من إعدادوتقديم الهواري غزالي
عندما اُستُدعِيتُ إلى جامعة إشبيلية للمشاركة في ملتقى جامعتها الثَّاني بمداخلة افتتاحية في تاريخ المخطوطات العلميَّة، سرَّني أن وجدتُ نفسي محاطًا بكثير من الباحثين الإسبان المهتمِّين بعالم المخطوطات؛ سواء فيما تعلَّق بالمخطوطات العربية الإدارية منها والطبيَّة أو بالمخطوطات اللاتينيَّة القديمة ذات الصِّلة بالنَّص العربي. وتضمُّ جامعة إشبيلية فضلا عن تخصُّصاتٍ أكاديمية مختلفة أقساما في اللُّغات والترجمة ومراكز بحوث ودراسات؛ لاسيما كتلك التي خُصِّصت لتناول قضايا العالم العربي والاسلامي. ويُعَدُّ موضوع المخطوطات من بين أهمِّ ما صارت ترتكز عليه هذه المراكز.
وممَّا لا شكَّ فيه أن نهضة أوروبا قامت في بدايتها بناء على نقل علوم العرب إلى اللاتينية ثمَّ إلى اللغات الأوروبية المختلفة؛ بدءًا بالطب والفلسفة والتاريخ والأديان. ولقد انتقلت هذه العلوم بشكل أساسيّ من الأندلس، باعتبارها منطقة تتوسط إفريقيا وأوروبا، والشرق والغرب، والعالم الإسلامي والمسيحي. ولقد اهتمّ الغرب بجمع المخطوطات العربية بشتّى الوسائل لدرجة وصلت فيها بعض المكتبات الأوروبية إلى عدِّ مئات الآلاف منها من جهة، وأحيانا إلى اقتصارها على نسخة يتيمة أو كتاب نادر من جهة أخرى. ولا يسعنا إلا أن أذكر ههنا تلك الصفحات من النسخة الأقدم للقرآن الكريم، التي تعود إلى الفترة بين عامي 568 و645 ميلادي، أي إنها كتبت في زمن رسول الإسلام (ص)، ولقد اكتشفت هذه النُّسخة من قبل الباحثة ألبا فيديلي في جامعة برمنغهام.
يعود الفضل في اكتشاف ورقتي النسخة القرآنية إلى معيارين ما اجتمعا إلا وحقَّقا نتائج باهرة: معيار المحافظة على المخطوطات، ومعيار البحث العلمي. ولقد شكّل هذان المعياران هاجس الباحثين الغربيين، فالبحث العلمي لا يتوقف لديهم على مسألة التحقيق فحسب، من حيث تُسهِّلُ على الدارسين من مختلف التخصصات الوصول إلى المعلومة سريعا، ولا على صناعة المخطوط وتجليده وحبره ومنمنماته؛ وإنَّما على دراسة كيفيّة انتقال مخطوط من مكان إلى آخر، بهدف معرفة الحركيّة التاريخية للعلوم عند العرب، وكيفية انتقالها بينهم وبين غيرهم من خلال حوض البحر الأبيض المتوسط.
ولقد مثّلت الصحراء الكبرى لإفريقيا سند هذه الحركيّة العلميّة ودعامة تقنيّة لها، فالمخطوطات التي انتشرت في الصحراء كانت تمتلك قدرة فائقة على البقاء لأكثر فترة زمنية ممكنة بفضل الشروط المناخية، ثم بفضل القدسية التي كانت تمتلكها في قلوب سكان هذا الفضاء الكبير لاعتبارات دينيّة واجتماعيّة وسياسيّة. كما بقيت هذه المخطوطات محافظة على وجودها عبر التاريخ في غياب المهتمّين بها من الرحالين والعلماء لاقتنائها، فالعبور إلى الصحراء كان محفوفًا بمخاطر الضياع والموت، مقارنة بالحواضر والمدن الواقعة على حوض المتوسط خصوصًا.
وفي ظل التَّطوُّر التكنولوجي الذي يسمح برقمنة المخطوطات وتصويرها بشكل جيّد، بدأت تظهر في أوروبا وأمريكا حركاتٌ علميّة جامعيّة تسعى في محاولة منها لتصوير المخطوط العربي ودراسته علميًّا من خلال الولوج إلى عالم الصَّحراء، فلقد قامت فرقة بحث ألمانية من جامعة فرايبورغ برقمنة بعض المخطوطات الموريتانية2 مثلا، ناهيك عن مخطوطات تمبكتو التي انصبَّت عليها منذ عشرات السنين اهتمامات الأوروبيِّين3 . وهي نفسها المخطوطات التي دخلت منذ 2018 ضمن مشروع الحفاظ على المخطوطات العربية المالية الذي يشرف عليه لويس برينر من جامعة بوسطن وديفيد روبنسون من جامعة ولاية ميشيغان بتمويل من الوقف الوطني للعلوم الإنسانية وبعض أموال المنح الإضافية من جامعة ولاية ميتشيغان. والحال نفسه مع مركز (phasif.fr) : “لتراث المخطوطات الفلسفية العربية والسريانية في باريس وضواحيها ” الذي تم إطلاقه سبتمبر 2017. ويعدُّ هذا المركز وريث برنامج البحث الأوروبي المعنون بـ”الفلسفة في السياق: المخطوطات العربية والسريانية في البحر الأبيض المتوسط »(PhiC 2011-2016)، والحاصل على منحة مقدمة من قبل المجلس الخاص بإدارة البحوث الأوروبية (ERC). وهو ينوي، في الواقع، الاستمرار في استغلال المعلومات التي تم جمعها وتطويرها في إطار البحوث حول تقاليد المخطوطات الفلسفية العربية والسريانية وآفاقها الجديدة.
إنَّ آلافًا من المخطوطات العربيَّة ما تزال محتفظة مثل توابيت أهرامات مصر ونقوشها بأسرار المجتمعات المنقضية وعلومها وتاريخها. ولعلَّ ما يجعل من الصَّحراء الكبرى لإفريقيا جيزة المخطوطات هو فتح المجال للبحث العلمي لتقديم إحصاء كامل وشامل في ظل دراسة علمية كاملة لكلٍّ من مكتبات موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا. فمثل هذه الدِّراسات تسمح بتقصِّي طريقة انتقال العلوم في الصَّحراء تاريخيًّا في العصور المتقدِّمة. وتعدُّ صحراء موريتانيا الفضاء الذي انتهت إليه مخطوطات العالم الإسلامي بعد عبورها إليه من خلال القوافل التجارية أو من خلال رحلات العلماء. وبحكم وجودها أقصى غرب العالم الإسلامي في مقابل الهند الموجود أقصى شرقه، فإنَّ هذا سيساعد على كشف أسرار انتقال المخطوط وحيثيّاته وطرقه وأهدافه.
ولا بدَّ في هذا السياق أن نلفت القارئ الكريم إلى مجموع جهود بعض الدُّول العربيَّة التي تسعى إلى رقمنة المخطوطات التي بحوزتها، فمكتبة قطر الوطنية بدأت مشروع رقمنة المخطوطات العربية نهاية هذا العقد بالتعاون مع المكتبة البريطانية، وذاك بنقل كلاسيكيات الأدب العلمي العربي، مثل كتاب “القانون في الطب” لابن سينا، ومقالة في صورة الكسوف لابن الهيثم، ضف إلى ذلك ما قامت به جامعة الملك سعود بالمملكة العربية السعودية من توفيرٍ لمخطوطاتها المرقمنة على الإنترنت، وفي الأخير نذكر سلطنة عمان التي بدأت، تحت إشراف وزارة التراث والثَّقافة، في عرض المخطوطات الرقميَّة في صورة متناهية في الدِّقة بعد أن استطاعت دائرة المخطوطات من جمع ما يقارب 5 آلاف مخطوط في مختلف العلوم، تم حفظها في أماكن مخصصة لغرض ترميمها وتعقيمها ورقمنتها وحفظها وتسهيل نشرها لجميع الباحثين والدارسين4 .
وينتهج البحث العلمي في أوروبا، فضلًا عن كونه مهتمًّا بجمع المخطوطات ورقمنتها، طريقة التَّحقيق والدِّراسة والتَّرجمة ووضع الفهارس، ولذلك تسعى الكثير من الأقسام الجامعية إلى اقتراح سلسلة من التكوينات والأيام الدراسيَّة والملتقيات الوطنيَّة والجامعيَّة. فمعهد البحوث والتأريخ للنصوص (IRht) بباريس مثلا يقوم بتنظيم أيَّام تكوينيَّة سنويًّا لكلِّ من يملك الرَّغبة في العمل على المخطوطات العربية القديمة بمواضيعها المختلفة: العلوم الدينية، والتاريخ، والفلسفة، والأدب، والقانون، والعلوم. يرتكزُ معهد البحوث والتأريخ للنصوص في تكوينه على جانبين: الجانب الفكري والجانب الصناعي للمخطوط:
وخلافًا للكتب المطبوعة والمنشورة، فإنَّ كل مخطوط إنَّما هو عبارة عن شاهد حيٍّ وفريد يسمح لنا بدراسته بطريقة ستكون حتمًا مختلفة عن سابقاتها. والمخطوط الذي ليس سوى كتاب يضمُّ مؤلَّفاتٍ مختلفةً قديمة كتبت بخطِّ اليد يسمح أيضًا بالتَّعرّف على مضمونه، على نُسَخِه المشابهة له، على تنقُّله بين المكتبات القديمة، على ملكيته لشخص، أو لعائلة، أو لقبيلة، أو لمكتبة، أو لمؤسَّسة. يسمح هذا كذلك بالاطلاع على طبيعة المعرفة المتداولة في عصر ما، أو على طبيعة تنقُّل هذه المعرفة بين البقاع والأقاليم.
من جهة أخرى، وفضلا عن اعتبار المخطوط وثيقة أركيولوجية أثريّة من حيث تتمُّ دراسته كمادَّة سواء من زاوية إنتاجه الحرفي، أو من زاوية خصائصه الماديَّة، أو زاوية تزييناته اللَّونيَّة والزَّهرية، وحبره المستخدم، ونوع الخطوط، فإنَّ ذلك سيجعلنا نستكمل المسار التَّاريخي الذي أخذته ظاهرة صنع الكتاب منذ العصر الفرعوني إلى القرن السَّابع عشر الذي تميَّز باختراع الآلة الطَّابعة.
ولا بدَّ من الاشارة إلى أنَّ هذه التَّكوينات لا تتوقَّف على تخصيص أيَّام دراسيَّة فحسب، وإنَّما أيضا تُخَصَّصُ لها كتبٌ ومؤلَّفاتٌ سنويا. لنذكر على سبيل المثال كتاب “النَّص والسياق : قراءة في طرق تحقيق المخطوطات العربية واليونانية والإيطالية واللاتينية وأدواته للمؤلِّفتين إيريني تسامادو-جاكوبيرجر وإيزافيلا ستاماتيادو، والمنشور سنة 2018 بالمطبوعات الجامعية لستراسبورغ. (Texte et contexte, Méthodes et outils de l’édition critique de quelques manuscrits arabes, grecs, italiens et latins). وإيريني تسامادو-جاكوبيرجر هي أستاذة بجامعة ستراسبورغ ومديرة مجموعة الدراسات الشرقية والسلافية واليونانية، حاصلة على درجة الدكتوراه في الآداب وعلوم اللغة من جامعة باريس السَّابعة، كما أنها تشتغل في حقول متعدِّدة كحقل علم اللغة، وتحليل الخطاب، وعلم اللغة الاجتماعي، والاتصالات اللغوية، والتعددية اللغوية، والترجمة. أمَّا إيزافيلا ستاماتيادو فهي حاصلة على درجة الدكتوراه في اللغة اليونانية الحديثة من قسم الدراسات الهيلينية-اليونانية القديمة بجامعة ستراسبورغ.
إنَّ هذا الكتاب النَّص والسياق ذا العهد الحديث بالنَّشر يضمُّ تسع مساهمات لمؤلِّفين مختلفين، كل مساهمةٍ متوقِّفة على موضوع معين، لكنَّها جميعا تؤكد على كيفيَّة إعادة تشكيل النص وصياغته وفق سياق المخطوطة. ومن خلال تسليط الضوء على النص ومتغيراته، فقد دافع المؤلفون عن أهميَّة اِتباع نهج متعدِّد التخصصات لتنفيذ الطَّبعة النقدية للمخطوطة، وذلك استنادًا إلى أمثلة مختلفة، سواء حسب موضوعها الأساسي إن كانت في السياسة، أو في العلوم، أو في الشعر، أو في الفلسفة، أو في موضوع آخر، من جهة، وعن ضرورة مراعاة زمن تأليفها (بداية من العصور القديمة وانتهاءً إلى عصر التنوير) من جهة أخرى. وتعود الدراسات في مجملها إلى القضايا النظرية، وإلى منهجيات التَّحرير النقدي للمخطوطات التي يفضل الجميع تسميتها بالتَّحقيق.
ولقد سمح الملتقى الذي ترَّأسته ماريا كابو غونزاليس بالاضافة إلى جانب وجود المستشرقة إنغريد بيخارانو إسكانيلا بفتح باب دراسات المخطوط على مصراعي الطبِّ والإدارة. فهما المجالان اللذان عُرِفا بالأندلس، خصوصا وأنَّ التنظيم الإداري لمدينة غرناطة كثيرا ما اعتمد على الورق والحبر.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ اتفاقيات الاتحاد الأوروبي تقضي في إطار التعاون بين الجامعات الأوروبيَّة أن تقوم الجامعتان المتعاقدتان بالسماح لطلبتهما بقضاء سداسيِّ في غير جامعتهم الأصليَّة، ممَّا يسمح لهم بالتَّعرف على اللغة الثَّانية والتَّعمق فيها، وبالمساهمة في تعميق أواصر العلاقات بين الطلبة الأوروبيِّين سياسيًّا وثقافيًّا وعلميًّا واجتماعيًّا إن حاضرًا أو مستقبلًا. وبحكم هذه الاتفاقيَّات، فإن طلبة اللغة العربيَّة بجامعة باريس يفضِّل أغلبهم التَّوجه إلى إشبيليّة وغرناطة لكونهما ما زالتا تحتفظان بالتراث العمراني الإسلامي القديم، وهو تراث يسمح بتفتُّح الطلبة على الدراسات الأندلسية في جميع أبعادها المختلفة. ولقد حدث أن اختارت طالبة من قسم الترجمة بجامعة باريس رواية رضوى عاشور التي تحمل عنوان ثلاثية غرناطة، وذلك لترجمتها من العربيَّة إلى الفرنسية. ولقد كانت حجَّتها في ذلك أنَّها تعرف بالتَّدقيق أسماء الشوارع والأزقَّة والساحات وتتبيَّن بسرعة فائقة دِقَاقَ وصف الروائية لبنايات غرناطة وملامح هندستها وخصائص عمرانها، وهذا ما سهَّل على الطَّالبة، في الواقع، الوصول إلى ترجمة متناهية في الدِّقة.
ولا بدَّ أن نلفت انتباه القارئ الكريم إلى كون مصطلح العصور الوسطى الذي يتكرَّرُ ورودهُ كثيرًا لا علاقة له في الأصل بما يتداوله العرب أو المسلمون من مصطلحات تتعلَّق بتسمية مرحلة كانت فيها الحضارة الإسلامية في أوج نشاطها العلميّ، فهذه العبارة لا يستخدمها إلا الغربيُّون باعتبارها دالَّة على مراحل زمنيَّة تخصُّ أوروبا فقط. ولأنَّ الترجمة تضع على عاتق المترجم احترام المصطلحات المتداولة في النَّص الأصلي، فإنَّه من الواجب الإبقاء على النَّص الأصلي ومصطلحاته كما وردت.
ويتميَّز الملتقى بتعدُّده المختلف في ملامسة مواضيع متعدِّدة، فلقد تناولت ستيلا الكاراز بن بينوتي من جامعة إشبيلية الطقوس والتقاليد التي تميز مراحل حياة المرأة في شمال إفريقيا، وتناول الأستاذ ميغيل روميرو خونكويرا من جامعة إشبيلية أيضا دراسات في مقالات المتصوف التركي الحاج بِكتاش وَليّ.
أمَّا بخصوص الجانب الطِّبي للمخطوطات، – فلقد تناول مارفياس أغيار أغيلار وهو أستاذ بجامعة لا لاغونا بجزر الكناري موضوع الجداول التي اختصرت فيها المخطوطاتُ العلمية بالعصور الوسطى المعلومات والتِّقنيات في شكل بيانات رقمية وأبجدياتيَّة. وفي الواقع، يحتوي التراث على عدد كبير من المخطوطات العربية من هذا النَّوع، وهي مخطوطات تتناول تخصُّصًات تقنيَّة من قبيل علم الفلك. إلا أنَّ الباحث سيركِّز بشكل خاصٍّ على دراسة طريقة استخدام الجداول التنسيقيَّة في النصوص الطبيّة، كما هو الحال في مخطوطة تقويم الصحة لابن بطلان (القرن الحادي عشر ميلادية) المعروفة على نطاق واسع في نسختها اللاتينية (Tacuina sanitatis). والهدف من هذا التناول هو دراسة طريقة تقديم المحتوى العلمي الطِّبِّي بطريقة عملية. وفي الواقع، فإنَّ تقديم مثل هذا المحتوى في شكله اللاتيني يتطلَّبُ تطوير سلسلة من التَّنسيقات المجدولة ذات الإتقان المذهل، التي انتقلت من كونها مرسومة بخط اليد إلى تنفيذها المطبعي. ولذلك، يُقْدِمُ الباحثُ على تحليل الخصائص الفنيَّة الرئيسة المتعلِّقة بتصميم المحتوى وتخطيطه وإدراجه في تنسيق الجداول من خلال عدة أمثلة مكتوبة بخط اليد في شكلها العربي الأوَّل.
مخطوطة طبيَّة أخرى تضمنت جداول ورسومًا توضيحية تناولتها الباحثة كارمن ﭽوميز أورتس من جامعة إشبيلية، وهي تدرس موضوع العلاجات الطبية في النسخة الفريدة لكتاب ميزان الطبيب، للصيدلاني المالقي ابن البيطار، أحد أهم علماء الصيدلة في الأندلس، الذي يُقال عنه إنه ولد في بينال مدينة قريبا من مالقة حوالي عام 1180. لقد درس هذا الصيدلاني علم النبات والعقاقير على يد أساتذة كبار مثل أبي العباس النبطي. سافر إلى آسيا الصغرى، حيث تابع دراسته، وعمل في بلاط السلطان الأيوبي في مصر. ثمَّ وافته المنيَّة بدمشق عام 1258، دون أن يعود إلى الأندلس.
ولهذا الكتاب نسخة واحدة موجودة في مكتبة جامعة أوبسالا، بالسويد، تحت الرقم 351 أو Vet. 58. ولقد أشارت الدكتورة آنا ماريا كابو غونزاليس في مقالتها عن المخطوطة المذكورة، بأنَّها تتكون من 52 ورقة، وهي بشكل عام في حالة حفظ جيدة إلى حدٍّ ما. وتتميَّزُ هذه المخطوطة بأسلوب خط وزخرفة لافتتين للنظر، حيث لا يتم استخدام أي لون آخر بخلاف الأسود، والشيء الوحيد الذي يبرز في النص هو أن عناوين الفصول مميزة بخط أكثر سمكًا، وعلى السطر نفسه الذي ينتهي فيه الفصل السابق.
وبالإضافة إلى دراسات مختلفة وموجزة سنوردها في نهاية هذا المقال، سنخصِّص ضمنها ثلاث مساهمات في علم الأدوية العربي القديم : دراسة وتعليق لاختيارات من كتاب مسكويه في الأشربة لابن التِّلميذ – ألفارو سواريز أورتيز، جامعة إشبيلية، ودراسة ثانية للدكتورة ميلا محمد سالم، وهي أستاذة بجامعة اشبيلية بعنوان المجهول الكبير لمجريات مخطوطات “كتاب الماء” لابن الذهبي، ودراسة أخيرة لخواكين خواكين بوستامانتي كوستا وهو أستاذ بجامعة قادس بعنوان الحنَّاء من خلال تداولها عبر المخطوطات الطبيَّة في العصور الوسطى: من ديوسقوريدوس إلى ابن البيطار”،
أمَّا بخصوص مختلف المخطوطات الدينيَّة والإدارية وغيرها للأندلس، فيثير اهتمامنا موضوع نسخة الإنجيل الأندلسية التي قام بترجمتها إلى العربية إسحاق بن بلشق القرطبي (القرن العاشر)، ويلاحظ الباحث خوان بيدرو مونفيرر سالا، وهو من جامعة قرطبة، بأنَّ تحليل نسخ الأناجيل العربية الواردة بمختلف المخطوطات التي وصلتنا حاليًا يُشير إلى كونها حقًا قد مرَّت بمراحل مختلفة. وتسمح لنا دراستها بإظهار عمليات المراجعة التي تعرضت لها الترجمة الأولى، وتسمح لنا في الوقت نفسه بإعادة تأليفٍ جزئيٍّ لتاريخ نص الإنجيل الذي تم تداوله في الأندلس.
وبالإضافة إلى تناول باحثين مخطوطات خارج فلك الدراسات العربية الإسلامية كدراسة فوينسانتا جاريدو دومينيه من جامعة قرطبة التي تناولت تقديم عرض عام لكتاب (The Nuptials of Philology and Mercury)، لكاتبه اللاتيني مارتيانوس كابيلا، الذي مارس مهنة المحاماة في القرن الخامس الميلادي بقرطاج. ألَّف خلال شيخوخته عملاً بعنوان زواج فقه اللغة بعطارد متناولًا فيه بالحساسية الأفلاطونية الفنون السبعة: القواعد، الجدلية، البلاغة، الهندسة، الحساب، علم الفلك، والموسيقى. تقوم الباحثة بدراسة المخطوطة Vesontinus 594 التي تضمُّ العديد من المسارد الهامشية والمتداخلة بحيث تقوم بتصنيف هذه التعليقات وفقًا للمحتوى الذي تقدمه، وتسعى من خلال ذلك إلى فهمٍ أفضل للمخطوطة وأعمق.
أمَّا أستاذ جامعة قرطبة إسرائيل مونيوز غالارتي فقد عمد إلى إبراز حقائق وصفها بالانتحال عن مخطوطة سفر أعمال توما، هذه الأخيرة تشكّل من بين طبعات أعمال الرسل المنتحلة، تحديًا للبحث الحديث. فلقد تم إحصاء الاكتشافات المخطوطية الجديدة بــ 60 عينة لم يتم جمعها، التي تمثل باختصار مجالًا غنيًا ومفتوحًا للدراسة خلال السنوات القليلة المقبلة. وفي الواقع، فإنَّ هذا السِّفر كان متداولًا في القرن الرابع الميلادي، ولكن يعود تاريخ كتابته إلى بداية القرن الثالث الميلادي. وهناك بعض النَّسخ التي ما تزال محفوظة بخطِّيها السّرياني واليوناني. ويشير الدارسون إلى أنَّ المخطوطات السريانية قد طالتها أقلام بعض طوائف المسيحية المحسوبة على التَّوجه الرُّوحي، وذلك رغبة منها في تطهيرها من المقاطع غير التقليدية التي أضيفت، عكس النسخ اليونانية التي تبدو كأنَّها أقرب إلى الرِّواية الأكثر توغُّلا في القدم. ويروي سفر أعمال توما الوقائع التي ألَّمت به أثناء مهمَّته التبشيرية بالهند والتي انتهت بموته. وهو خليط بين الأسطورة الشعبية والدعاية الدينية، وبين ترنيمات دينية وتنغيمات شعرية. وهو السفر الوحيد الذي يعتبر كاملا مقارنة ببقية النسخ الأربع الأخرى.
في الواقع، يقترح هذا الإحصاء القيام باطِّلاعٍ مختصر على مشاكل التحرير الرئيسة التي تطرحها تلفيقات السِّفر، ثم التركيز على دراسة المجلد الحادي عشر، (Barocci 180) (المؤرَّخ بالقرن الثاني عشر) والمصنَّف بمكتبة بودليان تحت رقم (41v-49v).
وفي دراسة بعنوان أصل الورق واستخدامه في مملكة غرناطة النصرية لأنطونيو بيلايز روفيرا وهو أستاذ يدرِّس بجامعة غرناطة، سلَّط الباحث الضَّوء، بناءً على استقراء للمصادر التاريخية والقانونية والدينية والوثائقية، على موضوع الاستخدام الواسع للورق في المجال السياسي والفكري والديني لإقليم النصريِّين. ولقد أثارت لديه هذه الظَّاهرة سلسلة من الأسئلة حول أصل مادة الكتابة الأساسية هذه، من حيث أصلها الخارجي، أو من حيث تصنيعها على موقع غرناطة، فضلاً عن طريقة تناول المستخدمين لها وطريقة تعاملهم معها أثناء استخدامها. مع كل هذه المعلومات، يتم تقديم بانوراما عالمية لحالة المواد الورقية، مع التركيز على بيانات محددة ذات أهمية خاصة حيث تكون هناك مشاركة ليس فقط من قِبَل المجتمع الإسلامي، وإنما أيضا من قِبَلِ مجتمعات أخرى كالمسيحيَّة وغيرها.
ونظرًا للإنتاج الكتابي المكثف الذي كان يطال الورق، ضمن الإطارين الزمني والجغرافي لمملكة غرناطة النَّصرية، سواء في خدمة الإدارة أو في توثيق جميع تخصصات المعرفة، فإنَّ هذا ما يدفع إلى الاعتقاد بأنَّ أصل هذه المواد واستخدامها يمكن في الواقع فهمه بسهولة. إلا أن البقايا القليلة المحفوظة والإشارات المأخوذة من مصادر مختلفة لهذا الإنتاج المهم للثقافة الإسلامية على وجه العموم آنذاك، وبشكلٍ أقل ربَّما، للثقافة الأندلسية في غرناطة على وجه الخصوص، تجعل من الصعب مقارنة البيانات التي تم الحصول عليها مع المعلومات التي قدمتها المصادر المذكورة المختلفة من ناحية، ومن ناحية أخرى، يسمح النِّقاش بتناول سلسلة من الفرضيات للإجابة عن الأسئلة التي طرحتها مشكلة توفير الدًّعم الورقي الخاص لكتابات غرناطة، بعد تتبع مسار اقتناء الورق سواء من خلال طرق التجارة الدولية والتصنيع أو من خلال إعادة استخدام المواد الورقية بالمنطقة النَّصرية.
وفي الأخير، وبعد عرض مجمل ما جاء من المداخلات بالإضافة إلى إدراج بعض الدراسات في هذا الملف، فإنَّه من الأجدر التَّنويه بجهود المستشرقين التي تعمل لا سيما في مجال المخطوطات بالكشف عن هذا الكنز الذي ما يزال مغمورا في أقبية المكتبات وأقاصي الصحراء، وذلك بتخصيص مسارات دراسية تكوينيَّة له بأوروبا، أو بتوفير أيام دراسية وملتقيات دولية، أو بدعم مراكز البحوث الأوروبيَّة بما لا يقلُّ عن مليون يورو لمخبر أوروبيٍّ واحد. وهو جهد ينبئنا بأهميَّة المخطوطات ودورها في تعميق النَّظر بخصوص العلوم العربية القديمة بشتَّى أنواعها، وهي التي ما تزال تمتدُّ كجسرٍ بين قارَّات وحضارات وثقافات وأزمنة مختلفة. هذا التَّقليد الذي اعتمدته مدرسة طليطلة في نشر العلوم العربية بأوروبا عن طريق اللاتينيَّة أوَّلا، ثمَّ إلى لغات أوروبيَّة أخرى أوعز في نفوس الكثير من الملوك والأمراء والديبلوماسيِّين والقسِّيسين ضرورة اقتناء المخطوطات لحاجتهم العلميَّة المتزايدة في معرفة العلوم واكتشافها. ولقد اشتهر لويس الرابع عشر ملك فرنسا ( 1643 – 1751)، على سبيل المثال لا الحصر، بتخصيص مكانة رفيعة للغة العربية ولدعائمها الكتابية كالمخطوطات خصوصا. فبدأ أوَّلا بإنشاء كرسيٍّ لتعليمها في المدرسة الملكية، ثمَّ ما لبث أن أرسل إلى مختلف أقطار العالم الإسلامي من يأتي بالمخطوطات ذات الصلة باللغات الشرقية عموما وباللغة العربية خصوصا. وتروي القصص أن الملك لويس الرابع عشر كلَّف شخصيًّا بتاريخ 30 كانون الأول/أكتوبر 1667 سفيره دي مونسو (De Monceaux) بالتنقيب عن المخطوطات العربية بالمغرب الأقصى.
وتفتح المخطوطات في الواقع الباب للباحثين لتوسيع أفق نظرتهم العلميَّة للواقع الاجتماعيّ والسياسيّ العربيّ القديم، بحيث يتم استقدام المعلومات التي لم يكن لأحدٍ أن يطَّلع عليها، أو لاستكمال البحوث الناقصة لا سيما في مجال التَّاريخ. وهو أفقٌ لا أجزم فيه القطع إن كان للطلبة والمتكوِّنين العرب أن يبلغوه على أكمل وجه، في ظل نقصان الأدوات التِّقنية عموما والرَّقميَّة خصوصا، وانعدام الاستراتيجيات التي من شأنها تسهيل الولوج إليه.
ولقد آليتُ في هذا الملف أن أتحسَّس في الثقافة العربية وعلومها مكامن النهضة بتراثها ومواطن العزيمة في الإلمام بما ضاع منها جمعًا وتحقيقًا ودراسة، لاسيما في مجال البحث العلمي إن كان ذلك بمستوى طلبة الليسانس أو الماجستير أو الدكتوراه. فبعث هذا النَّوع من التَّخصُّصِ سيفيد كثيرا في تعليم المتكوِّنين ما مفاده أنَّ استهلاك المعلومات الموجودة بالكتب المنشورة حديثا لا يفيد في شيءٍ إن لم يكن الدَّور الحقيقي المنوط بهم -دون الاكتفاء بالسَّطح- هو الغوص في بحثهم عن الدَّرر الكامنة أعماق البحار.