أحمد فتحي
لا أدري من أين أبدأ، لكي أكون جديرا بخوض غمار البحر اليمني الزاخر بالإبداع الأصيل والحضور النخبوي والشعبي الواسع يمنيا وعربيا، شاعر اليمن الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح الذي كان له الفضل الكبير في صناعة المشهد اليمني الأدبي الحداثي، كما كان له الفضل في تشجيعي ودعم مسيرتي الفنية والموسيقية بما هو جميل وجدير بأن يغدو على ألسنة الناس من أغانٍ شهيرة.
لكني أستطيع في هذا المقام أن استعيد تلك الذكريات والأيام الجميلة من أيام القاهرة التي تشرفت فيها بالتعرف على «المقالح» الإنسان العظيم والأب الروحي لكل المبدعين اليمنيين. والذي رغم سماعي به وبحضوره الشعري والأدبي المعاصر على المستوى اليمني والعربي، في منتصف السبعينيات، إلا أني لم أكن على معرفة به عن قرب .
ومما أتذكره هو أن معرفتي الأولى به كانت محمولة على الصدفة، ففي أحد أيام العام 1975م كنت في القاهرة، وبين الحين والآخر، كان يزورنا صديقنا الرائع والمثقف الكبير الأستاذ عبد الباري طاهر، وفي إحدى تلك الزيارات قال لي إنه يريد أن يزور المقالح، واقترح عليّ أن نذهب معا لزيارته، وهي فرصة كي يعرّفني عليه، ويعرّفه عليّ كفنان مبتدئ وكطالب أدرس في معهد الموسيقى في السنة الثانية، وهو ما كنت أتمناه، فذهبنا إلى حيث يسكن المقالح، وأتذكر أن شقته كانت في ميدان ابن الوليد وهي منطقة حضرية حافلة بالحياة، وتقع بين (الدقي والمهندسين).
وصلنا إلى تلك الشقة، ووجدت مجلس المقالح حافلا بالحضور من أصدقائه الكُثُر، وبعد التعارف، تحدّثنا في موضوع الفن والموسيقى والغناء اليمني، فوجدت المقالح إلى جانب ما كنت أسمعه عنه كشاعر وأديب حداثي، ضليعا بتذوق ونقد جميع الفنون، ومنها فن الغناء، وفق استرسال صادر من ذاكرة المثقف الواعي والمفكر الموسوعي، كما كان شغوفا ومحبا ومشجعا ومتبنيا حقيقيا للمواهب اليمنية الفنية والأدبية.
وسألني المقالح في تلك الزيارة عن تجربتي الغنائية التي لا تزال في البداية، وماذا سبق لي أن لحنت؟ ولمن؟ فقلت له: نعم سبق أن لحّنت بعض الأعمال للشاعر اليمني القدير إبراهيم صادق (من مواليد الحديدة 1931م كان شاعرا وطنيا من أشهر أغانيه الثورية والحماسية «أنا يمني» 1989م) ومن الأعمال التي لحنتها له: «ليلتين» «مش مشكلة» «ربيع الحب» وغيرها من الأغاني.
فقال لي المقالح: هذا شيء جميل ورائع، إن شاء الله ستأتي الزيارة القادمة وقد كتبت لك نصّا غنائيّا، تشتغل عليه. وفعلا زرته المرة القادمة ليفاجئني بنصه الغنائي الشهير «لمع البرق اليماني» فكان نصا غنائيا رائعا وجميلا، بكل المقاييس من الناحيتين البنائية والموضوعية:
فبنائيا: تجسدت فيه شروط النص المكتوب للغناء، فهو قصير الشطور البيتية ما جعله مشبعا بالإيقاع الصادر من التجمعات الصوتية لحروف كل مفردة، وبالموسيقى المنسابة من العبارات الشعرية (المدوزنة) والمبنية بعناية جعلت النص من السهل الممتنع.
وموضوعيا: كان يتحدث عن الحلم اليمني المشترك بين أبناء اليمن شمالا وجنوبا، فهو عن الوحدة اليمنية، وتوحيد الوطن وبنَفَسِ المثقف والأديب والشاعر اليمني، وما يختلج بصدره من أحاسيس وتطلعات إلى وحدة وطنه، وإنهاء الحدود الاستعمارية المصطنعة بين شعب هو في الأصل واحد..
أخذت النص، وبعد فترة لم تزد عن أسبوع أتيت إلى شقة المقالح وأنا أحمل العود وأسمعته اللحن، فأشاد به وأثنى عليّ بكلام لطيف ومشجع، فقال لي المرة القادمة ستأتي يوم كذا سيكون عندي مجموعة من الأصدقاء.
ذهبت على أمل العودة المرة القادمة، ولم يخطر ببالي اسم واحد من مجموعة الأصدقاء، وعندما زرته كما اتفقنا، تفاجأت بقامات كبيرة من أدباء مصر ومثقفيها وأعلامها، مثل: الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي والأديب رجاء النقاش، ومجموعة من الفنانين اليمنيين أمثال: «إبراهيم طاهر، أيوب طارش عبسي. وآخرين من المثقفين والباحثين الجامعيين الذين كانوا يدرسون في القاهرة.
وفي مسار النقاش الهادئ والمنظم الذي كان يديره المقالح بهدوء، وفجأة قال للحضور: أريد أن أسمعكم الموهبة اليمنية ولدنا الفنان الشاب أحمد فتحي، فبدأت أغني:
«لمع البرق اليماني
فشجاني ما شجاني
جرح القلب اشتياقا
وبعينيه بكـــــــــاني
ليته يحمل شوقي
نحو هاتيك الجِنانِ
لترى نيران شوقي
واحتراقات دخاني
فشجاها ما شجاني
وما إن أكملت الأغنية حتى اشتعل المجلس بالتصفيق، فقد كان النص رفيعا واللحن موفقا، فأثنوا على النص والأداء ثناء كبيرا فقال لهم المقالح: هذا الشاب بالنسبة لنا سيكون «عبد الوهاب اليمن».
بعد تلك الجلسة المهمة بالنسبة لمستقبلي الفني، تتابعت الزيارات، وكتبَ لي نصه الغنائي الجميل: «ظبي اليمن» و«المهم أنت يا احوم» التي تقول في مطلعها: «إن يحرمونا يا حبيب الغرام» وعنوانها الأصلي: (الحب والفقر)، لكن الجمهور هو من غير اسمها إلى: «المهم انت يا احوم» والبعض يسميها: «أولاد آدم».
النص الغنائي الثالث الذي لحنته للمقالح هو «ظبي اليمن» التي اشتهرت بلازمة شعبية دخلت على النص أثناء الاشتغال على تلحينه: «لفتش مغطى ولا غطي على مفتوش»، وكان المقالح حريصا دائما على استخدام اللازمة التي كتبها في النص: «حزني مغطى، وقلبي للهوى مفتوش»..
معرفتي بشاعر اليمن الكبير عد العزيز المقالح، في القاهرة، وتلك النصوص الثلاثة، التي لحّنتها حينها شكلت محطة محورية على طريق التأسيس لتجربتي الفنية، واستمر التواصل بيننا بعد أن غادر المقالح مصر إلى اليمن، وعندما سافرت إلى صنعاء بعد فترة من الزمن، زرته في مركز الدراسات والبحوث، فقال لي: «أريد أن نلتقي في المقيل»، وكان قد جهّز نصا عظيما، هو نصه الغنائي: «صنعانية»، وعندما ذهبت إلى مقيل المقالح وجدته عامرا بنخبة رفيعة من رموز اليمن، وبحضور شعبي من عامة الناس والشباب المبدعين..
وما يلفت الانتباه هو أن شخصية المقالح، تتميز بالتواضع ودماثة الأخلاق والحضور النخبوي والشعبي، فهو إنسان عظيم بمعنى الكلمة.. قال لي يومها وهو يسلمني النص: أنا على ثقة أنك ستلحن النص لحنا يجعله من أجمل أغانيك، فأخذت النص وذهبت إلى الفندق، فقرأته أكثر من مرة، فوجدته نصّا عالي المستوى، وناتجا عن عبقرية شاعرية عالية الحساسية حيث يشتمل على صور شعرية تنساب لحنا بطبيعته العامرة بموسيقى الوجود، وعوالم الرقة والانسجام بين «المبنى والمعنى والمغنى»:
«صنعانية، مرَّت من الشارع غبَشْ
كان الزمن ظمآن، والفجر اشتكى نار العطشْ
لكنها لما مشت سال الندى
والورد فتّح وانتعش.
صنعانية
صدر المدينة هش، والشارع تغنى وارتعش
يا صاحب المغنى اقترب،
واجمع صدى الخطوات،
واقرأ ما نقش.
صنعانية..»
لقد تملك هذا النص كياني وغدا نسقه الشعري التصويري شغلي الشاغل، وكما لو أنني أستحضر المشاهد والخطوات المتساوقة مع غبش الفجر وقبيل أن يصحو الضجيج في شوارع صنعاء القديمة، صنعاء الحضارة والتاريخ والعمق الإنساني، ولقد أخذت وقتا كافيا أوصلني إلى قناعة باكتمال النص بلحنه اللائق به، لأتصل بالمقالح من القاهرة، قلت له: أتممت اللحن وأعتقد أني استطعت أن أترجم النص ترجمة تليق به، وسأبدأ أشتغل على تسجيله وانزاله إلى السوق، فقال لي: على بركة الله، موفق وابداعاتك بلا شك مرشحة للانتشار والبقاء، فأنزلت الأغنية إلى السوق، واذا بها تنتشر كالنار في الهشيم، في اليمن والخليج والجزيرة العربية وتناولته كثير من البرامج الاذاعية والتلفزيونية العربية، واحتلّت المراتب الأولى في أكثر من قناة وأكثر من برنامج، وغدت على ألسنة النخب والعامة، والحمد لله.
وعندما عدت إلى اليمن بعد الدراسة سنة 1980م عملت لوحات غنائية لمسرحية «الفأر في قفص الاتهام»، فكانت معظم النصوص في هذا العمل للدكتور المقالح، «نحن جنودك يا بلقيس»، و«إلى سيف بن ذي يزن»، كثير من النصوص لحنتها في هذه المسرحية، وبعد فترة من الزمن هاجرت إلى القاهرة، وظل التعاون الثنائي مع المقالح قائما، وقد أنتج نصوصا غنائية كثيرة منها:
«لا تظلموه يا ناس اذا ترايا
وأبصر حبيب القلب في المرايا
لا كلمه لا شاهده لا ذاب في الحنايا
بل شاهده عبر الفضا وارسل له التحايا»
ومن النصوص الغنائية والجمالية التي كتبها المقالح:
«سيرة شجن»
غنّى القمر ودندن
وأرسل حنينه في دمي وهنهن
سيرة شجن،
صاغ الهوى ميعادها ولحن
يا عاذلي، مالك ولي، قلبك خلي،
وانا فؤادي كم شكى.. ! وكم حن !»
وبالعودة إلى مجلس المقالح في القاهرة، فأودّ التوضيح بأن من ذكرتهم آنفا، وكانوا حاضرين أثناء تلك الجلسة الفنية والنقاشية، فهم ممن كنت أعرف واستطعت استحضار أسمائهم فقط، وما تجدر الإشارة إليه هو أن المجلس شكّل في تلك الفترة ملتقىً ثقافيا تحفّه السكينة والنقاش المنتظم على قضايا الأمة، كما كان عظيما وعامرا بحضور نخبوي من الشعراء والفنانين والموسيقيين والمثقفين المصريين العرب، وأتذكر أن من أهم مرتاديه حينها من الجانب المصري إلى جانب من ذكرتهم سابقا: الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، والشاعر حسن طلب، والفنان المصري محمد منير، وغيرهم.
حفظ الله استاذنا القدير والجليل الشاعر والمفكر الموسوعي عبد العزيز المقالح.