سعيد الغانمي
تتعلَّق حكاية بلوقيا بمحاولة اختراق الزَّمن وافتضاض سرِّ الخلود. وهي تقع في داخل حكاية حاسب كريم الدِّين، وترويها له ملكة الحيّات. لكنَّها لا تروي لحاسب حكايتَه إلّا بعد أن تشترطَ عليه البقاء معها، والاستماع إلى حكاياتها. كان بلوقيا ابن ملك من بني إسرائيلَ في مدينة مصر. وبعد وفاة أبيه التَّقيِّ، أخذَ بلوقيا يفتِّشُ في خزائن أبيه، فوجد خزانةً ففتحَها، فوجدَ فيها باباً ففتحَهُ، فوجد خلوةً فدخلَها، فوجدَ صندوقاً من الآبنوس ففتحَهُ، فوجدَ فيه صندوقاً من الذَّهَب. وحين فتحَهُ رأى كتاباً فيه أوصافُ النَّبيِّ محمَّد (ص)، “وأنَّه يُبعَثُ في آخرِ الزَّمان، وهو سيِّدُ الأوَّلين والآخرينَ. فلمّا قرأَ بلوقيا هذا الكتابَ، وعرفَ صفاتِ سيِّدِنا محمَّد (ص)، تعلَّقَ قلبُهُ بحبِّهِ” (1/660). ومن الواضح أنَّنا هنا أمام لعبة الصُّندوق في داخل الصُّندوق. وفي الصُّندوق الأخير تكمنُ أخطرُ الأسرار. ما السِّرُّ الذي ينطوي عليه الصُّندوق الأخير؟ الإعلان عن حقيقة النَّبيِّ محمَّد، وأنَّه سيِّد الأوَّلين والآخرينَ، أي المعنى التاريخيُّ لوجود العالم من بدئِهِ إلى مُنتهاه. وتتمثَّل خطورة هذا الإعلان في أنَّه يأتي قبل زمان النَّبيِّ محمَّد بقرونٍ متطاولةٍ. فالزَّمن الفعليُّ للحكاية هو بعد وفاة السَّيِّد سُلَيمان بقليل، والنَّبيُّ محمَّد لم يُخلَقْ بعدُ، وبالتالي لا يمكنُ لأحدٍ أن يلتقيَ به إلّا إذا استطاع اختراق حاجز الزَّمن.
استغرب بلوقيا أنَّ أباه كتمَ عنه هذه المعرفة، وقرَّرَ السَّفر في محاولة للوصول إلى زمان النَّبيِّ محمَّد. وصارح أُمَّهُ بهذه الرَّغبة: “يا أُمِّي، إنِّي رأيتُ في خزائنِ أبي كتاباً فيه صفةُ محمَّد (ص)، وهو نبيٌّ يُبعَثُ في آخرِ الزَّمان، وقد تعلَّقَ قلبي بحبِّهِ، وأنا أريدُ أن أسيحَ في البلادِ حتّى أجتمعَ به. فإنَّني إن لم أجتمعْ به متُّ غراماً في حبِّهِ” (1/660). الوسيلة الأولى للسَّفر في الزَّمان هي السَّفر في المكانِ. وهكذا قرَّ قرارُ بلوقيا على مغادرةِ مصرَ خفيةً متَّجهاً نحو الشام. وفي الشام اقتادَهُ مركبٌ إلى جزيرةٍ في البحر. وحين نزل الرُّكّاب، انفرد عنهم، وخامرَهُ النَّوم. وحين استيقظ وجد أنَّ المركب قد غادرَ الجزيرة وتركَهُ وحده. فأخذَ يمشي في الجزيرة، فرأى حيّاتٍ بحجم الجمال والنَّخيل، وعرف منهم أنَّهم من حيّات جهنَّمَ. وحين سألهم عن النَّبيِّ محمَّد، قالوا له: “يا بلوقيا، إنَّ اسمَ النَّبيِّ محمَّد مكتوبٌ على بابِ الجنَّة، ولولاهُ ما خلقَ اللهُ المخلوقاتِ، ولا جنَّةً ولا ناراً، ولا سماءً ولا أرضاً، لأنَّ اللهَ لم يخلقْ جميعَ الموجوداتِ إلّا من أجل محمَّد (ص)، وقرنَ اسمَهُ باسمِهِ في كلِّ مكانٍ، ولأجلِ هذا نحنُ نحبُّ محمَّداً (ص). فلمّا سمعَ بلوقيا هذا الكلامَ من الحيّات زادَ غرامُهُ في حبِّ محمَّدٍ (ص)، وعظمَ اشتياقُهُ إليهِ” (1/661).
على الساحل، وجد بلوقيا مركباً، فتركَ الحيّاتِ وصعدَ فيه، ولم يزالوا سائرينَ حتّى وصلوا إلى جزيرةٍ أُخرى، فنزل بلوقيا، وتمشَّى في الجزيرة، فرأى هذه المرَّةَ حيّاتٍ مختلفةً، كان من بينها ملكة الحيّات التي تروي حكايته. “رأى فيها حيّاتٍ كباراً وصغاراً، لا يعلمُ عددَها إلّا اللهُ تعالى، وبينَها حيَّةٌ بيضاءُ أبيضُ من البلُّور، وهي جالسةٌ في طبقٍ من ذهبٍ، وذلك الطَّبق على ظهرِ حيَّةٍ مثل الفيلِ. وتلك الحيَّةُ ملكةُ الحيّات، وهي أنا” (1/661). لكنَّ هذا اللِّقاء لم يدمْ طويلاً، ولم يتجاوزْ حدَّ التَّعارف. فقد كان على بلوقيا أن يتوجَّهَ إلى بيتِ المقدسِ.
في بيت المقدس، يلتقي بلوقيا بأحدِ الحُكَماء العارفين، واسمُهُ عفّان، يكشف له أنَّ كلَّ مَن لبس خاتم سليمان انقادَتْ له الإنس والجنُّ. وخاتمُ سليمان لا يوجَدُ إلّا خلفَ الأبحر السَّبعة، ولا يمكنُ اجتيازُها إلّا إذا حصلَ الإنسان على العشبِ الذي مَن دهنَ به قدميه صارَ بوسعه أن يمشيَ على الماءِ. ولا يمكنُ الحصول على هذا العشبِ إلّا إذا أخذَ المرء معه ملكةَ الحيّات. هنا تدخل ملكة الحيّات في المخطَّط المشترك لعفّانَ وبلوقيا. فيعرض عليه عفّانُ عرضاً يعود بالنَّفع على كليهما: “ثمَّ إنَّ عفّان قالَ لبلوقيا: اجمعْني على ملكةِ الحيّات، وأنا أجمعُكَ على محمَّدٍ (ص)، لأنَّ زمانَ مبعثِ محمَّد بعيدٌ. وإذا ظفرْنا بملكةِ الحيّات، نحطُّها في قفصٍ، ونروحُ بها إلى الأعشابِ التي في الجبالِ، وكلُّ عشبٍ جُزْنا عليه وهي معَنا ينطقُ ويخبرُ بمنفعتِهِ، بقدرةِ اللهِ تعالى. فإنِّي قد وجدتُ عندي في الكتبِ أنَّ في الأعشابِ عشباً كلُّ مَن أخذَهُ ودقَّهُ، وأخذَ ماءَهُ، ودهنَ به قدميه، ومشى على أيِّ بحرٍ خلقَهُ اللهُ تعالى لم يبتلَّ له قدمٌ. فإذا أخذْنا ملكةَ الحيّات تدلُّنا على ذلك العشبِ. وإذا وجدْناه نأخذُهُ وندقُّهُ، ونأخذُ ماءَهُ، ثمَّ نطلقُها إلى حالِ سبيلِها، وندهنُ بذلك الماءِ أقدامَنا، ونعدِّي الأبحرَ السَّبعة، ونصلُ إلى مدفنِ سيِّدِنا سُلَيمان، ونأخذُ الخاتمَ من إصبعِهِ، ونحكمُ كما حكمَ سيِّدُنا سُلَيمان، ونصلُ إلى مقصودِنا. وبعدَ ذلكَ ندخلُ بحرَ الظُّلماتِ، ونشربُ من ماءِ الحياةِ، فيُمهِلُنا اللهُ إلى آخرِ الزَّمانِ، ونجتمعُ بمحمَّدٍ (ص)” (1/662).
خطَّة رهيبة تبدأ بطموحٍ بسيطٍ في الظاهر، ولكنَّها تنتهي بمحاولة اختلاس لغز الزَّمن والظَّفر بالخلود. يبدو أنَّ البداية تتعلَّق بمقايضة بسيطة؛ اجمعْني بملكة الحيّات، أجمعْكَ بمحمَّد. لكنَّ هذه المقايضة تُخفي في داخلها مشروعاً خطيراً. فملكة الحيّات مخلوقٌ موجودٌ، ومهما كان صعباً، فإنَّه معاصرٌ لهما، في حين أنَّ النَّبيَّ محمَّداً، وإن كان جزءاً من المخطَّط الإلهيِّ، فإنَّه لم يتحقَّقْ زمنيّاً بعد. ولذلك فالخطوات الخفيَّة في هذه المقايضة أنَّ الحصول على ملكة الحيّات يُفضي إلى الحصول على عشبِ المشيِ على الماء، ويُفضي هذا إلى عبور البحار السَّبعة، والوصول إلى مدفن السَّيِّد سليمان للحصول على خاتمه. وإذا حصلا على الخاتم أطاعَهما مردَةُ الجنِّ، وصار بوسعهما بلوغ نبع الحياة مثل الخضر. وحينئذٍ يستطيعُ بلوقيا لقاء النَّبيِّ محمَّد، ما دام يستطيع التَّحكُّم بالزَّمن.
اتَّفقَ الطَّرفانِ على اختطاف ملكة الحيّات. صنع عفّانُ قفصاً من حديد، وأخذ معَهُ قدحَينِ، وملأ أحدَهما خمراً، والآخرَ لبناً. وحين وصلا إلى الجزيرة التي رآها فيها بلوقيا، وضعا القفص والقدحَينِ في محاولةٍ منهما لاستدراجِها. وقد نجحَتِ الخطَّة، فحالما دخلتْ ملكة الحيّات في القفص، أسرعَ الصَّديقانِ إلى إطباقِهِ عليها واختطافِها. واعتذرا منهما بأنَّهما فقط يريدانِ اصطحابها للوصول إلى عشبِ السَّيرِ على الماءِ، ثمَّ يُطلقانِها. وبقيا يسيرانِ أيّاماً ولياليَ حتّى وصلا إلى الجزيرة التي تنطقُ فيها الأعشابُ بمنفعتها، إذا مرَّت بها ملكة الحيّات. وهناك صارت الأعشاب جميعاً تهتفُ بمنافعِها، وكان من بينها عشبُ المشيِ على الماء. فأخذاه، وعادا بملكة الحيّات في الطَّريق نفسه. وشرحا لها أنَّ هدفَهما هو عبور البحار السَّبعة للوصول إلى خاتم سُلَيمان، فأخبرتْهما: “لو أَخَذتُما من العشب الذي كلُّ مَن أكلَ منه لا يموتُ إلى النَّفخة الأولى، وهو بينَ تلكَ الأعشابِ، لكانَ أنفعَ لكما من هذا الذي أخذتماه، فإنَّه لا يحصلُ لكما منه مقصودٌ” (1/663).
عادت ملكة الحيّات إلى جزيرتها. واستأنفَتْ روايةَ قصَّة بلوقيا لحاسب، وأوضحَتْ له أنَّها كانت تعيشُ في هذا المكان الذي التقيا فيه. وهنا روَتْ له أنَّهما استمرّا فيما يسعيانِ إليه، وبعد أن عبرا البحار السَّبعة، “وجدا جَبَلاً عظيماً شاهِقاً في الهواءِ، وهو من الزُّمُرُّد الأخضرِ، وفيه عينٌ تجري، وترابُهُ كلُّهُ من المسكِ. فلمّا وصلا إلى ذلكَ المكانَ فَرِحا، وقالا قد بلغنا مقصودَنا. ثمَّ سارا حتّى وصلا إلى جبلٍ عالٍ، فَمَشيا فيه، فَرَأَيا مغارةً من بعيدٍ في ذلك الجبلِ، وعليها قبَّةٌ عظيمةٌ، والنُّور يلوحُ منها. فلمّا رَأَيا تلكَ المغارةَ قصداها، حتّى وصلا إليها. فدخلا فَرَأَيا تختاً منصوباً من الذَّهَب، مرصَّعاً بأنواعِ الجواهرِ، وحولَهُ كراسيُّ منصوبةٌ لا يُحصي لها عَدَداً إلّا اللهُ تعالى. وَرَأَيا السَّيِّد سُلَيمان نائماً فوقَ ذلكَ التَّخت، وعليه حلَّةٌ من الحريرِ الأخضرِ، مزركشةٌ بالذَّهَب، مرصَّعةٌ بنفيسِ المعادنِ من الجواهرِ، ويدُهُ اليُمنى على صدرِهِ، والخاتمُ في إصبعِهِ، ونورُ الخاتمِ يغلبُ على نورِ تلك الجواهرِ التي في ذلكَ المكانِ. ثمَّ إنَّ عفّان علَّمَ بلوقيا أقساماً وعزائمَ وقالَ له: اقرأْ هذه الأقسامَ، ولا تتركْ قراءتَها، حتّى آخذَ الخاتمَ. ثمَّ تقدَّمَ عفّان إلى التَّخت، حتّى قربَ منه. وإذا بحيَّةٍ عظيمةٍ طلعتْ من تحت التَّختِ، وزعقَتْ زعقةً عظيمةً، فارتعدَ ذلكَ المكانُ من زعقتِها، وصارَ الشَّررُ يطيرُ مِن فمِها. ثمَّ إنَّ الحيَّة قالتْ لعفّان: إن لم ترجعْ هلكتَ. فاشتغلَ عفّان بالأقسام، ولم ينزعجْ من تلك الحيَّة. فنفخَتْ عليه الحيَّةُ نفخةً عظيمةً كادت أن تحرقَ ذلك المكانَ، وقالتْ: يا ويلَكَ، إن لم ترجعْ أحرقتُكَ. فلمّا سمعَ بلوقيا هذا الكلامَ من الحيَّةِ طلعَ من المغارةِ. وأمّا عفّانُ فإنَّه لم ينزعجْ من ذلكَ، بل تقدَّمَ إلى السَّيِّد سُلَيمان، ومدَّ يدَهُ ولمسَ الخاتمَ، وأرادَ أن يسحبَهُ من إصبعِ السَّيِّدِ سليمانَ. وإذا بالحيَّةِ نفختْ على عفّانَ، فأحرقتْهُ، فصارَ كومَ رمادٍ. هذا ما كانَ من أمرِهِ، وأمّا ما كانَ من أمرِ بلوقيا فإنَّه وقعَ مغشيّاً عليه من هذا الأمرِ” (1/664).
شتّانَ بين الهدف الذي جاءَ من أجلِهِ بلوقيا، وهو رؤية النَّبيِّ محمَّد، والهدف الذي جاءَ من أجلِهِ عفّان، وهو امتلاك خاتم سُلَيمان. لذلك واجهَ عفّانُ هذا المصيرَ المؤلم. نفخَتْ عليه الأفعى حارسة الكنوز، فأنهتْ وجودَهُ. وبدلاً من حصولِهِ على إكسير البقاء الأبديِّ، لقيَ حتفه بطريقةٍ مأساويَّةٍ مؤلمةٍ. أمّا بلوقيا فقد أدركتْهُ العناية الإلهيَّة. ففي اللَّحظة التي نفخَتْ فيها الحيَّةُ على عفّانَ، هبطَ جبريل على بلوقيا، واستطاعَ أن يخلِّصَهُ من صعقة النَّفخ الساحقة، احتراماً لمقصدِهِ النَّبيل في رؤية النَّبيِّ محمَّد. لكنَّ دور جبريل لم يتعدَّ تخليصَهُ من شرور النَّفخة القاتلة. وهكذا تركَهُ وحده وارتفعَ إلى السَّماء.
كان دهن السَّير على الماءِ ما زال مع بلوقيا، فاستعملَهُ حتّى يعبر البحار المتلاطمة. وفي طريق عودتِهِ، مرَّ “بجزيرة عظيمة، ترابها الزَّعفران، وحصاها من الياقوت والمعادن الفاخرة، وسياجها الياسمين، وزرعها من أحسن الأشجار وأطيبها” (1/665). وهي دون شك مشابهة في أوصافها للجزيرة التي مرَّ بها جلجامش بعد أن ترك الحرّاس العمالقة المعروفين باسم الرِّجال العقارب، وقبل لقائِهِ بصاحبة الحانة. لكنَّ تلك الجزيرة كانتْ في اللَّيلِ مأوى لحيواناتٍ عملاقةٍ متوحِّشة، فقرَّرَ بلوقيا مفارقتَها مع إشراقة الشَّمس. وكلَّما وجد بلوقيا برّاً، هاجمَهُ خطرُ حيوانٍ يجهلُهُ. لذلك كان البحر ملاذَهُ، يدهنُ قَدَميه بالعشب، ويظلُّ سائراً فوقَهُ.
في إحدى الجزر، رأى بلوقيا شجرة تفّاح، فمدَّ يدَهُ ليقطفَها. وفجأةً صاح به شخصٌ عملاقٌ طولُهُ أربعون ذراعاً، ومنعَهُ من مدِّ يدِهِ. وهو حارس تلك الغابة. فتركَهُ والتقى بعدها بأناسٍ من الجنِّ على ظهورِ خيولِهم، وهم في اشتباكٍ مع بعضِهم، وأخبروه أنَّه يجب أن يصطحبَهم لرؤية ملكهم الملك صخر، حاكم “أرض شدّاد بن عاد” خلف جبل قاف. وقد أكرمَهُ الملك، وبعد تناول الطَّعام، حمدَ اللهَ وصلَّى على النَّبيِّ محمَّد، فاستغلَّها بلوقيا فرصةً للسُّؤال عن النَّبيِّ. فروى له الملك صخر أسطورةَ خليقةٍ عن خلقِ الجنِّ، كان فيها حبُّ النَّبيِّ منقذاً من النارِ. ثمَّ مرَّ بلوقيا بأرض مَلَك اسمه “براخيا”، ثمَّ مارد اسمُهُ “مخاييل”، موكَّل بتصريف اللَّيل والنَّهار. ففي رحلتِهِ في البحث عن زمن النَّبيِّ محمَّد، استطاع بلوقيا اختراقَ حُجُبِ المكان تمهيداً لاختراقِ حُجُبِ الزَّمان، والوصول إلى جغرافيا أسطوريَّة لا يمكن لأحدٍ أن يصل إليها. عوالمُ من أزمنةٍ موغلةٍ في القدم، أو أمكنةٍ موغلةٍ في الخيال. وبعد هذه الرِّحلة الطَّويلة يلتقي بلوقيا، كما تروي ملكة الحيّات لحاسب، بشابٍّ جالسٍ بين قبرَينِ، وهو يبكي.
جانشاه: الحياة بين قبرين
نحن جميعاً نتحاشى السُّؤال عن معنى “القبر”، مع أنَّنا نعرف أنَّه النِّهاية التي سوف نستقرُّ فيها. وحين يفارقُ واحدٌ من أحبابنا الحياةَ، نودِّعُهُ، ونودِعُهُ في مثواه الأخير، غافلين أو مُتَغافلين أنَّ “المثوى” تعني “السُّكنى”، وبالتالي فإنَّ القبر هو المكان الذي يسكنُهُ “الميت”، تماماً كما أنَّ البيت هو المكان الذي يسكنُهُ “الحيُّ”. ولهذا السَّبب نزور أحبابنا الأموات، ونقفُ عند قبورهم، ونكلِّمُهم، ونسترجع ذكرياتِنا معهم، كأنَّما لم يفارقوا قبورَهم بعدُ. ولعلَّ زيارتهم تُعطينا الإحساس بأنَّنا نطرق على أبوابهم، ليتنبَّهوا من رقادِهم ويخرجوا إلينا، وحينئذٍ نشرع بالحديث معهم. وكأنَّ الأموات ما زالوا أحياء، وكـأنَّنا بزيارتنا لهم نستطيع أن نستعيدَهم من براثن الموت، متوهِّمين لقاءَهم، ولو لقاءً سريعاً.
هل نستطيع أن نتخيَّل شاعراً يحتفل بالموت، كما يحتفل بالحياة؟ ليس من شكٍّ في أنَّه أبو العتاهية. فشعر أبي العتاهية هو تجوال في مقبرة مترامية بلا انتهاء. وهكذا فهو ينطوي على تجربةٍ فريدةٍ من نوعها حقّاً، وهي الحياة بين القبور، لكنَّها مع ذلك تجربةٌ خانقةٌ، وكأنَّه يُريد أن يغلق عليك قبراً لا تخرج منه. فهو محاولة لاستدراج القارئ نحو قبره، نحو إغلاقِهِ عليه وحبسِهِ فيه. وهذا ما يُقاومه القارئ بقوَّة. فيخرج بالتالي من شعر أبي العتاهية شاعراً بخطورة المجازفة في خوض الحوار مع الأموات، أو بعبارة أدقَّ مع الموت نفسه، ما دام الهبوط إلى العالم السُّفليِّ، وربَّما السُّكنى فيه، يمكن أن يهدِّد المرء بالبقاء في أرض اللاعودة.
في إحدى الحكايات، يتحقَّق شعر أبي العتاهية سرداً. اجتاز الإسكندر ذو القرنين بمدينةٍ ليست سوى مقبرةٍ، لأنَّ سُكّانها “حفروا قبور موتاهم على أبواب دورهم، وكانوا في كلِّ وقتٍ يتعهَّدون تلك القبور، ويكنسون التُّراب عنها، وينظِّفونها ويزورونها، ويعبدون الله تعالى فيها، وليس لهم طعامٌ إلّا الحشيش ونبات الأرض”. وقد التقى الإسكندر ذو القرنين، الذي كان يبحث عن “نبع الحياة” في سيرته الشَّعبيَّة، بالمدينة المقبرة في “ألف ليلة وليلة”. وفي هذا اللِّقاء تصل الحبكة إلى ذروتها، إذ تصطدم الرَّغبة بالخلود بالرَّغبة في الفناء، وإرادة الحياة بإرادة الموت. سكّان مدينة القبور يعتنون بقبورهم، وكأنَّها هي رمز الحياة، وقد صارت بمثابة بيوتٍ يسكنونها. بعبارةٍ أخرى، لا يبدو أنَّهم ينتمون إلى عالم ما فوق الأرض، بل إلى عالم ما تحتها، إلى القبور التي أصبحت بيوتهم. لم تعدْ هناك علامة على الحياة لديهم، فلم يعودوا يملكون سوى ما تجود به الأرض عليهم. لقد تحوَّلوا إلى نباتيين، لأنَّهم يرفضون امتلاك شيء. وهكذا فكلُّ ما يملكونه هو القبور التي يحرصون على تنظيفها، وكأنَّها خلاصة الكنوز الأرضيَّة. في حوار الإسكندر معهم حول أسلوب حياتهم على حافَّة الموت، مدَّ ملك مدينة العالم السُّفليِّ “يدَهُ فأخرج قحفاً من رأس آدميٍّ، فوضعَهُ بين يدي الإسكندر، وقال له: يا ذا القرنين، أتعلم مَن كانَ صاحب هذا؟ قال: لا. قال: كان صاحبُهُ ملكاً من ملوك الدُّنيا، فكان يظلمُ رعيَّتَهُ ويجورُ عليهم”. ثمَّ أخرجَ قحفاً آخرَ وقال: أتعرفُ مَن هذا؟ قال: لا. قال: هذا كان ملكاً عادلاً يُشفِقُ على رعيَّتِهِ ويحرصُ على مرضاتهم. ثمَّ خلصَ إلى النَّصيحة النِّهائيَّة التي يجب أن ينتهي بها سرد من هذا النَّوع: “تُرى أنت أيُّ هذين الرَّأسين”؟ ما من شيءٍ ممّا يتوفَّرُ تحت أيديهم يدلُّ على الحياة، ثرواتهم هي جماجم الموتى، وعظام الذاهبين. ما الفرق بين جمجمة ملكٍ ظالمٍ وجمجمة ملكٍ عادلٍ؟ لا فرقَ على الإطلاق سوى القيمة الأخلاقيَّة التي يحدِّدُها الموقف من الموت.
تبدأ حكاية جانشاه، التي تقاطع حكاية بلوقيا، من حيثُ تنتهي تماماً، أو لنقلْ إنَّ روايتَها استغرقَتِ الزَّمن الممتدَّ بين قبرَينِ. ولكنْ قبرا مَن؟ قبر زوجتِهِ شمسة، وقبره هو الذي بناه إلى جوارِ قبرها، وجلسَ ليقضيَ عمره في البكاءِ عليهما، وقد استبدَّ به الإحساس بعبث المشروع البشريِّ. ففي ذلك البرزخ النائي البعيد، لم يَرَ أحدٌ جانشاه سوى بلوقيا، فروى له قصَّتَهُ، وروى جانشاه أيضاً قصَّتَهُ له. وتبادل رواية القصص سمةٌ مميِّزة لحكاية حاسب كريم الدِّين الطَّويلة. ومن خلال بلوقيا عرفتْهُ ملكةُ الحيّات، ومن خلال ملكة الحيّات، عرفَهُ حاسب كريم الدِّين.
كان جانشاه ابنَ الملك طيغموس، ملكِ مملكةٍ متراميةِ الأطراف في كابل، لكنَّه لم يُرزَقْ به إلّا بعد يأسٍ. وقد تنبَّأَ له المنجِّمون بالمتاعب التي سيواجهُها طفلاً. وحصل أن خرجَ الملك ذات مرَّة مع ابنه الشاب جانشاه، فرأى جانشاه غزالةً وصار يطاردُها. وبالطَّبع صارت هي تجتذبُهُ حتّى استدرجَتْهُ إلى جزيرةٍ عظيمةٍ. ولكنَّنا نعرف أنَّها أخرجتْهُ من الزَّمن الواقعيِّ، ودخلتْ به في أزمنةِ عوالمَ أُخرى. كلَّما دخل جانشاه في جزيرة، كان يُصادف عالماً غريباً عنه. في أوَّل جزيرةٍ، رأى بشراً يتكلَّمون صفيراً، ويذهبُ جزؤُهم الأعلى باتِّجاهٍ، وجزؤُهم الأسفل باتِّجاهٍ آخرَ. وفي جزيرةٍ أخرى أسرَهُ القرودُ، واتَّخذوه ملكاً عليهم، ورووا أنَّها كانت لسليمانَ بنِ داودَ، ويساكنُهم فيها الغيلان، وبينهم حروبٌ مطَّردة. والأغرب من هاتين الجزيرتين أنَّه مرَّ بجزيرةٍ يسكنُها نوعٌ من “النَّمل العملاق”. وفي كلِّ جزيرة لا بدَّ من معاناةٍ، غير أنَّها معاناة تنتهي بانتصارِهِ، وتعدُهُ بأن يكون بطلاً تأسيسيّاً. من هنا يجب أن نفهم أنَّ ضروب المعاناة الشَّديدة التي يمرُّ بها جانشاه إنَّما تعني في نهاية الأمر تمجيداً لانتصارِهِ على هذه الظُّروف العصيبة، وتتويجاً له بطلاً تأسيسيّاً يتحدَّى العَقَباتِ وينتصرُ عليها.
بعد أن تخلَّصَ جانشاه من مدينة الصِّراع بين القرود والنَّمل العملاق والوحوش والعفاريت والغيلان والمرَدَة، عثرَ على لوحِ استدلالٍ، وفهم منه أنَّه يجب أن يظلَّ ماشياً حتّى يصلَ إلى الجبل، والنَّهر الذي ينشف ماؤُهُ كلَّ سبتٍ، وإلى جوارِهِ تقع مدينة اليهود. وليس من شكٍّ في أنَّ هذا “اللَّوح” يريد أن يخلِّصَهُ، ولكنَّه يريد أن يُبلِّغَهُ أيضاً بأنَّه بطلٌ ثقافيٌّ تختارُهُ الأسطورة، وعليه أن يتوقَّعَ المزيد من المعاناة، وفي الوقت نفسه المزيد من الانتصار للبرهنة على قدرتِهِ على تخطِّي العَقَباتِ وتجاوز المحن، مهما صعبَتْ وتفاقمَتْ.
في مدينة اليهود تبدأ الأحداث بالدُّخول في دائرة المتوقَّع، لأنَّها تقترب إلى حدٍّ كبيرٍ من التَّشابه مع الأحداث التي ترويها حكاية حسن الصائغ البصريِّ، التالية عليها في ترتيب الحكايات في “ألف ليلة وليلة”. إذ يصادفُ جانشاه رجلاً يُنادي ويقول: مَن يأخذ ألفَ دينارٍ وجاريةً بديعةَ الجمال، ويؤدِّي لي عملاً من الصُّبح إلى الظُّهر. فيتطوَّع جانشاه، ما دام يائساً من السَّفر إلى مدينةٍ يعرفها، للقيام بهذه المهمَّة. وتماماً مثلما ذبحَ المجوسيُّ جملاً وخاطَهُ على حسن البصريِّ، لترتفعَ به طيورُ الرَّخم إلى قمَّة الجبل، ذبحَ اليهوديُّ البغلةَ التي امتطاها جانشاه، وخاطَها عليه، “واستخفى في ذيلِ الجبلِ، وبعدَ ساعةٍ نزلَ على البغلةِ طائرٌ عظيمٌ، فاختطفَها وطارَ، ثمَّ حطَّ بها على أعلى الجبلِ، وأرادَ أن يأكلَها، فحسَّ جانشاه بالطائرِ، فشقَّ بطنَ البغلةِ وخرجَ منها، فجفلَ الطائرُ لمّا رأى جانشاه، وطارَ وراحَ إلى حالِ سبيلِهِ” (1/680). ومن الواضح أنَّ اليهوديَّ كان مخادعاً، أرادَ من جانشاه أن يرميَ له الأحجار الكريمة من الياقوت والزَّبرجد والجواهر الغالية، ثمَّ تركَهُ وحيداً لمواجهة مصيرِهِ اليائسِ.
لكنَّ جانشاه لا يمكنُ أن ييأسَ، بل ظلَّ يمشي حتّى وجدَ نفسَهُ على جبلٍ يُطِلُّ على وادٍ أخضرَ فيه أشجار وثمار، وفيه قصرٌ شاهقٌ في الهواء. وهناك قابل الشَّيخ نصر، وهو شيخ “مليحُ الهيئةِ، يلمعُ النُّور من وجهِهِ، وبيدِهِ عكّازٌ من الياقوتِ”. ولا يعدو الدَّور الذي يقوم به هذا الشَّيخ النُّورانيُّ دور لوح الاستدلال الذي عثرَ عليه جانشاه من قبل، أي الدَّور المساعد في تهيئة البطل لإنجازِ المهمَّة المسندة إليه. وفي هذه النُّقطة يكشف الشَّيخ نصر عن هويَّتِهِ لجانشاه قائلاً: “اعلمْ أنَّ السَّيِّد سُلَيمان وكَّلَني بهذا القصرِ، وعلَّمَني منطقَ الطَّيرِ، وجعلَني حاكماً على جميعِ الطَّيرِ الذي في الدُّنيا. وفي كلِّ سنةٍ يأتي الطَّيرُ إلى هذا القصرِ وننظرُهُ ويروحُ. وهذا سببُ قُعودي في هذا المكانِ” (1/681). فلا تتعدَّى وظيفة الشَّيخ نصر كونَهُ حارساً للمكان، ودليلاً مساعداً لجانشاه وأمثاله. رحَّبَ ملكُ الطُّيور الشَّيخ نصر بجانشاه، وسمحَ له بالتَّجوُّل في القصر مثلما يشاءُ، وأعطاه مفاتيحَ جميع المقصورات، وأباحَ له دخولها، باستثناء مقصورةٍ واحدةٍ، حذَّرَهُ من الدُّخول إليها. وبالطَّبع في هذا التَّحذير استفزازٌ للفضول، ودعوةٌ مبطَّنةٌ للمغامرة باقتحامِها. وفعلاً فقد استفزَّ هذا التَّحذير فضولَهُ، فدخل المقصورة، ووجدَ فيها قصراً، في داخلِهِ بستانٌ كبيرٌ، حصاه من الأحجار الكريمة، وإلى جوارِهِ بحيرةٌ. ولم يكدْ يمشي قليلاً حتّى رأى ثلاثة طيور مثل الحمام، اقتربنَ من الأرض، ونزعْنَ أجنحة الرِّيش، وصرنَ “ثلاثَ بناتٍ، كأنَّهنَّ الأقمارُ، ليسَ لهنَّ في الدُّنيا شبيهٌ، ثمَّ نزلْنَ البحيرةَ، وسبحْنَ فيها، ولعبْنَ وضحكْنَ. فلمّا رآهنَّ جانشاه طلعْنَ إلى البرِّ كادَ عقلُهُ أن يذهبَ، وقامَ على قَدَميه وتمشَّى حتّى وصلَ إليهنَّ. فلمّا قربَ منهنَّ سلَّمَ عليهنَّ، فرددْنَ عليه السَّلام. ثمَّ إنَّه سألهنَّ وقالَ لهنَّ: مَن أنتنَّ أيَّتُها السَّيِّدات الفاخرات؟ ومن أينَ أَقْبَلْتُنَّ؟ فقالَتْ له الصَّغيرة: نحنُ أتينا من ملكوتِ اللهِ تعالى لنتفرَّجَ في هذا المكانِ. فتعجَّبَ من حسنِهنَّ. ثمَّ قالَ للصَّغيرة: ارحميني وتعطَّفي عليَّ وارثي لحالي وما جرى لي في عُمْري. فقالَتْ له: دعْ عنكَ هذا الكلامَ واذهبْ إلى حالِ سبيلِكَ” (1/682). ولأنَّه لم يكنْ يعرفُ سرِّ طَيَرانها، فقد تركَها تطيرُ ليبقى وحدَهُ مبهوتاً في ذلك القصر.
كان الشَّيخ نصر قد رتَّبَ أمرَ عودةِ جانشاه إلى بلاده برفقة بعض الطُّيور. لكنَّه رفضَ العودةَ، وأصرَّ على رغبتِهِ في الوصولِ إلى الحوريَّة الطائرة التي تعلَّقَ قلبُهُ بها. انتظر جانشاه سنةً كاملةً حتّى موعدِ زيارةِ محبوبتِهِ الطائرة في العام التالي. وحينئذٍ كمنَ لها في المكانِ. ومثلما فعلَ حسن البصريُّ، سرقَ منها جناحَ الرِّيش الذي تطيرُ به، وأخفاه عنها. وحين حضر الشَّيخ نصر وافقَتْ شمسة، حبيبة جانشاه، على البقاءِ معه والزَّواج به. وبعد شهور قرَّرا أن تأخذَهُ إلى بلاد أبيه في كابل، وطلبتْ من أُختيها إخبارَ أهلِها بما حصلَ لها معه. حملَتْ جانشاه على ظهرِها، وأمرتْهُ بالتَّمسُّك بها جيِّداً، وقطعَتْ مسافة سنتين في يومٍ وليلةٍ. وكان لقاؤُهُ بأهله حافلاً. وإكراماً لشمسة وإيصالها جانشاه، طلبَ أبوه الملك طيغموس منها ما تتمنَّى، فتمنَّت بناءَ قصرٍ لها. وفعلاً بوشِرَ في بناءِ القصر على الفور. وقد أخفى جانشاه ثوبها الرِّيش في أحدِ أعمدتِهِ، واستوثق من خفائِهِ فيها. لكنَّها عرفَتْ موضعَهُ، وبقيت تتحيَّنُ الفرصَ، حتّى حفرت تحت العمود، واستردَّت ثوبَها. ومثلما فعلتْ منار السَّنى زوجة حسن البصريِّ، حلَّقت شمسة فوق القصر، وخاطبَتْ جانشاه قائلةً: “يا حبيبي وقرَّةَ عيني، وثمرةَ فُؤادي، واللهِ إنِّي أُحبُّكَ محبَّةً عظيمةً، وقد فرحتُ فَرَحاً شديداً حيثُ أوصلتُكَ إلى أرضِكَ وبلادِكَ، ورأيتَ أُمَّكَ وأباك. فإن كنتَ تحبُّني كما أُحبُّكَ فتعالَ عندي إلى قلعةِ جوهر تكني. ثمَّ طارتْ من وقتِها وساعتِها، ومضَتْ إلى أهلِها” (1/689).
لم يكنْ جانشاه يعرف أين تقعُ “قلعة جوهر تكني”، ولا سمعَ باسمها. وحاول أبوه الملك طيغموس إرسال الرُّسُل للسُّؤال عنها عبثاً. زدْ على ذلك أنَّه حصلَ ما عاقَ بحثَهم. فقد كان بين الملك طيغموس وملك الهند كفيد عداوةٌ شديدةٌ، ورأى هذا الأخير أن يهاجمَهُ بجيشٍ جرّارٍ لا يقوى على مواجهته. واستمرَّت المنازلات بينهما عدَّة شهور، كانت في أغلبها لصالح ملك الهند. وحين رأى جانشاه انكسار جيش أبيه، تظاهرَ بالخروج مع ألف فارس نصرةً لأبيه، لكنَّه قرر في دخيلةِ سرِّهِ التَّوجُّه إلى بغداد، وبغدادُ هنا كانت موجودةً منذ عهد السَّيِّد سليمان بن داود، ومنها إلى مدينة اليهود للسُّؤال عن “قلعة جوهر تكني”. وخفيةً انسحب جانشاه بنفسه من الفرسان، وانفرد مسافراً. فلمّا علموا أخبروا أباه باختفائِهِ، فتألَّمَ كثيراً لفقدِهِ. ثمَّ رأى أنَّ مصلحته تقتضي الانسحاب من ساحة القتال مع ملك الهند، والتَّحصُّن بأسوار قلعةِ مدينتِهِ. واستمرَّ بالدِّفاع عنها مدَّة سبع سنين.
بقيَ جانشاه يقطع البراري والقِفار بحثاً عن “قلعة جوهر تكني”، لكنَّه لم يجدْ لها أثراً، ولا قابلَ مَن سمعَ بها. وهكذا قرَّرَ أن يذهبَ إلى مدينة اليهود ليسألَ عنها. فسلكَ الطَّريق نفسه الذي سلكَهُ في رحلتِهِ الأولى، فمرَّ بجزيرة القرود، وجزيرة النَّمل العملاق، والنَّهر الذي ينشفُ يوم السَّبت، حتّى وصلَ إلى مدينة اليهود، وقابل التاجر الذي وضعَهُ في جلد البغل، ليصعدَ به الطائرُ العملاقُ إلى أعلى الجبل في الرِّحلة الأولى. كلُّ ما رآه في رحلتِهِ الأولى مجبراً، ها هو يراه مرَّة ثانيةً طوعاً باختيارِهِ. لكنَّه أخفى هويَّتَهُ عن التاجر، وحين ارتفعَ به الطائر العملاق، وهو تحت جلدِ فرسٍ، ووصل إلى قمَّة الجبل، أخبر التاجر بأنَّه مَن خدعَهُ قبل خمس سنينَ، ولن يرميَ له شيئاً من الأحجار الكريمة أبداً.
حين وصلَ جانشاه إلى قصرِ السَّيِّد سُلَيمان، استغربَ الشَّيخ نصر عودتَهُ إليه. فحكى له جانشاه قصَّته كاملةً. لكنَّ الشَّيخ نصر لم يكنْ قد سمعَ باسم هذه القلعة، وطمأنَهُ بأنَّه سوف يسأل الطُّيور عنها، إذا اجتمعَتْ عندَهُ. ولكنْ عبثاً، فما من طائرٍ سمعَ باسمها أيضاً. وحين يَئِسَ جانشاه من الوصول إلى القلعة، طلبَ الشَّيخ نصر من طائرٍ عملاقٍ أن يوصلَهُ إلى مملكةِ أبيه في كابل. وبعد يومٍ وليلةٍ من الطَّيَران في الجوِّ، تاهَ الطائر عن الطَّريق، فطلبَ جانشاه أن يُنزِلَهُ عند ملك الوحوش شاه بدري، ويذهبَ إلى حالِ سبيلِهِ، حتّى يموتَ هنا، أو يصلَ إلى بلادِهِ.
بعد أن تعرَّفَ ملكُ الوحوشِ على جانشاه، وحكى له الأخير حكايتَهُ، أخبره ملكُ الوحوشِ أيضاً أنَّه لم يسمعْ باسم هذه القلعة من قبلُ. وهنا يرد ذكر “ألواح” غامضة، ربَّما كانت تُشبِهُ الألواحَ التي عبرَ من خلالها جلجامش بحرَ مياهِ الموت. “تعجَّبَ ملكُ الوحوشِ من حكايتِهِ، وقالَ له: وحقِّ السَّيِّد سُلَيمان إنِّي ما أعرفُ هذه القلعةَ، وكلُّ مَن دلَّنا عليها نكرمُهُ، ونرسلُكَ إليها. فبَكَى جانشاه بكاءً شديداً. وصبرَ مدَّة قليلة، وبعدَها أتاه ملك الوحوش، وهو شاه بدري، وقالَ له: قُمْ يا وَلَدي، وخُذْ هذه الألواحَ، واحفظِ الذي فيها. وإذا أتَتِ الوحوشُ نسألُها عن تلكَ القلعةِ” (1/696).
ومثل الطُّيور عند ملك الطُّيور من قبلُ، نَفَتِ الوحوشُ عند ملك الوحوش معرفتَها بالقلعة. ولمّا رأى ملك الوحوش الخيبةَ التي شعرَ بها جانشاه، أخبرَهُ بأنَّه سوف يرسلُهُ على ظهرِ أحد الوحوش إلى أخيه الملك شمّاخ، وهو واحدٌ من كبارِ ملوك الجان، عساه يستطيعُ أن يدلَّهُ. وحينَ وصلَ جانشاه إلى الملك شمّاخ، وتبادلا التَّعارف وروايةَ الحكاياتِ، أخبرَهُ الأخيرُ بأنَّه لم يسمعْ بوجودِ هذه القلعة. لكنَّ هناك راهباً منقطعاً في الجبل، تطيعُهُ الوحوش والطُّيور والعفاريت والمرَدَة لغزارة علومِهِ السِّحريَّة: “أنا كنتُ قَد عصيتُ السَّيِّد سُلَيمان، فهو أسرَني عندَهُ، وما غلبَني سوى هذا الراهبِ، من شدَّة مَكْرِهِ وأقسامِهِ وسحرِهِ، وقد بقيتُ في خدمتِهِ. واعلمْ أنَّه ساحَ في جميعِ البلادِ والأقاليمِ، وعرفَ جميعَ الطُّرُق والجهاتِ والأماكنِ والقلاعِ والمدائنِ، وما أظنُّ أنَّه يخفى عليه مكانٌ. فأنا أرسلُكَ إليهِ، لعلَّهُ يدلُّكَ على هذه القلعةِ. وإن لم يدلَّكَ هو عليها فما يدلُّكَ عليها أحدٌ، لأنَّه قد أطاعتْهُ الطُّيور والوحوشُ والجان، وكلُّهم يأتونَهُ” (1/696).
أرسلَ ملكُ الوحوشِ جانشاه مع طائرٍ عملاقٍ، له أربعة أجنحة وأربعة سيقان مثل سيقان الفيل، حتّى يوصلَهُ إلى الراهب يغموس في الجبل. وفي حضرة الراهب يغموس أيضاً، ظهر أنَّ الوحوش والطُّيور والجان لم تكنْ قد سمِعَتْ باسمِ القلعةِ. هكذا بقيَ جانشاه يبكي بحرقةٍ على جهوده الضائعة. وفجأةً أقبَلَ طائرٌ أسودُ، وقبَّلَ يدَ الراهبِ يغموس، وحين سألَهُ عن القلعة أجابَ بالإيجابِ. “أيُّها الراهبُ، إنّا كنّا ساكنينَ خلفَ جبلِ قاف بجبلِ البلُّور في برٍّ عظيمٍ، وكنتُ أنا وإخوتي فراخاً صغاراً، وأبي وأُمِّي كانا يسرحانِ في كلِّ يومٍ ويجيئانِ برزقِنا. فاتَّفق أنَّهما سرحا يوماً من الأيّامِ وغابا عنّا سبعةَ أيّامٍ، فاشتدَّ علينا الجوعُ، ثمَّ أتيا في اليومِ الثامنِ وهما يبكيانِ. فقُلنا لهما: ما سببُ غيابِكما عنّا؟ فقالا إنَّه خرجَ علينا ماردٌ فخطَفَنا، وذهبَ بنا إلى قلعةِ جوهر تكني، وأوصلَنا إلى الملكِ شهلانَ. فلمّا رآنا الملكُ شهلانُ أرادَ قتْلَنا، فقُلنا له إنَّ وراءَنا فراخاً صغاراً، فأعتقَنا من القتلِ. ولو كانَ أبي وأمِّي في قيدِ الحياةِ لكانا أخبراكم عن القلعةِ” (1/697).
أصبحَتْ جميعُ الأمورِ محلولةً، ما دامَ هناكَ خيطٌ للاستهداء والخروجِ من هذه المتاهة. طلبَ الراهب من الطائر الأسود أن يحملَ جانشاه إلى وكرِ أبيه وأُمِّهِ خلفَ جبل البلُّور، فوافق. وطارَ به حتّى وصلَ إلى آخر نقطةٍ يعرفُها فوق جبل البلُّور. وهناك، نامَ جانشاه، وحين صحا التمعَتْ أمام عينيه أنوارٌ ساطعةٌ تخطفُ الأبصارَ، ولم يعلمْ أنَّها أنوار قلعة جوهر تكني التي يبحثُ عنها. ومن المصادفات أنَّ السَّيِّدة شمسة حين عادتْ إلى أهلِها، وحكَتْ لهم قصَّتَها مع جانشاه، لاماها على ما فعلتْهُ به، لكنَّها طمأنتْهُم بأنَّه سوف يجيءُ لها. فأرسلَ أبوها عدداً من مردة الجانِّ لانتظارِهِ على حدود مملكتِهِ والإتيانِ به عند رؤيتِهِ. وحين رأى جانشاه الأنوار الساطعة، دعاه الفضول إلى التَّوجُّه نحوَها، وما كادَ يمشي قليلاً حتّى التقاه أحدُ الأعوان. وبعد أن تأكَّدا من هويَّة كلٍّ منهما، استفسرَ منه جانشاه عن محبوبتِهِ، فأخبرَهُ قائلاً: “اعلمْ أنَّها تحبُّكَ محبَّةً عظيمةً، وقد أعلمَتْ أباها وأُمَّها بمحبَّتِكَ، وكلُّ مَن في القلعةِ يحبُّكَ لأجلِها، فطبْ نفساً وقرَّ عيناً” (1/698). ثمَّ حملَهُ المارد على كتفيه وسار به صوبَ القلعة.
كان لقاء الحبيبين مفعماً بالمشاعر المشبوبة والعواطف المحمومة. روى لهم جانشاه ما عاناه من ألم الفراق، وكيف تركَ عائلتَهُ بعدما ما واجهَهُ أبوه من خصومة ملك الهند، وأعباء الطَّريق المهلكة التي مرَّ بها. فطمأنتْهُ أُمُّها قائلةً: “إن شاءَ اللهُ تعالى في الشَّهر القابلِ ننصبُ الفرحَ، ونعملُ العرسَ، ونزوِّجُكَ بها، ثمَّ تذهبُ إلى بلادِكَ. ونُعطيكَ ألفَ ماردٍ من الأعوانِ، لو أذنتَ لأقلِّ مَن فيهم في أن يقتلَ الملكَ كفيد وقومَهُ لفعلَ ذلكَ في لحظةٍ. وفي كلِّ عامٍ نرسلُ إليك قوماً إذا أمرتَ واحداً منهم بإهلاكِ أعدائِكَ جميعاً أهلكَهُم” (1/699). وبعد انقضاء الشَّهر تزوَّجا. وجهَّزَ لهم أبوها الملكُ “تختاً عظيماً من الذَّهبِ الأحمرِ مرصَّعاً بالدُّرِّ والجوهرِ، فوقَهُ خيمةٌ من الحريرِ الأخضرِ، منقوشةٌ بسائرِ الألوانِ، مرصَّعةٌ بنفيسِ الجواهرِ، يحارُ فيها الناظرُ”. وأوكلَ مجموعةً من المردةِ بحملِ التَّختِ والانتقالِ بالعروسينِ إلى بلادِ كابل.
في بلادِ كابلَ، كانَ الملكُ طيغموس قد تعرَّض لهزيمةٍ نكراءَ، فاعتصمَ داخل أسوارِ مدينتِهِ، وخضعَ لحصارٍ خانقٍ، اضطرَّهُ إلى طلبِ الأمانِ من ملك الهند كفيد، فلم يقبلْ. ففكَّرَ الملك طيغموس بالانتحار، وبدأ بتوديعِ أسرتِهِ وأعوانِهِ. وقبل أن يكتملَ التَّوديع، أخبرَهُ المماليكُ بأنَّ ابنه نزل فوق سطح القصر في تختٍ عظيمٍ. من ناحيةٍ أخرى، انقضَّ مردة السَّيِّدة شمسة على الجيش الهنديِّ وفتكوا بهم. كان الماردُ يحمل ثمانيةَ فيلة أو عشرةً، ويمزِّقُهم ثمَّ يرمي بهم. وأخذوا الملك كفيد أسيراً مكبَّلاً بالأغلال، وألقوه في سجن البرج الأسود. وفي العرسِ الثاني الذي أُقيمَ في مدينة الملك طيغموس، أُطلق سراحُهُ، وأُعيدَ إلى بلادِهِ، على أن لا يعودَ إلى مثلها.
كلُّ هذا رواه جانشاه لبلوقيا، وهو جالسٌ عند القبرين. حدَّثَهُ كيف بقوا عدَّة سنين، يقضونها بين بلاد كابل وقلعة جوهر تكني، وهم في ألذِّ عيشٍ وأهنأه. وفي ذات مرَّة هبطتِ السَّيِّدة شمسة ومرافقاتها في هذا المكان، “فقالَتِ السَّيِّدة شمسة إنِّي أريدُ أن أغتسلَ في هذا النَّهر، ثمَّ نزعَتْ ثيابَها، ونزعَ الجواري ثيابهنَّ، ونزلْنَ في النَّهر، وسبحْنَ فيه. ثمَّ إنِّي تمشَّيتُ على شاطئ النَّهر، وتركْتُ الجواريَ يلعَبْنَ فيه معَ السَّيِّدة. فإذا بقرشٍ عظيمٍ من دوابِّ البحرِ ضربَها في رجلِها من دونِ الجواري، فصرخَتْ ووقعَتْ ميِّتةً من وقتِها وساعتِها. فطلعَتِ الجواري من النَّهر هارباتٍ إلى الخيمةِ من ذلكَ القرشِ. ثمَّ إنَّ بعضَ الجواري حملَها وأتى بها إلى الخيمةِ وهيَ ميِّتةٌ. فلمّا رأيتُها ميِّتةً وقعتُ مغشيّاً عليَّ، فرشُّوا وجهي بالماء. فلمّا أفقتُ بكيتُ عليها، وأمرتُ الأعوانَ أن يأخذوا التَّختَ ويروحوا به إلى أهلِها، ويُعلِموهم بما جرى لها. فراحوا إلى أهلِها وأعْلَموهم بما جرى لها، فلم يغبْ أهلُها إلّا قليلاً حتّى أتوا هذا المكانَ. فغسَّلوها وكفَّنوها، وفي هذا المكانِ دفنوها، وعملوا عزاءَها. وطلبوا أن يأخذوني معَهم إلى بلادِهم. فقلتُ لأبيها: أريدُ منكَ أن تحفرَ لي حفرةً بجانبِ قبرِها، واجعلْ تلك الحفرةَ قبراً لي، لعلي إذا متُّ أُدفَنُ فيها بجانبِها. فأمرَ الملكُ شهلانُ عوناً من الأعوانِ بذلكَ، ففعلَ لي ما أردتُهُ. ثمَّ راحوا من عندي، وخلُّوني هنا أنوحُ وأبكي عليها. وهذه قصَّتي وسببُ قُعودي بين هذينِ القبرينِ” (1/702).
قلنا إنَّ هناك شبهاً بين حكاية جانشاه وشمسة وحكاية حسن البصريِّ ومنار السَّنى. لكنَّنا لم نقلْ إنَّ هذه العلاقة موجودةٌ أيضاً في حكاية لقاء الملك سيف بن ذي يزن مع زوجتِهِ “منية النُّفوس”، في “سيرة فارس اليمن”. ونحن نرى أن حكاية “حسن الصائغ البصريِّ” ترمي إلى إبراز شخصيَّة البطل فيها باعتباره شخصيَّة تأسيسيَّة، وبطلاً ثقافيّاً يحصل على ما لا يحصلُ عليه سواه من المزايا. لكنَّه في سياق حكاية جانشاه يتعرَّضُ إلى مأساة حقيقيَّة. فبعد أن تتمكَّنَ الحكاية من تحقيق بطولتِهِ بوصفه شخصيَّة تأسيسيَّة، تجعلُهُ يتعرَّضُ لكارثة كبرى بوفاة محبوبتِهِ شمسة، ممّا يضطرُّهُ إلى بناء قبرَينِ، يقضي ما تبقَّى من حياته في البكاء فوقَهما. والهدف من ذلك إخبار شهريار أنَّ الشَّخصيَّة الإنسانيَّة مهما أُوتيَتْ من أسبابِ الارتفاع والسُّمُوِّ، فإنَّها تظلُّ عرضةً للمصير البشريِّ، ما دامَ الموتُ يتربَّصُ في النِّهاية بهذا المشروع. ولذلك لا بدَّ من أخذِهِ بالاعتبار حتّى لو كانَ الإنسان في ذروة إنجازِهِ الشَّخصيِّ بوصفه بطلاً تأسيسيّاً، كما هو الحال مع جانشاه.
استئناف حكاية بلوقيا
بعد أن روى جانشاه حكايتَهُ لبلوقيا، كانَ لا بدَّ له أن يتركَهُ باكياً بين القبرين، ويمضيَ في حال سبيلِهِ. وقبل أن يتركَهُ، طلب منه أن يدلَّهُ على الطَّريق، فأرشدَهُ، وعاد إلى مواصلة حياتِهِ، أو ربَّما موتِهِ بين القبرين. أمّا بلوقيا فقد ظلَّ يدهنُ رجليه بعشب السَّير على الماءِ، وينتقلُ من جزيرةٍ إلى أُخرى. وعند جزيرةٍ تشبه الجنَّة، يلتقي بطائرٍ من اللُّؤلؤ والزُّمُرُّد الأخضر، ويروي له بعض القصص الفردوسيَّة. ولم يكدْ ينتهي من أكلِهِ على مائدة هذا الطائر، حتّى فوجئَ بحضور الخضر. “فقامَ بلوقيا إليهِ، وسلَّمَ عليهِ، وأرادَ أن يذهبَ، فقالَ له الطَّيرُ: اجلسْ يا بلوقيا في حضرةِ الخضرِ (ع). فجلسَ بلوقيا. فقالَ له الخضرُ: أخبرْني بشأنِكَ، واحكِ لي حكايتَكَ. فأخبرَهُ بلوقيا بجميعِ ما جرى له من الأوَّل إلى الآخرِ.. ثمَّ قال له: يا سيِّدي، ما مقدارُ الطَّريق من هنا إلى مصرَ؟ فقالَ له: مسيرةُ خمسةٍ وتسعينَ عاماً. فلمّا سمعَ بلوقيا هذا الكلامَ بكى ثمَّ وقعَ على يدِ الخضرِ وقبَّلَها، وقال له: أنقذْني من هذه الغربةِ، وأجرُكَ على اللهِ، لأنِّي قد أشرفتُ على الهلاكِ، وما بقيتْ لي حيلةٌ. فقالَ له الخضرُ: ادعُ اللهَ تعالى أن يأذنَ لي في أن أوصلَكَ إلى مصرَ قبل أن تهلكَ. فبكى بلوقيا وتضرَّعَ إلى اللهِ تعالى، فتقبَّلَ اللهُ دعاءَهُ، وألهمَ الخضرَ (ع) أن يوصلَهُ إلى أهلِهِ. فقالَ الخضرُ (ع) لبلوقيا: ارفعْ رأسَكَ، فقد تقبَّلَ اللهُ دعاءَكَ، وألهمَني أن أوصلَكَ إلى مصرَ. فتعلَّقْ بي، واقبضْ عليَّ بيديكَ، وأغمضْ عينيكَ. فتعلَّقَ بلوقيا بالخضرِ (ع)، وقبضَ عليه بيديهِ، وأغمضَ عينيهِ. وخطا الخضرُ (ع) خطوةً، ثمَّ قالَ لبلوقيا: افتحْ عينيكَ. ففتحَ عينيهِ، فرأى نفسَهُ واقفاً على بابِ منزلِهِ. ثمَّ إنَّه التفتَ ليودِّعَ الخضرَ (ع)، فلم يجدْ له أثراً” (1/704).
هنا يظهر سؤالٌ مهمٌّ، وهو أنَّ علاقة بلوقيا بملكة الحيّات انقطعتْ بعد أن تركَها هو وعفّان قبل انطلاقِهما في رحلتهما بحثاً عن خاتم سُلَيمانَ، فكيف عرفت ملكة الحيّات بأحداثِ حكايتِهِ التي جرتْ بعد ذلك؟ في الواقع أنَّ بقيَّة الأحداث رواها بلوقيا لملكة الحيّات بالوساطة. وهذا ما تنبَّهَ له حاسب كريم الدِّين حين سألها: “كيفَ عرفتِ هذه الأخبارَ؟ فقالَتْ له: اعلمْ يا حاسبُ، أنِّي كنتُ أرسلتُ إلى بلادِ مصرَ حيَّةً عظيمةً من مدَّة خمسةٍ وعشرينَ عاماً، وأرسلتُ معَها كتاباً بالسَّلام على بلوقيا لتوصلَهُ إليه… فأخذتْ ذلكَ الكتابَ وسارَتْ حتّى وصلَتْ إلى مصرَ. وسألَتِ الناسَ عن بلوقيا، فدلُّوها عليه. فلمّا أتتْ ورأتْهُ، سلَّمتْ عليهِ، وأعطتْهُ ذلكَ الكتابَ.. فقالَ لها: أُريد أن أروحَ معَكِ إلى ملكةِ الحيّات، لأنَّ لي عندَها حاجةً. فقالتْ: سمعاً وطاعةً” (1/703).
حين وصلَ بلوقيا إلى الجبل الذي تُقيم فيه ملكةُ الحيّات، لم تكنْ هذه موجودةً، فقد ذهبتْ مع جيشها إلى جبلِ قاف. لكنَّ بلوقيا روى لنائبتِها كلَّ ما جرى له، ونقلتْهُ هذه إلى ملكةِ الحيّات. وقد تبيَّنَ أنَّ طموحَ بلوقيا في الحصول على عشبة الحياة وإكسير الخلود لم يتوقَّفْ. وهو قد صرَّحَ للنائبة بأنَّه يُريد مقابلةَ ملكةِ الحيّات لكي يطلبَ منها طلباً. فقالتْ له النائبة: “إن كانَتْ لك حاجةٌ فأنا أقْضيها لكَ. فقالَ لها بلوقيا: أُريد منك أن تجيئي بالنَّباتِ الذي كلُّ مَن دقَّهُ وشربَ ماءَهُ لا يضعفُ ولا يشيبُ ولا يموتُ. فقالتْ له تلكَ الحيَّةُ: واللهِ ما أجيءُ به حتّى تخبرَني بما جرى لكَ بعد مفارقتِها” (1/703). وبعد أن استحصلتْ منه على تتمَّةِ حكايتِهِ، أعلنَتْ له أنَّها لا طاقةَ لها ولا معرفةَ عندَها بالحصولِ على ذلك العشبِ.
في أواخر الثَّمانينيّات، استخلصتُ من أوجه الشَّبه السَّرديَّة وجود علاقة بين “حكاية بلوقيا” و”ملحمة جلجامش”. وقد افترضتُ حينئذٍ أنَّ الحكاية مرَّت بوسيطٍ سرديٍّ كيَّفَها وعدَّلَها. وبالعودة إلى الرِّوايات التي ينقلُها وهب بن منبِّه في كتاب “التِّيجان”، رأيت أنَّ هذا الوسيط هو الرِّوايات اليمنيَّة التي نقلَها هذا الكتاب عن “الصَّعب ذي القرنين”. وفي ذلك الوقت خلصتُ إلى أنَّ مؤلِّفي “حكاية بلوقيا الذين لن نعرفَ متى كتبوا هذه الحكاية، ولا أين، يغترفونَ من المصادر المذكورة جميعاً. وسفَرُ بلوقيا إلى القدس للالتقاء بعفّانَ مطابقٌ لسفر الصَّعب للالتقاء بالخضر في القدس أيضاً، حسب رواية وهب بن منبِّه. وموت عفّان مطابق لموتِ أنكيدو في ملحمة جلجامش. والجغرافية السَّرديَّة للحكاية مطابقةٌ لجغرافية الحكاية الصُّوفيَّة. بل إنَّ تعدُّد المصادر ينكشف في خطأ صغيرٍ يرتكبُهُ النَّصُّ، حين يذكر “ماءَ الحياةِ” (ص 662)، ثمَّ يذكرُ “العشب الذي كلُّ مَن أكلَ منه لا يموتُ” (ص 663)، ليعودَ بعد ذلك إلى ذكر “ماءِ الحياةِ” (ص 664). وفي جميع المصادر المذكورة، ما من إشارةٍ إلى “عشبة الحياة” إلّا في “ملحمة جلجامش”. بينما تتَّفق جميع المصادر الأخرى على نبعِ الحياةِ. لقد حوَّلت “ألف ليلة وليلة” جلجامش إلى بلوقيا، وأنكيدو إلى عفّان، وأوتانبشتم إلى ملكة الحيّات، واستعارت الخضر في آخر الحكاية من بقيَّة المصادر، أو ربَّما تصرَّفت بتسمية (خاسيسترا) الذي هو مقلوب اسم بطل الطُّوفان في الملحمة المشابهة (أترا حسيس)، أي الفائق الحكمة. والقدر واحد”.
لكنَّ النُّصوص ما برحَتْ تتزايد، وكشفتْ عن وجود وسائطَ أخرى أكثر تعقيداً. فبعد إطلاق نشر مخطوطات البحر الميِّت، ظهرَ أنَّ كتاب “سفر الجبابرة” لدى هذه الطائفة، أو بالأحرى ظهر أنَّ الشَّذرات المتبقِّية منه، تطلق على كبير ملائكة الشَّرِّ اسم “جلجامش”. ومن ناحية أُخرى، وفي وقت مقارب نسبيّاً، عُثِرَ في الشَّذرات الصُّغديَّة الباقية من كتاب “سفر الجبابرة” المانويِّ على اسمي “أتامبيش” و”هوبابيش”، وهما الصِّياغة الصُّغديَّة لاسمي “أوتانبشتم” و”خمبابا” في “ملحمة جلجامش”.
بيدَ أنَّ اكتشاف النُّصوص لم يتوقَّفْ عند هذا الحدِّ. فقد عُثِرَ على ترجمات حوريَّة وحيثيَّة لـ”ملحمة جلجامش”، يُدعى فيها جلجامش باسم “بلقميس”. ومن المقارنة بين الاسمين والحكايتين، ذهبت الباحثة ستيفاني دالي في كتابها “أساطير من العراق القديم” إلى أنَّ اسم “بلوقيا” في “ألف ليلة وليلة” مستمدٌّ من صيغة حوريَّة أو سومريَّة لاسم جلجامش. تقول دالي: “تحمل “حكاية بُلوقيا” عدداً من أوجه الشَّبَهِ مع “ملحمة جلجامش”، يستعصي اعتبارها مجرَّد مصادفاتٍ. تجري أحداث القصَّة حين كانت اللُّغة الإغريقيَّة لغة مكتوبة، أي بعبارة أخرى في عصور ما قبل الإسلام. ينطلق بلوقيا الملك الشابُّ (الذي يبدو أنَّ اسمه صيغة تحبُّب من اسم “بِلْقميس” السُّومريِّ أو الحوريِّ) مع صديقٍ له حميمٍ بحثاً عن الخلود، من أجل الحصول على خاتم سُلَيمان (كبديلٍ عن أحدوثة خمبابا). ويموت صديقُهُ ميتةً قبلَ الأوانِ قبل لحظة ظفرهما بما يسعيانِ من أجله. وتُفضي أسفار بلوقيا اللاحقة به إلى ممرٍّ خفيٍّ (كما حصل مع جلجامش في اللَّوح التاسع) حتّى يصل أرضَ مملكةٍ تحمل أشجارُها أغصانَ الزُّمُرُّد وثمارَ الياقوتِ (جلجامش، اللَّوح التاسع)، ثمَّ يلتقي الملك صخر الذي يحكم مملكة قصيَّة، وظفرَ بالخلودِ بطريقةٍ لم تعدْ ممكنةً أمام بلوقيا، بشربه الماء من نبع الحياة التي يحرسُها الخضر (أي الحكيم المسلم الذي يمثِّلُ أتراحسيس نموذجَهُ الأعلى قبله بكثيرٍ)، فيروي الملك صخر لبلوقيا تاريخ العالم المبكِّر (اللَّوح الحادي عشر، 10- 197). وبلمحة بصر، يعود بلوقيا في رحلة روحيَّة إلى موطنه الأوَّل. وقد استعملت القصَّة التَّنبُّؤ بمجيء النَّبيِّ محمَّد”.
ولم يكن ظهور الخضر من أجل إيصال بلوقيا إلى بيتِهِ في مصر في “ألف ليلة وليلة” محضَ مصادفةٍ، بل لأنَّه تحوَّل ربَّما منذ القرن الرابع الهجريِّ من بطلٍ ثقافيٍّ، كما هو الحال مع جلجامش والصَّعب ذي القرنين في كتاب “التِّيجان” إلى نبيٍّ تُروى قصَّتُهُ في كتب “قصص الأنبياء”. وقد نقل قصَّته الخركوشيُّ، المتوفَّى سنة 406، في كتابه “شرف المصطفى”. ومن المحتمل أنَّ الثَّعلبيَّ نقلها عنه، وإن لم يستعملْ أسلوباً مطابقاً تماماً.
ومن حيث المصادر المكتوبة، فقد وقفتُ على مخطوطتين عُنِيَتا بقصَّة بلوقيا؛ الأولى مخطوطة غوطا برقم (2686). وهذه المخطوطة تشبه الحكاية التي يرويها كتاب “ألف ليلة وليلة” من حيث تسلسل الأفعال السَّرديَّة، ولكنَّها تختلف عنها أسلوبيّاً. أضفْ إلى ذلك أنَّ آخر راوٍ مذكورٍ فيها، وهو أبو المعالي، يزعم أنَّ أقدم راوٍ لها هو الأصمعيُّ. ويبدو أنَّها نسخة متأخِّرة، لا يمكن الجزم في كونها منقولةً مع بعض التَّعديل عن “ألف ليلة وليلة”. والمخطوطة الثانية هي مخطوطة برلين برقم (3860)، وهي تضمُّ في أوَّلها “حكاية بلوقية وما رآه من العجائب والغرائب”، وهي مكتوبة بخطٍّ مغربيٍّ، والجزء الأخير، وهو سيرة سيف بن ذي يزن، من المخطوطة يحمل تاريخ سنة 1188هـ. لكنَّها تقدِّم رواية تختلف من حيث التَّفاصيل عن حكاية “ألف ليلة وليلة”، كما تختلف عن حكاية “قصص الأنبياء”. إذ تصرِّح هذه الرِّواية بأنَّها منقولةٌ عن ابن عبّاس، وتبدأ بسرد أخبار الخليقة الأُولى، وتجعل من النَّبيِّ محمَّد سبباً لإيجاد الخلائق، وبهذا تمهِّدُ لمعرفة بلوقيا به قبل ظهوره التاريخيِّ. وبعد استعراض مبدأ الخليقة، تجعل بلوقيا يسمع بوقائعها عن أبيه. ثمَّ بعد وفاة أبيه يشرع بالبحث بنفسه عن هذه الوقائع. أمّا اسم “عفّان” في هذه المخطوطة فهو “عفوان” (أو “عفران”). والأهمُّ من ذلك أنَّها تنفرد بنقل قصَّة الطُّوفان، وناقة صالح، وهلاك المدائن بالصَّيحة، وتقديم أوصاف جبل “قاف”، واللِّقاء بطائرٍ عملاقٍ، “رأسُهُ من ذهبٍ، وعيناهُ من الياقوتِ، وأجنحتُهُ من الفضَّةِ” (الورقة 11). ورواية معجزات عيسى، وحضور الخضر، ووصفه بأنَّه ابنُ أخت الإسكندر.
وهكذا فمن الواضح أنَّ هناك مساربَ متعدِّدة تستقي منها حكاية بلوقيا؛ مع ذلك، لا بدَّ لنا أن نميِّز بين حكاية بلوقيا في “ألف ليلة وليلة”، وهي التي تقدِّمُهُ بوصفه بطلاً تأسيسيّاً، وحكاية بلوقيا في المصادر الأخرى بوصفه نبيّاً أو بطلاً تأسيسيّاً في حقبة نبويَّة. ولكنْ يظلُّ في الحالتين أنَّ حكايات بلوقيا جميعاً أرادتْ له أن يرتفع فوق مستوى البشر العاديين، وأن يقلِّد الشَّخصيّات الكبرى، مثل جلجامش أو الصَّعب ذي القرنين. والهدف من هذا الارتفاع هو خلق شخصيَّة استثنائيَّة تحظى بالإكبار والتَّقدير. ولعلَّنا نستطيع القول إنَّ الهدف الأبعد للحكاية هو تطويع الأسطورة، وتكييفها في البيئة الإسلاميَّة، أي تحوير الأسطورة لجعلها “الميثولوجيا الحلال”، كما يسمِّيها ستيتكيفتش. صحيح أنَّ بلوقيا، في حكايتنا هذه، لم يرتقِ إلى مرتبة النُّبوَّة، كما هو الحال في كتب “قصص الأنبياء”، لكنَّه في الوقت نفسه تمكَّن من الارتفاع إلى منزلة الشَّخصيَّة التَّأسيسيَّة. وهذا هو معنى ظهور الخضر له في آخر الحكاية. ودور الخضر فيها لم يتعدَّ وسيلة إيصالٍ إعجازيٍّ من وسائل التَّسخير السَّرديِّ التي تحصل عليها الشَّخصيّات السَّرديَّة الكبرى.
علينا أن نضع في اعتبارنا أنَّ ملكة الحيّات هي التي تروي لحاسب كريم الدِّين قصَّة بلوقيا، وتطالبُهُ في الوقت نفسه أن يحذوَ حذوَهُ، فهو مثله ابنُ ملكٍ، ولا بدَّ له أن يتمعَّنَ في معنى السَّرد، وأن يتبنَّى موقف الشَّخصيَّة السَّرديَّة الكبرى. لقد رأى بعينه المصير الذي انتهى إليه صديقه عفّان، حين زاد طموحُهُ عن حدِّهِ، وطالب بما لا ينبغي لبشرٍ أن يطالب به، سواءٌ أكان ذلك هو الحصول على خاتم سُلَيمانَ، أو الحصول على إكسير البقاء الأبديِّ. كما أنَّه رأى كيف انتهى مشروع جانشاه بالبكاء بين قبرين. ومن هنا استوعب بلوقيا السَّرد، وأدرك أنَّ الخلود الوحيد المتاح أمامه ليس الخلود الفعليَّ، بل الخلود السَّرديّ، أي أن يدرك حدود المشروع البشريِّ المتواضعة، ويسعى في الوقت نفسه من أجل التَّحوُّل إلى شخصيَّة ثقافيَّة تأسيسيَّة. وهكذا تطالب ملكة الحيّات حاسباً بأن يتمثَّلَ مشروع بلوقيا، ويؤمن بتواضع المشروع البشريِّ في الوقت نفسه، فيضع نصبَ عينيهِ إمكان الخلود السَّرديِّ بالأفعال الكبرى؛ وبالتالي أن يتحوَّل مثله إلى شخصيَّة تأسيسيَّة. ولكنَّنا نعرف أيضاً أنَّ شهرزاد نفسها تمسك بجميع خيوط السَّرد، وأنها من خلال خطاب ملكة الحيّات لحاسب كريم الدِّين تهرِّبُ سرّاً خطاباً مماثلاً إلى شهريار بأن يتخلَّى عن مشروع التَّجبُّر الظالم، وأن يتحوَّل هو الآخر إلى شخصيَّة تأسيسيَّة.