محمد شاهين
منذ ظهور الاستشراق عام 1978، وهو يشكل مصدر جذب يغلب فيه المدّ على الجزر. وهو إلى يومنا هذا يحظى باهتمام الباحثين في شتى أنحاء المعمورة؛ إذ إنه يخاطب مختلف الثقافات والأعراق ويجمع شتى أنواع المعرفة التي تتداخل وتتقاطع لتؤول بنا إلى خطاب كونيّ حطَّ على خارطة العالم يحمل بوصلة تهدي سواء السبيل.
أول تواصل لي مع الاستشراق كان صيف 1983، عندما حظيت بلقاء إدوَرْد. كانت الثانية عشرة ظهراً حسب الموعد عندما دلفت إلى مكتبه. كان من الطبيعي أن ينتابني شعور بالرهبة وقد وجدت نفسي وجهاً لوجه مع رجل كانت شهرته تملأ الآفاق بعد خمس سنوات من ظهور الاستشراق. بعد التحية، بادرت بقول ما استذكرته من ريموند وليمز، صديق إدوَرْد الحميم وأستاذي بالجامعة، وكان قد طلب مني في آخر لقاء معه أن أبلغ إدوَرْد السلام. على الفور تناول إدوَرْد نسخة من كتاب ريموند وليمز: الثقافة والمجتمع، طبعة جديدة كانت قد صدرت للتو من دار النشر بجامعة كولومبيا (ولا بدّ أن إدوَرْد كان قد سعى لإصدارها). وقد عثرت لاحقاً على رسالة في طيّات الكتاب من مدير النشر تطلب من إدوَرْد ولو سطراً واحداً يتضمن مراجعة للكتاب. تناول كتاباً آخر لأستاذ عزيز عليه وهو بلاكمير وقدمه إليّ. آخر الهبات نسخة من الاستشراق. سألني بداية عمّا إذا كنت أقتني الكتاب، أجبته بأنني أرحب بنسخة موقعة. وشّحها بالعبارة الآتية: كتاب مثير للمشاكل (a trouble-making book).
توجهنا بعد استراحة قصيرة في مكتبه إلى مطعم يوناني في حدود الحرم الجامعي. تصدرت ترجمة الاستشراق حديثنا حول مواضيع كثيرة تبادلناها في تلك الجلسة. ذكر إدوَرْد أن الاستشراق ترجم إلى ثلاث عشرة لغة وأن الترجمة العربية أسوأ تلك الترجمات. كما أنني أتحفظ على إعادة اللغة القاسية التي نعت بها الترجمة. ظل هذا التقييم لترجمة الاستشراق من صاحب الاستشراق يؤرقني ردحاً من الزمن إلى أن التقيت بإحسان عباس بعد عقد ونيف من الزمن لأعلم منه شيئاً عن سيرة ومسيرة ترجمة الاستشراق لأعلم منه عن جانب آخر من القصة، التي سأرويها في مناسبة لاحقة.
ظهرت ترجمة كمال أبو ديب واستقبلت بانتقادات لاذعة؛ إذ إنها بشكل عام تفتقد الحد الأدنى من السلاسة التي تجعلها مفهومة عند القارئ العادي، بل وغير العادي، وذلك بسبب النقص اللغوي والحذلقة الأسلوبية التي سيطرت على النص العربي. وكم من قارئ سمعته يقول إن ضعفه في اللغة الإنجليزية يؤهله لقراءة أفضل للنص الإنجليزي بدلاً عن النص المترجم إلى العربية.
ليس في نيّتي أن أخوض في تفاصيل الترجمة كي لا يبدو الأمر تجريحاً أكثر منه نقداً. ولكن يمكن القول إن الانطباع العام الذي يخرج منه القارئ عند قراءة ترجمة كمال أبو ديب هو أن المترجم كان يستعرض أسلوبه الخاص به في الكتابة عن البنيوية التي كان مهتمًّا بها في سبعينيات القرن الماضي، ومفاده تقديم كليشيهات لغوية جهد في نحتها لتثبت وجودها كلغة جديدة تخرج عن اللغة المألوفة، والنتيجة أنها مفرغة من المعنى الذي تفرضه عادة التقاليد اللغوية كعقد اجتماعي. ولمزيد من الإيضاح، يمكننا مقارنة الأسلوب الذي اتبعه كمال أبو ديب في المساهمات التي نشرتها مجلة مواقف بأسلوبه في الاستشراق لتبين كيف أن كمال أبو ديب اتخذ من الاستشراق تجربة ميدانية في البنيوية التي نصّب نفسه مبشراً لها في العالم العربي!
ظلّت ترجمة كمال أبو ديب سيدة الموقف على مدى عقدين؛ إذ إن انتشارها ازداد بازدياد شهرة الكتاب وصاحبه في شتى أنحاء المعمورة، مما شجع بعض المحترفين في الكسب المادي على السطو على ترجمته من خلال الإقبال عليه كسلعة تجارية، بكل أسف.
هنالك ناشر متواضع على سبيل المثال دفع بالكتاب إلى مترجم شغل منصب أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة. التقيت بالناشر بعد أن قدم لي نسخة من الترجمة، وعتبت عليه أولاً في القيام بالمشروع دون الوصول إلى حقوق الملكية، لا من ورثة إدوَرْد سعيد ولا من ناشر ترجمة كمال أبو ديب. وأكثر من ذلك أنني أخبرته أن الترجمة، رغم أنها تتفوق على ترجمة كمال أبو ديب في مجملها، لا تخلو من أخطاء جسيمة، خصوصاً ما جاء في تقديم المترجم الذي اشتقه من تقديم النسخة الإنجليزية (سآتي بالتفصيل على ذلك لاحقاً).
أجابني الناشر بكل بساطة أن تسويق الكتاب لا يعتمد على مثل قراءاتي للترجمة. ورغم كل ما في هذه الإجابة من سذاجة، فإنها، بكل أسف، تنطق بلسان الواقع، وكأن الاستشراق المترجم إلى العربيّة أضحى ديكوراً يدخل بيت من يقتنيه من خلال الشهرة التي يتمتع بها الكتاب أصلاً.
وقبل بضع سنوات، ظهرت ترجمة لكتاب الاستشراق عن دار المدى بدمشق تكاد تكون أسوأ الترجمات، ليس فقط لأنها لم تحصل على حقوق الملكية التي تخص نشر الكتاب، بل أيضاً لأن المترجم نذير جزماتي ينقل حرفياً ما لا يقل عن 90% من ترجمة كمال أبو ديب.
***
ظلت قضية الترجمة تشكّل عبئاً على مريم سعيد بعد رحيل زوجها، ليس فقط بسبب الترجمات المسيئة التي ظهرت في القاهرة ودمشق؛ بل أيضاً لأنّ حقوق إعادة نشر ترجمة جديدة بقيت منوطة بدار النشر التي نشرت ترجمة كمال أبو ديب. استمرت مريم سعيد عبر السنوات الماضية تفاوض دار النشر المذكورة إلى أن حصلت على حقوق نشر ترجمة جديدة لـ الاستشراق من تلك الدار، وبذلك أصبحت حقوق النشر كاملة بيد الورثة ممثَّلين في مريم سعيد. وقد تشرفْتُ بتكليفي بمتابعة المشروع. وكانت سعادتي غامرة عندما وافق محمد عصفور، بالقيام بمهمة الترجمة؛ إذ أُعطيت القوس لباريها كما يقال. ويعلم الله المعاناة التي مرّ بها الصديق في العامين المنصرمين ليخرج علينا بترجمة تستحقّ الثناء لأسباب عدة، أولها أنّها تصحّح المسار الذي مرت به ترجمة السلف؛ إذ إنها تقدم لنا الاستشراق في أبهى حلله. وثانيها أن ترجمة محمد عصفور تشكل مرجعاً مهمًّا للباحثين، ليس فقط في قضايا الترجمة (أقصد هنا مقاربات الترجمات المختلفة)، بل إنها أيضاً تثري المكتبة العربية بترجمة تُعين الباحثين في شؤون الاستشراق، خصوصاً ممن لا يتيّسر لديهم الإلمام باللغة الإنكليزية.
وإنه لمن قبيل الإنصاف ألا نضع اللوم جله على المترجم حتى لو جاءت الترجمة معطوبة بشكل أو بآخر (يضاف إلى ذلك التزوير، طبعاً)؛ بمعنى أن النص المعقد والبنية اللغوية المحكمة التي كتب بها الاستشراق تشكل عائقاً أساسياً في عملية الترجمة لا يستطيع المترجم، أي مترجم، الفرار منه.
أقبل إدوَرْد سعيد على كتابة الاستشراق كما هو معروف بعد أن تسلح بشتى أنواع المعرفة المتمثلة في أساطين الخطاب المعرفي من فوكو إلى دريدا مروراً بنيتشه وهيجل، وبعد أن أعد نفسه في منظومتي النقد والنظرية الحديثة، وبعد أن أنجز عملاً ثقافياً ضخماً هو بدايات الذي أثرى الاستشراق لاحقاً بأسلوبه ومقاصده، وبعد سيطرة سابقة على عملية الكتابة، ومن ثم القراءة التي يشير إليها إدوَرْد سعيد بنفسه بعبارة “الاستيعاب وإعادة الاستيعاب”.
يقول إدوَرْد سعيد إن اللغة تفرض نفسها علينا. بالمثل يمكن القول إن الرد على استشراق المستشرقين فرض نفسه على إدوَرْد سعيد. وبعبارة إدوَرْد سعيد التي شاعت بين أصدقائه المناصرين واتخذوها عنواناً لكتاباتهم: اكتب ردك على ما كتبوا عنك (write back). فإذا كان الاستعمار حسب مقولة كبلنغ وأمثاله عبئاً فرضه الله على الرجل الأبيض في تعامله مع الآخر، فالردّ يصبح عبء الآخر بديلاً للصمت وقبول الأمر الواقع الذي يقرّره الرجل الأبيض ضمن اعتقاده وأطروحته. ويمكننا القول دون إحراج إن الاستشراق قد تم ضمن توجه النظريّات الحديثة في الكتابة ومفاده أن الخلف يعيد كتابة السلف (بعيداً عن المحاكاة المباشرة)؛ بمعنى أن الخلف يسعى إلى البحث عن أشكال وأساليب (models & styles) جديدة ومتباينة ومتكافئة من خلال فعلٍ يردّ به الخلفُ على ما كتبه السّلف. وهذا يعني أن عملية الردّ لا تنطلق من فراغ. ومهما يكن الأمر، فكتابة الخلف لكتابة السلف تواجه مشاكل جمّة، أبرزها الأخذ في الاعتبار السياق الذي تمت فيه كتابة السلف، والسياق الذي تتم فيه كتابة الخلف، والتقاطع بينهما للتعرف على الموقع الجديد لنوع الكتابة المركبة الذي ينتج عن هذا التقاطع.
تتطلب أي قراءة منصفة للاستشراق استيعاب السياق التي تمت فيه الدراسات الشرقية وإعادة استيعابه فعلاً كتابياً لما يحتاجه الرد للتعبير عن أطروحة مناهضة لأطروحة الرجل الأبيض المذكورة لتكون في النهاية رداً على خطاب الاستشراق الأحاديّ الجانب.
ينسحب هذا بالطبع على الترجمة المنصفة التي هي في واقع الأمر فعلٌ كتابيٌّ؛ بمعنى أن المترجم الكفء الخلف يكتب إلى حدٍّ قريب كتابة الكفء السلف. ومن يقرأ ترجمة الاستشراق، يدرك أن محمد عصفور التقط بحساسيته الشعرية (فهو شاعر قبل أن يكون أكاديمياً) روح السياق ونصه وأفلح في كتابتها ترجمة مثل ما استشعر هموم الاستشراق التي حملها صاحب الاستشراق في حياته ومماته. بهذا أصبح محمد عصفور معيناً أميناً في استكمال عملية الرد المذكورة.
***
الاستشراق ما زال بحاجة ماسّة إلى المزيد من القراءة والاستيعاب ومراجعة الخطاب المعقّد الذي أنتجه مؤلف الاستشراق من خلال مشروعٍ جادٍّ خصص له جزءاً كبيراً من مسيرته الأكاديمية وغير الأكاديمية ليكشف لنا عن العلاقة الشائكة بين الشرق والغرب التي تخضع لمكونات معرفية لا حصر لها. استطاع إدوَرْد سعيد أن يلم شمل هذه المكونات المعرفية من تاريخ وسياسة وأدب وأنثروبولوجيا ودين وما إلى ذلك من خلال رصد مضن ذكي لما بين هذه المعارف من تقاطع وتداخل لا يمكن أن يفيه حقه الإلمام باختصاص معين على حدة، كما سيتضح لاحقاً.
ولا أحد ينكر ما أحرزه الاستشراق منذ ظهوره عام 1978 من تقدير وإعجاب جعلا الكتاب يتبوأ مكانة رفيعة، وجعلاه مصدر إلهام لدراسات لاحقة في شتى أرجاء العالم. ولست هنا معنيّاً بإبراز ما حققه الكتاب من إنجاز تنويري تشهد له الأبحاث والدراسات الجادة التي ما زالت تقدم الكتاب على أنه خطابٌ متميّز في المواجهة بين شرق عربيّ وغرب أوروبي تداخلت العلاقة بينهما سياسياً وثقافيًّا وحضاريًّا لدرجة أنها أضحت في حاجة إلى المزيد من الفكر التنويري الذي يؤدي إلى فهم هذه العلاقة.
ما أود القيام به هنا أقل شأناً من شأن الكتاب وموقعه المتميّز في العالم الأكاديمي وخارجه؛ ألا وهو ما يواجهه الكتاب أحياناً من رؤية تحاول أن تخرج به، ربما عن قصد أو غير قصد، عن مساره الذي استقام فيه منذ عقود من الزمن. وأود أن أؤكد أن ما يعترض هذه المسيرة في العالم العربي هو الترجمة إلى العربيّة التي غالباً ما تكون الوسيلة المتوفرة لدى الباحث العربي أو القارئ العربي بشكل عام للوصول إلى الكتاب. وهنا يكمن بيت القصيد، وهو قضية التّرجمة وملابساتها. والمعروف أن التّرجمة العربيّة التي ظهرت عام 1981 التي قام بها كمال أبو ديب أثارت العديد من الأسئلة حول قدرة النص المترجم إلى العربيّة على توفير درجة معقولة من الاستيعاب.
وقد ذكرت في أكثر من مناسبة أن هذه الترجمة تستحقّ الاستذكار في جميع الأحوال ومهما اعتراها من نقص؛ لأنها ساعدت على انتشار الكتاب بالعربية، على الأقل. ومن قبيل المفارقة أن الترجمتين اللاحقتين أثارتا تساؤلات ربما لا تقل عن تلك التساؤلات حول الترجمة الأولى، إن لم تكن أوسع منها في تنوّعها.
والجدير بالذكر أن ترجمات الكتاب إلى العربية تمهّد السبيل إلى اجتهادات نقديّة مشتقّة من تلك التّرجمات، والنتيجة هي المزيد من سوء الاستيعاب للأصل المترجم. وهذا ما يجعل الكتاب بحاجة ملحّة إلى ترجمة يمكن أن تنقل الأصل بشكلٍ يكبحُ جماحَ قراءة لا تخلو من تشويه الأصل أو تخفف، نوعاً ما، من سوء فهمه باللغتين: الإنكليزية التي كتب بها، والعربية التي ترجم إليها. ولتوضيح هذا الأمر، نستذكر هنا النسخة العربيّة من الاستشراق التي صدرت عن دار نشر رؤية، وقدم لها المترجم محمد عناني؛ إذ قام لطيف القصاب بكتابة مقالة ظهرت في مجلة دراسات استشراقية (العدد 17، شتاء 2019)، اعتمدت اعتماداً رئيسًا على قراءة مغلوطة لمقدمة إدوَرْد سعيد التي ترجمها كمال أبو ديب. وهذا ما يقوله القصاب:
“قراءة كتاب الاستشراق لإدوَرْد سعيد تعطي استنتاجاً تدريجياً بأن الكتاب يمثّل خطاباً فكرياً بليغاً أكثر منه نصاً مكتوباً بروح علمية خالصة؛ فليس هو بحثاً منهجيًّا يستقرئ كتابات المستشرقين للكشف عن الموقف الثقافي المرتبط بالسلطة مثلما ذهب إليه بعض النقاد، ولا هو مجرد سياحة تأملية محملة بإسقاطات آيديولوجية تغذيها تجارب الكاتب الشخصية، ولواعجه النفسية.
النقطة الأساسية التي يثيرها هذا البحث هي أن إدوَرْد سعيد استطاع أن يحرز نجاحاً مذهلاً في جعل كتابه الاستشراق مقروءاً على الصعيد العالمي، والغربي على وجه الخصوص، بسبب موقعه الأكاديمي المرموق، هذا الموقع الذي استثمره الكاتب خير استثمار في مجال ربط المعرفة بالسلطة، وكذلك بفضل قدرته الباهرة على “مخاطبة” النخبة والجمهور على السواء بلغة إنكليزية فذة يحسده عليها حتى كبار الكتّاب الإنكليز” (ص70).
وينهي الكاتب قوله بالخاتمة الآتية:
“كتاب الاستشراق ينطوي على خللٍ منهجيٍّ يتعلّق بتعميمات معتمدة في غالبها على انتقاءات من كتابات لمستشرقين تتناول الشرقيّين بامتهانٍ ودونيَّة، وبغضّ النظر عن كتابات لآخرين ( تنحو) نحواً مغايراً في وصف الشرق والشرقيين. كما لم يميّز إدوَرْد سعيد فيما نقله من كتابات للمستشرقين بين من كتب طلباً لمجرد الانتقاص ومن كتب تشخصياً للخلل الذي يستلزم العلاج.
رواج الكتاب والاهتمام به من طرف النخبة والجمهور الغربيين مردّه في المقام الأول إلى سطوة الكاتب العلميّة، ومهارته في استعمال أدوات الحجاج، بأسلوب أدبيٍّ فخم شديد الحرص على التناغم مع الذائقة الغربية، ومحاكاة طرائقها في التفكير. وإدوَرْد سعيد في كتابه هذا كان أديباً ملتزماً بأداء رسالة اجتماعية أكثر منه ناقداً في موضوع أدبي صرف يقتضي تغليب العلم على ما عداه. وأغلب الظن أن النجاح الذي أحرزه كتاب الاستشراق مرده إلى هذا المنهج الصارم الذي اتبعه المؤلف باحترافية عالية حينما لم يعمد إلى تصنيف موضوع الاستشراق إلى أنواع أو أشكال مختلفة على غرار ما اتبعه السابقون من المشتغلين بهذا الحقل المعرفي، بل اكتفى الكاتب بتقديمه جملة واحدة، والحكم عليه حكماً مطلقاً. ولولا تلك الأسباب لما خرج النصّ من رفّ الكتاب محدود التداول إلى فضاء الخطاب المفتوح” (ص88).
بين المقدمة المذكورة والخاتمة هذه، يضيف الكاتب لطيف القصاب نقده اللاذع للاستشراق عند إدوَرْد سعيد تحت عنوان فرعي أقتبسُه هنا بشيء من التفصيل كما فعلت في الاقتباس السابق. كلا الاقتباسين يدين نفسه بنفسه؛ أي إن الفشل يكمن في النص ذاته الذي ينطق به الكاتب؛ بمعنى أن أطروحته العادية ليست بحاجة إلى رد يفند منطقها أو لا منطقها. هذا ما يقوله الكاتب نفسه تحت عنوان: “أسلوب الكتاب وأسباب رواجه”:
“تُرجم كتاب الاستشراق إلى عشرات اللغات الإنسانية المتداولة، وما كان لهذا الكتاب أن يجد مثل هذه الفرصة النادرة من ذيوع الصيت والانتشار لولا نفوذ صاحبه العلمي وكونه أحد ألمع أساتذة جامعة كولومبيا المصنفة باعتبارها إحدى أفضل خمس جامعات في الولايات المتحدة الأمريكية، وتفخر سجلاتها الرسمية بحصول 104 من خريجيها على جائزة نوبل، وتعادل ميزانيتها السنوية ميزانية أربع دول عربية مجتمعة هي لبنان والأردن وفلسطين وسوريا. ولولا هذا الموقع الأكاديمي الرفيع الذي تربع عليه إدوَرْد سعيد حتى النهاية، لما استطاع أن يخاطب الجمهور الغربي، وأن يحرك بعضاً من المياه الراكدة في قناعاته تجاه الآخر، والعربي المسلم منه على وجه التحديد، وهو يأسره بمتعة التفتيش والتحليق في جو أدبي ملحمي، ويقوده بحذق ومهارة إلى مكامن الإبداع الماثل في عيون الأدب الغربي، مجنداً في ذلك كل ما أوتيه من قدرة لغوية فذة يحسده عليها كبار الكتاب الإنكليز أنفسهم. أغلب الظن أن الاستشراق، هذا الكتاب الفريد، لم يكن ليأخذ هذه المساحة من الشهرة وذيوع الصيت لو كان خاليًا من اللغة الأدبية الفخمة المتعالية على اللغة العادية” (ص81-82).
إنه لمن المؤسف حقاً أن يقوم لطيف القصّاب بحشد الكثير من الإيجابيات في مسيرة إدوَرْد سعيد ثم ينقلب عليها بهذه الطريقة العشوائية التي تظهر تناقضاً بيّناً في عرضه. من قال إن أسلوب إدوَرْد سعيد الذي ينمّ عن موهبة فريدة شهد له بها صفوة المفكرين والمثقفين في الغرب والشرق، يعدّ نقصاً يعيَّرُ به صاحبه؟ من منا لا يستذكر القول الفرنسي المشهور “الرجل هو الأسلوب”؟ أليس الأسلوب في حدّ ذاته هو الذي يقف وراء الشهرة التي يحققها مشاهير الفنانين والكتاب؟ أليس التحوّل في الفن من الواقعية التقليدية إلى الأسلوب والتقنية والشكل الفضائي من أهم خصائص الحداثة؟ ما العيب في أن يكون اسم إدوَرْد سعيد أجنبياً، وأكثر من ذلك أن يجد إدوَرْد سعيد نفسه حرجاً في أن اسمه الأول لا ينسجم مع الاسم العربي لأسرته؟ أليس هذا المأخذ شبيهاً بالاعتقاد أن المسلم أو العربي إرهابي لأنه مجرّد حامل لعقيدة مختلفة عن بقيّة الديانات؟ ألم يردد إدوَرْد سعيد في مناسبات عدة أنه ابن ثقافة إسلامية، وأنه لا يعيب على المسيحي العربي أن يكون كذلك؟ هل هنالك من عيب في موقف إدوَرْد سعيد العلماني الذي يقر به (ربما سهواً) لطيف القصاب في سياق حديثه عن الاستشراق، وهو أن الاختلاف بين البشر يجب ألا يعني التفوق أو الدونية؛ كأن يكون طرف متفوقاً وآخر أدنى بسبب اختلاف الدين أو العرق أو اللون أو الثقافة؟ هل من الإنصاف أن نوجه لوماً إلى إدوَرْد سعيد لأنه عربي كتب الاستشراق بلغة إنكليزية ليشهد له لطيف القصاب بإتقانها إلى درجة الإعجاب بقدرته على التعامل معها؟
وللإجابة عن الملاحظات السابقة الذكر، هذه بعض الملابسات:
في حزيران 1983، التقيت بإدوَرْد سعيد في محاضرة عنوانها “إسرائيل تجتاح لبنان”. بعد الفراغ من المحاضرة، اصطفّ بعض أعضاء الجمهور لتحيته والسلام عليه. عبّرت مثل بقية الخلق عن إعجابي بالمحاضرة، ردة فعله كانت أنه لا يسعده كثيراً أن يحاضر في بريطانيا أو في أمريكا ويُستقبل بإعجاب شديد لدى الجمهور الغربي، بل يؤثر أن يحاضر في العالم العربي وباللغة العربية.
والمعروف أن إدوَرْد سعيد حاول جاهداً مرتين تعلم العربية (كتابة على الأقل)؛ الأولى عام 1968، عندما حضر إلى عمّان لهذا الغرض، والأخرى عام 1972 عندما اختار الجامعة الأمريكية لقضاء سنة التفرغ. لم يحقق مطلبه في الحالة الأولى لما انتاب المنطقة آنذاك من اضطراب جعل البقاء ولو لمدة وجيزة غير مقبول، وفي الحالة الثانية عندما اختار قسطنطين زريق ليكون معلمه في العربية؛ إذ أيقن أنّ سنة واحدة لا تفي بالغرض. وفي مقابلة أجراها معه بارسميان، أكد أنّ العربية أجمل اللغات لما فيها من أناقة، وهي في نظره أرسطيّة. صرح بهذا القول مشيراً إلى أنّه في موقع يستطيع أن يحكم على العربية بسبب ما يتقنه من العديد من اللغات الأوروبية الأخرى التي تؤهله لتقديم حكم موضوعي. علاوة على ذلك، كان إدوَرْد سعيد يولي نقل ما يكتبه بالإنجليزية إلى العربية اهتماماً بالغاً؛ إذ إنه كان على اتصال بالمجلات العربية المرموقة التي ظهرت فيها كتاباته مثل مواقف ودراسات فلسطينية والكرمل. كذلك كانت الصحف العربيّة المختلفة تقوم بنشر ترجمة ما يكتب بالإنكليزية مثل القدس العربي والأهرام الأسبوعية التي أخذت على عاتقها نشر الكثير مما كان يكتبه، وفي حينه.
هل من منطق يعزو رواج كتاب الاستشراق إلى مهنيّة إدوَرْد سعيد العالية التي استطاعت، كما يدعي لطيف القصاب، من خلال منهجها الصارم أن تقصي نجاح المستشرقين الأوائل وأن تكون انتقائية لتحقيق حكم مطلق على الاستشراق؟ في العادة، قد نوجه نقداً إلى عمل لم يحقق انتشاراً مرضياً بعد نشره، أما أن نعزو فشل مؤلف، أي مؤلف، إلى انتشاره الواسع في العالم الرحب، فهذا أمر يدعو إلى الاستهجان والدّهشة!
عندما يحتدم الجدل حول قضية تأخذ أبعاداً عالمية، تتبرع جهة ما بتنظيم مناظرة أشبه بتلك المناظرات التي تعقد بين المتنافسين على مقعد الرئاسة، لتشرك الملأ في الجدل، وكأنه أشبه بحلقة مصارعة تعرض على الجمهور العريض، من شأنها أن تقدم الجدل ممسرحاً أمام الجمهور. انتهت المناظرة التي نظمتها واشنطن بوست بين إدوَرْد سعيد وخصمه المستشرق بيرنارد لويس، أبرز المستشرقين المعروفين بتحيزهم ضد الإسلام والعروبة في التاريخ الحديث، بنصر ساحق حققه إدوَرْد سعيد من خلال أسلوبه في المواجهة، وهو الأسلوب نفسه الذي يعيب فيه لطيف القصاب على إدوَرْد سعيد. ومنذ ذلك الحين، ونجم إدوَرْد سعيد في صعود ونجم خصمه في أفول. وفي هذا السياق، نستذكر كيف أن بيرنارد لويس، عندما تبوأ رئاسة مركز الدراسات الشرقية في جامعة برنستون، أرسل توصية إلى أقسام الدراسات الشرقية مفادها ألا تقوم بتدريس إدوَرْد سعيد في معاهدها. أليس من المفارقة أن يلتقي لطيف القصاب مع بيرنارد لويس في موقفهما من إدوَرْد سعيد؟! لكن المفارقة الأكبر هي أن يكفّر إدوَرْد سعيد بسبب أسلوبه الذي تبناه وهو يحمل على عاتقه الدفاع عن الحق والحقيقة في وجه الهجمة الشرسة التي ما فتئ المستشرقون وأعوانهم يقابلون بها الشرق العربي على مدى قرون!
وفي أحد اللقاءات المتكررة التي التقيت فيها توني تانر، أستاذ الأدب الإنكليزي بجامعة كمبردج والناقد المعروف، صديق إدوَرْد سعيد ، شمل الحديث بيننا ذلك النفر من النقاد الذين انبروا للهجوم على الاستشراق (منهم على سبيل المثال مكية ونذير العظمة وفؤاد عجمي وغيرهم). أجاب توني تانر بأن هنالك فئة من البشر تقصي من حسابها كل حقيقة مهما كانت ناصعة البياض وتحصر الوجود ومعناه في دائرتها الضيقة. وأذكر جيداً كيف أن تانر استخدم لوصف هؤلاء عبارة (dismissive). واستطرد قائلاً: يمكن أن تقول لنا تلك الفئة، على سبيل المثال: من هو شكسپير أو أفلاطون؟! ألا يجعلنا لطيف القصاب نتخيله في مقالته يقول بالمثل: ومن هو إدوَرْد سعيد حتى يستحق “فضاء الخطاب المفتوح”!
ولا بد في هذا السياق من أن أستذكر ما قلته أنا شخصياً على مسمع توني تانر، وهو أن إدوَرْد سعيد كشف النقاب لأول مرة عن تكتم إحدى روايات جين أوستن على خلفية استعمارية. قلت ذلك وأنا على علم بأن تانر حجة كبيرة بالنسبة للروائية، وكتب عنها بحميميّة خاصة تتناسب مع مكانتها عند الجمهور الإنكليزي، إذ إنها تحظى بتقدير لا يحظى به روائي إنكليزي آخر، وما كتبه إدوَرْد سعيد يعدّ تقريبًا خروجًا عن النص المألوف. أجاب تانر بإعجاب شديدٍ أن عبقريّة إدوَرْد سعيد تجيز له ما لا يجوز لغيره. والمعروف أن كوكبة من مفكري العالم الغربي ومثقفيه يحملون مثل هذا الإعجاب لإدوَرْد سعيد.
وأكثر ما يلفت النظر في مقالة لطيف القصاب هو التناقض الذي لا يخفى على من لديه أبسط درجات الإلمام بالموضوع. فهو يتهم إدوَرْد سعيد عن قصد بأنه “انتقائي” دون أن يدرك إنه نفسه انتقائي بامتياز؛ إذ إن مقولته ترتكز في الدرجة الأولى على اقتباسات طويلة من المقدمة التي كتبها المترجم محمد عناني لنسخة الاستشراق التي صدرت عن دار نشر رؤية التي تنحو إلى ترويج الترجمة التي قام بها عناني دون الحصول على حقوق الترجمة أو النشر. وأغرب ما في الأمر أن القصاب يعترف بهذا الأمر، وهو عدم الحصول مسبقاً على حقوق النشر.
لا أرى جدوى من الوقوف على تفاصيل التناقض الذي تقوم عليه مقالة لطيف القصاب؛ إذ إنني سأكتفي بعرض مقتطف منها يقع تحت عنوان فرعي “منهج الكتاب وعيوب التعميم والتعتيم”، وفيه يقتبس لطيف القصاب ما يريد من مقدمة محمد عناني وكأنه وجد ضالته. والمقدمة نفسها مغلوطة؛ ذلك أن عناني يقوّل إدوَرْد سعيد ما لا يقوله ويسيء فهمه جملة وتفصيلاً. هذا ما يقوله لطيف القصاب أو يكرر قوله معتمداً اعتماداً كلياً على عناني:
“قراءة كتاب الاستشراق لإدوَرْد سعيد تعطي استنتاجاً تدريجياً يتمثل في أن الكتاب يمثل خطاباً فكرياً بليغاً ذا صفة إعلامية أكثر منه نصاً مكتوباً بروح علمية خالصة، على الرغم من استعمال الكاتب 414 هامشاً تحيل القارئ إلى مراجع أجنبية مختلفة. فليس الكتاب بمجمله بحثاً منهجياً يستقرئ كتابات المستشرقين للكشف عن الموقف الثقافي المرتبط بالسلطة كما وصفه مترجم الكتاب الدكتور محمد عناني؛ إذ الكتاب في خطه العام لم يؤدّ مهمة الاستقراء بالمعنى الذي ذهب إليه المترجم بإقرار الكاتب نفسه الذي سنورده لاحقاً. والكتاب يتكئ في أطروحته الأساسية على جملة من التعميمات على الرغم من طابعه الاستدراكي العام. وتشمل هذه التعميمات الاستشراق والمستشرقين على السواء، دون تمييز بينهم بحسب النوع أو الاتجاه؛ فالاستشراق استشراق واحد واتجاه واحد، وواقعه “معادٍ للإنسانية”، والمستشرقون لا يتميز أحدهم عن الآخر، وهم جميعاً يمثلون رابطة لها تاريخ محدد في التواطؤ مع السلطة الإمبريالية”. واستعمال لغة التعميم واقعياً لا يمكن نفيها اتكالاً على شعور الكاتب بخشيته من هذه اللغة التي يصفها بعدم الدقة ويقرنها بممارسة التشويه، حين يقول: “تنحصر مخاوفي في أمرين: التشويه وعدم الدقة، أو بالأحرى ذلك اللون من عدم الدقة التي تنتج عن التعميم” (ص75).
أي قراءة للاقتباس المذكور تبيّن أولاً أن عناني، بوعي أو دون وعي، أساء فهم مقدمة إدوَرْد سعيد الواقعة أصلاً في الاستشراق التي تظهر ترجمتها في مقدمة عناني التي وضعها لترجمته. كما تبيّن أن لطيف القصاب بدوره وجد في قراءة عناني لتلك المقدمة دعماً جاهزاً لموقفه من إدوَرْد سعيد، ولهذا أقبل على التسلح بها في مواقع مختلفة من مقالته. بهذا يكون لطيف القصاب وعناني شريكين في الابتعاد عن مقصد إدوَرْد سعيد في مقدمته. لهذا، فإن العودة إلى المقدمة، حتى لو كانت تلك المقدمة التي ظهرت بالعربية في طبعة الاستشراق الأولى التي ترجمها كمال أبو ديب، دون مطالبة لطيف القصاب بالرجوع إلى النص الإنكليزي الذي كتبت به المقدمة أصلاً، تبين على الأقل كيف أن الخطأ البين الذي وقع فيه عناني في مقدمته التي ألحقها بترجمة الاستشراق قد انتقل إليه، وهو الخلط بين (شرقي) oriental و(مستشرق) orientalist، مما آل بدوره إلى استنتاج مغلوط لرؤية المؤلف إدوَرْد سعيد للقضية برمتها.
***
هنالك نوع آخر من الخلط وقع فيه عناني المترجم، ومن ثم القصاب الذي نقل عنه؛ ألا وهو الابتعاد كل البعد عن فهم موقع العنصر الشخصي في حياة إدوَرْد سعيد وفكره الذي يرصد بمهارة فائقة تفاعل الذات الشخصية مع مكوناتها من تاريخية واجتماعية وسياسية وثقافية وما إلى ذلك، لتصل إلينا ذاتاً جماعية ذات أبعاد لا حصر لها قادته إلى فعل يفوق الذات الشخصية، ذات البعد الأحادي المحدود.
وأبسط ما تتطلبه قراءة لطيف القصاب وترجمة عناني من رد مقابل هو اقتطاف بعض ما يرد في مقدمة الاستشراق، من ترجمة كمال أبو ديب، كنموذج يوضح كيف أن مفردة (شخصي) بالنسبة لإدوَرْد سعيد لا تعني المعنى القاموسي المتعارف عليه، بل هي دلالة إلى تحولات العنصر الشخصي إلى مكوّن جمعي من خلال تفعيل الآثار التي أوقعتها ظروف الحياة المعيشة من تاريخية واجتماعية وسياسية وثقافية وما إلى ذلك، التي يشير إليها كمال أبو ديب بمفردة “جرد”؛ أي الآثار التي تخلفها تلك الظروف لتسكن على مر الزمن الوعي الشخصي إلى أن تلحّ في لحظة ما على صاحبها بالبحث عن شكل يعبر عن مغزاها أو مدلولها الجمعي. هذه ترجمة كمال أبو ديب لما يشير إليه إدوَرْد سعيد تحت عنوان فرعي يقول فيه:
“يقول غرامشي في دفاتر السجن: إن نقطة انطلاق الإتقان النقدي المحكم هي وعي المرء لما هو حقاً، وهو “اعرف نفسك” كنتاج للعملية التاريخية حتى اللحظة الحاضرة، التي أودعت فيك آثاراً لا حصر لها، دون أن تترك جرداً “بها”. وتترك الترجمة الإنكليزية الوحيدة التي في متناولنا، دونما سبب واضح، عبارة غرامشي على هذه الصورة، بينما يختتم نص غرامشي الإيطالي في الواقع بالإضافة الآتية: “ولذلك فإنه لضرورة ملزمة منذ البداية أن نقوم بتنظيم مثل هذا الجرد”. إن معظم ما في هذه الدراسة من استثمار شخصي ليشتقّ من وعيي لكوني شرقيًّا نشأ طفلًا في مستعمرتين بريطانيّتين. ولقد كانت كل دراستي، في هاتين المستعمرتين (فلسطين ومصر) وفي الولايات المتحدة، غربية، بيد أن ذلك الوعي العميق المبكر استمرّ رغم ذلك بإلحاح. وبطرق عديدة، فإنّ دراستي للاستشراق كانت محاولة لجرد تلك الآثار عليّ؛ إذ إنّ الموضوع الشرقي للثقافة كانت سيطرته عاملاً على درجة كبيرة من القوة في حياة جميع الشرقيين. وذلك هو السبب في أن الشرق الإسلامي، بالنسبة إليّ، كان لا بد من أن يكون مركز الاهتمام. وليس لي أنا أن أحكم على كون ما حققته هو ذلك الجرد الذي وصفه غرامشي، مع أنّني أحسست بأهمية أن أعي كوني أحاول أن أنتج مثل هذا الجرد. وعلى الدرب، وإلى أقصى درجة من الصرامة والعقلانية في وسعي، حاولت أن أحتفظ بوعيٍ نقديٍّ، كما حاولت أن أستخدم أدوات البحث التاريخي، والإنساني، والثقافي التي جعلتني دراستي متلقياً سعيد الحظ لها. بيد أنني في أي من هذا لم أفقد أبداً السيطرة على الواقع الثقافي “الشرقي” أو الانشباك الشخصي لكوني قد تكونت “كشرقي”. إن الظروف التاريخيّة التي جعلت من هذه الدراسة أمراً ممكناً، على درجة لا بأس بها من التعقيد والتشابك، وليس بوسعي سوى أن أوردها بشكل تخطيطي هنا. كل من أقام في الغرب منذ 1950، خصوصاً في الولايات المتحدة، سيكون قد عاش عبر عهد من الاضطراب الخارق في العلاقات بين الشرق والغرب.
وما من إنسان يمكن أن يكون قد أخفق في ملاحظة أن “الشرق” خلال هذه المرحلة كان يدلّ دائماً على الخطر والتهديد، حتى وهو يعني الشرق التقليدي بالإضافة إلى روسيا. وفي الجامعات، حوّلت المؤسسة المتنامية لبرامج الدراسات الإقليمية ومعاهدها الدراسية البحثية للشرق إلى فرع من فروع السياسة القومية. وتشمل القضايا العامة في هذه البلاد اهتماماً سليماً بالشرق، نابعاً من أهميته الاستراتيجية والاقتصادية بقدر ما هو نابع من غرابته المدهشة التقليدية. ولئن كان العالم قد أصبح مباشرة في متناول المواطن الغربي الذي يعيش في العصر الإلكتروني، فإن الشرق أيضاً أصبح أكثر قرباً منه؛ ولربما كان الشرق الآن أسطورة إلى درجة أقل مما هو مكان تتقاطع فيه المصالح الغربية، وخاصة الأمريكية” (ص58-59).
هذا هو إذن “البعد الشخصي”: إدوَرْد سعيد ذاته الموضوع الشرقي للثقافة التي كانت سيطرتها عاملاً على درجة كبيرة من القوة في حياة الشرقيين. وهذا هو أيضاً السبب في أن الشرق الإسلامي بالنسبة له كان لا بد من أن يكون مركز الاهتمام.
وحسب مقولة غرامشي: “إن نقطة انطلاق الإتقان النقدي المحكم ( الذي رأى فيه لطيف القصاب خطاباً فكرياً بليغاً أكثر منه نصاً مكتوباً بروح علمية خالصة) هي وعي المرء لما هو حقاً، وهو “اعرف نفسك”: كنتاج للعملية التاريخية حتى اللحظة الحاضرة، التي أودعت فيه آثاراً من سياق حياته لا حصر لها دون أن تترك جرداً بها”. ويحتاج تفعيل هذه الآثار المودعة سلفاً، عطفاً على رؤية غرامشي، إلى ضرورة ملزمة بتنظيم “مثل هذا الجرد”؛ أي إن الشرقي إدوَرْد سعيد رأى لزاماً عليه أن يقوم بإنتاج “جرد” لما استقر في وعيه من آثار لتلك المكونات الشرقية في حياته. وكأنه يقول اعرف نفسك من خلال تعرفك مقاربة بمكونات شرقك كما استشرقها ذلك النفر من المستشرقين؛ إذ أضحى الشرقي صورة تعكسها مرآة المستشرق. في النهاية، يجد إدوَرْد سعيد الذي كونته ظروف حياته التي عاشها كشرقي نفسه وجهاً لوجه أمام صورة شرق ابتدعها المستشرقون. هذه المواجهة تلحّ على إدوَرْد سعيد أن يتعرف على مكونات صورته المستشرَقَة من خلال إنتاج خطاب جديد حولها ينفذ إلى أعماقها بدلاً من محاكاتها وقبولها كصورة تعكسها مرآة المستشرق. السبيل إلى ذلك هو البحث عن منهج إبستمولوجي معرفي يكشف عن الآلية التي أنتجت الاستشراق أصلاً، والتي من شأنها لاحقاً أن تعرفنا على طبيعة المواجهة وملابساتها بين شرق عربي وغربٍ أوروبيّ.
وتحضرني في هذا السياق ملاحظة ثاقبة يقدمها ميشيل كويل في دراسة له عن الشاعر باوند تقع في مجلد بعنوان إزرا باوند في السياق (Ezra Pound in Context) صدر عن مطبعة جامعة كمبردج (2010). يشير كويل إلى ذلك المصطلح ذائع الشهرة (كلمات كويل) الذي نحته إدوَرْد سعيد وهو “بيت شمسي للتشكيلات” (hothouse formulations) التي تشمل العرق والعقل والثقافة والأمة. يلاحظ كويل أن تقاطع هذه التشكيلات وتداخلها لا يؤول بنا إلى إنتاج أفكار بقدر ما ينتج عنه، وربما منه، أشكال (modes) لهذه الأفكار؛ أي إنّ الاستشراق في مجمله أشكال أو طرق أو أساليب أو منهج يتم من خلالها إنتاج أفكار سابقة أو لاحقة، واقعية كانت أو غير ذلك. وهذا يعني أن الاستشراق حسب منهج إدوَرْد سعيد هو تقصي الشكل أو الأشكال الخاصة التي صاغ المستشرقون من خلالها أفكارهم عن الشرق، وهذا يقربنا من مقولة دزريلي في رؤيته التي استشهد بها إدورد سعيد، وهي أن “الشرق صنعة”. ويستطرد كويل قائلاً إن خطاب إدوَرْد سعيد الذي يرتكز على التنقيب عن أشكال الشرق الاستشراقية يكشف لنا من خلال صورة الشرق التي تعكسها مرآة المستشرقين المعادلة التي تساوي بين الاستشراق والبدائية (primitivism) التي تخرج الشرق من التاريخ. ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن هذا ما يميز الشكل الذي تعامل به إدوَرْد سعيد مع الاستشراق عن الأشكال التي تعامل بها من سبقه مع الشرق والاستشراق؛ تلك الأشكال التي أقصت من حسابها تقاطع الأشكال وتداخلها وتفعيل آثارها التي بقيت في حالة سكون داخل وعي الشرقي العربي رغم ما تمتلكه من زخم.
***
هنالك الكثير من رجال الفكر المحدثين والنقاد الذين يقدرون نهج إدوَرْد سعيد الذي قدمه لمشهد الخطاب الفكري والنقدي. وها هو جون بيلي، الناقد المعروف بجامعة أكسفورد، يشيد بجهود إدوَرْد سعيد على صفحات الملحق الثقافي لصحيفة التايمز اللندنية في عرض لكتاب تيري إيجلتون عن البنيوية (1982). يشير بيلي في سياق حديثه عن أفول نجم البنيوية إلى أن إدوَرْد سعيد ساهم مساهمة جليلة في هدمها بمعول نهجه الذي ارتكز على خلق لغة إنكليزية جديدة تناهض مفرداتها رطانة (jargen) البنيوية. ويؤكد هذا عملياً على تبنيه ذلك المصطلح المشار إليه أعلاه والذي نحته وأضحى نبراساً في دراسات ما بعد الاستعمار؛ ألا وهو دعوة للرد على ما يكتبه الطرف الآخر (write back) بداية من تفعيل الآثار التي تخلفها تجارب الحياة في وعينا.
كان بودي ألا أقوم بالرد على لطيف القصاب بداية تيمناً بمبدأ حرية التعبير التي يشار إليها هذه الأيام في فرنسا. غير أني اخترت أن أقدم ما قدمته من رد لأبيّن في الدرجة الأولى ما يمكن أن تلحقه الترجمة غير المنصفة من ضرر عندما تكون مصدراً رئيسياً لقراءة عمل بقامة الاستشراق. ألا يجعلنا هذا نتوق إلى هذه الترجمة الجديدة للاستشراق التي تتبنى إصدارها دار الآداب العريقة؟
***
أين يقع الاستشراق هذه الأيام؟ يجيب عن هذا التساؤل آدم شتز، وهو صحفي ناشط يعنى بشؤون الفكر المعاصر، خصوصاً سياسة المواجهة بين الغرب وبقية أجزاء العالم، كما توضح مساهماته التي تظهر في مختلف الصحف والمجلات العالمية. كتب شتز مؤخراً مقالة ظهرت في مجلة لندن ريفيو أف بوكس المعروفة بعنوان “الاستشراق إلى أين؟”، وهي في الأصل مداخلة عنوانها ” وسائل الإعلام والتمثيلات الثقافية: تغطية الإسلام والحرب الكونية على الإرهاب”. وقد قام شتز بإلقائها في مؤتمر نظمه كريم إميل بيطار في معهد العالم السياسي بجامعة سينت جوزف بالاشتراك مع مؤسسة كونراد أديناور في بيروت بتاريخ 3 أيار 2019.
هذه مداخلة يستحق صاحبها الثناء وتستحق الوقوف عندها لما فيها من نظرة منصفة للاستشراق ونقلة نوعية في منظوره وآفاقه الواسعة التي أسس لها إدوَرْد سعيد وجعل مكوناتها تنتقل بالاستشراق بكل يسر من الماضي إلى الحاضر دون التحول عن مقصده أو مضمونه.
هكذا تبدأ المداخلة:
يعد الاستشراق الذي كتبه إدوَرْد سعيد واحداً من أشهر الأعمال تأثيراً في التاريخ الفكري لحقبة ما بعد الحرب. وهو أيضاً واحدٌ من أكثر الأعمال التي أسيء فهمهما.
ويعود أكثر أنواع سوء الفهم شيوعاً إلى الاعتقاد أن مضمون الكتاب يتعلق بالشرق الأوسط. لكنه على غير ذلك؛ فهو دراسة تصور تمثلات الغرب للعالم العربي الإسلامي، وهي تلك الصورة التي ينعتها إدوَرْد سعيد بمصطلح وليم بليك: “القيود التي يصوغها العقل”. كذلك يخطئ النقاد المحافظون من المواطنين العرب عندما يقرأونه على أنه رفض للدراسات البحثية الغربية متجاهلين ما يقدمه الكتاب من مديح إلى لويس ماسنيون وجاك بيرك وكيلفورد جيرتر. وبالمثل، يحظى الكتاب بسوء فهم من الإسلاميين، وهم يغفلون التزام سعيد بسياسات العلمانية.
وفي عبارة مكثفة يتابع شتز قائلاً إن إدوَرْد سعيد كان يهدف من كتابة الاستشراق إلى أن يكتب كتاباً يجعله تاريخاً للحاضر: حاضر هو في واقع الأمر ماضٍ الآن، ويختلف عن الحاضر الحقيقي الذي نحن فيه ( ومن قبيل التوضيح، يمكن التنويه إلى أن الزمن المشار إليه هو الحاضر، الحاضر المستمر والحاضر التام، كما هو في الإنكليزية)؛ أي أن يكتب تاريخ الماضي من خلال وعيه بتاريخ الحاضر، في ظلاله على الأقل، أو – كما يقولون – الحاضر من عدسة الماضي. وتسبق هذه العبارة فقرة توضح أوجه هذا الحاضر، ومنها معاهدة كامب ديفيد، والحرب الأهلية في لبنان، والثورة الإسلامية التي كانت في طريقها إلى حيز الوجود، مضيفاً غزو شارون الأرض اللبنانية ومذابح الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا. وأود أن أضيف هنا حرب حزيران 1967 التي غيرت في وقعها مسيرة إدوَرْد سعيد، كما هو معروف.
وفي اعتقادي، فإن هذه العبارة هي خير توضيح لعبارة “جرد” التي وردت في تقديم ترجمة كمال أبو ديب للاستشراق. وهي -كما ورد أعلاه- عبارة يبدو أنها أدت إلى سوء فهم عند محمد عناني ومن بعده لطيف القصاب. يقدم شتز أمثلة من الظروف التاريخية، كما ورد أعلاه، كعوامل أثرت في تكوين وعي إدوَرْد سعيد الشخصي بمنظور الاستشراق في أثناء كتابته؛ بمعنى أن إدوَرْد سعيد لم يكن بمنأى عن الظروف التي أحاطت بحياته المعيشية ليكتب استشراقاً خارج التاريخ الذي عاشه وعايشه. ربما قصد كمال أبو ديب مراجعة سجلات الماضي في الزمن الحاضر للوقوف على أمر خاص في الحاضر ذخيرته ما تم تسجيله في الماضي. لكن العبارة تظل شبه غامضة قد لا يستقيم موقعها في قامة الاستشراق.
هنالك عبارة يحلو لي الاستشهاد بها في مناسبات عدة، وقد ورد ذكرها أعلاه، وهي عبارة إدموند ليتش التي يمكن أن تزيد من توضيح شتز. العبارة هي “التاريخ لا يعيد نفسه، بل هنالك نماذج تعيد حدوث نفسها”. والمقصود من ذلك طبعاً التأكيد على أنّ التاريخ من صنع البشر، وليس العكس كما تفيد أطروحة الماركسية الكلاسيكية التي اعتقدت أن تسلسل التاريخ أو تطوره هو الذي يصنع حياتنا. والنموذج الذي يذكرنا به شتز في الاستشراق والذي يعيد إنتاج نفسه هو نموذج السلطة والمعرفة الذي اشتقه إدوَرْد سعيد من فوكو، كما هو معروف. هذا النموذج لا يعرف زماناً معيناً ولا مكاناً محدداً، ولا هو حكر على أناس بعينهم. فهو فعل يسافر عبر الزمن دون الوقوف عند زمن معين، ودون أن يصطحب معه من قام بالفعل.
ويتابع شتز تحليله قائلاً: “إن الاستشراق في نظر إدوَرْد سعيد هو خطاب القوي نحو الضعيف، وهو نصير “القوة والمعرفة” الذي يتماهى مع تعبير النرجسيّة، وأعراض هذا الخطاب ظاهرة للعيان هذه الأيام. فالاستشراق سفير أجنبي في مدينة عربية يقلّل من الشأن العام الذي يخصّ فلسطين ويصوّر العرب على أنهم جمهور طيّع أفاق فقط عام 2011 في ثورات الربيع العربي وآلت انتكاسته إلى خيبة أمل لدى الغرب المعطاء (بسخريته طبعاً) الذي يسعى إلى أن يكون مرشده (tutor) الطيب. يتم كل هذا من خلال “خبير” غربي (أشبه بالمستشرق) يختزل الإرهاب الإسلامي في أوروبا إلى سيكولوجية الازدراء عند المسلمين دون أن يعبأ بتقديم الأسباب التي تدعو المواطنين الأوروبيين من أصل عربي إلى أن يشعروا بعدم المواطنة…”.
ويخلص شتز إلى القول إن الاستشراق ما زال فينا (نحن الغرب)، وإنه جزء من اللاوعي السياسي الغربي، وإنه يأخذ أشكالاً متعددة من التعبير كالتعصّب أحياناً والانتقام أحياناً أخرى. لكن الاستشراق هذه الأيام، يستطرد شتز، ليس بذلك الاستشراق الذي بحث فيه إدوَرْد سعيد قبل أربعين عاماً ونيف. يوضح شتز هذا الأمر بالقول إن الاستشراق ماضيًا كان إلى حدٍّ كبير نتاج فترة ﭬيتنام، عندما قامت “الصفوة الذكية” بدفع أمريكا إلى مستنقع الغابات في جنوب شرق آسيا. بالمثل، يشير شتز إلى ما يلاحظه سعيد حيث قام جيل جديد من تلك الصفوة (Ivy-league) الاختصاصيين بشرعنة المواجهة العميقة بين أمريكا والعالم العربي، وخصوصاً ما يخصّ القضية الفلسطينيّة. فالاستشراق في جوهره، كما يؤكد لنا شتز، هو نقد لما قام به الخبير المختص الغربي (expert) الذي سعى إلى إنتاج المعرفة عن العالم العربي الإسلامي بداية من فلوبير ومونتسكيو مروراً ببيرنارد لويس ودانيال بايس. ويختتم شتز مقاربته بالقول إن الهدف في الحالتين يظل متناسقاً رغم تغيّر الشخصيات وأدوارها ومظاهرها (caste).
وأعتقد أن شتز أصاب الهدف حقاً عندما بين لنا كيف أنّ الاستشراق قام على أكتاف صفوة من الخبراء المختصين الأوروبيين، وأن هذا الأمر يقع في صلب أطروحة سعيد عن الموضوع. كما أن شتز يلاحظ لاحقاً أن الاستشراق حدثٌ مستمرٌّ كما تنبأ به سعيد، ولا حدثٌ ينتهي بحالة من أحوال التغيير. قد يتغيّر الخبراء كأشخاص، ولكن دون أن يتغيّر الهدف؛ ألا وهو هيمنة القويّ على الضعيف حتى لو تغيّر الخبير القوي من شخص إلى آخر ومن زمن إلى آخر.
وفي سياق الحديث عن أهمية الاستمرارية في الاستشراق، يقدم شتز أمثلة من الواقع الراهن بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، بداية من إدارة بوش التي بدأ رد فعلها بنوع من جنون المستشرق وتبني تحرير النساء المسلمات كسبب من الأسباب التي آلت إلى غزو أفغانستان مستعيناً بالنظرة الكافية للخبير المختص في معرفة العقل العربي، وهو رفائيل باتاي Raphael Patai، الذي وصف آليات التعذيب التي استخدمت في سجن أبو غريب. كذلك دُعي بيرنارد لويس ليقدم آراءه بكل صلافة في مجلة أتلانتك Atlantic حول مسببات الغضب الإسلامي. في الوقت نفسه، يستطرد شتز ليقول كيف سافر العديد من الصحفيين إلى الضفة الغربية للتحقيق في الغضب الذي أصاب الانتحاريين الفلسطينيين.
يضيف شتز إلى هذا السجل عرض إدارة أوباما وخطابه المعهود في جامعة القاهرة عام 2009، الذي قدم فيه وعداً بروح استشراقية مخففة حول إيران ووضع الضفة الغربية. كذلك يشير إلى أن إدارة ترمب تذهب إلى أقصى درجات التطرف في الروح الاستشراقية. كل هذه المظاهر من التحركات نحو الشرق تتم تحت مظلة المستشرق ورايته التي حملها معه إلى الشرق، وأهم أعمدتها “المعرفة المبتذلة المغرية” (كلمات إدوَرْد سعيد التي يقتبسها شتز) التي تتبرع بإنتاجها وتقديمها تلك الصفوة المختارة؛ إذ يمكن أن أشبهها أنا -كاتب هذه السطور- بالعرض الذي يقوم به الحرس المتغير (change of guards).
والتساؤل الذي يبرز بعد هذه القراءة الثرية هو: إلى متى يظل الاستشراق يحمل روح العداء في العلاقة بين الشرق والغرب؟ هذه إجابة شتز: “سيظل الإغراء بإشعال الحرب بين العالمين مستمراً إذا استمرت الولايات المتحدة بالنظر إلى العالم العربي الإسلامي ليس على أنه عالم يتكون من بنية مركبة ونسيج متنوع من المجتمعات الإنسانية، بل على أنه “جارٌ سيء” يحكمه رجال دين إيرانيون ودكتاتوريون عرب وإرهابيون فلسطينيون وجهاديو داعش.
***
وعطفاً على ما سبق؛ ينهي شتز مقالته بموجز حول مناقشة سعيد نفسه الأسباب التي تدعو إلى فشل الاستشراق، وأهمها ” غياب العنصر الإنساني والفكري؛ إذ إن الاستشراق (ليس الكتاب طبعاً) فشل في تعريف نفسه بالتجربة الإنسانية وفشل أيضاً في النظر إليه كتجربة إنسانية لأنه تمترس خلف موقع لا يمكن التحول عنه بالنسبة لعالم اعتبره غريباً عنه”. ويختتم شتز المقالة بجملة ختامية يقول فيها: “إن الدرس الذي تعلمناه من الحرب على الإرهاب في أرجاء المعمورة خلال السبعة عشر عاماً ونيف الماضية هو أن السبيل إلى البربرية يبدأ من هذا الفشل”.
من يتأمل كتابات إدوَرْد سعيد بعد الاستشراق، يرى أن الاستشراق كتب لاحقاً أكثر من مرة. هذا كتاب صورة المثقف الذي هو في الأصل محاضرات دعي إدوَرْد سعيد لإلقائها في هيئة الإذاعة البريطانية ضمن ما يعرف بمحاضرات ريث التي دعي إليها من قبل كبار أعلام الفكر أمثال برتراند راسل. شهدت المحاضرات إقبالاً شعبياً في ذلك الصيف الذي شهدته شخصياً في لندن، وهي تنشر تباعاً في الصحف والمجلات بعد بثها. صدف أن قمت بزيارة زميل لي في مدرسة للدراسات الشرقية بجامعة لندن وسمعت أحد طلاب بيرنارد لويس يقول مازحاً وهو يمسك بالصحيفة التي نشر فيها جزءا من المحاضرات: هل سيقدم لنا إدوَرْد سعيد استشراقاً جديداً؟ صحيح أنه لم يكن على وعي بأن ما قاله بصورة هزلية هو في واقع الأمر وللمفارقة صحيح؛ إذ إن المحاضرات التي تمحورت حول صورة المثقف كانت تهدف إلى تقديم صورة مغايرة لتلك الصورة التي صنعها “الخبير المثقف”، وهو المستشرق. ذكرتُ على مسمع إدوَرْد سعيد أن المحاضرات المذكورة تغرد خارج سرب الاستشراق، فأجاب: “يسرني أن أسمع هذا”. ويكفي أن نستذكر في هذا السياق عبارة مفصلية اكتسبت شيوعاً خاصاً في دراسات ما بعد الاستعمار يقول فيها مخاطباً المثقف: “اجهر بالحقيقة في وجه السلطان”، نقيضها في الاستشراق تلك العبارة الموحية التي ورد ذكرها أعلاه واقتبسها شتز، وهي بتصرف: ” كيف تغوي السلطة المتسلط دون أن يعبأ بصورتها الوظيفية المبتذلة التي تتحول إلى هذه الحالة من الابتذال من خلال تمسكه بها؟”.
***
قراءة شتز للاستشراق وإدورد سعيد تجعلنا نستذكر على الفور قراءة لا تقل في منظورها الشمولي، إن لم يكن الكوني، عن قراءة أخرى، بل ربما تزيدها توضيحاً. عنوان القراءة: “الإنسانية، فقه اللغة، والاستعمار”، وقد وردت في كتاب حرب المواقع: السياسات الثقافية لليسار واليمين الذي صدر عن مطبعة جامعة كولومبيا (2006)، ومؤلفه تيموثي برنن، أستاذ الأدب المقارن والدراسات الثقافية في قسم الأدب الإنجليزي بجامعة منيسوتا. وليس من قبيل الصدفة أن يقع الاختيار هنا على الناقد برنن في سياق الحديث عن الاستشراق وإدورد سعيد؛ إذ إن برنن يعد في الأوساط الأكاديمية حجة في تراث إدورد سعيد. وكيف لا يكون كذلك، وهو الطالب المتميز الذي نهل من علم معلمه ورافق مسيرته زهاء عقدين من الزمان، بل وما زال يتابع مسيرة معلمه الراحل بكل جد وإخلاص.
آخر تجليات هذه المتابعة كتابه الذي سيصدر قريباً، وهو سيرة ذاتية لإدورد سعيد قضى في تحضيرها عدة سنوات. وإنه لمن حسن الطالع أن تقوم دار المعرفة الكويتية بنشر الكتاب بالعربية، في وقت يتزامن مع صدوره بالإنجليزية. وقد حظيت بمعرفة تيموثي برنن وشهدت عن قرب ما بذله من جهد مضنٍ عبر سنوات مضت وهو يحشد طاقاته لإنجاز هذا العمل.
وما يحثني على التنويه بتيموثي برنن بشكل خاص، هو أن عنايتنا بتراث إدورد سعيد تتطلب التنبه إلى ما يُكتب عنه، خصوصاً باللغة الإنجليزية، كعَلَم من أعلام الفكر العالمي، والقيام لاحقاً بنقله إلى العربية، ليكون رافداً لترجمة أعماله، أملاً في أن تساهم مثل هذه المحاولة في درء شر المغالطات التي يمكن أن يتعرض لها، على الأقل من ذوي القربى، علاوة على أن مثل هذه الدراسات تقربنا إلى قراءة منصفة لفكر إدورد سعيد.
وإنها لمفارقة كبيرة أن نرى تيموثي برنن يشيد بالمكونات التي ساهمت مساهمة إيجابية في تشكيل الاستشراق وفكر إدورد سعيد بشكل عام، في الوقت الذي ينظر فيه لطيف القصاب إلى تلك المكونات على أنها مكونات زائفة استثمرها إدورد سعيد لصالحه الشخصي، ليخرج علينا بصورة مزيفة عن الاستشراق. أهم هذه المكونات هي وجود إدورد سعيد في جامعة عريقة مثل جامعة كولومبيا وتمكنه من اللغة الإنجليزية، مما ساعده بشكل خاص على طرح الاستشراق بأسلوب غاية في التميز. ومن الطريف في الأمر، أن نرى كيف استطاع تيموثي برنن أن ينفذ إلى أعماق هذه المكونات، مبيناً أن الأثر الذي تركه إدورد سعيد يتعدى مساهمته في جعل جامعة كولومبيا من بين الجامعات العريقة (Ivy-League). وكيف ذلك؟ لاحظ تيموثي برنن من خبرته القريبة من تجربة التعليم في جامعة كولومبيا الذي شهدها بنفسه كطالب وكمدرس لاحقاً، كيف أن إدورد سعيد يولي طلبة الدراسات الدنيا (مرحلة البكالوريوس) اهتماماً خاصاً ويشملهم بالعناية الفائقة، وكأنه كان يقوم بكل هذا وذاك وهو في رتبة من ينتظر التثبيت في الجامعة (not tenured)، في حين أنه كان فعلاً قد تخطّى مرحلة التثبيت بكثير؛ إذ إن سمعتَه كانت آنذاك تملأ الآفاق. أما أسلوب إدورد سعيد الذي عابه عليه لطيف القصاب، فإنه يتلخص في حثّ طلابه، كما يوضح تيموثي برنن، على الاستقلالية في التفكير، والابتعاد كل البعد عن الاستجابة المطلقة أو السلبية لما يسمعونه منه شخصياً. وقد رُوي أن أحد طلاب إدورد سعيد بدأ مداخلته في “سمنار” للدراسات العليا قائلاً: “يرى فوكو…”. وقبل أن يكمل الجملة، أوقفه إدورد سعيد طالباً منه أن يدلي بدلوه مستقلاً عن قول فوكو. وهكذا. وقد يكون من غير المجدي الذهاب بعيداً في سرد تفاصيل هذه المفارقة، خشية ألا يتحول الانتباه من الاهتمام بالنص ذاته سيد الموقف إلى تأويل خارج النص؛ معتمدين أيضاً على مقولة إدورد سعيد ومفادها أن خير رد على ما يقوله الغير هو الكتابة فعلاً لا قولاً، كرد على الموضوع. مثل هذه الكتابة هو ما يرد في قراءتي شتز وبرنن وهما قراءتان تَفِيان الاستشراق ومؤلفه حقهما وتستحقان الرجوع إليهما كلما دعت الضرورة لجلاء اللبس الذي يسببه الخروج عن النص.
قراءة شتز التي صدرت حديثاً تعيد إلى الأذهان قراءة تيموثي برنن التي سبقتها، لتزيدنا وضوحاً في الموقع المرموق الذي ما زال الاستشراق يحتله منذ ظهوره عام 1978. القراءة الواحدة تزيد الأخرى وضوحاً وتلتقي معها في المنظور نفسه حتى لو بدا الأسلوب في كل قراءة متجدداً في طريقة التعبير. فما يؤكده شتز أن الاستشراق الذي اختص بثقافة الاستعمار في القرن التاسع عشر التي صاغها المستشرقون البريطانيون والفرنسيون بشكل خاص، لتكون في خدمة الاستعماريْن البريطاني والفرنسي وتبرّر استمراريّتهما، نفسه تقريباً الذي تبدّى واضحاً جلياً في مشهد الأحداث الراهنة في السياسة الأمريكية وثقافتها. موقف شتز هذا يأتي متفقاً مع موقف برنن الذي يلخصه في أن الاستشراق “كتاب أمريكي”؛ بمعنى أنّ الظروف التي كتب فيها حاضراً في منتصف القرن الماضي، تتقاطع مع الظروف التي كتب الاستشراق ماضياً عنها في القرن التاسع عشر، كما يتضح من استمرارِ تجلّيات الثيمات المرتبطة في الاستشراق من العصر الفكتوري إلى عصر ريغان ومارغريت ثاتشر. ومن أبرز هذه الثيمات التعصّب العرقي الذي يمارسه الغرب القوي على الشرق الذي لا يملك قوة مكافئة.
يذكر تيموثي برنن أن الاستشراق مؤسّسة، ليس خطاباً؛ بمعنى أن الاستشراق الذي يعنى به إدوارد سعيد لا يسعى فقط إلى الكشف عن الصورة التي أنتجها بعض المستشرقين عن الشرق، لتكون في خدمة السياسة الاستعمارية التي كانت تمارسها المنظومة الاستعمارية معتمدة على أطروحة “القوة أساس المعرفة” مما جعل المعرفة حليفة المؤسسة السياسية؛ إذ إنه ينفذ إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو أن الاستشراق ليس حدثاً ماضياً يغطي فعله القرن التاسع عشر؛ بل إنّه استمرّ بعد ذلك حتى زمننا الراهن، وهذا ما جعل تيموثي برنن يعطيه صفة المؤسسة.
البحث في الاستشراق يتطلب تتبع انتشاره وإنتاجه في مختلف المؤسسات، وخصوصاً السياسية منها، وهذا ما يجعل فعل الاستشراق كظاهرة استعمارية يتعدى في أبعاده مجرد خطاب يحاكي التوتر بين الوجه والقناع في زمن معين يتوقف عنده وكأنه في واقع الأمر أضحى من الماضي؛ بمعنى أن الماضي يمكن قراءته في الزمن الحاضر، وأن استشراق الماضي ما هو إلا ظاهرة متنقلة تتحدى البقاء في زمن ومكان معينيْن، وهي بلغة إدموند ليتش، العالم الأنثربولوجي، أنموذج يتكرر حدوثه، وليست تاريخاً يعيد نفسه. ولو شئنا تأكيداً على أن أطروحة الاستعمار هي في بنيتها مؤسسة كما يلاحظ شتز وبرنن، لاستحضرنا ما يشبه اللغط الشائع في وسائل الإعلام الغربية هذه الأيام، وهو ما يتعلق بالإسلام السياسي. ولو تأملنا فقط اللفظ قليلاً، لتبين لنا أن مثل ذلك اللفظ يهدف إلى محاولة التغطية على الاستشراق السياسي الذي ما زال مهيمناً على المجتمع الذي أنتجه أصلاً.
والمعروف أن الشركات التجارية الغربية التي غزت بقاع العالم الشرقي، مثل شركة الهند الشرقية، كانت تعمل في ظل المؤسسة الاستعمارية الكبرى التي كان الشعب ينظر إليها كمؤسسة عادية. بل إن المؤسسة نفسها كمؤسسة استعمارية كانت تحظى برضا الجمهور الذي كانت غنائمها تصل إليه بطريقة أو بأخرى. الاستشراق في غالبه مؤسسة هيمنة، حتى لو بدت غير ذلك، وهي مؤسسة عابرة للقارات والأزمنة.
يطرح تيموثي برنن في سياق عرضه للاستشراق سؤالاً قد يبدو في ظاهره للوهلة الأولى ساذجاً، غير أن محاولة الإجابة عنه سرعان ما تنفي عنه هذه الصفة. السؤال هو: لماذا نجد مفردة شرقي سائدة في الغرب دون أن نجدها موجودة في شرق الشرقي؟ أقرب إجابة لهذا السؤال، أو لما يمكن أن يسميه نزار قباني “وجع الإيجاز” هو أن هوية الشرقي الوجودية تم ترحيلها إلى الغرب لتأخذ تشكيلاً غربياً بغض النظر عن وجود سابق لها في شرقها. وربما يتضح الأمر من خلال قصة حدثت مع كاتب هذه السطور. عندما كنت طالباً في الجامعة، ذهبت ذات صباح لأبتاع حاجتي من الخبز والحلويات من حانوت مجاور لمكان إقامتي في كنجز كولج بجامعة كيمبردج. طلبت من صاحب الحانوت أن يحتفظ لي بما ابتعت ريثما أقضي أمراً في شارع مجاور. عدت بعد ذلك لألتقط ما أودعته لأجد ورقة لاصقة كتبت عليها كلمة wog، التي لم أفهم منها شيئاً في البداية. تبين لي بعد أن عرضتها على أصحاب الشأن أنها حروف تختزل هوية الوافدين إلى الغرب من الشرق، وكانت قد شاعت لدى الفكتوريين أجداد صاحب الحانوت الذي استخدمها بوعي أو دون وعي في تلك المناسبة. هذه الهوية هي: جنتلمان شرفي وافد إلى الغرب.
خير إجابة عن السؤال المذكور تقع في خاتمة الثقافة والإمبريالية (1991)؛ إذ يقول إدورد سعيد: “لا أحد هذه الأيام يمكن أن يكون شيئاً واحداً؛ إذ إن المفردات التي تشير إلى هندي أو امرأة أو مسلم أو أمريكي ما هي إلا لاصقات تسعفنا كمحطات بداية سرعان ما تختفي عند وضعها على محك التجربة منذ اللحظة الأولى. لقد نجح الاستعمار في خلق مزيج من الثقافات والهويات على مستوى العولمة. لكن عبقريته تتجلى في أسوأ حالات التناقض عندما أجاز للناس الاعتقاد أنهم فقط، وبشكل رئيسي، ودون استثناءـ ينتمون إلى العرق الأبيض أو الأسود أو الغربي أو الشرقي. ورغم كل هذا وذاك، يستمر بنو البشر في صياغة ثقافاتهم وهوياتهم العرقية مثلما يستمرون في صياغة تاريخهم…”.
يستطرد إدورد سعيد في هذه الخاتمة بتوجيه نقد لاذع لأولئك الذين يرددون أن ثقافاتهم وبلدانهم أولاً (رقم1)، وكأنه كان يستشف خطاب ترامب قبل ظهوره فعلاً على الملأ بعقدين ونيف!
وهذه هي الجملة الأخيرة التي تنتهي بها خاتمة الثلاثية التي ابتدأت بـ الاستشراق مروراً بتغطية الإسلام:
“إن لدى المثقف ما يكفي من القيم التي تجعله لا يعبأ ببضاعة المؤسسة الاستشراقية المهيمنة”. وليس خافياً علينا أن في هذا التصريح ما يدعم المثقفين أمثال شتز وبرنن الذين يغردون خارج سرب الهيمنة بأشكالها المتنوعة، وأزمنتها المتباينة، مما يوفر لديهم القدرة على تفكيك عملية الاستشراق برمتها.