عماد عبد اللطيف
في مطلع التسعينيّات، بدأت صحبتي للموت. فعلى وقع تساقط أوراق الشجر في خريف ريفي، تملّكني يقين غريب أنني سأموت، قبل أن أبلغ الأربعين. كنتُ على موعد يومي مع مشهد مغيب الشمس كلّ أصيل. أقود دراجتي ببطء في الطريق الخالي تقريبًا من السيارات. الحقول على مدّ البصر، وحياة الريف بهدوئها وجمالها حولي عن اليمين وعن اليسار، لكنني أصوب عينيَّ إلى عين الشمس الحمراء الهشّة التي تهبط رويدًا رويدًا في قلب الظلام. تولَّد حينها في خاطري هاجس الموت المبكر. لست أدري حتى الآن، أكان التأمل اليوميّ في مشهد الشمس الغاربة سبب الهاجس أم نتيجته؟! لكني شهورًا وراء شهور، كنت أسير في الطريق ذاته، أردد “أغنية الشتاء”. أتجسّد صوت صلاح عبد الصبور الواهن وهو يُنشد مرثيته الخالدة:
“ينبئني شتاء هذا العام
أنني أموت وحدي
ذاتَ شتاء مثله، ذات شتاء
يُنبئني هذا المساء أنني أموت وحدي
ذات مساء مثله، ذات مساء
وأن أعوامي التي مضت كانت هباء
وأنني أقيم في العراء.”
مرّت السنون، وتكاثرت السيارات في الطريق الزراعيّ، وصدئت الدرّاجة، لكن هاجس الموت المبكر ظلّ يزورني كل خريف. في منتصف التسعينيّات تزامن تخرّجي في الجامعة مع تحوّل الهاجس من ضيف خريفيّ إلى ساكن مقيم. لم يعد سبتمبر مبتدأه، ولا نوفمبر منتهاه، بل صحبني تقريبًا كل الأوقات. الغريب أن هذا الهاجس لم يسبب لي أية نوبة اكتئاب، أو حزن جبار، خلال ثلث قرن صحبني فيها بالتمام والكمال. ربما يرجع هذا إلى امتزاجه، في مبتدأ ظهوره، بالصورة الحالمة لمبدعين رحلوا مبكرًا من الحياة. فمع التحاقي بالجامعة عام 1991، تعرفتُ على أصدقاء الأدب الذين فتحوا أمامي عالمًا مدهشًا من عشق الكلمات، والولع بكتابة الحكايات. ربما وقعتُ لا إراديًا تحت سطوة صورة المبدع الذين يغادر العالم في ريعان الشباب، ومع ذلك يترك إرثًا من الأعمال العظيمة. كنت أدرس أشعار امرئ القيس، وأبي تمام، ومحمد الهيشري، وأعشق أعمال غسان كنفاني وبدر شاكر السياب، وغيرهم من أبناء العمر القصير، ممن تركوا للبشرية فيضًا خالدًا من الإبداعات، وكانت أسطورة العظيمين أمل دنقل وأبو القاسم الشابي تحديدًا تحلق في الآفاق.
في ذلك الوقت، ظننتُ أن أربعين عامًا كافية جدًا؛ لأن أقول ما لدي للعالم وأنصرف. فما بعد الأربعين هو عمر الأنبياء، وهؤلاء عادة هم من يُقاسون لأجل تحويل كلماتهم إلى واقع ملموس، أما من لا يطمع إلا في أن يروي حكاية للبشر، أو ينشد قصيدة للعالم، فتكفيه الأربعون عامًا جدًا، أو ربما حتى تزيد. أو هكذا ظننتُ.
أواخر تسعينيات القرن الماضي، توقفت عن كتابة القصص، وأقلعتُ عن العيش بروح الأديب. مع ذلك، ظل يقين الرحيل المبكر يصاحبني، دونما خوف من الموت، ودونما تطلع إلى ترك إرث أدبي عظيم معًا. ففي هذا الوقت، عُينتُ معيدًا في جامعة القاهرة، وأصبح البحث العلمي مهنة، وكان عليّ أن أعمل في أطروحة ماجستير عن تحليل الخطاب البلاغي بكل ما أوتيت من جهد وصبر، وقد وهبني الله منهما الكثير. كان حافزي على العمل هو أن أبرهن أنني أستطيع أن أكون “خبيرًا” في عملي؛ وأن أكتب كتابًا يرجع إليه الباحثون إن أرادوا رؤية التراث البلاغي بطريقة غير مألوفة.
كنتُ مدفوعًا في ذلك الوقت بهوس الإتقان، وبعض الشغف. أقضي أيامي في محاولة مستميتة للبرهنة على أنني كفء للقيام بواجباتي، وتحمُّل المسؤولية الرمزية التي يفرضها المكان الذي أعمل فيه. فقد كنتُ، وما زلتُ، أعتقد أن عملي في قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة يفرض التمسك بمستوى إجادة لا تنازل عنه، إذ أراد المرء أن يكون جديرًا بأن ينتسب إلى قسم انتسب إليه من قبل طه حسين وأحمد أمين وأمين الخولي وشوقي ضيف وحسين نصار وسهير القلماوي وعشرات غيرهم ممن شكَّلوا عقل المجتمع المصري وروحه على مدار أكثر من قرن من الزمان. وزاد من هذه الإحساس بالمسؤولية عظمة المحبة والرعاية التي أحاطني بهما معظم زملائي وأساتذتي في القسم، وكان العرفان بفضل أساتذتي النبلاء يحول بيني وبين أن أخيب ظنّهم.
خلال تلك الفترة لم يكن ثمة تأثير ليقين الموت المبكر، فحين يكون المرء في عشرينيّات عمره، تبدو الأربعين بعيدة جدًا كأنها لن تأتي أبدًا. لكن ما إن خطوتُ إلى الثلاثين، حتى أفقتُ على وقع هذا اليقين. كان عشق البحث العلمي قد تمكن منّي إلى درجة إيثاره على كثير من المُتع، وغدا الشغف بالمعرفة عارمًا، حتى كاد يطغى على ما سواه. وكنتُ قد نفضتُ يدي -مؤقتًا- من دراسة التراث البلاغي، بعد أربع سنوات تفرغتُ فيها تمامًا للتعرف عليه، والتحدث إليه، والتعلم منه.
في عام 2003، سجلتُ أطروحة دكتوراه في البلاغة السياسية عند السادات، مدفوعًا بحلم مثالي؛ هو إنقاذ بعض البشر من سطوة اللغة المضلِّلة، ومن فخاخ الأكاذيب. تصورتُ حينها، وما زلتُ، أن البحث العلمي نضالٌ، وأن المعرفةَ سلاح تحرير. وآمنتُ، وما زلتُ، أن الاستبداد والجهل هما الداء، وأن المعرفة لكليهما دواء، وأيقنتُ أن أسمَى ما يمكن فعله هو أن أكرّس ما تبقى من عمري – عشر سنوات حينها – من أجل خدمة الضعفاء المخدوعين. كان اختيار السادات بالنسبة إليَّ مثاليًا؛ فالرجل الذي انحاز بلا حساب لمصالح الأغنياء؛ كان أكثر مؤيديه من الفقراء، وكان هذا بحاجة إلى كثيرٍ من الفهم والتفسير.
بعد أقل من عام ونصف من معايشة خطب السادات، ولِدَت فكرة بلاغة الجمهور من رحم الدهشة والتساؤل. فأثناء استماعي لتسجيلات خطب السادات، انتابتني تساؤلات لا تنتهي عن علّة تصفيق الجمهور لعبارات أو أقوال ظننتُ أنها تستدعي استجابات أبعد ما تكون عن التصفيق! وفكرتُ حينها في علم البلاغة بوصفه أداة لخدمة ذوي السلطة، يمكِّنهم من السيطرة على استجابة الجماهير، يتساوى في ذلك من يمتلك سلطة القهر، أو سلطة التلاعب والتضليل. وفكرتُ في إمكانية تأسيس “بلاغة جديدة”، تُقدِّم مسارًا مضادًا للبلاغة السائدة، علم جديد يخدم المخاطَبين/الجمهور، يمكِّنهم من التمييز بين خطابات تلاعبية وأخرى تحررية، ويمكِّنهم من السيطرة على استجاباتهم؛ لتكون في خدمة قضاياهم النبيلة.
على مدار السنوات العشر الموعودة، خصَّصتُ جُلَّ وقتي لدراسة خطابات عمومية شتى، قديمة، وحديثة، ومعاصرة؛ بهدف تعرية الهيمنة، والتلاعب، والتضليل، وإساءة استعمال السلطة، والظلم الاجتماعي، وتأسيس بلاغة للجمهور، تهدف إلى مساعدتهم في صراعهم مع خطابات التلاعب والاستبداد. وحين جاء الوقت المحتوم، في عامي الأربعين، كنتُ على موعد فعلي مع شبح الموت، متجسدًا في أزمة صحية عاصفة، بدت لي حينها أنها تحمل معها الوعد المحتوم. لكن كان للقدر تصاريف أخرى، فبعد شهور من المعاناة والترقب، تنحى الشبح الطيب جانبًا، ليتيح مواصلة المسيرة، حتى حين.
أطل الآن إلى السنوات المنقضية من حياتي فأدرك كما أنا محظوظ على نحو عجيب، فالرحيل الذي كان متوقعًا عام 2013، تأجل حتى حين. لكنني، في الآن نفسه، مدين على نحو كبير إلى هاجس الموت المبكر بجُلِّ ما قدَّمته، وأصبحتُ عليه. فمنذ غدا الموت قبل الأربعين قدرًا محتومًا، أصبح جزءًا من تصوري لحياتي الآتية. ومنذ آمنتُ أن ما تبقى لي من العمر محدود، وأن الزائر المنتظر يسن منجله، ويتأهب للقاء، أدركتُ أن الوقت هو كنزي الأهم في الحياة. وكان لنصيحة لا تُنسى من الدكتور مصطفى سويف أثر هائل في صياغة الطريقة التي حاولتُ أن أدير بها كنز الدقائق والساعات.
يرى مصطفى سويف أن الهدر عدو الإنسان. ففي مجتمعات تتعامل مع الوقت بوصفه فائضًا يحمل المرء عبء تصريفه، ليس ثمة قيمة حقيقية للدقائق والساعات. في هذه المجتمعات يتفنن الأفراد في إهدار الوقت، وتضييعه بكل سبيل. وإذا أراد شخصٌ أن يُقاوم الهدر الجماعي للوقت، فعليه أن يتحلى بقدر هائل من الإرادة والجرأة؛ كي يتحدى الحس العام، ويخاطر بإقصائه عن الجماعة التي يخالف قيمها وسلوكياتها السائدة في التعامل مع الوقت. كان هدر الساعات يعني استنزاف كنزي المحدود من العمر؛ لذا حرصتُ أن أقاوم الهدر ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، بفضل اليقين الرائع بقرب مفارقة الحياة.
في سعيي للحفاظ على كنزي نأيتُ بنفسي عن الانشغال بالناس انطلاقًا من تلك العبارة الرائعة (من أبصر عيوب نفسه، شُغل بها عن عيوب الناس). وهكذا لم يشغلني لزمن طويل ما يفعل هذا، ولا ما يقول ذاك، وسددت أذني، وكففت بصري عن الاهتمام بأحوال غيري، إلا صديق أو قريب أتفقده ويتفقدني حفظًا لحق المودة والعرفان. واجتنبت طقوس قتل الوقت على مائدة القيل والقال، فلم أنخرط في شلة أو جماعة إلا ما كان فيه تقدير لقيمة الوقت، وإحسان لتوظيفه.
لأن العمر بدا أمامي قصيرًا فقد اخترتُ أن أقضيه بنزاهة في كل ما أفعل وأقول قدر الإمكان. فلم أنافق أحدًا، طمعًا أو رهبة. لم أتزلف لأحد رغبة في عطاياه أو أمنًا لشره. واخترتُ دومًا أن أقول ما أعتقد في صحته، ونبله بغض النظر عن أية اعتبارات، وأن أصمت في كثير من الأحيان. لذا لا أدين إلا لذوي الفضل من البشر الأصلاء النبلاء، ممن جمعتني بهم مودة أصيلة مستمرة لا يبلوها الزمان.
لكن الأثر الدامغ لهاجس الموت المبكر كان على عملي وحياة الشخصية. ففي عملي آمنت منذ وقت مبكر أن قيمة كل امرئ ما يتقنه، ويُبدعه. والثمن الوحيد للإتقان والإبداع هو الوقت، الذي يوشك، في حالتي، على النفاد. لذا أعطيتُ البحث العلمي كل وقتي لسنوات. كنتُ أقضي في عملي تسع ساعات يوميًا طوال أيام الأسبوع تقريبًا، لسنوات متواصلة، باستثناءات محدودة. ولأنني ممن وهبهم الله العمل فيما يحبون أصبحتْ ساعات العمل المتواصلة هي حقًا لذة الحياة. كنتُ أسابق قدري، وحين ظننتُ أن لدي ما أقوله للعالم قبل الرحيل، أصبحت غايتي هي أن أقوله قبل الرحيل.
حين أنشأتُ عائلة كان خيار أن أقضي وقتي في صحبة أفرادها مدفوعًا أيضًا بهاجس قرب الرحيل. وكثيرًا ما قضيتُ شهورًا متواصلة لا أكاد أخرج من البيت إلا للعمل، أو لقضاء حاجة، دون أن أشعر بأي ضيق أو ملل. كان هاجس الموت المبكر حافزًا على أن أسعى بكل طاقتي لإدخال البهجة على أهلي، والمسؤولين مني، حتى يتزودوا من ماضيهم السعيد بما يمكِّنهم من مواجهة واقع الرحيل المرتقب.
لقد عشتُ حياتي وأنا أتوقع الرحيل في أية لحظة، وكان هاجس الموت المبكر أكبر نعمة مُنحتها، فقد جعلني أقدر قيمة الوقت، وأقاوم بصلابة هدره فيما لا يفيد. ودفعني إلى التشبث قدر الإمكان بما أظنه جوهريًا في الحياة. العلم، والنزاهة، والمحبة الصادقة، والعطاء قدر المستطاع. علَّمني هاجس الموت المبكر أن أقدِّر متع الحياة البسيطة البريئة، وأن أنأى بنفسي عمّا قد يُشين.