إن الجدل المتعدد المشارب، والمختلف الاستراتيجيات بخصوص التجربة الشعرية العربية الحديثة، سواء حول سياقها التاريخي أو حول التأويلات اللاحقة لمواقف منظريها، أو لمنجزات بعض الشعراء الحداثيين، دليل واستدلال على حرارة التجارب، وعمق غور أفعال الاختراق، بلغ مع الشعر المعاصر درجة بمقدورنا أن نطلق عليه وصف "القطيعة الشعرية" اسوة بالقطيعة الابستيمولوجية التي يقول بها غاسطون باشلار (1). ولم يتحقق ذلك إلا لأن أسئلة مصيرية تهم الانسان وعلاقته بالعالم، وبالذات والتاريخ والمجتمع تمخضت في رحم هذه التجارب الشعرية ومن ثم كان مال الحداثة الشعرية هو البحث والتجريب المستمرين لخلخلة البنيات الثقافية السائدة: أو ليست هي "التنبؤ بما يعنيه أن نكون في الحاضر."(2) كما يقرر هنري ميشونيك Henri Meschonnic ؟!.
ولئن كان لتجمع حركة مجلة "شعر" الدور الرائد في تأسيس المشروع الحضاري والشعري الحديث: تنظيرا ونقدا وإبداعا، فإن يوسف الخال كان هو "الأب الروحي" لهذا التجمع ولهذا أطلق على نفسه "زنبرك شعر" (3)، وذلك ما أكده د.كمال خير بك عندما لفت الانتباه بقوله:"تجدر الاشارة الى أن فعاليات "شعر" قد لقيت تدشينها ببيان شعري ليوسف الخال قام بقراءته في الندوة اللبنانية في 31 كانون الثاني 1957" (4) ومما يرسخ قيم المغامرة، ويشكل القطيعة هو أن التجديد لم يقف عند رج الثوابت العروضية: من خلال التحرر من الوزن والقافية فحسب، ولكنه اتسع ليرسي أسسا حضارية حديثة هي وحدها الكفيلة برعاية مشروع الحداثة الشعرية وضمان استمراره، واذا كان من المسلم به، أن الحركة لم تجد منافذ لجميع الاشكالات التي نفضت عنها الغبار، سواء تعلق الأمر بمسالك النهضة أم بوضعية الذات وبعثها عما يشكل هويتها، وبالتالي علاقتها بالآخر، فإن طبيعة الرؤيا المنفتحة التي صاحبت تأملاتها تسمح بإعادة بنائها وفق تصورات جديدة مغايرة. ولعل هذا الأمر هو الذي دفع أدونيس، فيما بعد الى القول "وفي ظني أننا نقدر في هذا الاطار، أن نتبين السبب الأساسي لفشل ما سميناه بـ "عصر النهضة" في إرساء قواعد حقيقية للنهضة." (5). ولا سبيل لتخطي هذا العائق إلا بالانفتاح على التجارب العالمية، وبتأكيد قواعد الحوار وقيم الاختلاف، ومن ثم: "علينا أن نفتح ما يمكن أن نسميه بعصر الأسئلة". (6) واذا كانت التأملات التنظيرية والنقدية قد نالت بعض الاهتمام من طرف الدارسين، فإن القراءة النصية غالبا ما اتخذت مطية لاثبات تصور أو موقف قبلي. ومن ثم وجب أن نفتح عصر الأسئلة المبشر به، كذلك، على القصائد والنصوص الابداعية. وهذا هو المرمى الذي توخيناه من خلال هذه القراءة الدلالية – الايقاعية لديوان "البئر المهجورة".
ويحسن أن نشير الى أننا انطلقنا في هذا المحاولة من فرضية أساسية مفادها أن المكونات البنائية التي تشكل الأثر الأدبي لحمتها علاقات تفاعلية، ذلك لأنه "ينبغي أن يدرك الأثر الأدبي باعتباره ديناميا. وتشتغل هذه الدينامية: 1- في مفهوم المبدأ البنائي. فمكونات اللفظة ليست لها نفس القيمة، كما أن الشكل الدينامي لا يتكون من تجميعها أو دمجها (المفهوم المستخدم، عادة، لـ "التبادل")، ولكنه يتكون من خلال تفاعلها، وبالتالي من خلال إبراز مجموعة من المكونات على حساب مجموعة أخرى، ويعني هذا أن العنصر المبرز يحور المكونات التابعة. إن إدراك الشكل هو، دائما إدراك لتموج (وبالتالي لتغير) العلاقة بين المكون البنائي المهيمن وبين المكونات التابعة (7)".
الكتابة الشعرية وآفاق التحديث
إن الاحتفاء بالشعر الخالص من أقدس طقوس الذات المرتمية في أحضان تجربة الكتابة، والتدرج في مقاماتها واغراء عوالمها المتجددة: نداءات لا يفقه أسرارها سوى المحموم بالتغيير، التواق الى حرية الذات والمجتمع، وانفلاتهما من محظورات السلطة القاهرة، واذا كان فعل تحرير الكتابة الشعرية، مازال، لحد الآن رغم المحاولات الجريئة (8)، إن لم نقل مؤجلا فإنه مهمش من طرف أيديولوجية المؤسسات السائدة: فإن تاريخ الفن والشعر بخاصة يشهد تعاقب ثورات غيرت المفاهيم والتصورات والرؤى. وبما أن الانسان هو عصب الفعالية الفنية فقد غدا أكثر إدراكا لغنى أكوانه الباطنية، كما تجددت حاجياته الثقافية والمادية، حيث أصبح وجها لوجه أمام التناقضات والمفارقات: فبالقدر الذي يحرز فيه تقدما علميا وتقنيا بالقدر الذي يتراجع فيه عن قيم الانسان السامية. وفي هذا الخضم أصبح رهان الشعر لا مناص منه، ومن ثم أصبحت الجبهات الصدامية متنوعة: مع التقليد والتخلف، ومع التجديد والتقدم. ومن هنا صارت علاقة الاقتضاء واجبة يقابل فيها الغياب الانقراض حيث إن المعادلة الطبيعية التي تتحدد بموجبها الحياة والشعر أصبحت أكثر تجذرا في التربة الثقافية التثويرية ومن صميم الفعل التحرري الراهن. أو ليس الشعر الجديد: تنظيرا وممارسة، بعثا للحياة في أبهي صورها، وخيطا رفيعا يعض عليه الانسان بالنواجذ في عالم أجهز على كل القيم النبيلة بواسطة آلة تقنية جهنمية تبث الرعب والدمار في كل الاصقاع. وما تتبع بؤر الشعر المضيئة في العالم سوى احتماء بالكلمة: هذا الملاذ الرحيم في هول القيامة الحاضرة. إن الطقس الشعري برزخ توحد فيه الكائنات وتمحى في جلاله الفواصل والحدود بين الموجودات. ولهذا تهوي أمام أنظارنا حصون التقليد في الشعر والثقافة والسياسة، ويسقط الأصل وتتسع آفاق المغامرة. وليست هذه الأفعال الصدامية سوى أسلوب مخصوص من أساليب استعادة الانسان الذي مات في الانسان، ولقد ترتب على هذا التوجه المغاير انشغالات جديدة أكثر عمقا وفعالية، حيث أصبح من اللازم اللازب أن يجري المبدع حوارا بين تاريخه الشخصي: بشقيه: الذاتي والقومي العربي: وتاريخ إنساني وفي العودة الى بدايات هذا الحوار يفاجأ المرء بغور التصدعات ونفاذ الشروخ، وهذا كله يفسر لنا كيف كان تحرير الفعل الشعري
أساسيا وانقلابيا، لم يشذ أعداء التحديث بل حتى من شايعوه بالأمس إلا أن يقبر وه باسم شعارات ولافتات مختلفة يتصدرها: النظام والقواعد الخصوصية والهوية. ولعل الذي يتبادر الى الأذهان، هو هذه الاستماتة البطولية التي أبان عنها أحباه التغيير والمستقبل. وما وقفتنا في هذه اللحظة مأخوذين بغواية قراءة هذا الديران الشعري سوى إلقاء رمز لحجرة في هذا المعين الثر الذي لا ينضب والذي ما قدره الناس حق قدره فأعرضوا عنه جاهلين أو مكابرين. ومن هذا المنطلق، نحاول التعرف على أوجه هذا البناء والمشروع الشعري التحديثي، منتقين واسطة عقده، ومقتنعين في الوقت نفسه، بسعة عوالمه وعجز مقاربتنا، راهنا على الأقل. عن لم جميع أطرافه، مؤكدين ما كان يردده أستاذ التحديث الشعري في المغرب الشاعر والناقد د. محمد بنيس: "يجب أن نتواضع أمام النصوص".
جدلية المقول والمعيش
لقد نجم عن مشاريع التحديث الشعري العربي في الخمسينات بخاصة، طرح قضايا استعجالية في الكتابة: تأتي في مقدمتها قضية الالتحام بين المقول والمعيش، وما يعترض الناظر فيها من أسئلة مقلقة تتعلق بطبيعة وكيفية اختراق الفعل الكتابي النسيج الحياتي لتغيير المسارات، وتحقيق الوجود "الحق" ولهذا نفهم لماذا كانت أول لحظة صدامية واجهت المحاولات الشعرية التجديدية هي: لحظة /لحظات الصدام مع ما هو ثقافي وتاريخي واجتماعي لأن عصب الاشكال لا يرجع الى ما هية الكينونة الشعرية بل الى الكيفية التي تم التفكير بها في هذه الكينونة: وما أعقب ذلك من انعكاسات وآثار سلبية ارتجت بفعلها الروابط بين الرغبة والغاية: التحقق، وبين الإرادة والاكتمال معابر سرية قد تقود اليها اليد الثالثة , ولعل تناسل الأسئلة وتنوع المراجعات النقدية، يهدف فيما يهدف اليه الى تكوين معرفة شعرية ترسخ الاختلاف والانفتاح واللا اكتمال، أما سؤال الفعالية الوظيفية فهو اختيار لأحد الأمكنة الشائكة لإعادة قراءة المنجز الشعري في علاقته بالخارج النصي حسب تصور ايديولوجي محدد: نبتعد عنه، الآن، لنقارب طرائق تدليل القصائد الشعرية مستنيرين بهذه الأسئلة المفصلية:
– هل بمقدور الكتابة تغيير البنيات الذهنية العربية ؟
– كيف يندرج الشعري في المشروع الحضاري والثقافي التحديثي العام البديل، علما بأن المحاولات المتحققة أبانت عن عجزها وعدم كنايتها؟
– ما الطرق التي تكفل استقلالية الشعري في صراعه المزدوج ضد الحقول المتاخمة من جهة أولى، وضد المركزيات الثقافية المحلية أو العالمية من جهة ثانية ؟
وتفصح هذه الأسئلة عن حدود المعرفة الشعرية كما تم بناؤها في المشروع الحداثي الشعري: قصيدة وتنظيرا ونقدا، وفضاءاتها الجديدة مستنيرة بالنقد والحوار، وحكمة الانصات الى الأصوات الاختلافية، كم تضمر إرهاصات التخطي والتجاوز فيما هي تتحسس منافذ هدم ميتافيزيقية العلامة. والاشارة هنا الى هنري ميشونيك الذي ينفذ بمضاء بصيرة ويقر الى أصل الأشكال حين يؤكد: "القصيدة، على هذا النحو، نقد للغة والمجتمع وهذا النقد لا نجده في النقد الأدبي لأن هذا الأخير ليس سوى أدبي لا نقدي"(9).
ويتوافق هذا الطرح مع هذا النبش السري في أعماق الذات المجتمع في قصيدة "البئر المهجورة" التي بسطت اشعاعها لتتشظى، وتتوحد في مشروع يوسف الخال الكتابي الذي انصهر بدوره في رؤى مجايليها وأصحابه: أعضاء حركة مجلة شعر بخاصة. ولقد كان مطلب الحرية الإبداعية أحد الحوافز الأساسية لاعلان الولادة المغايرة التي تعمق التصدعات. وما المقاربات الجديدة سوى شكل من أشكال انتزاع أحد الحقوق الأولية في الحياة والابداع. وتطالعنا هنا صورة "الشاعر الاله" الذي يمكن اعتبارها عمدة المشروع الشعري وسنده لأنها صورة مكثفة تختزن إرهاصات تنظيرية، وحساسية جمالية مغايرة: إنها تأمل شعري، صريح وضمني، في مسيرة الشعر العربي ومساره الحلزوني بغية تأسيس تصور جديد يهدم مفهوم الشعر السائد، ووظيفة الشاعر الخطابية المنبرية، وما يتفرع عن كل ذلك من نسج وشائج مغايرة بين: الشعري والحياتي.
ولعل المفهوم الشعري الجديد هو احدى الدعائم الكبرى، حيث أصبح الشعر مرادفا للخلق والابداع على غير منوال أو قالب سابق. ومن ثم صار الشاعر يستشرف المستقبل. وعلى هذا الأساس رفع الشعر الى مرتبة أضحى فيها منافسا لما هو مقدس، بالمقدار الذي يكشف فيه ما هو مستور ويبتدع طرائق مغايرة في النظر الى الحياة والكون.
ولا يغرب عنا أن هذا التطهير الأقصى ما هو إلا إيمان مطلق بالشعر وضرورته لتستمر حركة القلق والخوف والتوجس. وبما أن المعشوق لا يناظر، فان من سار على درب الحب شهيد الشعر يستحق كل ثناء وتبجيل. وهذا "عزرا باوند" واحد من أولئك الذين سال دمهم على محراب الشعر:
جراحك للأولين
عزاء ودرب خلاص لنا (10)
إنه المسيح الذي حمل خطايا البشر، وبشر بالأخوة والمحبة. وهذه القدسية تقتضي، في مقام الاحتفال والطقوس. أن يعتزم المريد طي صفحات الماضي وبداية حياة جديدة، بقدر ما تمده بدفقات حية بقدر ما تخلصه من براثن المعصية. ولا يحصل التطهير إلا بالصدق الذاتي في الاعترافات. ويحسن أن نشير الى أن الفعل التحويلي المركزي الذي ينطلق من الدين: المسيحية بخاصة ليرسي في مرافيء الشعر، يتم حسب وشائج تركيبية دلالية مختلفة – الشاعر – إزراباوند تتحدد في صورته الصفات الانسانية والصفات الأخرى لهذا فان الوقوف في حضرته يستوجب الطهارة من الذنوب، وهي طهارة تنصب أساسا على الممارسة الشعرية السابقة على التبشير بالرسالة الشعرية الجديدة، ولا ريب أن هذا التبشير لا يصدق على قوم دون قوم وانما هو موجه الى الانسانية جمعاء. وهذا أحد مكاسب موجة التجديد المعاصرة التي يلح روادها على تجاوز القطرية والاقليمية الى العالمية. وفي هذا السياق الأوسع، ندرك أسباب الصيحات المدوية والإدانة الشديدة الموجهة الى التقليد والسائد من أشكال الكتابة الى درجة قرنها بالاثم والجريمة، وفي الضمير " نا " نسبة الى الذات والجماعة على حد سواء:
أثمنا الى الشعر، فاغفر لنا
ورد إلينا الحياة ص 197
وفي هذا التكثيف تتجمع كل المظاهر والمقاييس المعيارية القديمة التي قولبت التجربة وقيدت من الحرية الابداعية بسن قوانين وقواعد أسهمت، بالقسط الأوفر، في ركود التجارب، ونسج النموذج الأمثل الذي يكون منتهى المحاولات اللاحقة محاكاته والنسج على منواله. وليس "عمود الشعر" الذي اكتمل مع "المرزوقي" سوى تمثيل صوري لغنيمته ومن ثم فإن كل رفض لمبدأ من مبادئه اعتبر مروقا وبدعة، يجدر في أحسن الأحوال، طرحها، لهذا تقوت أحضة التقليد وترسخت معاقل الثبات، وبسط الماضي ظلاله على الحاضر والمستقبل فانتهى الفعل وساد الموت، "فليس بالامكان أبدع مما كان". وفي لحظات المحنة وسنوات الجدب، ترتفع أصوات الرفض مجلجلة مدوية واثقة، هذه المرة، بأن سبيل الخلاص يستوجب تضحيات جساما. وهذا ما آمن به أقطاب التجديد. إن غاية الشاعر يوسف الخال هي ترهين الفعل التحديثي الشعري في البيئة الثقافية العربية من خلال تشابك المحاولات الابداعية والتنظيرية وتفاعلهما، مهتديا في ذلك بإضاءات العوالم الجديدة التي تشع في مناطق مختلفة من العالم. واذا كان الأدب الانجليزي قد فتح عيون الشعراء العرب الحداثيين على أكوان شعرية مغايرة فلأنه عرف ثورات أدبية قادها شعراء عظام – أساتذة من أمثال: ت. س إليوت. وازرا باوند. كشفت بموضوعية، مأزق التقليد والأفق المسدود الذي الى اليه في الوقت الذي برهنت فيه بصدق وأصالة عن اقتضاء الفن للحرية كشرط من شروط حياته. وليست غاية الشاعر يوسف الخال وأصدقائه أعضاء جماعة مجلة "شعر" سوى مواصلة هذه التجارب التثويرية في هذه المنطقة التي غدت مركز العالم: فكما كانت مهد الأديان السماوية، لم لا تكون مهد الشرائع الشعرية الجديدة ؟! ولكي يبلغ هذا المرمى، لابد من صيانة العهد والميثاق الذي سال دم الشاعر "إزراباوند" وهو يذود عنه:
لك الوعد: إنا
سنبني بدمع الجبين
عوالم للشعر من عبقر
مفاتيحهم ص 197
إن ما يمثل فارقا بين هذا الميثاق الجديد والميثاق الشعري القديم هو أنه يقوم على أساس رفض وهدم الاحتذاء والسير على هدى السابق، بل يقوم على أساس الصدق وحرارة التجربة الذاتية المنصهرة في الجماعة. لهذا فإن التماثل لا يقوم إلا على أساس الاعتقاد بشرط الحرية والتحرير لا على أساس محاكاة الكيفية التي تم بها التحرير. وبهذا يمكن أن تدحض كل مزاعم من يقول بأن التجارب الشعرية العربية الحداثية استنساخ لمثيلاتها في الآداب الأجنبية. ولعل التحديد الفضائي يؤكد، في نفس الوقت خصوصية وعالمية التجربة، إذ أن شيطان الشعر لم يعد هلاميا غير معين لا تحيط به الأبصار، بل أصبح محسوسا مرئيا حاضرا ممثلا في التجربة الحياتية والابداعية كفعل وفعالية، إنها ممارسة ونشاط تشير الى حضور الانسان ومن ثم فإن الشعر ليس وحيا إنما هو خلاصة لتجربة إنسانية بقدر ما ترتبط بالحس تفارقه، وبالدرجة التي تذوب في معترك الحياة ترنو الى تفجير مكنوناتها.
وفي أفق الحيرة والتطلع الى الآتي ترسم قصيدة "الدارة السوداء" طبيعة العلاقة التي تربط الذات بالمكان. ولا بأس من أن نتتبع الصفات والأسماء التي تتشكل من التحامها الذاتي وكذلك الأسماء والصفات التي تؤثث المكان الذي هو حميمي لأنه حضن الولادة والنشأة. ولا يتأخر العنوان عن رسم المعالم المأساوية لهذا الفضاء "الدارة السوداء" بكل ما يختزله الظلام من ثبات وجمود وموت، بل إنه مقبرة نبشت قبور موتاها فصارت هياكل من عظام تجوب المسارح والطرقات إذ لا حنو للسلبية والعدمية، سوى الدفن والإقبار.
دراتي السوداء ملأى بعظام
عافها نور النهار،
من يواريها الترابا ؟ ص 199
أما الذات فإنها تشكو من الوحدة والعزلة التي لم تحولها الأنا لتصبح ينبوعا لافتضاض البكارات، إما لانشغالها بما هو عابر آني، واما لغياب رفقاء الدرب في هذا الخضم الهائل من مواكب السقوط والاندحار، علما بأن الذات عن وعي أو لا وعي، تستحضر مكانا حليميا أو تجريبيا وقفت فعلا على مظاهر جماله وعبقريته. وفي هذه الحالة لا مناص من الهم، وهو انطواء يؤجج في النفس مشاعر السخط والكراهية والعزوف عن ضورب المتعة في الكون المحيط: إحساس يثبت النظر في البؤر السوداء القاتمة، ويأسر الذات فتصبر أسيرة اللوعة والحسرة والعذاب. ويتنامى هذا المظهر الانكساري ليصار مرتبة "اللعنة" والوسم على هذا النحو، ينقل العلة من الحس الى الغيب، ومن المعلوم الى المجهول. وهذا يعكس دون شك ما يفعله الاعتقاد خفية في جسد النص. وتفضي الصفات السالفة والأحوال المتمكنة: الوحدة الهم – اللعنة الى الحالة الارتكاسية: الخوف؛ أي توجس السقوط والفشل قبل مباشرة الفعل، وانشغال بتجنب الخطر المتوهم والقناعة بمكتسبات الذات الوهمية. ولهذا تتماهى الذات مع الجماعة التي كانت قد أدانتها سالفا وتمنت لها الاقبار.
وأنا في هذه الدارة وحدي
جاثما كالهم كاللعنة كالخوف
على صدر الجبان
جاثما كالموت في البرهة في كل مكان،
جاثما بين العظام ص 200
واذا كان مكان الاقامة خارجا عن الإرادة فإن المواطنة إجبارية تلزم الذات ما لا تطبق وتجردها من رهافة إحساسها وسمو عواطفها: الجمال والحب، لتنقل الكتابة الى ما يقوضها الكراهية والبشاعة. ومنذ القدم كانت علاقة الكتابة بالفعل موضع تأمل واشكال مقلق رج اليقينيات، وأحل النسبي محل المطلق. وبالقدر الذي أصيب فيه الأدعياء بالخيبة فتدافعوا رافعين شعارات الانتهاء والعبثية ولا جدوى الفن في الحياة، بالقدر الذي قوى ايمان المريدين الأوفياء بأن قيمة الكتابة تتعدى السطح لتنفذ الى الأعماق، فما فائدة فعل يتحقق الآن وهنا ويزول غدا وهناك كما تفعل السياسة.
وضمن هذا السياق الجدلي يجب أن ننتبه الى أن ما يخيم على القصيدة من مظاهر مأساوية ورؤى سوداوية ما هو إلا اضطراب وانقطاع موصول بلحظة العبور. واذا كانت الذات تبدو الآن عاجزة مسلولة، فما ذلك إلا لأن سياق التغيير: إبداعي وتاريخي أشد تعقيدا، ودروب الخلاص مرحلي، موحدة ومن ثم فإن كل الخيارات الممكنة تؤدي الى الأفق المسدود: الهجرة، اللامبالاة، الصمت… لهذا تحتمي الذات بما فوق الانسان.
آه لا أدري، ولكني أصلي ! ص 202
تمفصلات المقدس وغير المقدس
تعتبر التمفصلات المتحققة داخل النص أحد المداخل الممكنة لإنجاز قراءة تحرص على الانصات الى النص، وكشف ما يبنيه على النحو الذي يفصله هنري ميشونيك في عمله الانقلابي النظري والكتابي حيث يقول: "وهنا بمقدور الفعالية الشعرية أن تلتقي بالفرضيات – القبلية يتعلق الأمر بتحليل صيغ التدليل Mode de signifiaince لأن قصيدة من القصائد ليست قصدا وليست وعيا، هناك تراجع نظري بعد فاليري valery،يتمثل في ربط الذات بهذا الزوج البسيكولوجي والأخلاقي: أي الوحدة." (11) ومن ثم فإن: القصيدة لا تعرف أكثر ولا تلقن معرفة، كما أنها، بلا ريب، لا تعلم ولكنها تشير،تشغل غير المعلوم، ليست في الهامش أو في الخارج. إن وهمها هي أن تكون هنا. وبالتالي فإن حزبها وحزب النقد أيضا هو الايقاع الذي يعد سياسة لها." (12).
ولا غرو أن يكون هذا المدخل النص منفتحا على الداخل والخارج حيث يمكننا تلمس الانساق النصية من جهة أولى، كما يوفر لنا، من جهة ثانية، مادة ضرورية لوضع النص في سياقه التاريخي، وحواراته مع التراث الديني واللفة ومع الثقافة والحضارة المعاصرة.
إن الشرخ الغائر، والهوة التي لا قرار لها بين الذات والعناصر التي تؤثث الفضاء من إنسان وجماد، ترسم قسماتها وتفاصيل خيوطها قصيدة. "البئر المهجورة" مستعيرة مرة ثانية الرمزية الدينية: ابراهيم – يوسف. ويحسن أن نسجل في البداية أن النسق البنائي في القصيدة، يحدث انقلابا في التلقي حيث يصرف الذهن عما يمكن أن ينصرف اليه من هروب الذات من المكان واختيار العزلة والانطواء حين يصل الجسد بالتراب: عادته الأصلية، وينفذ به الى الأغرار للارتواء من ينابيع البداية: البئر. وبغض النظر عن الايحاءات الجنسية لفعل الاختراق هذا فإن وجود البئر في هذه الصحراء بشير خير وبركة، يقوي هذا التنافذ العميق بين النص – المقدس وبين القصيدة تنافذ تنصهر في ثناياه تفاصيل أحداث القصة الأصلية. ولنتبين حدود هذا التنافذ، نستحضر التقابل الضمني بين ابراهيم / النبي: خليل الله، وابراهيم المضحي: خليل الشاعر. وتوجه جدلية العلاقات بين العناصر البنائية في القصيدة حركتان أساسيتان: الحركة الأولى تتمثل في صورة ابراهيم قبل التضحية، والحركة الثانية صورته بعد التضحية، وما يترتب عن ذلك من تحول في الرؤى الجمعية التي تتحول من اللامبالاة والانكار الى الدهشة والانبهار. فحتى التضحية لم تخلصها من الأوهام، بل أودت بها الى وعي زائف يلوذ باللاعقل: الجنون. ولعل تفاصيل هذه القصة قمينة باستحضار مناظراتها في النص – المقدس: المسيح – ابراهيم الخليل، غير أنها لا تلبث حتى تنفصل لما توثق أواصرها بالتجربة الحياتية.
إن الحركة الأولى، تنبني على أساس صيغ الرجاء والتمني: "لو كان لي.." التي تتكرر خمس مرات متصلة في كل مرة بالتضحية والفداء:
1- "لو كان لي أن أنشر الجبين
في سارية الضياء من جديد" ص 203
2- "لو كان لي،
لو كان أن أموت أن أعيش من جديد" ص 204
3- "لو كان لي أن أنشر الجبين
في سارية الضياء
لو كان لي البقاء ص 204 – 205
وتدفعنا هذ الواقعة النصية، الى القول بأن هذ الحركة تمثل إرادة الفعل، كما أن الذات، في غمرتها تخمن وتناظر بين حجم الفعل وما يترتب عنه. وبما أن الفعل أسمى يبلغ حد نكران الذات، وممارسة فعل الفداء لتطهير الآخر، الذي لم تلق منه الذات سوى الجحود والنكران، فإن آمال التغيير يجب أن تمس الجذور وتحلل السائد من أصوله ولعل هذا هو فعل "طمر العظام" الذي أعلنت الذات في القصيدة السابقة عن عجزها على ممارسته؛ وها هي الآن، تقوم به، ولكن من خلال ما يمكن أن نعتبره معادلا موضوعيا: ابراهيم. وهذا يفسر لنا. هذا التوق العارم للهدم البناء الذي يبلغ منتهاه، فالمضحي لا يرضى بما دون النجوم كم قال شاعر العربية أبوالطيب:
أذا غامرت في ترف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
لهذا وجدناه يأمل في قلب الدورة الفصلية:
"ترى يحول الغدير سيره كأن
تبرعم الغصون في الخريف أو ينعقد الثمر، ص 203
وتحويل المعجزات من إطارها الغيبي الى الاطار الانساني:
ويطلع النبات في الحجر؟
.وليس هذا المطلب بأعز من طهر الذات، وتوقها الى اختراق الموت: اللحظة العبورية لقلب المدارات وتحويل الاتجاهات بين الأرض والسماء:
وهذا هو الفارق الأساسي بين تضحية ابراهيم بابنه استجابة لأمر الله، وبين تضحية ابراهيم بنفسه في القصيدة لمحو الظلم. وعلى هذا النحو، لا تحتفظ الذات من الآمال إلا بما يسعد الانسانية، وينشر المحبة والعدل بين الناس. ولا تنفك القصيدة تتخلص من النص – المقدس لترتمي في أحضانه مرة ثانية، متماهية مع المسيح مخلص البشرية، الذي اقترن في هذا التشكيل باستحضار الأسطورة لعلها تسعف في بناء أسس العدالة المنشودة: يوليس – أوديب… وكأن القاريء مدعو الى إعادة النظر في معايير تكوين واستواء القيم بما في ذلك مفهوم الخطيئة ومفهوم الرؤية والبصر.
أما الحركة الثانية، فانتقال خاطف من القول الى الفعل وبناء متكامل لفضاء إثبات الذات، وتأكيد حضورها المتشظي، حيث يوضع ابراهيم في واجهة التصدي للأعداء ويبلي بلاء حسنا، في الوقت الذي تتراجع فيه الجموع، ويكون استشهاده عربونا لسمو نفسه وغنى دواخله. يا لها من مفارقة مدهشة !! هذا الذي ما عرف تقديرا من قومه يهب نفسه للذوذ عنهم، وتلك مفارقة، لا ريب شائعة في الثقافة الشعرية العربية: وما تجربة الشنفرى المفرد، وعنترة المستعبد ببعيدة ولا مجهولة.
وفي هذا السياق الاختلافي تلامس قصيدة "الجذور" المسائل الوجودية الشائكة،مخترقة الطبقات الباطنية، لتبلغ الحقيقة لا باعتبارها يقينا، ولكن باعتبارها تساؤلا مستمرا. ومن ثم تطرق ما يحير ويقلق وينقض ويهدم متحسسة ما يؤسس حضور الكائن في الزمان والمكان وخارجهما، ونسق الروابط التي تصله بنفسه ويغيره متعينا كان أو غير متعين. وليست طبيعة الأسئلة المطروقة متشكلة حسب إرادة قبلية إنما هي مسارات حلزونية تمليها سلطة "الكلام المتكلم" كما يؤكد مارتن هايدغر Martin Heidgger إن البؤرة المشعة في هذا البناء تتجسد في "الأرض" مكان الاقامة الحاضر الغائب لأن حركية الظهور والخفاء تشتغل في كل الاتجاهات: أسفل: باطن الأرض أعلى فوق سطح الأرض – سماء عموديا وشاقوليا. ومن الطبيعي، بالنظر الى هذه الكثافة الايمائية التي تتقبل العناصر إعادة تشكيلها في صور مختلفة: الجذور – الشجر – الأوراق – الثمار.
النهر – الماء – الأرض.
– الجسد – الموت – الحياة – القدم.
إن منزلة الانسان لا يمكن إدراك ماهيتها إلا بوضعها في سياقها القبلي والبعدي. وبما أن النظر منصب على الانسان الشرقي فان دواعي التأمل، وحالة السقوط الحاضرة تستدعي التفكير فيما كان وما سيكون. واذا كانت الأرض يبابا فإن البذور والجذور التي تشهد على فترات الخصب والخضرة وارتفاع الأغصان عالية تطاول عنان السماء مازالت باسقة يانعة في الذاكرة والوجدان. وهل يمحو التاريخ والذاكرة ما كان في هذه الأرض المقدسة: مهد الحضارات والأديان من جلائل الأحداث وعظيم الأمور. ألم تتحقق فوق هذه الأرض المعطاء إنسانية الانسان.ولكن ما دهي الآن هذه الأمة فدك حصونها ووارى طلائع رياداتها. والأمر أن هذه السنوات العجان تحولت الى أبد، وكأن دورة الزمن قد توقفت في هذا المتاه:
1- وحيثما التفت صور
حفرها الزمان، لا تزول ص 209
لاشيء ها هنا يزول:
2- عجلة تدور والزمان واحد،
إن الإقامة الجوهرية مطلب وجودي به وفيه تمارس التحولات، ويحقق القرب والبعد، كما تحق بسلطته الإرادة، إننا لا نبجل الحميمية إلا لنتحرر منها، ولهذا نلقي في "المابين"، نظل معلقين مكبلين بالإرادة واللاإرادة.
1- رجلاتي في الفضاء والفضاء هارب، ص 211
وليس لي جناح
2- وقدمي هياكل ومدن ص 211
وبين السماء والأرض مسافة تحفظ التفرد وتقاوم فيها الذات التشابه والتطابق والا فما الفارق بين الجد والجدة والحفيد.
وفي هذا الوضع لا تكتمل صورة الانسان إلا بالعلاقة مع الماوراء والكشف عن أصل الخطيئة وتمظهراتها مكانيا: السماء آدم وحواء – الأرض قابيل وهابيل ؟ وزمانيا: ما كان سابقا وما كان لاحقا وما سيكون محتملا سابقا ولاحقا ولا يغيب عنا، في هذا المقام، أن هذا التشكيل البنائي يخترق فيما يخترق البنيات التخييلية الرومانسية ليبلور من تفاعلاتها نصا جديدا يبتهج بفضاءاتها فيما يؤسس فضاءات جديدة تتنافذ في إطارها رمزية الخصب والرمزية الأنثوية والطبيعية. وهذا التوجه يجعل الرؤيا الشعرية تتسع لتمديد فضاءات اللقاء وجوانبه، وهو ما تفصح عنه قصيدة "السفر" ولا يمكننا أن نتناسى ذلك العشق العارم والهم المكين في عقد اللقاء مع وجوه شعرية مضيئة خبرت مسالك الكتابة، وجربت ضروب التحديث، موقنة بحتمية تأسيس فعل شعري حضاري مختلف هادم بان. ويكفي أن نتأمل هذا المجهود الابداعي والنظري الذي اختلفت مشاربه وتعددت مناحيه: تجريبا وترجمة وبحثا وتأصيلا لتتوقف عند درجة الغزو المحققة مع شاعرنا وأصحابه أعضاء جماعة شعر. ولم تتحدد مسارات التجديد إلا بعد أسفار حقيقية وروحية لهذا تتنامى إغراءات الهجرة التي ترسم حدودها بدقة فائقة. فمن جهة يتقاطع الكون التخييلي مع الأجواء التراثية العربية لرحلات السند باد من خلال استعادة الأسفار البحرية واللمسات السحرية:
1- اذا نصعد المراكت الحاملة
الزجاج والصنوبر الحاملة الحرير
والخمور من بلادنا، الحاملة الثمر ص 233.
ومن جهة أخرى يحصل اللقاء مع الاسطورة البابلية: عشتروت، أدونيس، بعل قصد إعادة إحياء الطقوس الدينية المقرونة بالاحتفالات الاستعدادية التي تسبق السفر. ومن هذه البؤرة ينبثق إشعاع مركزي يلقي بأنواره في عدة اتجاهات بمقدورنا أن نعتبرها مسوغات كي تتقدم باقتراحات تأويلية نذكر منها أن الرحلة تفارق طبيعتها الحيزية لتتخلق بالمسحة الزمنية حيث إن المكون الزمني في النظام النصي، وفي إطار تشكلاته الجديدة وتفاعلاته مع باقي العناصر، يجعل من اللحظة البدئية أسا لبناء رؤيا إبداعية وتنظيرية جديدة، ومن هذا المنظور، فإن استحضار الآلهة البابلية تزكية للارهاصات التنظيرية، وإغناء لابد منه للنص الشعري بالانفتاح على الأكوان التخييلية الجديدة التي تخلقها الأسطورة، وما يترتب عن هذا الصهر الكيميائي من تركيبات بنائية تفجر مكنونات اللغة، وتحقق في الكتابة ذلك الزواج المحتمل بين المحلية والعالمية. ويحسن أن نشير الى أن الذات في الخطاب تراهن على الأخر/القرين الذي يحمل نفس الهموم، ويتوق الى الانعتاق وخوض غمار الرحلة البحرية. وفي نسبة البحر الى الجماعة، دون شك أسمى تعزيز لرغبة التوحد وتجذير الصلات الحميمة:
نهتف يا بحرنا الحبيب يا
القريب كالجفون من عيوننا ص 232
ويناظر لحظة اللقاء النورانية لحظة نقيضة ظلامية هي لحظة الفصل: منها يتم الاختراق والغزو. وفي هذا الأفق نتلمس إرادة إفراد الآخر/الجماعة التي آثرت القعود والنوم والهجير والضجر… وفي هذا المقام، ترسم في عوالم القراءة الشعرية الصور التمثيلية الدينية عن الفئة المهاجرة والفئة الكافرة أو بين الفئة المجاهدة الفاتحة والفئة القاعدة المتخلفة، إلا أن الأمر، في هذا الموطن، لا يتعلق بحقيقة دينية، ولكن برؤيا شعرية تراهن على السفر والمغامرة وغزو أقاليم كتابية وحياتية جديدة::
وتزرع الأضراس في القفار مدنا،
حروف نور تكتب السير
وتملأ العيون بالنظر. ص 232-233.
وفي السفر الواقعي الشعري يعول على الآلهة لمباركة المسعى. وفي إطار التقاط اللحظات العابرة، تنسج خيوط واصلة تعيد إحياء الحضارة القديمة لتأكيد شرعية الانتماء للحضارة الانسانية الحديثة، واكتشاف الأصل /النواة الحضارية التي تمنح الذات والجماعة حق الانتماء الى فلك الحداثة، ولأقاليم الخصب. لهذا تصبح الاحتفالات الشعائرية زادا معرفيا وروحيا لشد ما يقوي عزيمة المسافر، ويزكي في دواخله حوافز المغامرة.
إن عنف الصدام، وامتداد الشروخ بين الذات والمجتمع يضاعف أحاسيس العزلة والغربة خصوصا عندما تتلاحق المشاهد الرهيبة سواء تلك التي تصور الذات جامحة متقدمة ناقمة على كل القيم والسلط، حائرة قلقة لم تتبين معالم الطريق: آلام وجروح غائرة هي علامات الرفض الكاسح، أم تلك المشاهد البشعة التي تستحيل فيها الأطراف والوجوه الى أشكال وصور ممسوخة ملعونة.
قد تحتمي الذات بالذات في الخضم الجارف، فتنفذ الى الأغوار لاستكناه أعماق النفس وخباياها، غير أنها وكيفما كانت درجة الاختراق، فان الرائي لن يصل إلا الى المشارف والتخوم، لأن الاستغراق في التخيل يعني الطلاق الذي لا رجعة فيه مع الآخر والواقع، وبالتالي التخبط في اللاجدوى والعبث بلا الانتهاء والموت المجاني. واذا كانت هذه المحاولة لا مناص منها، فإن تجريب المحاولة الثانية التي قد تكون انقطاعا أو استمرارا لرحلة الاختراق والغزو: ونعني بها تجربة الصوت الدفين في الدواخل الذي يتوق الى الأخر، وفي الرحلتين احتفاء وابتهاج بالمغامرة مشفوع بالخوف والحيطة والتوجس.
البنية الايقاعية في ديوان البئر المهجورة
لابد من الاشارة في البداية الى أننا حصرنا الدوال الايقاعية في علامات الترقيم، والوقفة والقافية والانساق الوزنية.. علما بأن الايقاع يتجاوزها الى غيرها من الدوال، لأن المقام لا يسمح بذلك من جهة، ولأن عملية وصف هذه الدوال مدخل لابد منه للتعرف على مكونات الايقاع الأخرى من جهة ثانية.
1- علامات الترقيم
نقدم فيما يلي الجدول التوضيحي التالي الذي نبسط فيه نتائج العملية الاحصائية لهذه العلامات:
عنوان القصيدة
مجموع الابيات
النقطة
الفاصلة
الاستفهام
التعجب
نقط الحذف
الى إزرا باوند
12
41.66%
8.33%
الدارة السوداء
44
13.63%
36.36%
13.63%
06.81%
البئر المهجورة
51
19.60%
23.52%
13.72%
3.92%
الجذور
99
29.29%
31.31%
3.03%
2.02%
Mementomon
73
36.98%
15.06%
12.32%
1.36%
2.73%
الحوار الأزلي
94
15.95%
21.27%
10.63%
الدعاء
69
15.94%
10.14%
2.89%
السفر
50
32%
24%
02%
العودة
51
17.63%
27.45%
03.92%
07.84%
05.88%
المجموع
543
23.57%
22.83%
06.81%
02.76%
90.22%
إن ما نلاحظه من خلال هذه العملية الاحصائية، هو ارتفاع نسبة الأبيات الشعرية التي تنتهي بالنقطة، ثم تليها "الفاصلة" من حيث نسبة التوارد. لهذا سنحاول التعرف على طبيعة ودلالة توزيع العلامات، مركزين على هاتين العلامتين.
1-1 الفاصلة: إن الفاصلة تؤشر على أن البنية النظمية (التركيب النحوي) لم يكتمل بعد مما يرسخ الانسياب والاسترسال بين الأبيات الشعرية، كما تؤشر على أن التعارض بين مقتضيات العروض ومقتضيات التركيب والدلالة قائمة، وتلك صفه من صفات اللغة الشعرية (13) إذ غالبا ما تتزامن الوقفة الوزنية مع البياض الدلالي أو الوقفة النظمية النسبية التي تؤشر عليها الفاصلة. حيث تتقابل في هذا المقام، وظيفتان متعارضتان: وظيفة الفصل ووظيفة الوصل. وتجدر الاشارة الى أن هذه الظاهرة اللغوية لا تنحصر من الناحية الموقعية على أواخر الأبيات الشعرية بل تحصل في غير ذلك من المواقع: في بداية أو داخل الأبيات الشعرية. وهذا ما يتضح أكثر عند معالجة باقي الدوال البيانية.
2- النقطة:
إن وظائف "النقطة" داخل النص الشعري/موضوع القراءة مختلفة متنوعة، ففضلا عن وظيفتها المعتادة في الملفوظ غير الشعري: أي التأشير على تمام المعنى وافادته، تشير الى نهاية المقاطع الشعرية، سواء تلك التي تتمايز من خلال البياض: إزرا باوند – الدارة السوداء – البئرة المهجورة – الجذور menentomori الدعاء – السفر – العودة ؛ أو التي تتمايز مقاطعها من خلال الأرقام وهي قصيدة واحدة الحوار الأزلي" وان كان المقطع الأول لم يحمل رقما كغيره من المقاطع الشعرية، كما جاء في الطبعة الثانية (1979) لأعمال الشاعر الكاملة.
وتحسن الاشارة الى أن علامتي الاستفهام والتعجب تتضافران مع النقطة لأداء هذه الوظائف المتعددة. ومن المفيد أيضا، أن نشير الى أن النقطة غالبا ما تسم الأبيات الشعرية التي تنتهي بالوقفة الثلاثية أي التقاء الوقفة العروضية التي تعلن انتهاء الوزن واكتماله، والوقفة النظمية أي استيفاء البنية جميع عناصرها النحوية والوقفة الدلالية أي تمام المعنى وافادة البيت الشعري.
إن ديوان "البئر المهجورة" يتكون من تسع قصائد شعرية هي على التوالي: الى إزرا باوند – الدارة السوداء – البئر المهجورة – الجذور menentomori الحوار الأزلي – الدعاء السفر – العودة.ويتراوح عدد الأبيات الشعرية التي تتكون منها هذه القصائد ما بين ستة أبيات شعرية الى إزرا باوند، وتسعة وتسعين بيتا شعريا: الجذور. تنتهي جميع أبيات القصيدة الأولى بعلامة من علامات الترقيم، أما القصيدة الثانية فتنتهي 67 بيتا شعريا منها بعلامة من علامات الترقيم. وتمثل "النقطة" بالنظر الى مجموع قصائد الديوان 57ر23% وهي أعلى نسبة إذا ما قارناها بغيرها من علامات الترقيم، تليها الفاصلة بنسبة 83ر22% ثم تعقبها علامة الاستفهام بنسبة 81ر06%، وعلامتا التفسير، والتعجب ونقط الحذف.
ويمكننا من خلال هذا الوصف أن نتبين حرص الشاعر على تمييز أجزاء ومقاطع الكلام، كما هو الشأن بالنسبة لوظائف علامات الترقيم في النثر، كما أن هذه الوظائف، ومن خلال تفاعلها مع باقي العناصر المكونة للنص الشعري، تفارق طبيعتها لتكتسب مسحة جديدة تنطبع بخصائص الجنس الذي تقوم ببنائه مع المحافظة على رهان تقريب لغة الشعر من لغة الحديث اليومي، احتذاء بالدعوات التي ما فتيء رواد الحداثة الشعرية الانجليز، وفي مقدمتهم شاعر الأرض الخراب: ت. س. إليوت، وازرا باوند، ينادون بإنجازها..
قوانين الوقفة
نقدم فيما يل جدولا إحصائيا للوقفات الشعرية، منظمة حسب القصائد الشعرية التي يتكون منها هذا الديوان الشعري:
عنوان القصيدة
عدد الأبيات
الوقفة الثلاثية
الوقفة العروضية
البياض
الى إزرا باوند
12
100%
الدارة السوداء
44
27.27%
90.90%
09.90%
البئر المهجورة
51
23.52%
90.19%
09.80%
الجذور
99
29.29%
90.90%
09.90%
Mementomori
73
35.61%
58.90%
41.09%
الحوار الأزلي
94
24.46%
82.97%
18.08%
الدعاء
69
11.59%
62.31%
37.68%
السفر
50
32%
76%
12%
العودة
51
17.64%
88.23%
11.76%
1- الوقفة الثلاثية:
تتراوح النسبة المئوية لهذا النوع من الوقفات في ديوان "البئر المهجورة" ما بين 59ر11% في قصيدة الدعاء، و61ر35% في قصيدة mementomiori.. وهذه النسبة أضعف إذا ما قارناها بالوقفة العروضية ويبدو لي من خلال النظر في القصائد أن الوظيفة المركزية للوقفة الثلاثية: أي إعلان اكتمال البيت – الشعري من الناحية العروضية والنظمية والدلالية قد توارت بفعل السياقات النصية الجديدة حيث لا نجد هذا النوع من الوقفات الا في نهاية المقاطع، ومن هنا فإنها لم تعد تدل على استقلالية البيت – الشعري، بل أصبحت تدل على استقلالية المقطع الشعري، وقد يكون ذلك هو السبب الذي دفع بعض النقاد العرب الى تسمية المقطع – الشعري بالجملة الشعرية. واذا حصل أن وجدنا الوقفة الثلاثية داخل المقطع فإن نسبتها ضئيلة كما أن ارتكازها أضعف.
2- الوقفة العروضية:
إن نسبة الوقفة العروضية في قصائد هذا الديوان – الشعري جد مرتفعة تتراوح ما بين: 90ر58% في قصيدة menentomori و100% في قصيدة "إزرا باوند" ولاشك أن هذه النسبة المرتفعة، توضح هيمنة هذه الوقفة على باقي الوقفات، وهي مؤشر دال على المراحل الأولى من التجديد الشعري. حيث إن موسيقية البيت -الشعري ما تزال تحافظ على جرسها الخارجي من خلال الاستقلال الوزني، وكأني بالشاعر الحاذق يداعب الأذن حتى إذا هي ارتاحت للجرس الخارجي استساغت الالتحام النظمي والدلالي الذي يوحد الأبيات الشعرية المكونة للمقطع.
3- وقفة البياض
إذا جمعنا نسبة الوقفة الثلاثية والوقفة العروضية، لا يصعب أن نسجل النسبة جد الضعيفة التي تمثلها وقفة البياض حيث لا تتجاوز 10% في القصائد التالية: الدارة السوداء – البئر المهجورة – الجذور – أما قصيدة mementorneri فيتجاوز التواتر فيها 09ر41%. وهذا إمعان في تكسير الوقفات، وتكييف النص مع الشحنات الشعورية والوجدانية. ولابد من التأكيد على أن النص الشعري لا يكتسب خصوصيته وأمالته إلا من خلال التحام هذه الوقفات. أما ما نستنتجه من العمل الوصفي فذا أهمية بالغة تتمثل في أن الوقفة العروضية هي العنصر البنائي المبرز على حساب باقي العناصر.
القافية:
إن الملاحظة الأولية التي يمكن أن نسجلها هي المتمثلة في غياب نظام القافية، المعتادة أي الموحدة. ونقدم فيما يلي خطاطات تمثيلية، نكتفي فيها بالأبيات الاستهلالية تجنبا للاطالة.
إن توزيع القوافي، كما يبدو من خلال هذه الترسيمات، مختلف عما درج عليه في البناء التناظري، واذا لم يكن التخلص من القافية نهائيا، فان ما نلاحظه من تشكيل جديد يفرغ هذا العنصر البنائي من حمولته الموسيقية الرتيبة التي تعودت "الأذن التقليدية" على الالتذاذ بضجيجها وجعجعتها محققة تحررا من الصفة الإلزامية التكرارية كما يبين لنا، هذا الحضور المتقطع للقافية بين أبيات متباعدة الحاجة الارتكازية الى هذا المكون البنائي. ومن هنا فإن النظام القافوي المهيمن هو نظام القوافي المختلطة، وهذا مسلك يكسر التكرار والرتابة. وعلى الرغم من كون هذا التوزيع حرا، لا يخضع إلا لنفوذ الشعور والشحنة النفسية، فإن تناوب بعض القوافي بين بعض الأبيات الشعرية، يجعلنا ندرك الخيوط الرفيعة التي تشد هذا النوع من التجريب بالذاكرة القديمة والحديثة على حد سواء: نمثل لذلك على سبيل المثال بقصيدة "الدارة السوداء" الأبيات الشعرية (13-14-15) و (29-30)، و (31-32-33).
وتجدر الاشارة الى أن هذا الحضور النسبي للقافية لا يخفى الحرص على الاستغناء على القافية في صورتها الموحدة وهذا الاجراء الاستبدالي يدفعنا الى التساؤل عن المكونات الجديدة الموظفة. ولعل ما نسجله في البداية هو تنويع العناصر بغية ضمان الثراء والفنى الايقاعي حتى لا يستشعر السامع القاريء الفراغ الناجم عن الاستغناء الحاصل، نذكر من بينها:
1- تكرير المركب الفعلي في بداية ونهاية البيت الشعري:
1-1 مضي يحمل قلبا ضاحكا للنور، للدفء، مضى ص 214
1-2 قيل نهر دافق (7) قيل سكون….
2- تكرير المركب الفعلي داخل البيت الشعري أو من بيت لآخر:
2-1 يا إلهي حينما مات ألم
يشفع به حسن ؟ ألم يشفع
به سعى الى الأسمى؟ ص: 214.
2-2 مضى يحمل قلبا ضاحكا للنور للدفء، مضى
يرفع زندا، يضرب الأرض بكلتا قدميه
يصفع الريح على خديه يجري. ص: 214
3- تكرير الترابط التام:
3-1 ولكم شيد، كم هدم، كم
ثار على الشيء اذا ضن إذا
جف، إذا هيض جناحاه.
وكم تاق الى الفعل، فأعلى
هرما. أو انزل الله على الارض. ص:214
3-2 كانت الارض شتاء.
كان موج البحر يرتد
عن الشط عياء
كان جوع وصقيع.
كان في المرعى ذئاب. ص: 218
4- تكرير البيت-الشعري رمته:
4-1 به سعى الى الاسمى ص: 214
بلى، سعي الى الاسمى ص: 215
4-2 ولكم كان يصلي ص: 217/218
وتسمح لنا هذه العينة النصية أن نتعرف عن كثب على الجهد الذي يتطلبه التجريب، لأن ما يستلزمه التنوع والاختلاف يفوق بلا ريب ما تقتضيه الوحدة والائتلاف، بل يجعلها أكثر فعالية مما كانت عليه سابقا، وهذا ما يتضح من خلال البنيات النصية المتمثلة في: التوازي والتكرير والبنية – الصائتية الصامتية كما هو الشأن فيما يلي:
1- وأقدامي حديد، وعلى دربي حديد، ص: 217
2- خلني أمشي على الماء قليلا. " "
3- بعد حين يقفز الحي
وظلي يستطيل. ص: 217
هوذا الريح تعريني تعري
جسدي، تلهب روحي
صراخي في الغربة، آه. ص: 217
وفي قصيدة "الحوار الأزلي" تتم الاستعانة بالقافية في نهاية المقاطع الشعرية (الشمس – الناس) كما تعوض عند غيابها بتكرير الترابط التام ممثلا في الغالب بأسلوب الاستفهام الذي يقتضيه نسج القصيدة التي أراد لها الشاعر أن تكون على شكل حوار لا كساني الحوارات وفيها تشغل الدوال التالية:
1- الترجيع: ملأن جسمي الفض ومازلن ص 221
2- تكرير البنية النظمية: واما عضوا الجوع فهاك المن والسلوى،
وإما صرت عريانا
فخذ من ورق التين رداء ص: 221
الى البحر. وفي الأفق جناحا طائر
حطا على جمجمة الليل.
وفيه نجمة سمراء تروي قصة
المزود للرائح والغادي، وفي السير، ص: 222
الوحدات والاشكال الوزنية
نستفيد في مقاربتنا للبنيات الوزنية في ديوان "البئر المهجورة" من المفاهيم والمصطلحات التي ابتدعها الناقد كمال أبو ديب في عمله التأسيسي في البنية الايقاعية (14).
ونجمل في الجدول الموالي نتائج العملية الوصفية، مبينين عنوان القصيدة وطبيعة الوحدات أو التشكيلات الوزنية التي تنبني عليها:
التشكيلات / الوحدات الوزنية
عنوان القصيدة
فا – علن – علن / فا – فا – علن
علن – فا – فا
فا – فا – علن
فا – علن – فا
علن – فا
الى إزرا باوند
×
الدارة السوداء
×
البئر المهجورة
×
الجذور
×
Mementomori
×
الحوار الأزلي
×
الدعاء
×
السفر
×
العودة
×
نخلص، بعد تأمل هذا الجدول، الى الملاحظات التالية:
– انبناء جميع القصائد الشعرية المكونة لهذا الديوان الشعري على أساس الأنساق الوزنية، حيث يمكننا القول بأن "معطى الوزن" اعتمد كخلفية ايقاعية، إلا أن ما يمثل فارقا مع لممارسات السابقة هو الاشتغال الجديد لهذا المعطى. وهذا لانحراف قد يصل أحيانا الى درجة إفراغه من صفته الجاهزة القبلية، لأن حرية التشكيل الجديدة تقوم مقام التكرار العددي لالزامي. وتتيح لنا هذه الفرضية تلمس الابدالات الوزنية في هذه الأبنية المقترحة. إن ما يلفت انتباهنا، هو اعتماد الوحدات أو التشكيلات الوزنية، حيث تنبني قصيدة "الى إزرا باوند" على أساس الوحدة الوزنية "علن – فا" المكونة لبحر المتقارب، وتنويعاتها "علان" "علن – فا" وغالبا ما تتموضع الوحدات الوزنية التنويعية في أواخر الأبيات الشعرية.
أما قصيدة "الدارة السوداء" فتؤسس الوحدة الوزنية "فا – علن – فا " المكونة لبحر الرمل، وتنويعاتها: "ف – علن – فا" "فا – علن" نسقها الوزني.
وتتأسس قصيدة "البئر المهجورة" وزنيا، حسب المتتاليات الوزنية المتفاوتة للوحدة الوزنية "فا – فا – علن " المكونة لبحر الوجز، وتنويعاتها: "علن – علن" "علن – علن – فا"، "فا – ف – علن"، "علن – فا"، "علتن".
وعلى نفس المنوال يتشكل النسق الوزني في قصيدة "الجذور" بينما تستعيد قصيدة mementorneri بعنوانها الانزياحي، الوحدة الوزنية "فا – علن – فا" وتنويعاتها التي سبق بناء قصيدة "الدارة السوداء" وفقها، وفي قصيدة "الحوار الأزلي" تطالعنا وحدة وزنية مغايرة بانية للنسق الوزني هي: "علن – فا – فا" المكونة لبحر الهزج، وتنويعاتها "علن – علن "، "علن – فا – ف". ويتعمق التجريب الوزني في قصيدة "الدعاء" باعتماد "التشكيلة الوزنية" التي تتكون من وحدتين هما: "فا – علن – فا" و "فا – فا – علن " المكونين للبحر الخفيف، وتنويعاتهما: "ف -علن – فا" و"علن – علن" وما يترتب عن تواليهما المختلف: أحاد ومثنى وثلاث، من تشكيلات جديدة، تهدم الانتظام عندما تتزامن السلسلة الوزنية مع وقفة البياض. وتتكرر الوحدة الوزنية "فا – فا – علن" المكونة لبحر الوجز لتبني نسق قصيدتي "السفر" و" العودة " الوزنين.
وعلى هذا الأساس بمقدورنا القول بأن هذه الوحدة الوزنية تحتل مقام الصدارة في بناء الأنساق الوزنية لقصائد هذا الديوان الشعري بما أنها جامعة لأربع قصائد شعرية: "البئر المهجورة"، "الجذور"، "السفر"، "العودة "، تليها الوحدة الوزنية "فا – علن – فا " الجامعة بين قصيدتين هما: "الدارة السوداء" و " mementorneri ".
خلاصة واقتراح
لقد اغتنى النص الشعري كما يتجل من خلال الانصات للقصائد في ديوان "البئر المهجورة" بأكوان تخييلية ما كان لينهل من ينابيعها لو ظل أسير التقليد والسائد. ومن ثم أصبح جديرا بمحاورة النص المقدس والأسطورة والتراث في اللغة والأدب وهو ما مكنه من تفجير الأسئلة الوجودية والتفكيكية، من خلالها يكتسب المنسي واللامفكر فيه حضوره، وثقله الذي ناءت بككله أمم وأجيال مازالت طوائف منها تسخط عن مآلها، وطوائف تتلذذ بأوهام نهضتها وتقدمها.
وفي هذا الأفق حاولنا تنزيل مشروع الحداثة الشعري، الذي أوقف الشاعر يوسف الخال حياته لرص لبناته، ورتق فتوقه، وما الجهد التخييلي والايقاعي الذي كشف الوصف عن بعض معالمه سوى مؤشر دال على حفر رصين في ذاكرة فردية وجماعية ستظل دائما في حاجة الى من يقلبها رأسا على عقب. ولن يتأتى ذلك إلا بإجادة الانصات الى القصائد الشعرية، فالمسلك الوحيد، لا محالة لتحديد المتشابه والمختلف والسطحي والعميق هو مباشرة النصوص ذاتها ولاشك أن هذا الجهد التركيبي بالقدر الذي يخدم الاقتراحات النظرية والنقدية بتعميق أدوات وسائل النظر، بالقدر الذي يخدم النصوص وذلك بتجاوز المكرور منها وفتح آفاق جديدة لكتابة التجاوز والتخطي.
1-انظر غاسطون باشلار، فلسفة الاسم، الصحافة الجامعية الفرنسية، 1940 ص 1- ط 3 (كوادرج – 1988).
2- هنري ميشونيك، القافية والحياة، مطابع فردييه 1989. ص 13.
3- ورد هذا النعت في سياق أجوبة يوسف الخال عن أسئلة جورج طراد "في حديث لم ينشر بعد" مجلة الناقد، العدد الخامس والثلاثون، مايو 1991، ص 46.
4- كمال خير بك، حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، دار الفكر للطباعة والنشر، قام بالترجمة لجنة من أصدقاء المؤلف، ط 2- 1986، ص: 65.
5- أدونيس، النظام والكلام، دار الآداب بيروت، ط 1، 1993، ص: 20.
6- نفس المرجع، ص 22.
7- يوري تينيانوف، البيت الشعري نفسه قضايا البيت الشعري، قام بالترجمة من اللغة الروسية الى الفرنسية مجموعة من الدارسين 1977، ص 44.
8- نذكر من ذلك على سبيل التمثيل تجارب كل من أنسي الحاج، ومحمد الماغوط، وسركون بولص وتوفيق صايغ، وسيف الرحبي ومحمد علي شمس الدين.
9- هنري ميشونيك، القافية والحياة، مرجع سبق ذكره، ص 17.
10- يوسف الخال، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة ط 2- 1979 – ص 197. سنكتفي في الاحالات الشعرية اللاحقة بتعيين رقم الصفحة.
11- هنري ميشونيك، نقد الايقاع، انطروبولوجية تاريخية للغة مطابع فردييه، 1982- ص 81.
12- هنري ميشونيك القافية والحياة، مرجع سبق ذكره. ص 17.
13- انظر تفصيل هذه المسألة في كتاب: جان كوهين، بنية اللغة الشعرية، ترجمة محمد الوالي ومحمد القمري، دار توبقال للنشر – الدار البيضاء – ط 1-1986م
14- كمال أبو ديب، في البنية الايقاعية للشعر العربي… دار العلم للملايين، بيروت ط 2- 1974.
عبدالقادر الغزالي (ناقد وأستاذ جامعي من المغرب)