي برتق الشّقوق التي تخترق الأنسجة النّصّية، وبمطاردة الدّوالّ العائمة، وبجمع المُتمزّق والمُتناثر في شكل هباءات متناهية الصّغير، حمّالة دلالات والتواءات معنويّة، على رُتبةٍ من الخطورة والكبر.
الخاتمة
خُلاصة القول، إنّ الرّؤيا الشّيطانية العمدة فيها البوليفونية وبلبلة الألسن، واستعادة القطاعات الهامشيّة اللّا مفكّر فيها لتستوي مادّة الخطاب الشّعريّ الحديث، والمصالحة مع الذّات والواقع والأشياء بكلّ حمولاتها المُبتذلة والمُتوحّشة والمُسفّلة، وتجاوز الدّالّ الوصيّ Signifiant Maître (دوالّ الأخلاق والأعراف والمؤسّسات والسّلط).
في هذا المضمار أبانت المجموعة الشّعرية “ممرّات سرّية”، عن هوية أصيلة في مستوى الرّؤيا التي تجسّد أفق التّجربة الشّعرية، وفي نطاق الممارسة النصّية وتشكّلاتها المخصوصة.
فتصميم العنوان، وكتابة الهذيان، وتسنين القبح، وتشكيل الفراغ، تكشف في مجموعها عن أنّ الكتابة الشّعرية في منظور المُبدعة، استوت مصهرةً تذوب في أتونها تجربة الإنسان وترميمات الفنّان دون فصل الفنّ عن المعيش اليوميّ والحياة المترعة تشنّجاتٍ ومخازيَ وآلاماً وسوادًا وأفراحًا.
ولا نذهب مذهب القارئ “النّيوتنيّ” في ما انتهينا إليه، وإنّما نعتقد أنّ هذا البحث هو احتمالٌ يرتكز على مفاتيح معيّنة، في مقاربة الخطاب الشعري التّونسيّ ممثّلًا في “ممرّات سرّية”، ولا يدّعي الغوص على المعاني، والقبض على الحقائق، بقدر ما يؤمن بلا نهائيّة الدّلالات في مجرّة العلامات المُتموّجة باستمرارٍ.
الهوامش
1. للتّوسّع: اُنظر، محرز راشدي، «الخطاطة العمودية النّاظمة لأبنية الخيال الشّعري»، مجلّة عالم الفكر، العدد 181، يناير ـ مارس 2020.
2. رولان بارط: درس السّيميولوجيا، ت. عبد السّلام بنعبد العالي، دار توبقال للنّشر، ط. 3، 1993، ص. 63.
3. أمامة الزّاير، ممرّات سرّية، رسلان للطّباعة والنّشر، ط. 1، تونس، 2017.
4. سيغموند فرويد، إبليس في التّحليل النّفسيّ، ت. جورج طرابيشي، دار الطّليعة للطّباعة والنّشر، بيروت ـ لبنان، ط. 2، ص. 6.
5. Georges Gusdorf, L›homme romantique, Paris, Payot et Rivages, 1993, p. 23.
6. للتّوسّع في فكرة التّرميق أو التّرميم، يمكن العودة إلى: ناتالي غروس، مدخل إلى التّناصّ، ت. عبد الحميد بورايو، دار نينوى للدّراسات والنّشر والتّوزيع، 2012، ص. 206.
7. جان بيلمان نويل: التّحليل النّفسيّ والأدب، ت. حسن المودن، المشروع القوميّ للتّرجمة، 1997، ص. 7.
8. نظريّة الشّعر: مرحلة مجلّة شعر، القسم الثّاني، تحرير وتقديم: محمّد كامل الخطيب، منشورات وزارة الثّقافة، دمشق، 1996، ص. 762.
9. ديفيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة، ت. محمّد شيّا، المنظّمة العربيّة للتّرجمة، ط. 1، 2005، ص. 24.
10. المرجع نفسه، ص. 33.
11. Georges Gusdorf: L›homme romantique, p. 136.
12. ميشيل فوكو: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ت. وتقديم: سعيد بنكراد، المركز الثّقافي العربي، الدّار البيضاء ـ المغرب، ط. 1، 2006، ص. 514.
13. انظر: جون كوهين، بنية اللّغة الشّعرية، ت. محمّد الوليّ ومحمّد العمري، دار توبقال للنّشر، ط. 1، 1986، ص. 164.
14. رولان بارت، لذّة النّصّ، ت. منذر عيّاشي، مركز الإنماء الحضاري، ط.1، 1992، ص. 64.
15. عبد الغفّار مكاوي، ثورة الشّعر الحديث، من بودلير إلى العصر الحاضر، ج. 1، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1972، ص. 73.
16. المرجع نفسه، ص. 97.
17. جوليا كريستيفا، «سلطات البشاعة»، ت. نعمان عزيز، مجلّة الخطاب، كلّية الآداب واللّغات، عدد 7، 2010، ص. 264.
18. نظريّة الشّعر: مرحلة مجلّة شعر، ص. 763.
19. جيلبير دوران، الأنتروبولوجيا، رموزها، أساطيرها، أنساقها، ت. مصباح الصّمد، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، ط. 3، 2006، ص. 92.
20. المرجع نفسه، ص. 93.
21. جوليا كريستيفا، «سلطات البشاعة»، ص. 263.
22. مالكم برادبري وجيمس ماكفارلن، الحداثة: 1890 ـ 1930، ت. مؤيّد حسن فوزي، مركز الإنماء الحضاري، 1995، ص.231.
23. جان بيلمان نويل: التّحلي النّفسيّ والأدب، ص. ص. 55 ـ 56.
24. جون كوهين، بنية اللّغة الشّعريّة، ص. 98.
25. رولان بارت، الكتابة في درجة الصّفر، ت. محمّد نديم خشفة، مركز الإنماء الحضاري، ط. 1، 2002، ص. 67.
26. المرجع نفسه، ص. 65.
27. المرجع نفسه، ص. 63.