صلاح ستيتيّة
– 1 –
لبنان، بالنسبة إليّ، هو البلد المرتعش الجريح، وهو المكان الذي كان، في أحد الأيام، والذي لا يزال حتّى اليوم، مكاناً مثالياً للضيافة والنزعة الإنسانيّة.
كتب فرنسوا مورياك في مقدّمته لكتاب “تاريخ لبنان” الذي نشره جاك نانتيه، صهر بول كلوديل، والذي كان صديقاً له، في دار مينوي، العام 1968: “أرز لبنان يبسط ظلاله المكتنفة بالأسرار أبعد من حدوده الضيّقة. وهذا ما عرفناه دائماً: إنّ أهمّيّة بلد ما لا تقاس بمساحته ولا بعدد سكّانه”. وفي مكان آخر، يقول: “وُلد هذا الشعب الصغير من لدُن الله. ومنذ ذلك الحين، تدفّقت كلّ الشعوب والأعراق والديانات على هذه الأرض المقدّسة: من المصريين والأشوريين والفرس واليونان والرومان والبيزنطيين والعرب والصليبيين والمماليك والعثمانيين، إلى الفرنسيين أخيراً”.
مورياك يكتب بأسلوب مورياك، وهذا أمر طبيعي. لكن هناك الكثير من الصحّة فيما ورد على لسانه. عندما حاول بعض جيراننا، طوال خمس عشرة سنة من العنف الأعمى، أن يدمّروا بلدي من خلال دفعه نحو الجنون، وإجباره على التخلّي عن حكمته القديمة، عملتُ، بصفتي سفيراً في الخارج، ثمّ أميناً عاماً لوزارة الشؤون الخارجية في الثلاث سنوات الأخيرة من الحرب الأهليّة البشعة، الأكثر لا أهليّة بين الحروب، عملتُ على الإفادة من تجربتي المتراكمة لأُنقذ، وبقدر ما أستطيع، بلدي من الغرق المبرمج. ولم تكن تفارق ذهني السنوات التي سبقت نشوب الحرب والتي جعلت من لبنان نموذجاً يحتذى للكثير من الدول المنقسمة على ذاتها والممزّقة. وبالطبع، لم أكن وحدي على متن تلك السفينة التي كانت تترنّح وتغرق. ولقد تمكّنّا، نحن هذا البعض، أن نجنّب لبنان التفكّك الكامل. وحاربتُ أنا نفسي من أجل هذا البلد الذي أحبّ من خلال عملي اليومي الدؤوب، مهما كان متواضعاً. حاربتُ بقلمي ونتاجي من أجل لبنان، وكدتُ، مرّات عدّة، أدفع الثمن من حياتي. على أيّ حال، لبنان لا يزال في مكانه بينما هناك دول أخرى انفجرت: يوغوسلافيا، أوكرانيا، وفي العالم العربي، للأسف اليمن، ودائماً، دائماً، فلسطين، المأساة التي لا تنتهي.
(باريس، 2016).
– 2 –
وهذا ما قاله إثر الاعتداءات الإرهابيّة التي تعرّضت لها باريس: “أنا مقيم في فرنسا منذ أكثر من ستّين عاماً، أي منذ سنواتي الدراسيّة. نتاجي الأدبي الذي بدأته في بيروت، في الخمسينيات من القرن الماضي، كتبته باللغة الفرنسية. ويتألَّف من أكثر من ستّين كتاباً، يتطرّق بعضها مباشرةً إلى القضايا السياسية والاجتماعية وإلى المسائل الثقافية والروحية للعالم الذي نشأت فيه وأقصد به العالم العربي. وقد عملت، أنا والكتّاب العرب الذين ينتمون إلى الجيل نفسه، على تحليل واقع ذلك العالم من أجل مساعدته على الخروج من حال الانغلاق، والدخول في الحداثة العالمية القائمة على الحوار بين الثقافات. لقد حكَم العالم العربي حكّام يفتقدون، في القسم الأكبر منهم، الكفاءة السياسيّة والاقتصاديّة. وعلى الرغم من ذلك، كانت تلك المنطقة من العالم تحفل بشبيبة مثقّفة، طموحة، مصمّمة على الخروج من ماض متخلِّف غير قابل للعيش، ولا يُحتمل. هذه الشبيبة كانت ترغب في أن يكون لها موقع في الزمن الراهن، هي التي ورثت ماضياً عريقاً، له أثر ثقافي واسع، سواء في حركة التقدُّم التقني أو في معنى التاريخ نفسه. من هنا، كان الدافع إلى التغيير وبلوغ منحى ديموقراطي ومشاركة فعليّة في القرارات المهمّة التي تعني كلّ شعب من الشعوب العربية على حدة، ووضع هذه الشعوب على طريق المستقبل. وهذا ما شهدت عليه، بطريقة بيّنة، الثورات التي عُرِفت بـ «الربيع العربي». لكنها ثورات تعرَّضت هنا وهناك، وبسرعة، إلى الهتك والذبول، أو كما حدث في سورية، حيث قُمِعت بالنار والدم، وهدّد قواها الحيّة عدوّ خارجي يدّعي الدفاع عن إيمانها، بينما هو، في رأي العالم أجمع، عدوّ الإنسانية، وأقصد بهذا العدوّ تنظيم داعش.
أمّا كيف سينعكس هذا الواقع على الجاليات العربية والمسلمة في فرنسا، على المدَيَيْن القريب والبعيد، فيمكنني القول إنّ عرب فرنسا ومسلميها بائسون، ولست أدري كيف سيخرجون من الفخاخ التي نُصبت لهم أو التي نصبوها لأنفسهم! فرنسا، البلد العريق، استقبلتهم ومنحتهم هويّة وسقفا وضمانات وتعليما مجّانيا، وما كان ذلك ليحدث لولا مسار طويل ومعقَّد. غير أنّ هؤلاء المواطنين الجدد، وعلى الرغم من الخطابات الرسمية المسكّنة على العموم، والتي تتمظهر بمظهر إنساني، هي، الآن، بصدد خسارة شرعيتها في نظر نسبة كبيرة من الرأي العامّ الفرنسي. هذا بالإضافة إلى أنها تضع وجودهم في فرنسا على المحكّ بسبب الأفعال الوحشية والمجنونة للبعض منهم، وهي أفعال تغذّي أعداءهم الذين يقفون ضدّهم منذ البداية، وأعني بذلك اليمين المتطرِّف وقسماً من الرأي العامّ الفرنسي.
أشعر بالخجل حيال غباء هؤلاء الأفراد الغريبي الأطوار والمنفصلين عن الواقع. هؤلاء الأفراد المختلّين عقليّاً، والفاقدي التوازن. العار عليهم وعليَّ في آن واحد. إنّ مستقبل الإسلام، هذا الإسلام على أيّ حال، والذي يلوّث الإسلام الآخر المسالم، مستقبل الإسلام هذا، يبدو لي، من الآن فصاعداً، معتماً ومظلماً في فرنسا، بل في أوروبا والعالم أجمع.
أنا من عاش في فرنسا منذ سنين طويلة، وعرف معظم المسؤولين الفرنسيين والأوروبيين، من شارل دوغول وفرنسوا ميتران وجورج بومبيدو إلى جاك شيراك وفرنسوا هولاند، أنا من كتب ودافع وحذَّر، أعترف اليوم بأنني أشعر بالعجز حيال ما جرى وما يجري. كيف بالإمكان أن ندافع وأن نفسِّر اعتداءات وتصرُّفات، هي على هذا المستوى من اللاعقلانية والإجرام، كتلك التي شاهدناها ضدّ مجلّة «شارلي إبدو»، وما شاهدناه أيضاً مع مقتل نساء وشباب وأطفال ما كانوا يطلبون شيئاً إلا التمتُّع بأبسط حقوقهم في العيش؟ نعم، كيف يمكن تبرير ذلك وإيجاد الأعذار، وباسم من وماذا؟ هل باسم مصالح بعيدة وغامضة غذّاها الحقد وحرّكتها غريزة الموت، أم باسم قضية لا تُسفر إلاّ عن تدمير الكائنات والأملاك؟ أرفض الدفاع عمّا لا يدافَع عنه. أكسر قلمي”.
(باريس، 2017).