راما وهبة
(1)
ورقةٌ بيضاء
ربَّما هذا كلّ ما تريدهُ
لتعلمَ أنَّ بداياتِ الكلام لم تكن أكثر من استرخاءِ أصابعكَ على زمنٍ مبهمٍ
ترتفعُ في مخيِّلتكَ مشاهد تبحثُ فيها عن اللُّغةِ
حين لم يأتلف صوتُكَ مع ذاكرةِ التُّرابِ
وتلك الشُّقوقِ الصَّغيرةِ التي تلمِسُها محنيًَّا بيأسٍ مزدوجٍ
لأنَّ الذُّبولَ على زهرةٍ
سرقَ معنى وجودكَ كاملًا
.
أبحثُ عن اسمٍ
يكون مناسبًا لحلِّ تلك النِّزاعاتِ بين الشُّعورِ والكلمةِ
واستلابنا من الغيرةِ
والخوفِ ممَّا قد يكون
أبحثُ عن اسمٍ
أرتديهِ عندما أخرجُ من نفسي
ومن الآخرين
تحت مطرٍ خفيفٍ
أبحثُ عن اسمٍ
يكون حاضرًا للقفزِ في بحيراتِ الضَّوءِ
وانتقاءِ الدِّفءِ سيرًا على الأقدامِ
حين لا يناديني أحد
أبحثُ عن اسمٍ
يكوم مناسبًا تمامًا
لكتابةِ الشِّعرِ
بعد تجريدِ الحداثةِ من إنشاءاتها العسكريَّة
وتأمُّل الموسيقا التي تعودُ إلى البدءِ في الصَّمتِ والرَّبيعِ
.
لم تعد الرَّغبةُ
مغامرةَ الجسدِ لاكتشافِ جسدٍ
يحملُ المقدرةَ نفسَها على اللُّهاثِ والتَّعرُّقِ والنُّضوجِ
مع الوقت
يصبحُ الشُّعورُ بالرَّغبة أعمقَ
من أن يحتويهِ جسدان
تثيرني تلك الأشياء التي تمنحنِي القدرة
على الخروجِ إلى أشكالِ الحواس الأكثرَ انفتاحًا
مثل اللَّونِ الشَّفقيِّ لنافذةٍ
تهشِّم في الأضلاعِ
رغبةَ الأيائلِ لاستنشاقِ رائحةِ الغابِ
أو حين أبدأ النَّهارَ بمقطوعةٍ لديبوسي
وأدركُ أنَّ أكثرَ ما يدهشني في الموسيقا
هو ما يجعلني متماهيةً
مع احتمالِ البقاءِ والغيابِ
عن الأشرعةِ والفصولِ وانطواءِ وجهكَ على عنقي
هذا الشُّعورُ بالإمساكِ بشيءٍ لا يكون حيًَّا
إلَّا حين تتأمَّله
وتلمسُهُ
تليِّنُ في أعماقهِ قسوةَ الحوافِ
ثم ترفعُهُ برفقٍ إلى شفتيكَ
كيلا يعرفَ الزَّوالَ أبدًا
(2)
ليسَ من السَّهلِ الخروج للرَّبيعِ
الكثيرُ من الذَّاكرةِ
الوقتِ
والغبارِ
والخوفِ من أن تكونَ وحدَك أيضًا
.
على الطَّريقِ
تتدلَّى شجيراتُ النَّفنافِ على الأسوارِ
ترتعشُ
ثم تتساقطُ مع كلِّ ذاكرةٍ ضائعةٍ للشُّعورِ
هذا مشابهُ تمامًا
لما يحدُث
كلَّما حاولتُ استعادة صوتك
دونَ الكلماتِ التي تحدِّثني بها
.
ليسّ كلُّ شيءٍ
معرفةً
الرَّبيعُ يترك دائمًا الموتَ وراءه
دون أن يعرفَ إلى أين يمضي
(3)
قبلةٌ
ما تبقَّى منها على شفتيَّ
يخبركَ:
«دعْ الأصدافَ في البحرِ»
هنا
كلُّ شيءٍ يعودُ إلى نفسهِ
الغيمُ للغيمِ
الأمواجُ للأمواجِ
الزَّبدُ للزَّبدِ
وأنا
إليك.
.
السَّواحلُ
تشربُ لونَ النَّهار كلّه
الحيرةُ
في عينيَّ فقط.
.
الزَّبدُ ينطفئُ
على مهلٍ.. على مهلٍ
أسمعُكَ
عميقٌ ودافئٌ
هذا الانتظار
.
أراكَ
تتحدَّث مع الآخرين
تلتفتُ للذَّاكرة
تستعيدُ عينيك من كتفِ النَّهارِ
تلمسُ الهواءَ
تضحكُ
مثل شراعٍ
النَّظرُ إليك يعانقني
حتَّى وأنت تبتعد.
(4)
أتجاهلُ
المدنَ التي تتلاشى
التَّاريخَ الذي تعبَ من نصبِ الهراءِ
الإنسانَ الذي رأى كلَّ شيءٍ
مثلَ حجر
.
أتجاهلُ
الوقوفَ على جثثِ العالمِ بازدراءٍ
الغربَ الذي يسخرُ حتًّى من نفسهِ
والشَّرقَ الذي لم يعد شرقًا
مع فوكوياما أتامَّلُ صفحاتِ كتابٍ وأضحك
كيف بإمكاننا الاستمرارَ بأكلِ الاناناسِ على سطحِ القمر؟
.
أتجاهلُ
يديَّ الاثنتين
حين أراهما لصيقتين بالذَّاكرةِ
مع لحظاتٍ تموتُ من الجنونِ أو الوحدةِ
والسَّماء من فوقنا
بسرعةٍ
تتبدَّدُ
.
أتجاهلُ
البكاءَ من شدَّة الغيظِ
البكاءَ حين لا ينفعً شيءٌ
البكاءَ ممَّا مضى لأنَّه مضى
البكاءَ في المشيِ والوقوفِ والنَّظرِ والوضوحِ والنَّقصِ والتَّخلِّي
والقتلِ بعد القتلِ بعد القتل
البكاءَ لمجرَّدِ البكاءِ
البكاءَ رغم كلِّ ما يحدث
البكاءَ الذي ينامُ في داخلي كلَّ ليلةٍ
وفي النَّهار يهزُّ أعماقي بيأس
.
أتجاهلُ
صوتَ آلةِ التَّنفُّسِ الاصطناعيِّ
وهي تخرُّ صعودًا وهبوطًا
ثلاثَ مضخاتٍ للأدرينالين
رائحةَ الإيثانول وملمسَ الشَّراشفِ الخضراءَ
شفةّ أمِّي المتدلِّية من العطشِ
وتلك الشُّقوق الدَّمويَّةِ الصَّغيرةِ على أطرافها
أوردتَها التي لم تعد تتَّسع لثقبِ إبرةٍ
جسدَها الضَّئيل
ونظرتَها الأخيرة للبعيد
.
أتجاهلُ
دفقَ الدَّمِ بين ساقيَّ
النَّبضاتِ المتبقيةِ لجنيني الصَّغير
الخدرَ الأسوأ من الموتِ
للاستيقاظِ على رحمٍ فارغٍ
.
أتجاهلُ الحبَّ
النَّوم على ضفَّةِ نهرٍ معتمٍ
حين أمرُّ على جسدك
ولا يكفينا أن نظلَّ أحرارًا من الفقدِ
أو بعيدين
كرجلٍ من انهياراتٍ ومعجزةٍ
وامرأةٍ نسيت أن تكون
.
أتجاهلُ
كلَّ شيءٍ
أتجاهلُ هذا اليوم مثلًا
الدَّقائقَ التي تسبقه
والمجرَّاتِ المكتفية بدورانها في الفراغِ حولَنا
دونَ أن تثبتَ وجودَنا بأدنى حركةٍ
أتجاهلُ ويتمان بين «أوراقِ العشبِ»
الصَّمتَ حين يرسلُ حرِّيته إليك
سؤالَ الرِّيح عن الآتي
والزَّهرةَ التي لم يجد الشتاءُ لها اسمًا.
(5)
لا شيءَ أقولُه لأحدٍ
مطمئنَّةٌ للنَّهارِ الذي يبدِّدُ نفسَه
في نظراتٍ خارجَ الوقتِ
أشجارُ الصَّنوبرِ تخفي نصفَ السَّماءِ
عمَّا قد يكون مجرَّد احتمالٍ
للغةٍ أضعناها
في محاولةِ وصلِ الرُّوح بجثَّة
والحبُّ في داخلي
يهذي:
«في الخارج
كلُّ شيءٍ جسد»
.
الشَّكُّ في أنَّ الرِّيحَ
هي افتقادُ أحدنا للآخر
سيصبحُ أغنيةً
.
رأسُكَ الأكثر عنادًا
من صخرةٍ
يراكمُ كلَّ شيءٍ حولي
كم هي ملساءَ ومدوَّرة
رؤيتنا البائسة لفقاعةِ العالم؟
.
أفكِّر في أشياءَ لا علاقة لها
بالحروبِ التي تروحُ وتجيءُ
مستبدلةً وجوهًا بحجارةٍ
أو بالمدنِ المتساقطةِ
والقتلى الذين يصرُّ أهلهم على تسميتهم بـالمفقودين
أفكِّر في أشياءَ لا علاقةَ لها
بالضَّحكِ أو البكاءِ
على الوباءِ الذي لم يجعل العالم أكثرَ خوفًا
من الزَّوال أجسادًا محترقة
قبل أن تتمكَّن من تقبيلِ أخطائها وعيوبها
والألم في العيش
أفكِّر في أشياءَ لا علاقةَ لها
بما نسيناهُ عن أنفسنا
أو ما أضعناهُ في محاولةِ الوصولِ إليها
كالارتماءِ على أرجوحةٍ
للأعلى نكون جسدًا للهواءِ
للأسفل
شيءٌ لا يرحم
.
أفكِّر في أشياءَ
تمضي مع الحياةِ بخفَّة
طائرٌ يرفع الزَّمنَ
لبحرٍ لا ينامُ
حصوات
تنبضُ تحت الماءِ والضَّوءِ
مثل كلِّ الاختلافات بيننا
سلاحف
تسبحُ ببطءٍ وسهولةٍ
والعالمُ من فوقها
يتخبَّطُ
.
أفكِّرُ في هذه اللُّغة
السُّؤالَ عن (لماذا نكتب)؟
ربَّما لأنَّني:
«حين أكتبُ أشعرُ أنَّك تمشي بجانبي»
أو كما كنتَ لتقول:
«شجرةُ الحزنِ الكبيرةِ تسقطُ ظلالُها هنا»
.
أفكِّرُ كيف أنَّ هذه اللَّحظة
قد تعني أيَّ شيءٍ بيننا
حذاءً مهترئًا
رغوةَ الحليبِ البيضاءَ
شِعراً من (حجرِ الشَّمسِ)
شوارعَ نصادفها
بأسماءٍ «شعراءَ» و «متصوِّفة»
المزيدَ من الأدراجِ الحجريَّةِ
للُّهاثِ وأنفاقِ الضَّوءِ والارتماء ممَّا لا يكون
خروج تمثالِ امرأةٍ من البحرِ «بلا يدين»
تحطُّمَ بريل
مثل قاربٍ على صخرةٍ:
Et ils pissent comme je pleure»
Sur les femmes infidels»
الأثرَ الخافتَ للنُّجوم
للمسِ أصابعك على جلدي
الصورة َالفوتوغرافية بالأبيضِ والأسودِ
التي نجت منها بأعجوبةٍ
حيرتك في المكانِ
رقصكَ البطيءَ في لونِ التُّرابِ والعزلةِ
الشَّتائمَ التي أحتفظ بها
بكائي من الغيرةِ
وأنني فعلًا «لا أحبُّك»
حين أحبُّك
.
مثلَ قلبٍ يمضي
لا شيءَ أقولُه لأحدٍ
مطمئنَّةٌ للنَّهارِ الذي يبدِّدُ نفسَه
في نظراتٍ خارجَ الوقتِ
والحبُّ في داخلي
يهذي:
«طعمُ العسلِ هذا النَّهار
خفيفٌ على اللِّسانِ
شمسيٌّ في الذَّاكرةِ»