إبراهيم الحجري
تواصل الكاتبة العُمانية شريفة التوبية نحْت مسارها الإبداعي المتميّز في مجال النوع القصصي، بإصدار مجموعتها الجديدة (انعكاس)(1) مستفيدة من التحوّلات المتسارعة التي تعرفها الساحة الثقافيّة، تأثرًا بمستجدّات العالم التكنولوجيّ، وتطور بنيات المجتمعات والسيرورة القيميّة، ومستلهمة ما رسخ في ذاكرتها السّردية من محسّنات الخطاب على المستويين التقني والمضموني، ومعالجة الظواهر الحياتية اليومية التي تسفر عنها التفاعلات الإنسانية؛ خاصة منها، تلك التفاصيل الدقيقة التي نادرا ما تلفت انتباه الناس بحكم العادة، فتلتقطها ببراعة، ثم تحولها سرديًّا إلى معطيات حكائية مثيرة، ناقلة إياها من هامشيِّتها إلى رحابة الإثارة، حتى إنها تصير أحيانا، المحور الفكري المولّد لعناصر أخرى تعتبرُ العامل الأساس والمفصل الحيَّ، بيد أنها مجرّد تمظهُرات وآثار جانبية لأسئلة وتفاعلات عميقة تجتلب في الغياب والخفاء.
تقوم شريفة بعجن مادتها بإتقان؛ موظفة لغة سردية ميسّرة يسهل تداولها بين مختلف فئات القراء، كمّا أنّ حجم نصوصها القصصية الجانحة إلى التكثيف الدقيق، والاختصار المبهر لعناصر الحكاية ومفاصلها ومضامينها، استنادا إلى تقنيات السرد المعروفة، وتوظيف اللغة الإيحائية والفراغات والقفزات بين الوقائع والأحداث، يجعل المتلقّي يلتهم صفحات المجموعة بنهمٍ كبيرٍ في وقت وجيز، دون أن يستشعر مللا أو حشوا، فكل كلمة، أو عبارة، توضع على المقاس لتؤدّي دورًا جماليا ودلاليا واضحا دون زيادة أو نقصان، علما أنّ النص الواحد يكون مدعاة للتحليل والتشخيص والتأويل وإعادة البناء وترتيب العوالم السرديّة المعتمدة على الكثافة والتلميح والمفاجأة، فلا بد للقارئ، عقب انتهائه من تلقّي كل نص، من أخذ وقت كافٍ لإعادة النظر في متوالياته وشخصياته وعوالمه وفضاءاته، وإقامة الصلات بين مقاطعه وتحوّلاته في ارتباط نسقيّ مع حبكة عامة تشدّ ممكنات النصّ وتضمّ نسيجه الداخلي بوعي مسبق وتفكير متوازٍ.
1.موضوعات متنوعة:
تجتهد شريفة التوبية في اجتراح موضوعات متفرّدة، تستلهمها من قاع النفس الجمعية، ومن تفاعلات العناصر الاجتماعية وتصادمات البنيات الفكرية والطقوسية، مستندة إلى خبرتها الواسعة بتقلبات المجتمع، وتحولات السياقات الحضارية داخل نسق شديد الحساسيّة، بأفق مفتوح على الرؤيا، ونظرة دقيقة للتشكيلات، وهي تلتهم بعضها غير عابئة بردود الأفعال، وتلوّن الأحاسيس.
تسبر الكاتبة قضاياها مما يشتغل به المحيط من حولها، لكن برؤية عالم اجتماعي حريص، وذكاء سارد يجيد اللعب بالوقائع، ويتفنن في بناء الحبكات كمن ينصب كمائن المتعة، أو يفرش فخاخا للقارئ. تبدو الحكايات المؤسسة، في بداياتها، بسيطة مستساغة، لكن ما إن تتطور العلاقات بين الشخوص، وتتحول المسارات حتى تتعقد الحبكة، رامية بالمتلقي في شرك الافتتان والتساؤل معا. يتحرك فضول المتلقي المشبع بالغواية؛ بحثا عن مسلك إلى رأس القصة، غير أنه بينما يقنع نفسه بتبني فرْضيّة ما، حتى تفاجئه النهاية بما لا يخطر له على بال، واضعة إياه في قلب عاصفة من التحول غير المتوقع.
تتوزع موضوعات المجموعة بين أسئلة الذّات (الفرد الذي قد يتماهى معه الرّواة والشّخوص)، وأسئلة المجتمع بصفة عامة (المجموعة البشرية التي ينتمي إليها الرّواة وشخوصهم)، فتارة يكون محكيّ العائلة أو الأسرة منطلقا لتأسيس عالم السّرد، وتارة أخرى ينصرف الرّواة إلى قلب المجتمع لاستلهام الوقائع والتفاصيل الصّغيرة المستحكمة في النفوس، والمنغصة للأفراد في إطار تفاعلهم اليوميّ، وبين هاته وتلك، لا تعدم القاصة دهاء في التلاعب بالعناصر السردية مهما كانت صغيرة، وإعادة تشييدها وفق هندسة مثيرة، مخرجة إياها من دائرة العدم والتهميش، وجاعلة منها محور العالم القصصي. وبحكم طابع الإثارة والتشويق الذي تحفل به الحكايات، فإن القارئ يجد نفسه عالقًا في دائرة الأحبولة السردية غير عابئ بالعواقب، ومنخرطا في تأسيس العوالم والأوهام والأحلام مثلما لو كان شخصية ضمن الكون القصصي، أو كما لو كانت الباثّة تعزف مقطوعة موسيقية. أليس “السرد سمفونية لها بداية ومنتصف ونهاية!”(2)
2.هيمنة قضية المرأة:
تراهن القصص، في جوهرها، على ملامسة موضوعة المرأة، وما قاسته من معاناة على امتداد التاريخ، طارحة بإلحاح قضية الذكورة في صراعها الأبدي مع الأنوثة، واستمرار النظرة الدونيّة إلى المرأة داخل المجتمعات العربيّة، وكثير من المجتمعات العالمية رغم الكفاءات العالية التي أبدتها في شتى مناحي الحياة، مبرهنة بالملموس، على أن انخراطها في العمل المجتمعيّ شكّل إضافة نوعية للإسهام في التنمية الشاملة، وعلى أنها قد تتفوق كثيرا على شقيقها الرجل في أكثر من مهمة تُناط بها في مجالات تدبير الشأن العام والخاص.
تتناول الكاتبة هذا الوضع بمرارة، دون أن تكتم تحرّجها من سيادة مثل هاته الأفكار في هذا الزمن المتلاطمة أمواجه، وكلها أمل في تتحرر الذهنيات والعقليات من الشوائب والنتوءات السوداء التي تدفع بالصورة نحو مزيد من القتامة، مسلطة على كائن هشّ يمنح كلّ شيء من أجل يبرز الجمال خفاقا في الكون، وفي مباهج كل الحياة الإنسانية دون أن يُلتفت إلى جهده المبذول.
تهيمن على المنجز القصصي ،كما سبقت الإشارة إلى ذلك، قضية المرأة بأبعادها الإنسانية والأنثروبولوجية والرمزية، حتى إنّا لا نجازف إن أدرجنا المتن ضمن الأطروحيّة النسوية التي تزيح الغطاء الساتر عن عدد من الأسئلة المبطنة غير المدركة من قبل الرجل (الشقيق اللدود)، فكون الكاتبة امرأة تكتب عن وعي، لتُضمّن محتواها رسالة إلى العالم، وترافع ضدّ أنواع من الظلم التاريخيّ التي تجرعت مرارتها النساء وحدهن، بأسلوب مهذّب وراق، وضمني يتأبّى على التقريرية والمباشرة، مراهنا على الإحالة والتلميح والاستعارات الحياتية المستساغة، وكون الكتابة قناة نضاليّة من حسناتها الإفصاح عن الذات، وإبراز خصوصياتها، والإعلان عن الوجود داخل مجتمع نمطيّ محافظ، مسوّر بأسيجة فولاذية ثقيلة من التقاليد المكبّلة للذات الأنثوية… كل ذلك يقوّي انتماء هذا المتن إلى مدونة الكتابات النسوية ذات الأطروحة الواضحة التي تتبنى الدفاع عن الوجود الاعتباري للمرأة بغاية تخليصها من القيود ورواسب الثقافة المجتمعية الذكورية الطامسة لمواهبها ووظائفها الجسيمة داخل النسيج المجتمعي.
تبرز الكتابة القصصية هنا، الميزات الغامضة في كينونة المرأة. تلك التي يصعب تخيلها من قبل الرجل والمجتمع، أو الشعور بها رغم قربه الموازي لها طيلة حياتها، سواء ما يتعلق بفيسيولوجيتها المتفردة، أو ملامح شخصيتها النفسية المضمرة. ومن جملة هذه المظاهر العصية على الفهم: مشاعر الأمومة، التدفق الإحساسي المفرط، الدهاء الفطري، غريزة التحكم، الميول إلى الغيبيات في تفسير الظواهر والقضايا المستعصية، الجنوح الغريزي للإنجاب والولادة، الآلام والمشاعر المصاحبة للحبل، الأحزان والمرارات المرافقة للإجهاض وسقوط الجنين، الأحاسيس الجارحة إبان التعدد، والخيانة، وتخلي العشيق والحبيب والرفيق والزوج.
تفصح الكتابة عن هويّة الأنثى المغصوبة، الكائن الذي يفعل كل شيء ولا يجني سوى الأسى والآلام والأحزان. وبقدر ما يشكل السّرد هنا، صرخة مكلومة تلفظها الذات (ذات السارد) في وجه عالم مزيّف، ظلوم وغشوم، فهي أيضا، تشريحٌ وتمحيصٌ لحالة جماعية (ذاتٌ جمعيّة)، تسعى، عبر ميثاق الكتابة، إلى الإعلاء من جوهر الحضور الإنساني للمرأة، والإنصات المجتمعيّ لحاجاتها ورغباتها وخصوصياتها الملتبسة، وأنينها التاريخيّ المقموع، وتصفح سجلّات دامية من تاريخ تضحياتها في مجتمع ذي نزعة سلطوية ذكورية مضخّمة قلّما يعترفُ بالفضل والجميل.
3.تجريب من داخل الحكاية:
تحافظ القاصّة شريفة على العمود الأساس لبنية القصة كما قعّدت لها الأدبيات السردية التقليدية؛ إذ نلفي تسلسلا في الأحداث والوقائع احترامًا لمنطق الحكي (وضعية استقرار- تحول- نهاية)، ونصادف عددًا محدودًا من الشّخصيّات، كما نلمس هيمنة وحدة الفضاء في كل قصة، مع توظيف لغة متيسّرة، ينتظمها منظور الرؤية من خلف، حيث يهيمن السارد العليم بالخبايا وما يجول في أذهان شخصياته، وما يستشرف من حبكات وسياقات، وما إلى ذلك مما يضمن مبدأ التوافق النّسبيّ بين المتلقي والباثّ، غير أنّ هذا لا يعني أنّ النص تقليدي، يخضع كليا لمبادئ القصّ الكلاسيكي، ويعيد إنتاج التقنيات والموضوعات والبنى ذاتها، بل على العكس من ذلك، اجتهدت القاصة “شريفة التوبي” في سبيل تشييد عوالم تخييلية منحوتة، ترنو إلى شرفة التفرّد من داخل النسق المتداول، مؤكدة بشكل مضمر، أنّ التجريب أسلوب كتابة، وليس كتابة أسلوب، وأنه وعيٌ عالٍ بممكنات الكتابة القصصية، وليس تغريدًا خارج السرب، أي إنها تتطلع إلى تجريبٍ نوعيّ مخاتلٍ، يحرص على المبادئ بقدر ما يعمل على إرباكها وخلخلتها. وبالقدر نفسه تصرّ على أن تنتقي الموضوعات الحسّاسة من قاع اليومي حتى تظل قريبة من روح العصر، ومن قلوب القراء.
تستحضر “الذات المتلفظة بالخطاب”مقروءها، ومسموعها، ومحكيها اليومي، (قرآن كريم، شعر عربي قديم، أمثال، حكم مأثورة…) دون أن تسقط في شرك تكراره، إذ تمنح الكتابة فرصة محاورة النصوص الغائبة دون أن يكون قصدها الاستشهاد فحسب، بل إعطاء المقولات المستعادة حياة متجددة من خلال إقحامها في جو المتن القصصي، غير أن المجموعة تورد المادة المستعارة بنصها حينا: (يا أيها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية…) وأحيانا، تتصرف في المقول المُستدعى، مكتفية بالتلميح إلى مدلوله ومعناه.
تجتهد الكتابة في هذه المجموعة على مستوى اختيار الثيمات المعالجة (les thèmes traités)، حريصة على أن تنتقى بعناية من التفاصيل الإنسانية المهملة، أو التي تمرّ في غفلة من الناس، وهم منشغلون بقضاياهم الكبرى، متناسين أن تاريخ التحولات الحضارية تصنعه التفاصيل الدقيقة.
غير أن الكتابة تشترط أن تكون هاته القضايا المطروحة صادمة ومؤثرة، تترك في نفس متلقيها أسى أو مشاعر عميقة تنمي الحس الإنساني، وتعدّل الجانب القيمي لديه، كما حصل في القصة الأولى، حيث تستقبل موظفة السجن، بعد مرور سنوات، هدية عبارة عن باقة ورد عملاقة إلى مكتبها، واردة من سجينها السابق يشكرها في بطاقتها على أنها كانت الضوء الوحيد الذي جعله يألف السجن بل يحبه، وفي الوقت ذاته تقرأ بذهول، خبرا في جريدة يعلن وفاة الفنان التشكيلي (حسين سالم) الذي لم يكن سوى الشخص، صاحب الهدية. وبقدر ما يشكل الأمر، رجّة عنيفة للمشاعر والأعراف المجتمعيّة، إذ تقتضي الحالة هاته ارتباطا بالنّسق المتعارف عليه، أن يكره السجين سجّانه، فهو أيضا، يعد ّانفتاحًا على عوالم الفنّ التشكيلي، ولو عبر الإحالة المستبطنة، على اعتبار أن “السّرد فنّ الزمن، مثله مثل الموسيقى، قياسًا إلى فنون الحيّز كالرسم والنقش والنحت والتصوير”(3).
يترسخ رهانُ المفاجأة عبر قلب اتجاه الحدث في قصة (السحر الأسود)، حيث تقرر فتاة جميلة، دون سابق إنذار أو سببٍ ملموس، قطع شعرها من أصله، أمام ذهول الحلاق، ومعه باقي زملائها، وجمهور المتلقين، لتُعلن عن السبب في آخر لحظة، وهو أنها قطعته مضطرة لتبدأ أولى حصص الشيميو والتداوي بالأشعة، ناهيك عن موضوعات تخصّ المرأة مثل قضية النفاس، والأحاسيس المصاحبة له، وعلاقة الأم بابنتها، وعلاقة الصهر بحماته، وكيف تؤثّر هذه العلاقات الملتبسة في علاقة الزواج، والمشاعر المؤلمة التي تنازع قلب المرأة العاقر، أو تلك التي لم تحظ بفرصة الإنجاب، أو اكتشاف الشخصية أثر فعل الزمن وتقلباته على تضاريس جسدها وملامح وجهها عبر انعكاس المرآة بالصدفة في القطار، دلالة على انشغال الناس الكلي بمتاهات اليوميّ دون الانتباه إلى السرعة التي يعبر بها الدهر، ودون الاهتمام بذواتهم وأنفسهم وحاجاتها التي غدت هامشيّة أمام قضايا تغتال فرضية التفات الشخص إلى نفسه والإنصات إليها، بل إنها أحيانا، تقترح مخرجات ضمنيّة لتخليص الشخصية من أزمتها النفسية، وقلقها اليومي جراء الضغوطات المُتتالية، كممارسة أعمال التفتّح، والانشغال بالقراءة والكتابة والتأمل واستبطان مظاهر الجمال، ونفث مسببات القلق، ووضعها في سلة المهملات، والإقبال على الحياة بنهم.
تلك ثيمات مشرقة، وإن بدت للقارئ العادي مبتذلة وواقعيّة ورائجة، بحكم أنها تستضمر كثيرًا من الفيض الشعوري، والرجع الإحساسي، والدفق الإنساني، بغض النظر عن الممارسات المرتبطة بها، لأن، في ترددها العابر، تجلّيا لمفرزات الصيرورة الفردية، واختلالا في العلائق والتواشجات، ونكوصا عن القضايا الجوهرية، وانفراط عقد الانسجام مع الذات ومع الآخرين، كأن المجموعة تنبه، عن وعي سابق، بخطورة إهمال الأسئلة العابرة، والهواجس الدفينة، والحالات الطارئة، والسلوكيات العارضة، لأنها بتأثيرها على المشاعر والأحوال، تستطيع، عبر التراكم والتكرر، التسبّب في نكسات قيميّة وبشريّة.
تحرصُ القاصّة في مجموعة “انعكاس”، على التعامل مع اللغة بوعيٍ مُضاعف، فبقدر ما تسعى إلى تخيّر مفردات وعبارات قريبةٍ من الأفهام، فهي تعمل على تعميق معنى الكلمات وحفرها في العبارة، لتبدو منحوتة، صارخة بالدلالات المكثّفة، والإشارات الواضحة، مثلما تعمل على إقحام معجمٍ من اللهجة المحليّة، مع الإحالة على مرادفاته بالفصحى في الهامش، اعتقادًا من الكاتبة بأهمية النّزوع البوليفوني للسرد، وقدرته الخلاقة على إثراء النص، وتعميق رسالته، وشد انتباه القارئ، وتعزيز معرفته بالثقافات الأخرى المجاورة أو البعيدة، وينسجم هذا التصور مع أصوات نقديّة باتت تتعالى؛ داعية إلى انفتاح الأدب بجميع فروعه على مفردات الثقافة الشعبيّة ومعجم الفلكلور، ومعين الممارسات الطقوسيّة، وقواميس اللغات العامية الغميسة، لأنّ هذا الإجراء المنهجي كفيل بإغناء اللغة الفصحى، والارتقاء ببعدها التواصلي، وتوسيع دائرة الاهتمام الأدبي، وتنويع مرجعيّاته، والانفتاح على كل شرائح وفئات المحيط الذي ينتمي إليه هذا الأدب، ومنه السرد القصصي.تبدو اللغة القصصيّة هنا، هجينة بحكم تنويع مستوياتها ومعاجمها اللسنيّة بين العربية والدراجة والإنجليزية، ذات مقام وسطيّ بفعل جنوحها إلى الاعتدال في اعتماد الإيقاعات اللغوية وتمظهراتها، مطمئنة إلى التأرجح الخلاق بين شعرية راقية تنهل من استعارات اليوميّ ومجازات التلفظ العاميّ، ولغة تواصلية تقريريّة مهذّبة وموحية، تُشير ولا تفصح، وتُومئ ولا تفضح، تاركة أمر الاجتهاد والتأويل للقراء، كلٌّ حسب مستواه، وشكل تقبّله للمنجز السردي، وقدرته على التفاعل مع إيقاعاته المتلوّنة. إذ يتحول النصّ إلى كيانٍ مُتداخل، ونسيجٍ نصيٍّ تتصارع فيه الأصوات واللغات وأنواع الخطابات والأنساق، محققة، في الأخير، انسجامًا عميقًا في الرؤى، وتفاعلًا تطويريا “منظمًا بين وحدات وأنساق متنوعة من الأساليب، تعكس تناحرًا طبقيًّا إيديولوجيًّا من خلال اللغات والأصوات واللهجات”(4).
فضلا عن ذلك، ترتهن الكتابة السردية في “انعكاس” إلى الكثافة اللغوية، والإيجاز، واختصار المسافات والعوالم في أقل كتلة مُمكنة، تاركة المجال فسيحًا أمام المتلقي للمساهمة في البناء، والتشييد، وخلق تمثيلاته، من خلال اعتماد منطق التلميح، والإضمار، والانتقال السريع من مفصل إلى آخر، والقفز على الأحداث والتفاصيل، وتحاشي الإغراق في التّوصيف، مع ترك بياضات مؤثثة لهندسة النصوص، بحيث يسهل على القارئ، أيّ قارئ، ملؤها وفق قدراته على تمثيل المشاهد، ورسم الافتراضات الممكنة.
يستلهم الخطاب القصصي معطيات السينما من خلال توظيف تقنيات “الزووم” zoom، والعرض، والتصغير، والحركة البانورامية حول الشخوص والفضاءات، مستثارًا بأبعاد الإلهام فيها، وسحر تأثيرها على المتلقين، دون أن يغفل الدور الفعّال الذي يلعبه “المونتاج” بوصفه “قوة خالقة تستطيع بعث الحياة في اللقطات المتفرقة مكسبة إياها منطقا تسلسليًّا ذا معنى، أي ترتيب اللقطات والمشاهد، وتنسيقها بأسلوب فني مُثير، والانتقال من مشهد إلى آخر بالسلاسة المطلوبة، وتوليف ما تفرق منها”(5).
تلك تقنيات سرديّة لا مناصَ من الاستعانة بها في عملية البناء التخييلي للإيهام بواقعية التصوير السردي، قبل الغوص في أعماق النفسيّات والخصوصيات، لاستكمال تصميم العالم القصصي، كما أن “التوبي” تستثمر تقنية الفلاش باك، عبر استرجاع حوادث مضت في حياة الشخصية، مثلما تستحضر شخصيات مقبورة، وتنفخ فيها الحياة لتؤدي وظيفة فنية ودلالية داخل المتن مثل: استدعاء شخصية الشاعر “فيديريكو غارسيا لوركا” وعازف الجيتار الإسباني في قصة (غجرية)، تستعيد حياة الغجر وطقوسهم الفنية، وإقبالهم على الحياة، والفنون، والحرية المطلقة بعيدا عن القيود والنظم المكبلة، محيلة على طبيعة السياقات التي يتحتم توفرها للفنان كي يبدع، ويمنح الإنسانية تحفا خالدة، عليه التنعم بحرية شبه مطلقة لا يستشعر فيها ضيقًا أو تحرشات بطبيعته الحساسة بأي شكل من الأشكال… على اعتبار أنّ “السرد والموسيقى فنّان يوضح أحدهما الآخر، ولا بد حين نقد واحد منهما الاستعانة بألفاظ تخصّ الثاني”(6).
بالرّغم من بساطة العبارة في أغلب القصص، فإنها توظف، بين الفينة والأخرى، استعارات كلية تحيل بها على واقع ما بأسلوب مراوغ، تفضل أن تبلغه إلى القارئ محفوفا بنسيج بلاغي يليق بحساسيته، مثل الذي حصل في قصة “البرتقالة” وما يكتنف سيرتها من مأساوية، إذ تستعير الحياة من الأنثى، بكل ما تحمله من إثارة وبهاء وإقبال في لحظة شبابها وريعانها ونضجها، فيتهافت عليها القاطفون ليقصوا شريط حياتها بتواطؤ مع الأم (الشجرة) التي لا تبذل أي جهد؛ حرصا على عصارة جهدها. فما أشبه هذه السيرة بسيرة طفلة غضة تهيئها الأم وتربيها وتكونها وفق سيرورة متنامية، لتهديها مطمئنة إلى قاطف غريب، استكمالا لدراما الكائن الأنثوي، وقصة قدره التي أفردت لها المجموعة مساحات لا يُستهان بها، مرسّخة بذلك، أطروحة ” الكتابة النسوية”، في جزء من انشغالها الفكري، بينما تعمل في قصة (السواد والبياض) على اختزال حياة بشرية قصيرة يعيشها المرء ممزقا بين مآسيه المتتالية في رحلة انتقال مضن من حلكة السواد إلى بياض النور.
ترى الشخصية ذاتها خارجة من ظلمة الحياة المقفرة إلى رحابة الموت؛ مفترضة أنّه الحرية المطلقة والفيض النوراني، مثلما ترى جسدها مسجّى ولغط الناس يعلو من حولها، واشتعال فجيعة والدتها ومقربيها، وهي تلثم جثتها، لاعنة، في نفسها، خيانات البشر وسارتر وماو وكل الرفاق الذين باعوا أوهامهم للبشر، يقول الراوي في قصة (السواد والبياض): “أصرخ: أمي، أمي، أمي… تمتد يد إليّ، ترفعني اليد من ذراعي، تسند جذعي الخفيف جداً، لا وزن لي، أخرج من بين يديها، أطفو كريشة على سطح ماء، أطفو ومع الطفو كنت أعلو، أراني أحلّق، أتجاوز الجدران والأبواب المغلقة، أخرج من ليل العتمة، تفقد الأشياء خواصها وألوانها، يبهرني الضوء، يعانقني، يتلبّسني، يُخرجني من العتمة، كما تُخَرج الشعرة من العجين دون أن تنقطع، أتحول إلى طائر من نور، أخرج من محيط غرفتي وبيتي إلى البياض، البياض باهر، يفقد كل شيء فيه خواصه من شكل أو لون، تفقد الأرض جاذبيتها، لا شيء يشدني إليها، أرفرف، وبين الرفرفة والسقوط وبين البياض والسواد ما زلت أسمع مواء قطتي الجائعة وأصواتا مختلطة تتناهى إلى مسمعي كطنين بعوضة مزعجة، أسمع صوت بكاء أمي، أراها تحتضن الجسد المسجّى وتبكي، أراهم يتحلّقون حول جسد كان بالأمس لي ولم يعد كذلك، يعانقون الجسد، وروحي تهفو لعناقهم جميعاً، أعلو وأصبح بيضاء كبياض قطنه، أطير بخفة ريشة، أرتفع، أعلو، أتماهى مع لجة البياض(7)”. (ص. ص. 71- 72)
4.الرهان على التحول والانتقال والمفاجأة
لعل أهم ميزة تتفرد بها قصص المجموعة، كونها تصمم المتواليات السردية وفق إيقاع يراهن على مفاجأة المتلقي، والزج به عبر نهايات صادمة في خضم الحيرة، وقلب التمثلات، وإعادة النظر في الأشياء والعوالم، وكأنها تدعوه إلى عدم الثقة في المظاهر البرّاقة، والسيرورات المخادعة، وتوقّع التحول في كل لحظة، تلك سنة الحياة. فالزمن لا يسير وفق وتيرة واحدة، ومنطق اليومي متبدل وصادم. أحيانا، يخرق كل المنتظرات والتوهّمات، مبعثرا الحسابات والإحصائيات والتكهنات، وعاصفا بالتمثيلات المؤسسة على منطق الطمأنينة والرتابة. لذلك، فإشعار المحكيّ القراء بصدمة أوهامهم، جسدت ملمحا مشتركا بين نهايات أغلب القصص، بتصميم سابق، ووعي مفكر فيه بعناية. يقول الراوي في قصة “المزهرية”: “هذه الباقة ليست سوى امتنان وشكر على ما كنتِ تمنحينني إياه من أمل بالحياة وأنا أراك تدخلين إلى عملك صباحاً وتخرجين منه ظهراً، لقد كانت أيامي التي قضيتها في السجن رهينة قدومك ومغادرتك وأنت تقومين بواجبك اليومي، دون أن تعلمي عني شيئاً، لوجودي في قسم آخر غير القسم الذي تعملين فيه، حيث لا شيء يبدد وحشة ما كنت فيه من ضيق السجن وقسوة السجّان سوى وجودك حين أراك تعبرين ذلك الطريق المعشب بخطى ثابتة، مرتدية ثوبك العسكريّ الذي يزيدك سحراً وهيبة، وأنا سجينك المقيّد بخطوة قدميك، خلف نافذة الزنزانة، فلا أتذكّر من تلك الأيام سوى وجودك والأمل الذي كان يزرعه ذلك الوجود في روحي”. (ص. 12)
لكي تؤتي حيلةُ السرد أكلها بهذا الخصوص، تحتاج إلى مكرِ الاستدراج والمخاتلة عن طريق إخفاء مؤشرات النهاية المفكر فيها، وإيهام المتلقي بنهاية مزيفة تقوده في اتجاه عكسيٍّ، قبل أن تلفظ في وجهه الحدث السردي المضمر الذي سيقلب تكهنات القارئ رأسا على عقب، فتتحول مشاعره وأحاسيسه تفاعلا مع وضعية الختم، بشكل مباغت، في الوقت الذي اتجهت فيه عقارب تكهناته نحو وجهات مختلفة. لذلك، تستعين القاصة بتقنية “تقطير” الحكاية وفق مقاس الوضعيات المفكر فيها، موظفة جملا سردية قصيرة ودقيقة، ومؤشرات مخادعة، وأسلوبًا سلسًا، مرتبة التوصيفات والوقائع والعناصر التخييلية بحرص عالٍ، حتى لا تفتضح خدعة السرد، وحتى يظل القارئ واثقًا في اختيارات بنائه، ليكون للحدث السرديّ النهائيِّ وقعه المدهش المرسوم بعناية، يقول الراوي في قصة (السحر الأسود): “تنتبه لصوت المرأة التي تقصّ لها شعرها وهي تقول لها نعيماً، تعود من دهاليز ذاكرتها متعبة منهكة، تنظر للأرض تحت قدميها وقد غطّتها خصلات شعرها الأسود، شاهد صورتها في المرآة وكأنّها ليست هي بقصة الشعر الجديدة، تدسّ في يد المرأة مبلغاً من المال، أكثر من المبلغ الذي طلبته منها، تحاول المرأة إرجاع المبلغ الإضافي، فتشير لها بيدها أن تتركه معها، تشكرها، بينما تلفّ شيلتها السوداء على رأسها، تخرج دون أن تنظر للخلف، تسرع في سيرها، تتجه صوب سيارتها كي تذهب إلى موعدها الأول لتناول جرعة الكيماوي”. (ص. 17).
تسعى النهايات غير المتوقعة في القصص إلى خلخلة حالة الاطمئنان التي يركن إليها المتلقي وفق عادات راسخة على مستوى التمثيلات الاعتيادية، مستندة إلى رؤية فكرية عميقة تروم إرباك النمطية المبتذلة في بناء الأحكام والتأويلات، وأحادية النظرة إلى العالم، ارتهانا إلى مشيرات مضلّلة، وعلامات خادعة، مستهدفة بذلك، تعويد القارئ على وضع الافتراضات، وتوسيع مجال الرؤية، وتحمّل عبء بناء التمثلات على أساس منطقيّ، مع التريث في تأسيس التّصورات، وهندسة العوالم، والتّحقق بشأن المسلمات الرائجة، والأفكار السائبة بلا دلائل محكمة، ودون إعمال منطق التثبت والمماحكة.