حليمة قطاي
يعرف الجهل أنه نقيض العلم، وفصيل من فقدان أو غياب المعرفة؛ وهو أيضا نظير عدم الفهم بالمسائل والظواهر، غير أنه يقارن في الأديان بالمعرفة الفاسدة بالحقيقة واليقين السَّماوي (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)(1)، (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(2)؛ وإذا انطلقنا من المفاهيم الدِّينيَّة، فإنَّ التَّفاسير التِّي تشرح هذه الآية تشيرُ إلى أنَّ الإنسان – ممثَّلا في شخص آدم- كان غرَّ المعرفة عند قبوله حمل الأمانة حين عرضها الله عليه، هذه الأمانة التي قد تكون المعرفة في حدِّ ذاتها التي استثقل حملها ما هو أعظم منه قوة وجلدا. ثم أصاب الخطيئة بعدها في زمن قصير، ما بين عصر وليل، كبرهان على فهمه الاستعجالي وعدم وثوق يقينه المعرفي بالماحَوْل من خلائق.
إنَّ هذا الجهل بالمعرفة التي لا يعيها الإنسان ثم اليقين بأنه يعلم وهو يجهل لَهُوَ الجهل الأخطر شدَّة ووطأة، وهو ما سماه أفلاطون بالجهل المزدوج(3)؛ ذلك أنَّك لا تجهل الأشياء الأهم وحسب، وإنما، أنت تظن أنك تعرفها أيضا”(4)، وهو بصورة ما، يقارب ما سمَّاهُ أركون بالجهل المؤسس له؛ أي بناء معرفةٍ جاهلة على قاعدة من الجهل أو على قاعدة من المعرفة المتوارثة دون نقد أو إعادة تفكير، فيتركب الجهل من تعدُّدٍ فيه على اِعتقاد بالمعرفة.
ويقترن الجهل المؤسَّسُ له في العالم العربي الإسلامي خصوصًا بالمعرفة الدينية المرتبطة بالفهم والتأويل، بدءا بالخطاب القرآني ومرورا بالاجتهاد الفقهي الذي أصبح معرفة مسلمة ويقينية لا يجوز الخوض فيها ولا مغالطتها. وللأسف الشَّديد، تمَّ ربط وعي الأجيال برمَّتها تقريبًا بهذه الخطابات من تفسير وفقه؛ رغم أنها تأويلات مشروطة بلحظات تاريخية وثقافية واجتماعية شهدت ولادتها.”وهذه التفسيرات والتأويلات تمَّت ولا تزال تتمُّ ضمن ظروف أيديولوجية وضمن صراعات فئوية وطبقية .. على السلطة والمال والأرزاق ثم من أجل احتلال المراتب العليا في الهرم الديني”(5).
فرض هذا النَّوع من التَّعامل مع المعرفة الدِّينيَّة تطابقًا بين الخطاب القرآني المفروض وبين طريقة فهمه، هذه الطريقة التِّي تعني خطاب البشر الذي فرضه البشر على بعضهم البعض، فهم ” يعتقدون أن الأحكام أو الفتاوى المتضمنة في كتب الفقه مستمدة كليًّا وبشكل منتظم من كلام الله المحفوظ في القرآن، [إلاَّ أنَّ هذا الأمر يُعتبَرُ نوعا] من إضفاء الدُّونية على خاصية التفكير الفردية (…) الممنوحة [من المفروض] لكل بشر بالتَّساوي”(6).
ولا بدَّ من التَّفريق بين الجهل وبين التَّجهيل، فالجهل مرتبطٌ بالمعرفة التَّقليديَّة المسلَّمِ فيها، أمَّا التَّجهيل فهي ظاهرة سيَّاسيَّةٌ بالدَّرجة الأولى، يعمدُ فيها السَّاسةُ إلى نشر الجهل بين الأوساط الاجتماعية المختلفة. إنَّ التَّجهيل المؤسَّس والمُمنهَّج والمقصود فُرض ليُسيطِر، وبُنِي في شكل تعليم ليهدِمَ آليات النَّقد ويحطِّمَ مناهج التفكير السَّليمة، لاسيما بقطاع التَّعليم العربي والمغاربي معًا(7)؛ والغاية من ذلك إنشاءُ أجيالٍ منمَّطَةِ التفكير، اِتِّباعيةِ الوعي، تراثيةِ الوثوق بجديدها، فيكون جهلها المركب متأسِّسًا على معرفة يقينية ليس للجدل فيها مكان.
ولعل من أفظع وسائل هذا التَّجهيل استخدام أداة التَّحكم التربوية لتنشئة أجيال متعلمة بتفكير جاهل. وهي إحدى بؤر التفكير التي نبش فيها محمد أركون، ويعتبرها بمثابة إحدى الآليات الإجرائية التي تقتضيها الإسلاميات التطبيقية، أي الآليات التي توجب الحفر في اليقينيات والمسلمات والبدهيات الفكرية الإسلامية.
لا يعترف هذا التَّجهيل المؤسَّس بالتَّعدد والاختلاف، ولا يمارس النقد إلّا في المختلف، ولا يتعامل مع المغاير إلا على أساس من النِّديَّة والمعاداة، فكل الهويات مرفوضة وكل المعرفة المختلفة هي كفر، وكل اختلاف هو ردَّة وزندقة. ويمكننا التمثيل لهذا بما حدث وتكرَّر مع الثَّورات العربية، التي تفجَّرت لترفض السَّائد والسُّلطات التي تتمركز حول رفض النقد وعدم السَّماح به في نظم التَّعليم ومناهج الوعي ومؤسَّساته.
وإذا أخذنا على سبيل المثال ثورة 22 فبراير 2019 السِّلميَّة التي تأجَّجت في الجزائر، وهو البلد الذي ينحدر منه محمَّد أركون، فإنَّ ما اِتَّفق عليه جلُّ شبابِ المجتمع الجزائري من استبعادِ سلطةٍ لطالما همَّشت متعلِّميها وأقصت كفاءاتها إنَّما كان لأسباب تتَّفقُ مع ما ذكره محمَّد أركون. فبينما كانت حركة 22 فبراير 2019 تتظاهر في الشَّارع كلَّ جمعة وثلاثاء مثل نهر هادر لتعصف بكل ما حولها من إقصائية ومركزية فاشلة، اصطدمت سريعا بمركزية المجتمع الذي صنع لنفسه سلطة تفرض وتلغي، سلطة متاخمة لسلطة المركز تشبه إلى حدٍّ بعيدٍ ما تقوم به القبائل الوثنيَّة من تسفيه لأحلام العقلاء وتشويه لآراء الحكماء.
تأسست مركزية المجتمع لأكثر من عقدين من الزَّمن وتشكَّلت أرضيتُها على نوعٍ من الفكر التَّنميطي الذي تبنَّته المدرسة الجزائرية، وتكوَّن شقٌ كبيرٌ منه في رهابٍ اجتماعي أفظعَ بكثير من رهاب السياسة والتَّطرف الدِّيني.
فَعمدت مركزيَّة المجتمع بإيعازٍ من السَّاسة وإعلامهِ إلى تخوين النِّضال، وتبييت النِّيَّات السَّيئة، واجتثاث الثقة التي بدأت حينها تسود المجتمع، وإحلال الجهل الجديد محلَّها، وتمتين عقده بما لا يسمح البتَّة بتفكيكه. بدأت هذه المركزيَّة برفض الآخر، كاعتبار خروج المرأة إلى التَّظاهر وإبداء رغبتها في الحصول على حق الحرية والحياة الكريمة سفورًا وعدمَ التزامٍ بالدِّين -مثلا-، واعتبار كلِّ اختلافٍ في الأصل والعرق جريمةً، إذ إن العرق الوحيد المقبول هو العرق الأقرب إلى السلطة المتطرفة وكل ما سواه مرفوض ومخطّـَأ ومسفّه. إنَّه جهلٌ قائمٌ بالمعنى المعلوم ضدَّ كلِّ معرفة بينةٍ وخصوصية عقلية، وظيفته الوحيدة هو مجابهة القوى الفتية الفاعلة والعاقلة.
إنَّ التَّجهيل المركَّب يتَّكئ على سلطات مختلفة تحاول بسط قوتها وهيمنتها، منها سلطة المجتمع وسلطة التَّطرف الديني والاستبداد السِّياسي التي استطاعت أن تنخر جسد البلد لأكثر من عقود. الوجهان الأخيران من بين السلطات المتطرِّفة قد وجدا سبيلا ليحدثا تراكما خطيرا في التفكير الشَّعبي والجماهيري، رسمَ لهذا الأخير حدودًا لا يمكن أن يناقضَها أحدٌ إلا وانهالت عليه التُّهم الجاهزة والمرتبة سلفا.
أما الكيان الثقافي، فهو أيضا لم يسلم من تشكيل سلطة داخلَهُ أحكامُها استبدادية لا حيادية، تفرض نفسها لتتسيَّد، وتتكئ فيها القوانين على معايير إلْغائية ومنحازة ومحابية، (حيث تكفُّ الثَّقافة عن كونها دنيويَّة لتصبح وثنيَّة..)(8) جماعاتية ودهمائية. وحيث تتساوى الفئات المجتمعية في التَّجهيل والتَّفقير المعنوي والفكري والمادِّي. وتصنع كلٌّ منها حيِّزًا لسلطتها يتمُّ من خلاله محاربة المختلف عنها ومعاداته وعدم القبول به، رفضا لا يبلغ مداه حدَّ الإقصاء فقط، وإنَّما يتجاوزه إلى المعاقبة وإقامة الحدِّ تماما كما تقام الحدود على الخارجين عن قوانين الإله. وحين تجتمع الفئات الهامشية على مركزيتها الموهومة، يسهل تناحرها، حتى وإن كانت قوة ذات سلطة لأنها قوَّةُ حق مهضوم. وهو المفهوم الذي سعت السلطة المركزية لتفرضه لعقود من الزمن كعقيدة راسخة ونجحت إلى حد بعيد جدا في ذلك.