طاهر مسعد صالح الجلوب
من حين إلى آخر تتردَّدُ المناشدةُ بتأسيس نظريّة نقديّة عربيّة؛ تحت عامل الشعور بهيمنة الآخر -المُنْتِج للنظريات المُعاصرة- ودونيّة الذات المستعيرة، العاجزة عن الانتقال من مرحلة الاستهلاك إلى مرحلة الإنتاج، المتطلِّعة إلى تأسيس نظريّة نقديّة تُراعي خصوصية النص الإبداعي العربي، وشبكة علاقاته المختلفة. ذلك ما أفضى بعدد من النقاد العرب إلى مناوشة الموضوع بدراسات، وبعدد آخر إلى تبني مشاريع بحثيّة.
طَرْحُ السؤال مجدَّداً يُوحي بعدم الاطمئنان للجهود التي تم إنجازها في هذا المسار؛ لكنَّه من ناحية أخرى لا يقلل من قيمتها، أو يقدح في معطاها؛ لأنّ التفكير بنظرية نقدية عربيّة في مثل هذا الظرف التاريخي الشائك -الموسوم بسبق الآخر، وقَفْزِهِ من مرحلة إلى أخرى، وبالمقابل بتعثر الذات العربية، وتخلفها، أو بطء لحاقها- يتطلب تكرار المحاولة، وتتابع الجهود، ومناوشة الإشكالية من مختلف الأطراف؛ برجاء ولادة نظرية نقدية أدبية عربية، أو رَفْدها بتراكم معرفي يعبِّدُ الطريق لتحققها في مرحلة قادمة مأمُوْلَة لا نريد لها البدء من نقطة الصفر. فاستمرارُ المحاولة يعني حضور الذات الناقدة المأزومة في عصرها، وتَمَلْملها للنفاذ من حالة الغفلة إلى حالة اليقظة.
ليس لنا في كل محاولة نَرْدُفُها بسابقاتها إلا أن نعيد طرح أسئلة البدء؛ لتوجيه مسارنا بشيء من الوعي الوقائي؛ الذي قد يجنبنا الانزلاق في مآزق سَبَقَ لثقافتنا أن وقَعَتْ فيها. ننتخبُ من جِمَاع هذه الأسئلة ثمانية؛ منطوقها:
هل هناك ضرورة لوجود “نظرية” نقدية عربية؟
ما مدى صلاحية مصطلح العروبة (العربية) لتسمية النظرية؟
ما القبليات اللازمة لاستشراف نظرية نقدية عربية؟
ما علاقة النقد الأدبي العربي بالنظريات الغربية؟ وهل للنص الأدبي العربي خصوصية تجعله يأبى الخضوع لتلك النظريات “المستوردة”؟
ما علاقة هذه النظرية المفترضة بالموروث المعرفي العربي؟
من أين تستمد هذه النظرية رهانها، وخصوصيتها؟
ما الإكراهات التي تجعل الحديث عن “نظرية” نقدية عربيّة مطروحة في ثقافتنا دائما؟ وكيف يمكن تجاوز هذه الوضعية؟
من أين تبدأ هذه النظرية مسارها؟ ومَن المَعْنِي بتنفيذ مرحلة البدء؟
هذي حزمة من الأسئلة التوجيهية، التي يتعذَّر على ورقة بهذه المساحة المحدودة الإجابة عنها؛ وذلك ما ألزمنا بالزهد في القول؛ ومعالجتها بشيء من التكثيف، والاختزال.
أولا: حتمية وجود نظرية نقدية عربية
لن نجزم بضرورة وجود نظرية نقدية عربية إلا بعد النظر في الوظيفة العامة للنظرية؛ المتمثلة في الإجابة عن أسئلة أربعة؛ معطاها:
ما الأدب؟
وما طبيعة شبكة علاقته بالأطراف المختلفة (التاريخ، المبدع، المتلقي، الحياة)؟
ثم ما الوظائف الجمالية، والاجتماعية، والحياتية التي تناط بالإبداع الأدبي؟
وأخيرا ما علاقة هذا الأدب بغيره من الفنون المشاركة له في تحقيق الوظيفة الجمالية (الموسيقى، الفن التشكيلي، السينما…)؟
الإجابة على هذه الأسئلة هي المهمة الموكلة إلى النظرية النقدية؛ فإن لم تتحقق هذه النظرية باتت ماهية الأدب، وأجناسه، وشبكة علاقاته، ووظائفه، ومحددات نظامه مع الفنون الأخرى مجهولة، وموسومة بالارتجالية، والمحدودية، والتكرار؛ ذلك أن الوعي بالآداب يتطور بتطور النظريات، وينتقل من تشكّل إلى آخر بتقادمها.
ما يعني أن وجود النظرية النقدية ضرورة لا غنى عنها للآداب؛ وهذا ما يلجئ الثقافات غير المُنتِجَة إلى استعارة نظريات قد تتناغم مع عوز مرحلتها؛ فتوافيها ببعض حاجاتها، وقد لا تتناغم؛ فتزجُّ بها في زوبعة من الإشكاليات المُسْتَهْلِكَة لجهد جيل من أجيالها. فتشكُّل أي نظرية نقدية في أي حضارة من الحضارات مبني على حاجة الأدب إليها، في طور من أطوار تكوينه؛ حتى إذا ما أفاد منها، ووجد بغيته في تجاوزها كان لزاما على المعنيين تطويرها؛ فإن تعذر عليهم ذلك أبدلوها بأخرى.
ومَسَدُّ هذا أن الثقافات المقترضة نظريات غيرها قد تكون عرضة للتورط في إشكالات من مظاهرها:
استعارة ما لا يتطابق مع عوز مرحلتها حتى وإن كان مثمرًا.
القفز من نظرية إلى أخرى -مصاحبة لتقدم الآخر المنتج- قبل اكتمال حاجتها من الأولى؛ كما حدث مع الثقافة العربية في انتقالها إلى نظريات ما بعد الحداثة؛ قبل أن تفيد ما يكفي من نظريات الحداثة.
الانفصام القيمي، أو المفهومي؛ الناجم عن تعارض بعض مبادئ النظرية المستوردة مع بعض المبادئ الموروثة.
وبشيء من التعميم فالنظرية منظومة فكرية متطورة مُوَجِّهَة على المستوى العام للإنجاز الحضاري؛ وعلى المستوى النقدي للإنجاز الأدبي؛ ولهذا فغيابها مؤشر لغياب الوعي البشري العميق في التعامل مع الحياة، والنص على السواء؛ واقتراضها فاتح لرصيد من الإشكالات المتوقعة، وغير المتوقعة.
ثانيًا: صلاحية مصطلح العروبة (العربيّة) لتسمية النظرية
في ضوء ما تقدم يجب التفكير مليَّا في عنونة النظرية بمصطلح العروبة (العربية)؛ إذ يترتب على اتخاذ مثل هذا الإجراء نتائج؛ محتواها:
توجيه النظرية نحو الرهان الإيديولوجي الكفيل بإجهاضها؛ وبالمقابل صرفها عن الرهان العلميّ؛ الذي لا تكون نظرية مُحقِّقَة لإضافة في ميدانها إلا به.
زَجُّ النظرية في إشكالات جانبيّة هي في غنى عنها؛ فمصطلح العروبة محمّل بحساسية الإشارة إلى العرق العربيّ؛ الذي لا يشمل كل أقاليم العالم العربي.
قابليةُ هذا المصطلح القومي للتشظّي إلى مصطلحات وطنية؛ تحت تأثير النزعات الإقليمية؛ فنصبح أمام النظرية المصريّة، والنظرية المغربيّة، والنظرية اليمنيّة؛ لمجرد التمثيل؛ وهذا تطور مفترض مساره غير علمي.
إيعازُ هذا المصطلح (العربية) بالتطلع إلى بناء نظرية مُطْلَقَة تمثِّل الأمة العربيّة في مختلف الأزمنة، والأمكنة. وهذا الوعي يباين طبيعة النظرية؛ التي تُؤسَّس في مرحلة ما تحت إلحاحِ دواعٍ معينة؛ ثم تتطور بزوالها، وانبجاس عوامل أخرى؛ فإن تعذَّر عليها ذلك أُبْدِلَت بسواها؛ وهذا ما أفضى بالثقافة الأوروبية إلى تأسيس سلسلة من النظريات المتلاحقة، والمكمِّلَة لبعضها بعضا رغم تباينها.
على المستوى الأيديولوجي/الإنساني يخفف من أزمة استعمال هذا المصطلح (العربية) إحالته إلى القيم الموحِّدَة للجماعات المَنْعُوتة بالعالم العربي؛ وعلى وجه التعيين قيمتي: اللغة، والمكان. أما على المستوى العلمي فتظل الإشكالية قائمة؛ ونستأنس للحدِّ من أثرها بنظرية الشكلانيين الروس؛ التي سُمِّيَت بثبت هذا الاسم القومي (الروس) ولكنها لم تعيَّن به إلا بعد أن وسمت بالمصطلح المُحَمَّل بفرادة ابتكارها المعروف بـ(الشكلانية)؛ وهذا يعني أن على النظرية العربيّة تحقيق كشفها؛ وتسمية نفسها به؛ ثم إتباعه بمصطلح (العروبة) إن كان لذلك ضرورة. أما أن يكون السبق في التسمية، وبناء العنوان لهذا المصطلح (العروبة) فتلك إشكالية أخرى؛ لأن السّبق في التأسيس يفضي إلى السبق في التوجيه.
ثالثا: القبليّات اللازمة لاستشراف نظرية نقدية عربية
استشرافُ نظرية نقدية عربية مرهونٌ بقبليات عدَّة؛ تأتي في صدارتها:
جاهزية الحاضنة الثقافية، والاجتماعية، وبالإجمال الحضارية.
تكوين النقاد، والمنظرين المُعَوَّل عليهم في تأسيس هذه النظرية.
التراكم الثقافي المُنجز المُشكِّل برصيده خلفية مرجعية تستند إليها النظرية.
جاهِزيَّةُ هذه القبليات مُمَهِّدَة لاستقبال نظرية نقدية أدبية عربية مراعية لخصائص النظرية العامة المشروطة بأن تكون:
إنسانية عامة.
علمية لا أيديولوجية.
شارحة للظواهر التي تتناولها.
قابلة للتجاوز، والتحول، والتغير من عصر إلى آخر.
الحاضنة الاجتماعية الحضارية هي الفضاء الواسع الذي تتشكل في رحابه مختلف الحيثيات اللازمة لتأسيس نظرية ما؛ بما في ذلك المُنَظِّرُ المَعْنِي ببناء المشروع، والدراسات المُنْجَزَة الرافدة لولادته.
إذا تفحصنا خارطة العالم العربي، وأطرافها المترامية تبيَّن لنا العُسْرُ الذي يخيِّمُ على المجتمعات العربية بهذا الخصوص؛ مع وجود فوارق ملموسة بين إقليم ثقافي وآخر فجاهزية المحيط المغربي -لمجرد التمثيل- تتجاوز غيرها في إمكانية بلوغ العالمية، وتحقيق مستوى مقبول من العلمية؛ لأسباب في طليعتها:
تشكُّل هذا المحيط من قوميات متعدِّدَة -بالإضافة إلى مجاورته لأعراق متباينة- أكسبت منظريه مرونة تميِّزهم عن غيرهم في التعاطي مع السلطة الأيديولوجية؛ التي تقوِّض هيمنتُها إمكانية تأسيس أي نظرية موسومة بالعالمية.
مجاورةُ هذا المحيط للمحيطات الأخرى المُؤسِّسَة للنظريات الحديثة، والمُصَدِّرَة لها؛ وذلك ما أكسب مُنَظِّرِيه دُرْبَة الانفتاح على الآخر، والاحتكاك به، والإفادة من رصيده المعرفي، بالإضافة إلى القدرة على المُواءمة بين مُنْتَج الثقافة العربية القديمة من ناحية، والثقافة الغربية من ناحية ثانية؛ وهذا ما يَلْزَمُ توافره لتأسيس نظرية نقدية أدبية عربية معاصرة مفيدة من رصيد الآخر الذي لا يمكن تجاوزه، ومستوعبة للموروث الثقافي العربي القديم الرافد لأي مشروع ثقافي عربيّ حديث بهويته التاريخية؛ التي يتبنَّى أبناء هذا المحيط مسؤولية الدفاع عنها، وترسيخها؛ كلما تعرَّضت لمحاولة المحو من قبل ذلك الجار(الأوربي) المتقدم، والمتطلع إلى إذابة الكيانات الأضعف في محتواه. وهذا ما اختبره العربي المشرقي بصورة أقل؛ لما بينه وبين ذلك الآخر من مسافة.
جَاهِزِيَّةُ المُنَظِّرِين لتأسيس نظرية نقدية أدبية على صلة وثيقة بجاهزية الحاضنة الاجتماعية الحضارية؛ لأنها الرَّحِمُ الذي تكونوا في سراته، مع ملاحظة قدرة بعض العقليات على اختراق حصار أيديولوجيا محيطها، وتخلفه في بناء تكوينها؛ وإنتاج دراسات قابلة للتداول، موسومة بخواص تفتقدها ثقافة المحيط الوفيَّة لقيمها المحليَّة، والأيديولوجية.
أما بخصوص التراكم الثقافي المُنْجَز؛ الذي يجب مراجعته؛ لمعرفة المرجعيّة المعطاة؛ التي يمكن لمؤسسي النظرية الاستناد إليها، فالثقافة العربية الحديثة -على المستويين: النظري، والتطبيقي- تعاني من بَذَخ دراستين:
الأولى: المتحيِّزَة للثقافة العربية القديمة.
الثانية: المتحيِّزَة للثقافة الغربية، ونظرياتها، وآلياتها؛ والمتطلعة إلى التماهي معها حَدّ التوحد؛ الذي تعذَّر عليها بلوغه؛ لاكتساب عالميتها، وشرعيتها من وجهة نظر أصحابها.
ومؤدى هذا أن العَيِّنَة الأولى من الدراسات العربية مؤهلة لجرجرة النظرية إلى تكرار القديم؛ وعاجزة عن مدِّها بالتصور الاستشرافي؛ الذي لا تكون إضافة في مجالها إلا به. كما أن العَيِّنَة الثانية من الدراسات مؤهلة لجرجرة النظرية إلى إعادة إنتاج التصور النظري الأوربي الحديث؛ وعاجزة عن رفدها بالوعي الذي يميزها عن غيرها في المشهد التنظيري العالمي الحديث. يضاف إلى ما تقدم أن هاتين العيّنتين من الدراسات عرضة للتورط في الانتصار للإيديولوجيات؛ وذلك ما يضاعف الأزمة.
أمام هذا التداخل، وهذا الإشكال الشائك ليس لنا إلا أن نقترب أكثر من طبيعة النظرية، ومن حاجتها في مرحلة تأسيسها؛ المُلزِمَة لنا بالبحث عن مرجعية عربيّة تمدّها بمادة تبصِّرُها بخصوصية تكوين النص العربي، وشبكة علاقاته؛ على أن تكون هذه المادة قابلة لتوظيف “العالم الأدبي” المَعْنِي بتأسيس النظرية في مرحلتها الأولى؛ وما دام الأمر كذلك فالدراسات الموسومة بهذه الإمكانية؛ هي الدراسات العربية المُسْتَنِدَة في مسارها البحثي إلى الآلية التي أسّستها الشعرية؛ التي نتطلع في مجهود لاحق إلى حصر أهمها، وتحديد طبيعة الإفادة الإجرائية منها.
أنتجت الجهود المستندة إلى اتجاهات بحثية أخرى -غير المسار المتطور عن الشعرية- دراسات قيّمة لا تعدم النفع؛ لكن الإفادة منها في مرحلة تأسيس النظرية مشروطة بتوظيف “العالم الأدبي”؛ المَعْنِي بتأطير النظرية وفق معادلات دقيقة؛ وليس “الناقد الأدبي”؛ الذي نرى دوره لاحقا لهذه المرحلة.
رابعا: علاقة النقد الأدبي العربيّ بالنظريات الغربيّة
نُجمل علاقة النقد الأدبي العربي بالنظريّات الغربيّة بعدد من المحدّدات، التي يتعذر تفصيلها؛ لضيق المقام؛ هي:
أولا: السطحية: فَعَلَى النظريات المُهَاجِرَة من محيطاتها الثقافية المتقدمة إلى المحيطات النامية أن تسطِّح وعيها؛ حتى يتسنَّى للجهاز المستقبل استيعابها.
ثانيا: التحوير: غالبا ما يتم ذلك تحت شعار أن ما تشكل في الغرب من نظريات نقدية سبق له أن تحقق في ثقافتنا القديمة؛ وتتم البرهنة على هذه المقاربات باستدعاء بعض الإرهاصات المبكرة المتناغمة مع هذه النظرية، أو تلك. ولن تنجح مثل هذه الدعوى إلا بشيء من التحوير؛ الذي يقرب مفاهيم هذه النظريات المتأخرة من رصيدنا الثقافي القديم.
ثالثا: الجزئية: إذ تفرض وضعيّة النقد العربي -المخالف في بعض تفاصيله للنقد الأوروبي- التركيز على ما يتماسّ مع حاجاته من ناحية، وعلى ما يجنّب المقترض مواطن الصدام مع موانع أيديولوجياته من ناحية ثانية.
رابعا: تعطيل الفاعلية الإجرائية:
فالنظريات كما تقدم تحَدِّدُ ماهيةَ الآداب، وتنظمُ شبكةَ علاقاتها مع مختلف الأطراف، والفنون وتعيِّنُ وظائف الإبداع؛ وهذا يعني أن لها فاعلية مباشرة، أو غير مباشرة في توجيه المُبدع، والناقد على السواء. لكنّ النظريات الأوربيّة المستعارة غالبا ما تنخرط معطَّلَة من هذه الفاعلية في ثقافتنا العربية؛ إما لسطحية الوعي المستقبل؛ أو لارتطامها ببعض القيم الأيديولوجيّة المتجذرة.
وبالجملة تهدف الذات الناقدة العربية من استعارتها للنظريات النقدية الأدبية الغربية إلى الاقتراب من وعي الآخر (الأوروبي)، والتوحّد به؛ لردم ما بينها وبينه من فجوات؛ لكن واقع الحال يقول إنها عبر هذه المسلك تحافظ على استمرار تقدمه، وتخلفها؛ لأن استيعابها لنتاجه –مهما بذلت من جهد- يظل موسوما بالسطحية، والتشوه، والنقص، وعدم الفاعلية، كما أن دوام ملاحقتها له يؤجل من تأسيسها لنظريتها؛ وثمة مفارقة بين الإفادة من تراكمه النظري في إنتاج مشروعها -وذلك ما يجب أن يكون- وبين ما هي عليه.
للذات النقدية المُقْتَرِضَة أن تستعير الأدوات، والآليات؛ التي بمقدورها توظيفها وفق رؤيتها، أما أن تستعير الإشكالية، أو النظرية فذلك عسير؛ ومفضٍ بها إلى صراعات -بينما يناسبها، وما لا يناسبها، ما قد يعزز وجودها، وما قد يقوض هويتها- وإلى نشوب معارك جانبية تستهلك طاقاتها، وتسحق أزمنتها. وذلك ما لا تتورط فيه الذات الناقدة المؤسِّسَة لنظريتها بالاستناد إلى مكوناتها، وحاجاتها؛ القادرة بعد إنجاز هذه الخطوة على الإفادة من نظريات الآخر بشيء من السكينة، والوعي، والتنظيم وفق عوزها، وخصوصية مشروعها المُسْتَلْهَمَة من فرادة نصها الإبداعي، وشبكة علاقاته.
كل كيان أدبيّ له شراكته البنائية -مع غيره من الآداب- التي تخوِّل له الامتثال النسبي لنظريات الآخر المستوردة، ولكن بالمقابل له تمايزه الجمالي؛ الذي لا يستحق التسمية الإبداعية إلا به، وهو المُلزِم لتأسيس نظرية مستوحاة من أحادية تكوينه، وشبكة علاقاته؛ المباينة بالتأكيد لشبكة علاقة أي نص أدبي في أي محيط آخر. ومؤدى هذا أن للنص الأدبي العربي خصوصيته النسبية؛ التي تجعله يأبى الخضوع الكلي لتلك النظريات المُستقطَبَة.
خامسا: علاقة النظرية النقدية العربية المُفْتَرَضَة بالتراث العربي
العلاقة المتوقَّعة للنظرية المفترضة بالتراث حَذِرَة، وشديدةُ الحساسية؛ فهو من أهم المصادر الرافدة لهويتها في المشهد التنظيري العالمي، وبالمقابل من احتمالات وقوعها في التكرار، والاجترار؛ ولهذا فالأصل أن تتم المواءمة بين هذين الطرفين (النظرية، والتراث) بشيء من الوعي العميق، والرقابة النقدية العالية المفيدة من تاريخ الاجترار الطويل؛ الذي عاشه النص الأدبي العربي، والنقدي على السواء.
من المحددات التي يجب أن تتم المقاربة بين النظرية والتراث في ضوئها:
أن يُنْظَر إلى محاور تَجَسْدُن التراث في النص الأدبي العربي الحديث؛ لرصدها ضمن مكتسباته الموروثة المحددة لهويته.
أن تُعَاد قراءة مواد التراث العربي ذات العلاقة بحاجة النظرية بآليات جديدة تنطِّقُها بعض التفاصيل المخبأة؛ التي قد تضيء للنظرية استشراف علائق، ومسارات خاصة بها؛ فمع تعدّد القراءة يتوالد التراث، ويتجّدد، وتتوارد الحقائق، التي تعذر على الأجهزة القرائية التقليدية القديمة بلوغها.
وما قلناه آنفا نقوله مجددا؛ فللمادة التراثية المَعْنِيّة بالدراسة أن تخضع لقراءات أجهزة مختلفة -كنظرية القراءة، والنقد الثقافي؛ لمجرد التمثيل- على أن تعمل تحت توجيه (علم الأدب) المَعْنِي برسم خارطة النظرية، وتأسيسها، وتحديد حاجاتها؛ وهنا نصبح أمام ما يمكن تسميته بـ(مختبر القراءة)؛ الداعم لتأسيس النظرية.
سادسا: المصادر الرافدة للنظرية بخصوصيتها
من أين تستمد هذه النظرية خصوصيتها؛ التي تمكنها من الاستقلال كنظرية تشكل إضافة إلى النظريات النقدية المتحققة؟ هذا ما يجب التفكير فيه مليًّا. هل تستند في ذلك إلى الأيديولوجيا العربية؟ بوساطة مصطلح العروبة؛ الذي تعنون به كلما طرح موضوعها للنقاش. أم إلى مصوغات أخرى يمكن اقتراحها؟
والجواب في تقديرنا يحتاج إلى الاهتداء بالنظريات المهيمنة على المشهد النقدي العالمي، الناجحة في ترسيخ مفارقة غيرها؛ كنظرية الشكلانيين الروس -على سبيل التمثيل- المُسْتَمِدَّة أحاديتها من فرادة رؤيتها، وليس من الخلفية الإيديولوجية؛ التي لو رضخت لحصارها لما كتبت لها الحياة؛ ولما غادرت محيطها؛ واستقبلتها المحيطات المعرفية الأخرى؛ ولما تيسر للنظريات اللاحقة المتعلقة بالأطراف الخارجية -مثل نظرية التلقي- الإفادة منها. هكذا ننظر إلى النظرية بِنَعْتها وصفاً علميَّاً للنص الكائن، واستشرافا للنص الممكن. وهكذا يمكن لقفزة في الوعي أن تتحقق.
وبشكل عام فمصادر رفد النظرية باستقلاليتها -حسب تقديرنا- متعددة؛ نذكر منها:
خصوصية رؤيتها.
خصوصية كينونة النص الذي استلهمت تحققها منه، ومن شبكة علاقاته بالأطراف الأخرى.
خصوصية محيطها الحضاري.
خصوصية رافدها التراثي؛ المتمثل بالثقافة العربية القديمة.
خصوصية زمنها؛ المحدد بالمعاصر.
خصوصية علاقاتها بالحضارات النشطة في مرحلتها، وبنظرياتها؛ فالآخر يوافيك بمصادر فرادتك، ويلهمك بمواطن مباينتك له، وتكميلك لنواقصه.
خصوصية الإشكالات المُلْزِمَة لتأسيسها؛ فالنظرية تؤسس لحل إشكالات ملتبسة تجاه النص، وعلاقاته.
خصوصية المآزق التي تواجهها، وتعترض تحققها، وتلزمها بتغيير مسارها، أو إبدال قبلتها من وجهة إلى أخرى.
ومعطى هذا أن مصادر الفرادة متعددة؛ وأن بعضها قد يتحقق لنظرية، والبعض الآخر لسواها. الوقوع على مصدر معين لاستلهام هذي الخصوصية، أو تلك ذو علاقة بتكوين المُنَظِّر، وعبقريته، وثقافته، وقدرته على جَسِّ الحيثيات المعطاة، واستنطاقها؛ والبناء عليها.
لهذه المُحَدِّدَات أن تمدَّ النظرية بمواطن أحاديّتها؛ مثلما لها أيضا أن تمدها بمواطن تعثرها، وتكرارها لتصورات ماضويّة، أو معاصرة؛ فالمُوَجِّهَة لفلاحها في هذا أو وقوعها في ذاك هي الآليات المتعاطية معها؛ الموسومة بالعقم، والعطب، والتقليدية؛ كما هو نشاطها في ميادين المعرفة العربية، وبالحداثة، والإنتاجية كما هو نشاطها في ميادين المعرفة الأوربية.
سابعا: الإكراهات المُلْزِمَة بوجود نظرية نقدية عربية
الإكراهات الملزمة بوجود نظرية نقدية عربية كثيرة، ومتداخلة، ومعقَّدة ذات علاقة بالمشهد الإبداعي، والنقدي، والإيديولوجي؛ وبالجملة الحياتي. نجتهد في تقرب بعضها في الموجبات الآتية:
تبصير النص الإبداعي العربي بخصوصيّات تشكّله، وبمقومات هويته في المشهد الإبداعي العالمي؛ الذي لا يحترم المتشابه.
تنظيم علاقة النص الإبداعي بشبكة الأطراف الأخرى؛ التي قد تضطرب فتحول بينه وبين استمرار تجدده.
تحديد المعطيات المتحققة للنص الإبداعي؛ وتجنيبه مزالق التكرار.
توجيه النص الإبداعي؛ لاستشراف تجدده.
تنظيم علاقة الأدب بالأيديولوجيا؛ التي تطغى عليه من حين إلى آخر؛ وتحوله إلى امتداد لصوتها.
توفير المستوى النظري؛ الذي يشكل مهادًا أوليا لاقتراح منهج نقدي في خطوة لاحقة.
تمكين الممارسة النظرية النقدية العربية المأزومة من مصاحبة الإبداع العربي؛ الذي تحقق له في مواقف معدودة إثبات عالميته برغم ما يحيط به من مآزق.
فشل النظريات والمناهج المستعارة في كشف خصوصية النص الإبداعي العربي، وفي معالجة إشكالياته، وتوجيه مساره.
وبالجملة فالنظرية تعيِّنُ هوية الإبداع الأدبي، وترسم مساراته، وتسمي وظائفه، وتضبط علاقاته؛ وتحدد مفارقاته للآداب الأخرى؛ وهي بذلك تُلْهِم الناقدَ -بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- كيف يرتب مادته، ويخطُّ خارطة عمله. فإذا غابت النظرية غاب معها كل هذا.
مقترح التجاوز
النظرية مفتوحة على مختلف الاحتمالات الفكرية، والتطبيقية؛ وما يجب مراعاته أن أي نظرية لن توهب لها الحياة في مرحلتها إلا إذا فطن منظروها لكيفية التعامل مع ظرفهم التاريخي، ومعطيات محيطهم، التي تتباين فيها المجتمعات؛ كما هي المسافة الواسعة بين المجتمع العربي، والأوروبي.
وباختزال مخل؛ فمواجهة هذه الوضعية تكون بالتفكير في تأسيس نظرية قابلة للحياة؛ من مواصفاتها:
مراعاة المرحلة التاريخية التي تتشكل فيها.
الابتعاد عن الصراعات الأيديولوجية الكفيلة بتقويضها.
استقطاب الجهات الداعمة لاستمرار تكوينها.
عِلْمِيَّةُ النظرية هي ما يضمن لها هذه الحيادية؛ وذلك القبول؛ ويمكنها من استقطاب الجهات الداعمة، ويجنبها صدامات الأيديولوجيات المتوحشة؛ التي لا تقوى على منازلتها في محيط كمحيطنا، وزمن كزمننا. وهذا ما سبق للشكلانيين الروس أن فطنوا له في مرحلة تأسيس نظريتهم؛ المولودة محاطة بكل هذه الإشكالات؛ والمتحولة بعد نجاحها إلى بذرة مساهمة في إنتاج سلسلة لاحقة من النظريات المتواردة، المتناغمة معها حينا، والمباينة لها حينا آخر.
كُتِبَتْ الحياةُ للنظرية الشكلانية في موطنها الأول؛ ثم تسنى لها الارتحال من بلد ثقافي إلى آخر متجاوزة كل الحواجز الحدودية، والموانع الإقليمية؛ لأنها بهذه القيم؛ التي تؤهلها للقبول، واستمرار النمو أينما أقامت. ولعل المسار النقدي المتطور عن هذا الاتجاه الشكلاني – في محيطنا الثقافي- هو الأنسب لاحتضان النظرية النقدية العربية في مرحلتها الأولى؛ حسب تقديرنا.
يرفض تصورنا هذا القناعات المُؤجِّلَة؛ التي ترى أن تأسيس نظرية نقدية عربية يعوزه سقف عال من الحرية؛ وأن محدودية هذا السقف في عالمنا العربي مبرر للتوقف عن التفكير في الأمر إلى أزمنة مأمولة غير معلومة. فقبول الواقع؛ والاشتغال على معطياته هو الخيار الأمثل، المحرك لعجلة السير المتعثرة، أو الواقفة.
ثامنا: تَعْيينُ البداية وتسميةُ المَعْنِي بالبدء
على النظرية العربية أن تبدأ مسارها بِجَسِّ كينونة النص العربي، وكشف شبكة علاقاته؛ ثم لها أن ترتحل بعد ذلك إلى مستويات أخرى؛ لأن الشروع دائما يكون بتحديد جوهر الشيء، والبحث في روابطه، ومواطن تبايناته مع غيره؛ وهذا يعني أن تُوكل مهمة تأسيس النظرية إلى المسار النقدي المتطور عن الشعرية؛ التي أولت اهتمامها لتنفيذ مثل هذه العملية بالاستناد إلى قوانين يمكن الإمساك بها، وقياسها بعيدا عن التخمين، والتوظيف، والتلفيق؛ الذي تمليه هذه الجهة، أو تلك.
تسميةُ البداية هي تحديدٌ للمَعْنِي بالبدء في الوقت نفسه؛ فالأصل في إيكال هذه المهمة أن تسند إلى من نظّر له سعيد يقطين بمصطلح “العالم الأدبي” -الذي عرفه بالمقارنة مع الناقد الأدبي- وعين وظيفته بدراسة “علم الأدب” -أو بـ”الأدبية”؛ حسب تعبير الشكلانيين الروس- المُكلَّف بالبحث في كبريات قوانين الأدب، وقضاياه، وعلاقاته.
للنظرية العربية في مراحل لاحقة أن تتجاوز هذا الأفق؛ ولكن بعد تَحَقُّقِه؛ لأنه الأساس الأول الذي يُبْنَى عليه، ويُنْظَرُ في توسعاته المقبلة؛ بالإفادة من مختلف المسارات النقدية الأخرى.