حاوره: فاتن حمودي
“شعور ينتابني بأن المكان لا ينتهي بمجرد أن أغادره، وبأنه يصاحبني إلى أمكنة أخرى متّخذا شكلا آخر لوجوده ولعلاقتي به”، هذا ما قاله الشاعر والمترجم الجزائري الخضر شودار، في حوار “ذاكرة المكان”، حيث الرحلة والمدن، والنتاج الثقافي، وخصوصية شاعر مرهف بعلاقته بالأشياء بالكتب وبالمرجعيّات الثقافية. يعرف أن الأشياء تُمطر، فيشتري الكتب المستعملة ليتتبع آثار الآخرين، وهو الشاعر القادم من مناطق بعيدة، وربما لم يطأها أحد، ولأنه لا يرى شيئا خارج دائرة الشعر، فليس غريبًا أن يشكل له الشعر حظ الوجود في الوصول إلى الحياة قبل الموت.
ونحن نقرؤه نسمع شعريّة صوت المطر، نرى الجهة الأخرى من الأشياء، عمله الشعري المقطّر كما العطر، نسأل عما ما وراء التجربة من مدن وأعمار، وتعدد الأنوات، كما قال بيسوا «تعدّدت لأرى».! نقرأ نصوصه طازجة كما أغنية، أو مقطوعة موسيقية ، نتوقف عند محطّات نراها في النصّ والترجمة والشذرات، وخصوصية هذا الشاعر في العلاقة مع الكتب والأشياء و الشارع ومحطة القطار، وتأكيده بأن لا جهة للشعر ولا هويّة، يعيدنا إلى سورة النور “زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار” .
وصل إلى جمهوره الخاص من خلال صفحته على الفايسبوك، التي باتت حديقة ومكتبة تزدهي بالشعر والترجمة والصور، يكفي حين تقرؤه أن تكتشف معنى الرسائل، وأسماء أصحابها، وأن نمضي عميقا إلى تجربته، لتراه من خلال العلاقة مع شعرية كل شيء، الطفولة، صورة الأم والجدة، صور اختلسها في رحلاته، وأن ترى عالمًا أهمّ ما فيه الشعر، فالشعر بالنسبة إليه تقشف عالٍ في اللغة وسياحة قصوى في المتخيّل، يأخذك بترجماته نحو الأقاصي نحو أماكن ووجوه، والأهم أنه يحرضنا على القبض على اللحظة الشعرية وبروق الحب وسحر الأمكنة، له “الجهة الأخرى من الأشياء” شعر، إلى جانب كتابين مترجمين آلان بوسكيه: ملمسك ناعم كموت شجرة ( شذرات)، وكتاب أنيز كولتز، وثمة مشاريع ترجمة في طريقها للنشر. حول السفر والرحلة والشعر والتجربة نسافر مع الخضر شودار لنخرج محملين بعطر الكلمة التي تمسّنا، وتتركنا في عالم سحري، حيث الشعرية المكثفة، الصور، الشذرات، والطفولة التي نحملها معنا وكأنها زنّار الشعر الذي صار ذهبا.
المكان الأول
تقول في أحد نصوصك” من فرط ما كان جدي الأول\ الذي لا أعرفه\ يحلم بأن يكون بحارا وُلِدتُ على ساحل المتوسط”. يأخذني هذا إلى ذاكرة المكان، البيت الذي ولدنا فيه يبقى محفوراً بالذاكرة، هل تحدثنا عن بيتك، الطفولة الأولى؟
في قريةٍ صغيرة تحفُّها مزارع كولونيالية كثيرة لكبار الأغنياء المعمّرين الذين رحلوا عن الجزائر، كان بيتي ومكاني الأول، بمدينة سيدي بلعباس، أو وهران، وغيرهما من المدن القريبة الأخرى، قرية زراعيّة أنيقة شجراء تقع بين تلمسان وسيدي بلعباس، لا أذكر من طفولتي الأولى سوى هاتين المدينتين، ثم جاء بعد ذلك بيت جدي الذي يقع في جبال الشرق الجزائري، بعد أن أخذني والدي من حُضنِ أمي، سرقة أو تهريبا، كنت حينها في الرابعة من العمر، وبقيت هناك حتى العاشرة من عمري.
والدي، القادم من أعالي الهضاب في أقصى الشرق الجزائري، من عائلة أمازيغية جاءت قديما من مدينة بجاية، وربما من أطرافها، في هذا العالم الرعوي، تشكّل بشكل عميق، خيالي، وشعوري بالحياة والطبيعة والآخرين. وكنت قبلها، أعيش في الغرب الجزائري ببيت جدتي لأمي”عائشة”، التي تكفّلت بتربيتي بعد الشهر الأول من ولادتي، هي الوحيدة التي كنت أناديها بأمي، سيدةٌ صُلبةٌ مخضرمة تتكلم الإسبانية والفرنسية بطلاقة، هي التي لم تعرف المدرسة، وذاقت حياة الحرب والسلم. “هكذا أرادني جدي الأول
قاربا
والثاني
عربة ”
تنقلك بين جدك الأول والثاني، ابتعادك القسريّ عن أمّك، كيف ترصد هذه اللحظة، وهل أحسست باكرا بالعلاقة مع المكان، والفقد؟
لم أكن كطفلٍ أعي معنى المكان فلسفيًّا، ولم أنتبه لكل ما كانت تعنيه حياتي في ذلك المكان الأول، أو ما تعنيه تلك النقلة بين مكانين مختلفين، كنت أتلقّى الوجود كما هو وحسب، وأتخيلني فيه كسائر الأشياء، كما لو أن الوجود في أي مكان آخر هو بيتي محتويًا على كلّ شيء.
أما الأمّ، وكما يقول يونغ: “هي التي تمنحك الدفء، تحميك وتأتيك بالطعام، هي أيضا البيت، والمغارة التي تُؤويك”، لا شك فإن غياب الأم في حضور جدي وجدتي، كان بالنسبة إلي واقعة وحسب، كنتُ، دون أن أعلم، كمن ذهب في زيارةٍ طويلةٍ إلى أهلهِ الذين لا يعرفهم، حيث يتعذر عليّ أن أكون غريبًا عن المكان.
الريف والمدينة:
وأشار في لحظة تأمل إلى ما تعنيه له المدينة والريف بقوله:” هندسيا، هناك فرق بين الأرياف والمدن، ورغم هذا فأنا لا أشعر بالمفاضلة بينهما، بقدر ما أحس بدماثة المكان في ذاته، وما يعنيه لي هو تلك الخصوصية و العذوبة، هذا الإحساس قد يزاولنا في مراحل من العُمر ويتغيّر.
لم أشعر بالفروق بين الريف والمدينة كثيرا، ربما لأنّ أرياف الضواحي القريبة من المدن، التي عشت فيها وقتا، ليست كالأرياف العميقة القصية، الريف دائما مختلف و متعدد.
في مراهقتي كنت أعيش وأدرس في المدنية، وأتردد على الريف، وما أزال حتى الآن أتذكر مشاهد من الريف في المدينة، وكلما غمرتني البنايات وطالت فوق رأسي، تذكرت مروري تحت شجر الصفصاف وأنا أعبر النهر إلى المدرسة، وحينما أرى بالصدفة طائرًا يُحلّق في أفقٍ ضيقٍ بالمدينة، أشعر كما لو أنّه يطير بشوق أكبر من طيور البرية، هكذا هي الأمكنة، ودون أن أشعر، تلتقي وتتواشج في داخلي، ويتذكر بعضها بعضا.
ضالٌ بلا حدود
العلاقة بينك وبين الأمكنة، كيف تتبادلان السيرة، وكيف تبدو صورة المدينة في الحياة والذاكرة ؟
بغض النظر عن الكتب وتجارب الآخرين، فأنا حقًّا لا أعرف كيف أحدد معنى المدينة، ولا كيف ترتسم شخصيتها في داخلي، لأني عادة ما أعيش فيها كضالٍّ وبلا حدود، أو معالم سابقة في رأسي، كلُّ ما بوسعي، هو الكلام عن سيرةٍ مشتركة بيني وبينها، ثمّ ولأنها في تبّدلٍ دائم، لا يمكنني القبض عليها؛ لهذا لا أفهمها إلا بالمعنى الشخصيّ، في هذا السياق أتذكر ما قاله لي صديق يوما،ف قد أخبرني بأن رسامًا كان يأتي وبشكلٍ يومي من أقاصي المدينة إلى وهران، ويقعد على ناصية الشارع نفسه، يرسم تبدلاتِ الحياة وتلك البسمات المختلفة، لا شك في أنه كان يطارد المدينة على اللوحة، ولأسبابٍ اعتباطية جدا تصبح المدينة دليلا على نفسها دون أن نقصد، يمكنك أن تتعلمي من كل مدينة أشياء لا تتعلمينها في مدن أخرى.
تلمسان العزلة:
وأضاف: “في تلِمسان تعلمتُ العزلة والمشي في عمق الليل، وحبّ الناس القدامى والمطر، وفي العاصمة مشاهد تذكرني بالوحشة، بأنِّي أفتقد إلى شيء باستمرار كلما نزلتُ إليها. وهذا شعور مغاير لما كان يحسّ به ألبير كامو مثلا، تحت شمس آب القائظة، حيث البحر وبياض البيوت الباهر، أو هذا الحوار، كما يقول، بين حجر المدينة و سمرة الأجساد.
لماذا تلمسان…دعنا نتوقف عندها أكثر، كيف نحمل المدن أو تلاحقنا المدن إلى النص؟
ظلت تلمسان ترافقني حيثما ذهبت حتى حين كنت أعيش بالجزائر، تلك المدينة ارتبطت عندي، ليس كذاكرة وتاريخ فقط، ولكن كمشاهد من طفولتي، لا سيما في زياراتٍ لي برفقة والدي، الذي كان غائبا على الدوام، سلال القصب، الأسواق، الدروب المتربة، ثم فيما بعد حين يكتمل كلّ شيء معها في أيام الدراسة والزواج والحياة.
كنت أخرج في عمق الليل من غرفتي في الجامعة، أتسكّع وحيدا، بدءا من السور القديم إلى حي الكرز، أشمّ الشجر والناس، البيوت والطرقات المبتلة تحت همهمات وروائح تصلني من وراء النوافذ والأبواب إلى أن تدركني الشمس بباب الجياد مع أول بزوغ للنهار.
لاحقا، وفي مدينة سانت أغسطين بفلوريدا، أقدم مدينة في أمريكا بعمارتها الموريسكية، انتابني الشعور ذاته، كنت أمشي في شارع سان جورج على أنه سوق القيصرية بتلمسان وأجدها في كل منعطف في” أولد تاون”، في شارع قرطبة، شارع غرناطة، متحف القصر، بيت زريدة، الأطلسي نفسه هناك، كأنه ضفة أخرى للمتوسط. لم أكن استبدل مدينة بأخرى أو شعورا بآخر، ولكني كنت أحب مدينة فأصبحتُ أحب مدينتين، أو بعبارة ألان بوسكيه : “يقيم الشاعر في مدينة كي يقول بأنها تقع في مكان آخر”.
المكان يتعدد
بين الإقامة والمغادرة، يأتي المكان الحلم إلى شعرية اللحظة؟ كيف تتعدد الأمكنة فينا؟
ينتابني شعور أكيد، بأن المكان لا ينتهي بمجرد أن أغادره، وبأنه يصاحبني إلى أمكنة أخرى متخذا شكلا آخر لوجوده ولعلاقتي به، حين أقوم من على كرسي بمقهى أعرف بأن أثرا ما، بيني وبينه لن يزول، كأن كلّ مكان أتركه هو توق أحمله معي إلى مكان آخر، وأن المكان الذي أحب يحرضني على الذهاب إلى أمكنة لم أعرفها من قبل.
في شيكاغو، مدينتي التي أعيش فيها الآن، أحتاج أحيانا، كي أحتسي فنجانا من القهوة، إلى جهات المدينة الأربع، أترك حيّ هايد بارك لأشرب قهوتي في الحي اليوناني مثلا، أو في وِكَرْ بارك حيث عاش الروائي نلسون ألغرين، المكان يتعدد دائما، هذا الشعور بالمكان يخلق عندي علاقة خاصة بالمدينة، فهناك جغرافيا عاطفية لا تطابق هندسيا المدينة، مدينة تسمح لي بأن أخلقها لنفسي، على رأي بيار سانسو، مدينة ” تتشكل من خطى سكانها”، مدينة في داخلي لا يعرفها الآخرون؛ أنا وحدي من يعيش ويتسكع فيها، حيث تتشابك في حسي ومخيلتي مع مدن أخرى وتتخذ حيزا أكبر من حجمها الجغرافي الثابت، كأني أعيش في مدينة غير التي يعيشون فيها، لعلك لمستِ بنفسك في النصوص الشعرية التي أكتبها أن المدن ليست دائما على الأرض، مدن لا يهاجر إليها أو يدخلها أحد و لا تظل هي المدن نفسها.
“لا أحد منهم عرفني
بسطوا صوري على الطاولة
وتركوا أمي تتحسس ثيابي
روت حكايات قديمة
عن البساتين ورائحة اللوز
حكاية البومة السمراء
وخيول حمر ترعى في البرية.
ابتلت السماء كلها تلك الليلة
ثم كأي امرأة أخرى سألتهم:
من هذا الطفل الذي يمشي تحت أصابعي
جنبا إلى جنب مع عباد الشمس ؟”
في سياق الطفولة والتأسيس المعرفي، العودة إلى حضن الأم، ثمَّ أثر المدرسة في تفتح القراءات والتعرف إلى عالم الكتب واللغات، متى بدأ شغفك بالقراءة؟
في بلدة جدي حيث كانت سنواتي الأولى بالمدرسة، كان من عادة الأهالي أن يدخلوا أطفالهم إلى المدارس القرآنية (الكُتّاب) قبل المدارس النظامية، أذكر أن المُدرّس أراد أن يختبرنا في اليوم الأول فطلب منا أن نفتح كتابنا المدرسي ونقرأ، كنا نعرف الكتابة و القراءة وكيف نبني على الأقل كلمات على شكل جملة واضحة، في حدود ما تلقيناه من معلّم ” الجامع”، ظل الشيخ ساعد حاضرا في ذاكرتي على الدوام، وجهه الأريحي، بساطته، حبه للأطفال، فطوره الصباحي الذي كان يقتسمه معنا وابنه الذي كان يعاني من “الأفازيا” أو الحبسة ويحب أن يجلس معنا ويحفظ بإصرار السُّور القرآنية، ثم يستعرضها علينا نحن الأطفال.
أذكر الآن بتأثر، كيف اعتادت أذني على مخارج أصواته الكَاوُسِية حين كان يقرأ لي، فأعرف من فواصل الآيات ختام حفظه لسورة بكاملها، وكانت عودتي مساءً من الجامع قد ارتبطت في ذهني بالشمس و الغابة، في حين ارتبط ذهابي إلى المدرسة صباحاً بالنهر وشجر الصفصاف. أتخيل أن العالم قد اكتمل في داخلي، حين استعادتني أمّي في سن العاشرة، عاد ذلك العالم راكبا معي القطار إلى أمكنتي الأولى في الغرب الجزائري، هنا بدأ شغفي بالقراءة.
قلت لي بأنك بدأت قراءة كتب من هم أكبر منك سنّا، لماذا، وهل سبب لك معاناة خاصة كطفل؟
لأسباب كثيرة جاءت بها الصدف، بدأ شغفي بالكتب، وكانت أكبر من سنّي كطفل، فقد قرأت كلاسيكيات في الدين واللغة والتاريخ والسيرة و الأدب؛ لكِ أن تتخيلي معاناة طفل مع كتاب الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة أو السيرة النبوية لابن هشام أو فقه اللغة للثعالبي أو بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، لكن مع ذلك رافقتني أيضا كلاسيكيات فرنسية؛ لجول فارن، وهوغو، وجورج صاند وآخرين، كنت أقضي وقتا أطول في قراءة الهامش على حاشية الكتاب لا المتن، مُلاحقا الكلمات من معنى لآخر، كلمات أجمعها لنفسي، أتخيلها وأخبئها، ثم بالصدفة جاءتني سيدة من العائلة، بكتاب جبران خليل جبران، أحسست كأنّ جبران يعرف كلماتي نفسها لكنه جعلها تبدو كلماته هو، لا كلماتي أنا، وكنت أتساءل، كيف أخذ جبران كلماتي وإلى أين ذهب بها؟
لم يشغلني أبدا جبران، وإنما الكلمات التي في وسع كلماتي، فلا تظل على حالها ولا في مكانها؛ تمتلئ وتفرغ، تقول لي شيئا الآن وشيئا مغايرًا غدًا. لا تكتفي أبدا بمعناها الأول. أو هي بالأحرى تتلاعب وتعبث بي، وتعلمني أن أعبث مثلها بنفسي، بالأشياء والكون.
في ثانوية الحواس بسيدي بلعباس، بالرغم من قربي من أستاذ مادة اللغة العربية، عبد الرزاق منصوري، وحبي لعلمه ومرحه، أو أستاذي لمادة الفرنسي، مغاشو عبد العزيز الموسوعي الرهيف وكلاهما كان معروفا بمدينتنا، إلا أني كنت أقرأ خارج حدودهما.
أين أخذتك حمّى القراءة، وما الأسئلة التي تولدت داخلك؟
أخذتني حمّى القراءات إلى الشعر أكثر مع ريلكه وبيار رفيردي ورنيه شار، وولت ويتمان، وإميلي دكنسن. ومع نهاية عامي الثالث في الثانوية ستخف هواجسي الميتافيزيقية تجاه الله والعالم، وأعود مع الشعر إلى أسئلة البدايات من جديد، كأني أدركت بأن حياتي لا تكفي للوصول إلى شيء، و أنه من الأفضل أن أكتفي بطبيعة الأشياء كما هي؛ أن أحس وأتخيل وأمضي.
بعد هذه القراءات، كيف وجدت الجامعة كمنصة أكاديمية وثقافية، هل شكلت رافدا حقيقيا أم صدمة ربما؟
كنت مأخوذًا بشوق كبير إلى الجامعة، ربّما لأني كنت أتوق إلى حرية أكبر في عالمها وظننت أنّ في مناخها الفسيح، يمكنني الذهاب أبعد وأعمق؛ لكن هذا الحلم ومنذ أيامي الأولى في الجامعة أخذ يضمحل، وسرعان ما انكسر شوقي إلى أشياء كثيرة، كنت أغيب عن المحاضرات التي كان يلقيها علينا “مُلقّنون”، اخترتُ أن أقرأ لنفسي في غرفتي والمكتبات، كنت أحب التردّد على الكامبوس، لوقوعه بين المساكن والبيوت. أقضي أوقاتي الطويلة في حديقة معهد باستور أو حي الكرز. وفي المساء أخرج متسكّعا في المدينة وأجلس في مكتبة “الحزب” الصغيرة التي كانت تغصّ بالكتب والطلاب. كانت أوقاتي زاخمة هناك؛ أفتح الأخبار الطوال للدينوري أو شرح اليازجي للمتنبي فيما أقرأ بالفرنسية شعر نوفاليس وآلام فارتر لغوته. كانت رائحة تلمسان في الشوارع تملؤني بلا حدود.
وأتاحت لي صداقاتي العميقة مع رفاقي أن أزور الضواحي ومدن الساحل القريبة. وربطتني مشاعر إنسانية خاصة أقرب إلى الصداقة ببعض الأساتذة على مدار تلك الأعوام، سأعود لاحقا بعد عامين من “الخدمة الوطنية” في قسنطينة إلى جامعة وهران التي كان استكمال الدراسة فيها أشبه بزيارات ولقاءات دافئة مع الأصدقاء، والأساتذة حيث الاهتمامات أكبر وأوسع بعد أن أصبحت لي تلقائيا علاقات خارج كلية الآداب في قسم الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس واللغات.
وأقول دائما، لم أشعر وأنا طالب بأن للحياة الأكاديمية وجهة لتخصيب مادة الإبداع بعامة في الكتابة وعلاقتها بفنون أخر..
• حدثني عن الأكاديمي المدرس الذي يقيم في شيكاغو بعيدا عن الجزائر، وعلاقتك الجمالية بالشعر وإلى أي درجة شكّلت لك العزلة مساحة مثمرة؟
حين تركت الجزائر متوجها إلى أمريكا، كنت أعمل على إنهاء أطروحة عن شعرية الكتابة الصوفية، لم تكن المدونة الصوفية كلها كمتنٍ هي ما يعنيني، وإنما جمالية بعض النصوص، كانت تثير حسي الشعري المعاصر، كنت أعرف بأن أصحابها، يومئذ، لم يعوا ذلك حقًّا بمنطق استاطيقي للكتابة، بقدر ما أخذتهم لغتهم الخاصة إلى أقاليم شعرية ضالة، كتبت في نفس الأثناء، قصائد شعرية متأثرا بمناخ تلك القراءات.
أذكر أني قرأت منها نصا باسم ” ألواح” في قصر الثقافة بوهران، ولم أدرك سر تجاوب القاعة معي وعناق صديقي المرحوم “بختي بن عودة” لي في ختام تلك القراءة.
ثم في أمريكا و تحت ثقل الظروف والتحولات الجديدة في حياتي، انشغلت لسنوات بكتابة مبحثٍ عن “صحراء” لوكليزيو ومليكة مقدم في “رجال رحّل”. وأخذ مني هذا وقتا فيما بعد مع كتابات محمد ديب ولوران كاسبار وأشكال من السرديات الكولونيالية في أعمال أرنيست بسيشاري حفيد رينان وبيار بونوا، كل ذلك وسط مشاغلي كمدرّس في قسم اللغات والآداب بجامعة فلوريدا. ثم انتقلت إلى جامعات أخرى للتدريس؛ كجامعة ميشيغان وجامعة شيكاغو. طوال هذه الأعوام كنت بمعزل عن الجزائر والعالم العربي، أقرأ وأكتب لنفسي. وقد أتاحت لي هذه العزلة أن أقترب أكثر من الحياة والثقافة والشعر الأمريكي وربما ثقافات أخرى.
إلى أي درجة ساهم تكوينك الثقافي والأكاديمي، في رؤيتك للإبداع؟ كيف ينعكس تدريس الكتابة الإبداعية على الطلاب؟
لم أشعر وأنا طالب بأن للحياة الأكاديمية وجهة لتخصيب مادة الإبداع بعامة في الكتابة وعلاقتها بفنون أخرى. لن أنسى أبدًا أستاذ الفرنسية وهو يحاول، طوال أشهر، مشمّرًا عن ذراعيه أن يشرح رواية لإميل زولا لم يقرأها، على الأغلب، أحد من طلابه. وفي أفضل الأحوال، أذكر قراءة متقصيّة لآثار ألف ليلة وليلة في كتابات غوته. لم تكن هناك سمينارات أو ورشات للكتابة الإبداعية حيث يمكن للطالب أن يختبر بنفسه ومع الآخرين معنى نتاجه في الكتابة.
أعرف أن هذا موضوع قد يختلف حوله أساتذة وشعراء هنا في أمريكا بالرغم من أنه تقليد راسخ الآن في قسم الآداب والفنون؛ بعضهم يرى أن ورشات الكتابة محرجٌ لخصوصية من يكتب، عدا المحو والتنقيح والاستدراك على النصوص ومع ذلك يمكنك أن تُسمّي شعراء مثل روبرت لو أو جون باريمان من المدرسين الكبار للكتابة الإبداعية منذ أجيال. تعلم اللغات، بكل ما هو ذكيّ ومتاح اليوم، يلجأ إلى الشعر والصورة. أتخيّل أنه في وسعنا فهم الفنون الإبداعية في ضوء بعضها بعضا. من الواضح أن نجد أثر الموسيقى في بناء رواية البطء لكونديرا مثلا أو فن العمارة والرسم في عمل بروست. لا شك في أنه لا قواعد هناك، ولا أحد يملك حيلا حقيقية أو سحرية ليجعل منك شاعرا. ولكن من حقنا الدهشة والتساؤل الدائم عن السر. فقد ألّفَ بعض تلامذة باشو، كي أعود مرة أخرى إليه، شذرة من شعر الهايكو ثم عرضها عليه وهو يظن أنها من أقبح ما يكون: “خذ يعسوبا .. انزع عنه جناحيه. فإذا هو فلفل أحمر” فعَدّل باشو في المقطع قائلا : ” خذ فلفلا .. ضع له جناحين فإذا هو يعسوب أحمر”. كأنما أراد المريد أن يحوّل الوجود إلى عدم فأعاد باشو العدم إلى الوجود.
أتوقف عند موضوع الهُويّة، التي تثار اليوم في الوطن العربي، وربما خارجه، حيث تبرز إلى السطح هويات مأزومة؛ الأكراد، الأمازيغ، العرب، وجودك في الغرب إلى أي درجة شكّل لك حالة سفر إلى صور ومتخيّل آخر؟
لم أشعر أبدًا وأنا في الجزائر بما تسمى هوية ” مأزومة” ولم أكن أتساءل مطلقا حول ذلك، فالتعدد الثقافي والتاريخي لهويتي الجزائرية كان ضمنيا واضحا بداخلي، وما أحسّه سيرافقني كصفات طبيعية حيثما كنت أو ذهبت، صفات أصيلة لكنها غير ثابتة يمكنها أن تتسع وتعيش بالامتداد في ثقافات وأمكنة مغايرة. ربما كنت أفتقد الأمازيغية كلغة لا أتكلمها، وشعوري بأننا أهملنا في الجزائر هذه اللغة التي يتكلمها بعضنا ونسيها أغلبنا.
في أمريكا لم أفكر في نفسي بأني هذا “الأجنبي” أو ” الغريب” إزاء العالم الجديد الذي أعيشه؛ حين تسافر إلى مكان فأنت، كما تقول الأنثروبولوجيا، تسافر إلى صور ومتخيل وعاطفة، تسافر إلى غيرية الآخر، إلى ما هو مختلف وليس أنت، وقد تكون غيرية هذا الآخر، تجاه غيريتك، إما منفتحة وحاضنة وإما حذرة ومتطرفة حادة، كنت من جهة أريد ألا تقف “صفاتي” بيني وبين هذا الآخر، وألا تمحو صفات الآخر صفاتي. لم أكن أريد أن أختزل الآخر أو يختزلني، بالأحرى أن يستضيف أحدنا الآخر وأن تأخذ صفاتنا مساحة أكبر في المكان بعيًدا عن الهويات المتقاصية.
اقتضتني الضيافة أن أدخل لغة الآخر وثقافته، وأن أفسح، في الحدود الطبيعية، مكانا له في نفسي ومخيلتي. أذكر في عامي الأوّل بأمريكا، وأنا عائد في “الباص” من جامعة فلوريدا إلى البيت، كنت جالسا قرب “الشوفير” فخطر له فجأة أن يسألني: ” كم لغة تتكلم؟” ولما أخبرته، قال: ” ألا تختلط عليك اللغات التي تتكلمها؟” ولأني شعرت بسذاجة الموقف الذي يعانيه اختزلت جوابي على سؤاله وأنا أفكر حقا في عمق ما خطر له وأفصح لي عنه بكل عفويته. كان يراني كلما تكلمتُ بلغة، أنزلق دون أن أدري، إلى لغة أخرى. وأظل هكذا أدور بينها بلا توقف.
كل لغة تأخذني إلى لغة ثانية في ما يشبه البلبلة والفوضى، لكن سذاجة ذلك السؤال ستصبح حقيقة في واقعي اليومي المتحرك. بالتجربة تعرف بأن لغتك في “متخيل اللغات” تتكلم لغات أخرى، تلتقي بها وتتواشج معها كأنها تحيا فيها وتتجدد، أو بعبارة الشاعر إدوار غليسون:” أكلمك بلسانك لكنك لن تفهمني إلا في لغتي”
“لم أقع في الخوف مجددا
أو يعاتبني أحد عن الهوية والذكريات
سأترك أظافري تطول”
كيف تنعكس تراكمات الصور والصوت والذاكرة على الشعر؟. وما أثر هذا في الهوية؟
الشعر هو أشبه بنسغ في كل ما حولي أو ما يحدث لي؛ لأنني لا أرى شيئا خارج الشعر والمخيّلة، في وسعك بالنسبة لي، النظر إليه كهوية، بهذا المعنى كان “رنيه شار”؛ يرى الشعر حظ الوجود في الوصول إليك، أو الوصول إلى حياتك قبل الموت، إنه لا يسرق منك الحياة وحسب بل الموت أيضا.
لم أفكر في العلاقة الأولى مع الشعر، أو كيف تمثّله حسي الطفولي مبكرا، ولكن ما أعرفه أنّه كان للشعر حضن خاص في عالمي الصغير؛ مناجزات شعرية في سهراتنا تحت ضوء القمر، مواويل الحصادين، المدائح والملحون الشعبي، وأشكال أخرى طليقة، كنت أتأثر بها ولا أعيها. ولعلنا بالعودة إلى سؤالك عن الهوية والشعر، فإنني أجد “المتخيل الجزائري” في متن الشعر الشفوي، وفي الطبقات السفلى من الثقافة الشعبية، أكثر مما أجده في الثقافة العالمة.
من هنا فإن علاقتي بالشعر، ودون أن أدري، اكتملت عندي بصريّا بالمشاهدة لا بالسمع وحده، كنت أراه في تفاصيل يومية ساذجة؛ في رؤوس الأطفال وهي تلوح لي من أعلى التلة، في هالة الشمس عند الغروب، في القرويات عائدات من النبع يتضاحكن ويتمايلن بعباءاتهن في الثلج، في المزارعين الذين كانوا يتذكرون عن ظهر قلب معالم الأرض وحدودها، ويسمّون الرسوم بالحجارة والأشجار، في الحراثة وقفزة الحصان تحت البرق والمطر، في أصابع جدتي على كتل الصلصال المندى ورهافتها القصوى أمام خلائق الطين، في الأشياء التي كنت أعرفها والوجوه التي كنت أحبها ولا أعرفها، في هذه الغفلة من طفولتي، وهذه العناية.
ما ماهية الشعر والكتابة، وإلى أي درجة تشكل اللغة النص؟
حقا لا أعرف ما الشعر. يذكر الشاعر روبرتو خواروث حكاية في التقليد البوذي للزن عن باشو، قد يكون فيها ما يشبه الرد على سؤالك: ” لقد شرحت تعاليم الزن على مدار حياتي، يقول باشو، ومع ذلك لم أستطع أبدا أن أفهمه. لكن، كيف يمكنك أن تشرح شيئا أنت لا تفهمه؟ يتساءل جليسه. آه، يرد باشو، متعجبا، وهل عليّ أن أشرح لك هذا أيضا؟” هناك عناصر وحسب يمكن مقاربتها في الشعر كالصور واللغة و مكاشفات الكتابة الأخرى لنا فيما نسميه بالشعر. يستحيل علينا الجواب على سؤالك كما ترين. لعل هذا يجعلنا نفكر في الشعر كتحفّز داخلي دائم من الطبيعة التي فينا كبشر إلى التعبيرية، أو التضوع فنيا في أكثر من شكل وهكذا ينكشف لنا العالم في الشعر، كما يقول دوفرين ويتكلم فينا ما نحسه من معنى. وهنا تأتي ثقافة الشاعر للأدوات والخصب الشعري، أن يعرف كيف يتكلم بوصفه شاعرا حتى لو لم يكن يدرك ذلك كليا في نفسه. وفي حدود حسّه الخاص بالوجود، يحاول أن يظهر العالم للآخرين في صور كما لو أنّه في غيابه ما كان لهم أن يروا العالم في تلك الصور.
بدهيّ أننا نرى الشعر كفن في الكتابة يتحقق بالكلمات وأن له، بالمعنى الإستاطيقي، جسدًا في واقع الكلام ولا يمكن الحديث عنه خارج اللغة، اللغة هي أشياء العالم وما يقع من هذا العالم في الحس والمخيّلة، ولهذا السبب لم يقف فهمنا الإنساني عند شكل القصيدة، وإنما تعّددت أشكال الشعر بصريًّا وصوتيًّا في مساحات أرحب، لا أهتم، لحظة الكتابة وربما قبل ذلك أيضا، بانفعالات الحياة كلها في داخلي وإنما بالانفعال الشعري الخاص الذي يحتاج منّي إلى رهافة خاصة ذكيّة تجاه لغة الشعر لأعرف كيف أقوله وأكتبه.
أحيانا يبدو العالم في داخلنا بلا معالم أو أطراف وبلا نهايات، ويكون عليك أن تحدس الأشياء بفطنة وحسب. ومع ذلك؛ فأنت ترى كل شيء في لغة مائلة، ولا تتصرف وفق هذا الفن كما هو في عرف الآخرين، ولا كما يتوقع ذلك منك الجميع، وتصبح في حال كحال بيسوا: ” أنا لست شاعرا أنا فقط أرى”.
من هنا فإن ذائقتي لا شرقية ولا غربية، أنا فقط مفتوح على الشعر حيثما كان وفي أي ثقافة أو لغة كان، لا جهة للشعر ولا جغرافيا أو هوية، الشعر بالنسبة إليّ تقشّفٌ عالٍ في اللغة وسياحة قصوى في المتخيّل.
تتميز نصوصك بالخطف، والتكثيف العالي في اللغة، بالصور، والموسيقى الجوّانية، والحكايات، كيف تختمر اللحظة الشعرية؟
دعيني أفصح أولا بأن الشعر معي لا يبدأ في اللحظة التي تتربص فيها الكتابة بي على الورق، وإنما يكون قد عاش حياته في داخلي وقتا قبل التحقق. تأتيني الصور من أماكن وأزمنة مختلفة كي تلتقطها الكتابة بعد تحفز وانتظار لوصول الشعر إلى “فعل” الكتابة. الكتابة هي حالة وصول الشعر إليك. الشاعر يكتب الشعر قبل أن يكتبه كما يقول بلانشو، حيث الكلمات في مساوراتها الداخلية لا تكف عن البحث عن كلمات أخرى مواتية جماليا للحالة الشعرية. في الواقع الشعر يتكاثف بنفسه ويمرّ من خلالي بالكتابة إلى الورق. كأنّه صوت أثريّ بعيد أو قديم ننتظره ونتهيأ له لنتلقّاه ونؤديه بما يمكن من أدواتنا. أشعر دائما كما لو أنّي خرجت في نزهة طويلة تحت تهديدات غيم أو مطر يفاجئني في أي وقت. ولحظة الكتابة ليست قسريّة إلا بمعناها الزمني؛ لكنّها لحظة استقطاب عميقة لما يتلاحق في رأسي من صور جسدي كعالم مترامي الأطراف. أعني أن الشعر لا يتوقف؛ لكن “فعل” الكتابة قد يتوقف. وربما لهذا السبب أحبّ أن أقرأ شعر ريلكه أو دو بوشيه كشاعرين يبدو كل منهما مختلفا ظاهريا عن الآخر. لكن كلاهما يمشي في شعره بلا توقف: ” فأنا إذا كتبتُ جملة فإن الكلمات نفسها تتحرك، وتمشي، وتغادر مكانها الأول..” (أندريه دو بوشيه).
أنت تشتغل على هندسة النص، هناك إحساس عالٍ ولغة ممسوكة بخيط الشعر والفن، هل يعكس هذا صورة من صور حياتك؟
العناية بالنص ككل وبتفاصيله أو عناصره الداخلية، جاء بحكم التربية الشعرية على نصوص شعراء أيضا أو على عوالمهم المختلفة وعنايتهم الكبيرة بجمالية اللغة، أستحضر عبارة كنت ترجمتها لفيرا بافلوفا، “الشعر لن يحمل إلا ما هو في حياتي”.
الأشياء لها رائحة في نصّك كصورة الجد والمركب والعربة، إلى جانب التقاطع الكبير بين نصوصك والشعر الذي تترجمه، كيف تتحرك بين المجاز الشعري، ومجاز اللغة، وأين تكمن حياتك كشاعر؟
قبل أيّام سمعت كلامًا عن الشاعر “جيم هاريسون”؛ بأنه يستخدم صورًا تعني حقا ما يقول، تعني الواقع الحيّ كما هو في خيال الشاعر، وأنّ فحوى صوره لا تكذب. لكن ما الذي كان يعنيه صاحب هذا الكلام؟ هل كان الشاعر يتحاشى في لغته المجازات أم أن مجازه الشعري يحمل في صوره حياة الشاعر؟ هل هاريسون نفسه، حين يقول في هذه العبارة المتقشفة: ” الألم يقتاد جيًّدا حياتنا”؟ ألا يستخدم حقًّا المجاز؟ أم أنّ عبارته هنا مجازٌ شعريٌّ يتحّرك بفاعيلة مجاز آخر، هو مجاز اللغة؟ يشبه هذا قلق “ملارميه” الشعريّ تجاه اللغة؛ بين ما هو أوليٌّ خامٌ في لغة الكلام وما هو جوهري، وأن الأشياء، مهما تكن، هي غائبة بحضور الكلمات، فما تمثله الكلمة دائما غائب. وأنّ الكلام جوهريًّا في الشعر يشبه الصمت، أو أنه يتكلم لأن أشياء الحياة لا تتكلم من تلقائها. دعينا نستذكر سريعا عبارة للنفري تبدو في مناجاته إقرارا واضحا بالمعنى :” جسدك بعد الموت بمثابة قلبك قبل الموت،” لا شك في أن التخييل هنا في تواطؤ عميق مع التقرير، وهذه المقابلة الهندسية بين “جسدك” و بين ” قلبك” حيث تقفز المخيّلة من الحياة إلى الموت. وربما جعلنا هذا نفاجأ بنظرة مغايرة كليا للجسد في منظور هذا الشاعر الصوفي.
أعود إلى صورة المركب والعربة، التي ذكرتِ، في علاقتها بالجد هي مجاز على حقيقة من الاختبارات الذاتية للحياة، فرغم مقاصد الجد الأول والجد الثاني وما في ذلك من رجاء، ظلت الحياة “عشوائية” تضرب منذ القدم في أي اتجاه؛ كأنه لا يمكن الوصول مع الحياة إلى أي شيء، فالاختيار الأول كالاختيار الثاني سواء بسواء، ولا جدوى من هذا الفارق الوجودي بين المركب وبين العربة. في هذا السياق يمكن قراءة ذلك النص كله كجسد واحد أو صورة واحدة.
الشعر والفوتوغرافيا:
لفت انتباهي على صفحتك في الفايس بوك، اهتمامك بالفوتوغرافيا، فلو اعتبرنا أن الشعر خطاب بصريٌّ، كيف يتجسد هذا في نصك وحياتك، والكاميرا التي تلتقط بها ما يدهشك؟
أعادتني الفوتوغرافيا إلى علاقتي الحيّة القديمة بالرسم في مراهقتي الأولى، كنتُ موزّعا بين الجلوس الطويل للرسم والقراءة أو الخروج للبحث عن الكائنات والصخور بالقرب من النهر، انغمست أكثر في الطبيعة، بفضل أستاذتي البلجيكية العجوز في مادة البيولوجيا، وكانت لي أحلام مخبرية أكبر من طاقتي كطفل على تحقيقها.
كنت صباحا، بدافع من الفضول، ألقي نظرة على سيارتها من الداخل فأرى نباتات وأوراقًا وحجارة وأدوات. ثم أخذتني الكتب كليًّا من الرسم، وظلت معي تلك الدهشة في التصوير كاهتمام أبحث له عن إشباع في الشعر أو الأفلام. ولأن الشعر هو الآخر شكل هندسيٌّ بامتياز، فإنه يغريك بكل ما هو بصري من حولك.
لهذا وجدت في الفوتوغرافيا-التصوير شغفًا خاصًّا؛ فكثيرا ما أقرأ صورًا فوتوغرافية أو مشاهد أفلام أو أشكالًا معماريًّة كقصائد بصرية أو على الأقل أنظر إليها على أنّها تمثيلٌ حسيٌّ عميق للشعر؛ تكفي نظرة مثلا في أعمال “هاري كلاهان”، أو “بول ستراند”، كي نرى بأن الأشياء والأمكنة لا تسكت أبدًا. وبالمثل قصائد بعض الشعراء التي أراها تتحرك فتوغرافياً في مخيلتي؛ لا أصابع المصور ولا عين الكاميرا في “رجل بالشرفة” لرفائيل ألبرتي، تهدأ لحظة واحدة. حتى في تلك الصور التي أعثر عليها في محلات “الأنتيكات” أتخيلني باستمرار أنظر من داخل الصورة إلى خارجها، وهي حال أقرب إلى السوريالية تجدينها في نص “رسالة إلى فيرونيكا” حيث حياة أخرى للغياب تتكلم من “حاضر” في الصورة كأنه “الماضي”، هناك دائما شيء ظاهر يأخذنا خارج حدود الصورة أو العالم المرئي الذي يظهر ويختفي فيها، في كل مرة نشعر بما قبل الصورة وما بعدها. العالم ليس ما يقع تحت أنظارنا وحسب، هو في المطلق حاضر غائب حتى بالقياس إلى مألوفاتنا، وفي هذا مفارقة أصيلة حقيقيّة ربما اختزلها بيار رفيردي على طريقته في عبارة أحبها، وكأنه يخاطبنا جميعا؛” مدهش، لو أنك فجأةً أصبحت ما كنّا نتخيله أنت.. ” .
في لشبونة، الصيف الماضي، كان هذا المرئي صاحيًا في شعوري على الدوام، وكانت رغبتي في التصوير لمجرد المتعة الشخصية أو الشعرية لا تفارقني؛ أعني انفعال الأشخاص بوجودهم مثلا في لحظة معيّنة عابرة من الحياة أنت شاهد عليها، ولا تستطيع أن تحتويها معهم إلا بهذه اللقطة السريعة الحاسمة من وجودك، أنت العابر الآخر.
هل شكلت القراءة بلحظة ما دافعا لذهابك إلى الترجمة، كيف استطعت استضافة هذا الجمال إلى النص العربي؟
الذهاب إلى الترجمة كان ذهابا إلى الشعر ابتداء، ولا يفهم معنى التقاطع بالترجمة هنا إلا كضيافة داخل الشعر، هناك شعراء ثقافات أخرى أقرأهم كل يوم وأحبهم على تفاوتهم واختلافهم، أبحث في نصوصهم على خِصب آخر في الكتابة والفن بعامّة، ولأني ألاحق هؤلاء يوميًّا في مكاشفاتهم الشَّعريّة أعثر على ما يجمعني بهم. وأحاول أن أكتب شعرهم لنفسي أولا، ولا أُقدِم على ذلك إلا إذا تحقق تجاوبٌ شعريٌّ للنص في لغتي وجاء أثره كما أتمناه في حسّي ومخيلتي.
حين تستعصي عليك ترجمة نص ماذا تفعل، هل تكفي معرفة لغة الشاعر وإتقانه مثلا؟
أحيانا أترك شعرًا أحببته لأنّه لا يصل إليّ كما هو في لغته الأولى، فأن تعرف لغة شاعر لا يعني بأنك تعرف كيف تجعله يتكلم في لغتك، وأن نصوصه ستطيعك على الدوام، على الشاعر أوّلا وأخيرًا أن يتكلّم في لغتي كما لو أنَّها لغته. تكفي نظرة إلى حياة شعراء في قصائد شعراء آخرين من ثقافات مختلفة كي نعرف ونحسّ ونتجاوب.
قراءتك لثقافات مغايرة هل أخذتك إلى الترجمة، على سبيل المثال، آلان بوسكيه، الذي ترجمت له شذرات؟
لا أعي حقًّا بداياتي مع نصوص آلان بوسكيه، التي جاءت في سياق قراءات ثقافات مغايرة، ربما وقع بعض كتبه بين يديّ، على أرصفة سيدي بلعباس، ومكتبات صغيرة، أو في قبو مخزنٍ تجاريٍّ على مشارف الإفلاس في منتصف التسعينيّات.
كانت الجزائر تمرّ في تلك الأعوام بفوضى من الموت الأعمى، وكانت قصائد شعراء آخرين تأخذ قسطًا من وقتي، ريلكه، فردي، شاربيار، بوسكيه لغة الاستهتار بالأشياء ويقين العالم، وكنت أدوّر في الوقت ذاته حول كتابات أخرى، رسالة إلى والدي، أم “أم روسية”، و”الغزالات”، أو ما كتبه عن سان جون بيرس وشعراء آخرين، بعد رحيلي عن الجزائر إلى أمريكا، كنت في عامي الأول أجلس في مكتبة جامعة فلوريدا، وأقرأ لمجرد المتعة شذراته، في راعي الأنداء، وأكتب ما أحبّها منها في العربيّة، كما لو كنت أريد من بوسكيه أن يتكلم لُغتي، مثلما يتكلم في لغته.
والشذرات من الوعي الرصين إلى اللامعقول والتمرّد، حاولت أن أقدّم تقريبًا رُبع ما استطعت أن أكتب، هذيان، تعريفات، حكايات، وقائع مختلفة، مأثورات، رسائل، مشاهد هزلية.”الفلسفة تنظم العالم، والشاعر يعيد خلقه”.
“مع أمي كنت أتحدث عن الحب، ومع أبي عن كوكب الأرض”.
“أنا وأنت متساويان صرخَتْ” ردّ في هدوء :إذن، لا قُبل على اليدين ولا ورد”.
هل ثمة كتب تتمناها أن تكون مرافقة لك، وما الذي تفتقده بعد أن تترك المدن ومكتبتك وراءك، وإلى أي درجة ترتبط الكتب بالأشخاص والمدن، وهل للكتاب الواحد قراءات تختلف باختلاف أعمارنا؟
كنتُ، في كلامي سابقًا على قراءات الطفولة، قد وصفتها بأنها قراءات متوحشة لكتب أكبر مني سنا وأنها كانت بمثابة سياحة طويلة على الهامش أكثر منها على المتن، ثم أخذت الألفة تكبر أكثر فأكثر مع الكتاب. لكنّي تركت مكتبتي التي جمعتها على مدار أعوام بالجزائر، ثم تركت ثانية مكتبتي بفلوريدا إلى شيكاغو؛ لعلّ رسائل والدي القليلة إليّ بخطه المغربي، على بساطتها، هي ما أفتقده أكثر الآن في مكتبتي الأولى.
أجل هناك كتب ظلت ترافقني باستمرار؛ الإشارات الإلهية للتوحيدي مثلا أو كتاب المصيبة (مصيبة نامه) لفريد الدين العطّار في نسخته الفرنسية بخاصة، ثم كتب ريلكه وبيسوا وبروست ونيتشه. قرأت مبكرا هؤلاء، مع شعراء وكتاب آخرين، كان كتاب شار مثلا Les Matinaux أو Plupart du temps لبيار رفردي قد منحاني نظرة مغايرة لمعنى الشعر خارج الغنائية الشعرية السائدة وأنا بعد بالمدرسة الثانوية. لا أشعر بأني قرأتها بقدر ما أحسّ بالتوق الدائم لقراءتها من جديد. كأنّ الكتاب في كل طور من أطوارنا هو كتاب آخر. في كل مرة نقرأ الكتاب نفسه نجتاز إلى عالم آخر ويصبح في حياتنا كأنه أكثر من كتاب واحد. لذلك، وحتى بعد وقت، يبقى فضولي تجاه بعض الكتب، حارّا و سخيًّا يجرفني في كل اتجاه.
مع الزمن أصبحت انتقائيا وحاسما أكثر في اختياراتي، القارئ في حاجة إلى جرأة وفضائل معنوية ليسلك القراءة بحافز من التحدّي في مواجهة مخاطر كتاب قد يبتلعه في النهاية. واليوم أصبح الكتاب متوفّرا على الآيباد والآيفون وفضاءات أخرى، وصار في وسعك التلاعب بحجمه ومقاسه أو حروفه على جهازك؛ لكنّه كتاب بلا جسد ولا رائحة، ومع ذلك يحمل جهازي مكتبة صغيرة خاصة أستأنس بها كلما افتقدت كتبي.
وهنا أشير إلى أنّ أسماء المدن والكتب وكذلك الأشخاص، هي وجوه أخرى يرتبط بعضها ببعض في حياتي. أن تتحسس كتابا فأنت تضع يدك على مكان أو إنسان ما في حياتك؛ أتذكّر أشخاصًا رحلوا ومكتبات أقفلت، وأشعر بالسعادة كلما عثرتُ على كتاب أحبه، كتاب عليه كلمات دافئة لغرباء لا أعرفهم، فقط لأنّي أتخيل حياة هذا الكتاب في قلب إنسان آخر، من هذه الكتب “اسم الوردة”..
“إسم الوردة ”
ليس كتابا من العصور الوسطى
جاء بالصدفة من ميلانو
إلى ثلج يناير
كما يقول السيد دي مورلي.
فقد عبرت أصابعنا
الطريق
وتشابكت مع أصابع الشتاء
في منتصف
نهارين
بين معطفي الذي كان ينتظرك
ورائحتك تحت المصباح”
ما العلاقة الشعرية بين تجربتك وتجربته؟
رافقني بوسكيه، في قراءات شعريَّة دائمة، بشعره وشذراته. لم يكن بين شعرائي المقربين الأوائل. في غنائيته حزن دافئ وحسٌّ مغاير لشعراء آخرين. يمكن أن نرى بوضوح الفرق بين غنائيّته الميتافيزيقية والحسية الساخرة وبين غنائية رنيه شار التجريدية. أتخيّل خارج صخب أو جنون المجازات في كتاباته، حالا من الاستهتار بالعالم واللاّجدوى كانا يلاحقانه باستمرار. هذا الشعور الذي سيتعاظم أكثر في سنوات مرضه الأخيرة. كان هو نفسه يريد، ساخرا، أن يكون أي شيء آخر سوى أن يكون بوسكيه:
نصف قرن من العمر
أنا الموقّع، ألان بوسكيه،
الاسم المستعار للريح …
ساقتني الصدفة إليه في أكثر من مكان؛ كنت، آخر مرة في التسعينّيات، قد عثرت على بعض كتبه في قبوٍ بمخازن تجارية في وهران، وأحببت ما في شعره من خفّة ساخرة وسوريالية في وقت كان فيه الموت الأعمى يأكل الحياة بالجزائر. ثم وجدتني في أيامي الأولى بأمريكا أترجم لنفسي من كتابه “راعي الأنداء” شذرات للمتعة الشخصية الخاصة، كان يقول عنها، بأنها: “صورة واقعيّة أو هذيان، تعريفات، حكايات، تناقضات، وقائع مختلفة، عبارات مقتضبة، مأثورات، أقوال، حكم، أمثال، و بالمثل، مشاريع حكايات، أو رسائل و مشاهد هزلية …سنعثر بين هواجسي، على الشيخوخة، الترف، العافية الروحية، الحاجة إلى خلخلة العادات، وبعض الفرقعات الشعريّة. أكلّم نفسي في مونولوغ، أو مع الله … المطلق أو التفاهة لا يبدوان لي أكثر توافقا من زهرة هندباء وأركيديا، من ذبابة و الطائر الغيثار.”
استمرّ ذلك معي جديًّا في كتبه الأخرى؛ فنشرت بعض تلك الشذرات في “السفير” في لبنان. عنوان الشذرات “ملمسك ناعم كموت شجرة” سيصدر قريبا ، أعرف بأن له ترجمات في العربية، لكني لم أطلع عليها.
الجهة الأخرى من الأشياء، عنوان مجموعتك، وهو لافتٌ وتجريديّ، مع أن تجربتك كيانيّة حسيَّةٌ، ما هي جهات الأشياء، ما علاقتك بالأشياء، في أي جهة أنت من كل ذلك؟
يذكرني سؤالك هنا بسؤال هايدغر “ما الشيء؟” في درس ألقاه طوال فصل الشتاء بفرايبورغ بين 1935 و 1936، حول الأسئلة الجوهرية للميتافيزيقا، وكان ذلك تحليلا لفلسفة كانط في وقت كان يقال فيه باكتمال أو نهاية الميتافيزيقا. لكن “الجهة الأخرى للأشياء” هو، بالأحرى، أقرب إلى أشياء الناس، إلى ما كان يسميه المفكر الياباني زوتزو ياناغي بـ” جمال الأشياء اليومية”، حين لا تعود الأشياء مجرّد أدواتٍ بقدر ما هي حالة عاطفية للشعر والمخيلة. لا أريد ( ولا قدرة لي على ذلك الآن) أن أتحدّث هنا عن العلاقة الحميميّة الواسعة والمتشابكة بين البشر والأشياء. الناس عادة ما يكلمون الأشجار أو يقرؤون خطوطًا على الحجارة أو أوراق الشاي مثلا، ويتلمسّونها كما تتحسس أمّ حمّى ساخنة على جبين طفلها. شعور الناس بأنّهم يملكون الأشياء حقًّا، بأنّه في وسعهم أن يسقطوا عليها معاني وأسماء من اختراعهم وأنهم يملكون القدرة على فهمها أكثر مما ينبغي. لكن جهة الأشياء في هذه النصوص ليست كما هي الواقع، وإنّما كما هي في جهة المخيلة؛ وليست دائما أدوات حسية أملكها. وإنما عبور لحياة الآخر في الأشياء؛ أن تقيم بحياتك أنت في حياة الآخر، لوقت من الأوقات وتقول ما تراه عنه وتحسّه. “رسالة إلى شيمبورسكا”، مثلا، هي حلول شعريٌّ لشاعرٍ يتماهى في علاقته مع شاعر آخر. كأنّه يتكلم من داخل عالم الآخر. الأشياء تستفزني شعريًّا من أكثر من جهة واحدة. حين أجلس إلى الشيء، أتخيلني جالسا حوله لا أمامه؛ أراه ( أو هكذا أريد) من جهاته كلها بأكثر من مخيلة.
ألا تتكلم أنت وحسب، بل أن تتكلم الأشياء فيك بلغتك. أو هذه الحالة تجاه الأشياء، كما عند فرانسيس بونج، يعيش فيها الشعر بين التنوع اللامتناهي للمشاعر والاختلاف اللامتناهي للأشكال. ما يجعلنا نقرأ نصّ الجدة والإناء، في المجموعة، بأن هشاشة الأشياء أصلب، أحيانا، وأقوى من حياة الإنسان. لقد أخذ مني الناشر “الجهة الأخرى من الأشياء” وأنتظر أن يخرج الكتاب إلى القارئ قريبا هذا العام الجديد.
أنت شاعر مغترب، هل الاغتراب عندك فرديّ أم كوني؟
ربما لا أشعر بأني مغترب أو غريب في أي مكان. ولا أذكر يوما بأني تعّرضت لشعور كهذا منذ وصولي إلى أمريكا. ربما يشعر كثيرون بذلك بعد أن يتركوا مكانهم الأول الأليف؛ الثقافة التي جاءوا منها والتي ذهبوا إليها، العمر الذي ينتقل فيه الإنسان من مكان إلى آخر، المكان نفسه كطبيعة ومحضن مختلف بما فيه من أثر وتحوّلات؛ لكنّنا حين نغادر الجغرافيا نأخذ معنا في أجسادنا علامات وآثارًا لا تزول في أي مكان آخر نحلّ فيه. أشعر دائما بأني أَصِلَ مكاني الأول بأمكنة ثانية وأمنحه فرصة الامتداد أكثر في أرجائها، أحسّ بأن ذلك المكان هو أيضا في سياحة معي وضيف عند الآخرين. لعلّ كلمة إليوت تلخص هذا كله: “نهاية استكشافنا، الوصول إلى المكان حيث انطلقنا، فنتعرّف عليه لأول مرة.” لا شك في أنّي لا أعني بهذا المثال، رعب باسكال الميتافيزيقي من صمت العالم؛ كلما عرفت أشياء عن الحياة والعالم، كلما شعرت بأنك لا تعرف، فالإنسان، بهذا المعنى، غريب حيثما كان.