ع . ر
في أوّل حضور لي بمجلس الدكتور عبدالعزيز المقالح، في مركز الدراسات اليمنية، دخلت بصحبة صديقي الشاعر فضل خلف جبر، فشاهدت المقالح يجلس في صدارة المجلس، وكان المكان الذي على يمينه شاغرا وكذلك الذي يساره، فيما جلس أكاديميون في أماكن أخرى، وحين استغربت جلوسه وحيدا، أفهمني صديقي فضل أنّ الأماكن المجاورة للدكتور محجوزة لأصدقائه المقرّبين، يومها، عرفت المكانة المتميّزة التي حجزها المقالح لأصدقائه في حياته، فلم يحتف شاعر عربي حديث بالأصدقاء في كيانه، ووجدانه، وشعره كالمقالح، ففي حياته، كثيرا ما كنّا نراه في صنعاء محاطا بحلقة من الأصدقاء المقرّبين الذين يرافقونه في كلّ مكان يحلّ به، لدرجة أنّ أماكن جلوسهم باتت معروفة للجميع، وإن غاب أحدهم يتفقّده، ولا يطمئن له بال حتّى يصل إذا كان متأخّرا، أويتّصل به هاتفيّا إن كان يتعذّر عليه حضور ذلك اللقاء، الذي هو شبه يومي.
هذا عن مكانة الأصدقاء في حياته، أمّا في شعره، ففي معظم دواوينه يأتي على ذكر الأصدقاء مناجيا، وشاكيا، وراثيا زمنا مضى:
«الصديق الذي كان لي مات
خلف عنوانه ومضى راكضا
يتسكع تحت القبور الأليفة
بحثا عن الأصدقاء الحميمين
يا أصدقائي الكثيرين , يا أيّها الطيّبون:
اتركوني وحيدا
أفتّش بين القبور الأليفة
عن صور لبقايا الأحبّة والأصدقاء»
ويكفي أنّه أفرد للأصدقاء كتابا أسماه «كتاب الأصدقاء» الصادر عن دار نجيب الريس للكتب والنشر ببيروت في 2002 م، ففيه حشد من أصدقائه الذين جمعته بهم صداقة إنسانيّة وثقافيّة، كأدونيس، والفيتوري، وسليمان العيسى، وحاتم الصكر، وعلوي الهاشمي، ومحمود درويش، وعبدالوهاب البياتي، وعدنان الصائغ، ومحمد الغزّي، وخالد الرويشان، وزيد مطيع دماج، ومحمد عبدالسلام منصور، وعلي الشلاه، وبعضهم ثقافية فقط كونهم عاشوا في زمن آخر، لكنه اختارهم أصدقاء له كالمتنبي، والمعرّي، والنفّري، وأحمد شوقي، أو في عصرنا لكن لم يجتمع بهم كأحمد شوقي، والسيّاب، ونازك الملائكة، وبلغ عددهم سبعة وسبعين صديقا، فاردًا لكلّ صديق صفحتين، الأولى رسم فيها صورة قلميّة للصديق، والثانية يورد فيها مقطعا لذلك الصديق من نص شعري، أو سردي، أو مقال، ففي لوحة أدونيس يقول:
شاعر يجمع الأرض والشمس
بين أصابعه
يجمع البحر والنهر في مورق
من فضاء قصائده..
مهيار
ها أنت في صيغة الجمع
أم أنت جمع على صيغة المفرد المتفرد؟
حيرتني – أتذكر –
انك حيرت كل الذين أحبوك
كل الذين على قلق خاصموك
كأنك نهر يخبئ أسراره خلف موج الكلام
يسير ببطء ليشرب من مائه العذب كل الأنام
ويختار مقطعا لأدونيس من ديوانه (أغاني مهيار الدمشقي) :
« امض ابتعد
واحتضن الأمواج والهواء
واحمل على أهدابك السحاب والبروق
ولتنكسر وراءك
مرآتنا , ولتنكسر قارورة السنين»
ويأخذ حضور الأصدقاء شكلا أبعد، وأعمق عندما يرى الشاعر في عيونهم «البلاد التي تبتعد» كما رأينا في اللوحة التي رسمها للشاعر (عدنان الصائغ) :
« يتأبط منفاه
في خجل
وانكسار ٍ
ويأوي إلى نفسه كلما أغمضت ْ
أعين الأصدقاء
يسألها ـ نفسه ـ
عن بلاد ٍ وراء الغبار
وصداقات المقالح معمّرة مثل أشجار السنديان، عميقة الجذور، متشابكة الأغصان، وحين فقد صديقه الروائي زيد مطيع دمّاح مبدع رواية «الرهينة»، ظلّ على تواصل مع أسرته، وأولاده، حتى شبّ ولد الراحل زيد، همدان، وصار ملازما لمجلسه الأدبي، متابعا لكلّ صغيرة، وكبيرة تخصّه، وهذا ما جرى مع الشاعر الراحل محمد حسين هيثم إذ وظّف ابنه البكر في مركز الدراسات اليمنية ليظلّ حضور والده مستمرا، ولو بشكل رمزي، فصداقاته لا يفصم عراها الموت، ولا حتى السفر، فقد ظلّ تواصله مستمرا مع من أقام باليمن، أو زارها، ثم غادرها، وفي حوار لي معه أكّد هذا المعنى بقوله «الصداقات والزمالات التي غادرت عالمنا بالموت، أو الهجرة إلى الأماكن البعيدة تظل حاضرة في الوجدان متجذرة في الروح وبكل الإيمان والصدق لا أستطيع أن أتصور عالمنا أو عالمي الخاص خاليا من صلاح عبدالصبور، وأمل دنقل، وزكي بركات، وعبد اللطيف الربيع , ومن الصعب، بل من المستحيل تحديد الملامح، والظلال التي تركها الأحياء والأموات من الأصدقاء في الروح أو التجربة»
وحين خاطب روح الشاعر صلاح عبد الصبور قال :
«يا صديقي:
لماذا تعجلت موتك
واخترت أن تشرب الكأس
منفردا؟
أنت من كان يؤثر أصحابه
ويقاسمهم – في المودة-
ورد الحياة»
وقد يلاحظ المتتبع لشعر المقالح شكوى لديه من الأصدقاء، يبثّّها بين السطور، أو بشكل صريح، كما نرى بمقاطع من شعره، فالشاعر:
لا أصدقاء له غير توت البيوت
يناوش أطفالها وعجائزها بالأساطير
وفي قصيدته «ابتهالات» المنشورة في ديوانه «أبجدية الروح» يقول:
إلهي
أعوذ بك الآن من شرّ نفسي
ومن شرّ أهلي
ومن شرّ أصحابي الطيّبين»
فكيف يجتمع الشرّ مع الصداقة، والطيبة؟ هل يريد أن يحيلنا إلى قول المتنبي، صديقه الأوّل في «كتاب الأصدقاء» :
«ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوّا له مامن صداقته بدّ»؟
أو قوله
« ومن العداوة ما ينالك نفعه
ومن الصداقة ما يضرّ ويؤلم»؟
وهل تلك الشكوى المريرة هي انعكاسات لجروح أصابت روح الشاعر المرهفة، وأحاسيسه الرقيقة بقروح لا تندمل؟
أم أن هناك أسرارا دفينة في قلبه لايودّ الكشف عنها، حفاظا على حبال المودّة؟ أم تصبّ في ضيق الشاعر بالعالم، وأحزانه، وهو يلتحم بصخب الوجود؟
أرى أنّ هذه التساؤلات مجتمعة تحمل في رحمها جزءا من الإجابات، فالمقالح الذي أسبغ على المحيطين به من أصدقائه عاطفة جيّاشة، واهتماما بالغا، ومحبّة صادقة، بالتأكيد سيكون حسّاسا جدّا إزاء فقدانهم، بالرحيل، أو السفر، أو تقلبات ظروف الحياة، ذلك القلق الذي يتسرّب من ثنايا شعره، هو ذاته القلق الذي يجعله يتفقّدهم واحدا واحدا في كلّ لقاء، ويبقى شغلهم الشاغل معرفة سبب غياب أحدهم، رغم وجود المحيطين به، ولا يهدأ له بال حتّى يطمئنّ عليه، أليس من الطبيعي لمن يحمل هذا الحبّ الجارف للأصدقاء أن يشعر بالألم الذي يدسّه بين سطوره إن بدر من الطرف الآخر، ما يزعجه؟
وربّما من خشية الفقدان، لاسيّما وقد فقد الكثير في رحلة الحياة، لكنّ أمكنة أصدقائه ظلّت محجوزة لهم مع شعور جارف بالألم!