فاتن حمودي*
شاعرة وكاتبة من سورية
ما معنى أن تقف بعد أن نشاهد فيلم «إلى سما»، وتبكي على أول جدار؟
ما معنى أن ترى الجمهور يجرون أقدامهم، وقد تجمرت قلوبهم؟
ما معنى أن نخرج من الصالة ونحن نجر وراءنا خيبة كبيرة، ونصرخ، لماذا يا الله لماذا؟
هل اختبرت معنى أن تتابع فيلما واقعيا جدا، أن ترى في مشفى ميداني وبيت صغير، صبية تسجل روايتها أمام الكاميرا، امرأة اختبرت الحرب، والحب، والحصار وعرفت معنى الاقتلاع، وبقيت تكتب رسالتها؟
«سما ..يا سما..عملت هذا الفيلم مشانك.. بدي ياك تفهمي شو يلي كنا عم نقاتل مشانو..سما أنا بعرف أنك عم تفهمي شو عم يصير سما رح تسامحيني»، بهذه الكلمات، و بصوت وعد الخطيب يبدأ فيلم «إلى سما»، for Sama» ، وهو من إخراج وعد الخطيب، والبريطاني إدوارد واتس
«أنا أصنع ثورة، إذاً أنا موجود» لا أدري لمن هذه المقولة، لكنها لسان حالنا، وكما قال فرانز فانون «يجب أن نناقش، يجب أن نخترع…»،وهو ما قام ويقوم به بعض الناشطين السوريين، من خلال فنون مختلفة، لاسيما السينما، يسجلون يومياتهم بالكاميرا، يضحكون يصرخون يبكون، يدعمون بعضهم بالحب والصبر، وحلم الحرية، وهو ما حدث في الكثير من الأفلام «إلى سما»،»الكهف»، وأفلام أخرى، أفلام استطاعت أن تصل إلى منصات عالمية وتحصد الكثير من الجوائز
فرضت الثورة السورية، وفرض المشهد اللإنساني على بعض الناشطين الذين أدركوا أن العالم لم ولن يلتفت إلى دمنا، ولا إلى صوتنا، ولا إلى مشهد مدن تتساقط بكل جمالها الواحدة تلو الأخرى، عالم لم يكترث لمدن تحوّلت إلى ركام بفعل أنظمة استبدادية، وكي لا يمضي كل شيء إلى اليأس، استعانوا بالأمل، بالحلم، بالفن، لينتصروا على مشهد الموت، ولم يكن أمام بعض الناشطين سوى المضي نحو الكاميرا، وإنتاج سينما تسجل يوميات الوجع، سينما وثائقية، ورغم الإمكانات البسيطة، استطاعوا رصد المشهد الدموي الذي دفعهم للتسجيل، وتثبيت الكاميرات، أمام أحداث تفوق في دمويتها أي مخيلة إبداعية.
تحت سماء القصف:
أفلام صورت تحت سماء الموت، والحصار، أفلام صوّرت أمام مشهد يخطف الأنفاس، يلاحق المدنيين والمشافي الميدانية، واستطاعت الكاميرا بشكل ما أن تنتصر، ليرى العالم روايتنا وتوقنا للحرية، فالسينما بالدرجة الأولى هي سينما الإنسان، فكيف إذا كان العاملون بها يشتغلون تحت سماء الموت.
إلى سما:
يحكي فيلم «إلى سما»، عن امرأة انتمت للثورة، هي أم و زوجة وناشطة إعلامية، اختبرت تجربة الحرب أكثر من خمس سنوات، إنها وعد الخطيب بطلة الفيلم ومخرجته، والتي أرادت أن تدخل السينما لتسجل صور الواقع، من خلال أول فيلم وثائقي طويل لها، يكثف سيرة خمس سنوات، من حياة صبية حلبية، سيرة مرتجلة، ترصد من خلالها تعرفها على زوجها الدكتور حمزة الخطيب، الذي اسس مشفى ميداني مع اصدقائه، لينقذ الجرحى والمصابين، تقول وعد :» لسا عم صور هذا الشي اللي عم يخلي معنى لوجودي، وما حدا منا عنده فكرة كيف رح تتغير حياتو للأبد».
الكاميرا في المشفى كانت تسجل كل شيء، إلى جانب الكاميرا التي حملتها وعد، لتجوب بها المحيط القريب، الجيران، الشارع، الحارة، السماء التي يتهاوى منها الجحيم، كل هذا قدم بروح الحياة، بطعم البيت والحلم، ولم يكن رغم تراجيدتيه سوداويا، كان الناس يغنون، ويتزوجون، ويحتفلون بأعياد ميلادهم، ويرتطمون ويبكون، من هنا تأتي أهميته، جنائن الورد، والكباد، فصول الحياة، إلى جانب فصول الرعب، وكان الفيلم اشبه بقصيدة نثر تكتبها وعد بالصورة، والكلمة ايضا، أرادت أن تسجل كل شيء، داخل المستشفى الميداني، هلع الناس، نزيف الأطفال، لوعة الأمهات، وبين هذا وذاك كانت تروي بعفوية قصتها مع الدكتور، خطبتها، زواجها، حملها ولادتها، طقوس الاحتفال تحت سماء الحرب، البيت المطبخ، الجيران، الحمل الولادة، لتضيف إلى العائلة سما ابنتها، والتي أرادت أن تحمِّلها رسالة، في إطار ما عاشته مدينتها حلب منذ عام 2011 وحتى مغادرتها قسرا بعد الحصار.
«إلى سما»، فيلم يأخذنا إلى واقع في أقصى تجليات الحصار والقتل والتهجير والتجويع، وقد أرادت وعد في هذا الفيلم الوثائقي أن تواجه بروباغندا النظام الذي اتهمنا أننا إرهابيون.
95 دقيقة، يطرح خلالها الفيلم يوميات وعد في حلب، تروي فيه قصه بقائها في سوريا خلال المرحلة الأكثر دموية في مدينه حلب، وتحديدا في المشفى الميداني الذي كان يعمل زوجها كطبيب فيها، علينا أن نثبت الصورة، ان نكتب حكايات عشناها لنشير فيها إلى أن الكتابة حياة، والصورة شاهد، على النظام ومن يقف معه من قوى الاستبداد، لنقول نحن بشر ومن حقنا أن نعيش في وطن المحبة والكرامة والسلام.
تقول مخرجة الفيلم: «التوثيق هو الأداة الوحيدة الكبيرة التي نستطيع من خلالها مواجهة بروباغندا النظام، الذي يروّج أننا إرهابيون».
وتؤكد بأن «نفس السيناريو يكرر في إدلب اليوم»،، مشيرة إلى أن العالم تركنا وحيدين في مجزرة حلب، «كنا في منطقة تنعدم فيها كل مقومات الحياة، لكن القوة فينا كانت فظيعة، كل ما هو مصوّر في الفيلم مازال يجري حتى اليوم، الوجع مستمر، المعاناة، الانتظار، انتظار نهاية الحرب، انتظار الحرية التي خرجنا لأجلها»، وتشير أثناء استلامها إحدى الجوائز، بأنها ،صنعت الفيلم، «لأبرر لابنتي سما الخيار القاسي جدًا الذي اضطررنا إلى اتخاذه، لا شيء سيجردنا من حسنا الإنساني».
وثائقي تراجيدي وجوائز:
حصد «إلى سما» جائزة الأكاديمية البريطانية للأفلام «بافتا» لأفضل فيلم وثائقي
وقبلها رشح ضمن القائمة القصيرة لجوائز الأوسكار في فئة الأفلام الوثائقية الطويلة
وحصد نحو 44 جائزة في عام 2019، منها جائزة العين الذهبية في مهرجان كان السينمائي، وعشرات الجوائز الأخرى.
من رأى الفيلم، لابد أن يقول إنها تراجيديا، تراجيديا حقيقية بكل أبعادها وخطورتها في سبر أعماق الجحيم البشري الذي عاشه السوريون، في مدينة حلب التي قال عنها نزار قباني بأن كل دروب الحب توصل إلى حلب.
ربيع مسروق:
في أجواء ربيع عربي مسروق، ازدهرت السينما الوثائقية، التي سعت إلى توثيق الحدث بكاميرات المخرجين والمصورين والإعلاميين الناشطين، بواقعية لا تخلو من بعض الجماليات، والتي نقلت سينما الواقع، وكواليس الثورة وأحداثها،، يصورها ناشطون، قد يدفعون حياتهم ثمنا.
في بداية الثورة السورية، كان الكثير من الناشطين ينقلون الحدث والمعاناة، إلى المواقع والوكالات والقنوات، ولكن مع الزمن تراجع موقع الخبر السوري عن الأقنية، فلم يكن أمامهم سوى اصطياد اللحظة حتى لا تضيع، وتوثيقها بما أنتجوه من افلام.
مجموعة من المخرجين بدأوا، يشتغلون كل حسب الزاوية التي يريدها، هناك من عمل أفلاما عن الساروت، وهناك من استهدف النصرة وداعش، الثورة المضادة، التي أصبح الثوار بين براثنها وبراثن النظام، فعلى أي جانبيك تتكئ وعلى اي جانبيك تميل.
حلب التي تغنى بها الشعراء، أبو فراس الحمداني:
لقد طفت في الآفاق شرقا ومغربا
وقلبت طرفي بينها متقلبا
فلم أر كالشهباء في الأرض منزلا
أما المتنبي فقال عنها:
كلما رحبت بنا الروض قلنا
حلب قصدنا وأنت السبيل
فيلم الكهف:
يوثق فيلم «الكهف»، الذي شاركت في إنتاجه وإعداده «الشركة الدنماركية للإنتاج الوثائقي» ،حكايات الألم السوري، وتدور أحداثه في مشفى تحت الأرض، بغوطة دمشق بين العامين 2016 و2018، ويتناول الحياة اليومية لخمس طبيبات وهن يعملن في اجواء الحصار، والقتل والدمار، ضمن لحظة جمالية شعرية يلتقطها المخرج فراس فياض في روح الناس، في مكان كان يشكل رئة دمشق و متنفسها، وقد جاء بعد فيلمه التسجيلي الأول «آخر الرجال في حلب»، واستطاع الكهف أن يحصد الكثير من الجوائز، وأن يصل إلى الأوسكار إلى جانب فيلم «إلى سما» الوثائقي..
لا أحد يتخيل، أن يبنى مشفى تحت الأرض، بمواصفات عمرانية رائعة، نعم إنه مشفى ميداني بني تحت الأرض، لينجو كل من فيه من براميل النظام، ولكن هل ننجو فعلا، وكل العالم يتواطأ على فكرة الحرية، ويتجاهلها، ليصدر فكرة الإرهاب وكأنها وجه ثورتنا، وهو ما حدث في الفيلم التسجيلي «الكهف»، الذي تدور أحداثه في غوطة دمشق، في هذا المشفى، فكل من على الأرض معرض للموت والقصف، والحصار، وما على الفريق الطبي سوى أن يقف هنا، لينقذ المصابين، أو ليبكي مع دمعة الأمهات والآباء والأبناء، كلنا بحكم الموتى هنا، لكننا نقاوم، هو ما أكدته بطلة الفيلم، الدكتورة أماني بلور.
يدير هذا المستشفى، الطبيبة الشابة أماني، تلك الصبية المحجبة، المنفتحة على الحياة، المؤمنة بالحرية، والتي تخرجت توا، لتعمل متطوعة هنا، وتساعد في إنشاء فريق طبي، متحدية العادات والتقاليد، والمجتمع الذكوري الذي تعيش فيه، في منطقة تعتبر من أخطر مناطق العالم، حرب حصار وإبادة حقيقية لكل من بقي في أرضه، وهو ما يمنح الفيلم التسجيلي صفة الوثيقة، والمصداقية ليرى العالم مقطع من معاناة الشعب السوري.
هكذا يبدأ الفيلم، مشاهد لأبنية في غوطة دمشق، وقد بدت وكأن الرماد يغطيها، وكابوس الخوف، كل هذا يقدم على أصوات القذائف والانفجارات والتي تشير إلى حرب ضد شعب قال لا، لندخل بعدها بأصوات سيارات الإسعاف، صراخ الجرحى، وركض الممرضات والأطباء نحو أسرة الإسعاف.
موسيقى الأمل:
ساعتان من الزمن، البطيء، السريع، المكرر، ساعتان والعيون تنظر نظرة نحو الأمل، ونظرة نحو الموت الذي يتساقط من السماء، في هذا الفيلم لا يمكن أن ينسى صوت الطبيب الجراح سليم أحد أعمدة المشفى الأساسية، والذي أنقذ الكثير من المصابين، هذا الطبيب بصوته الحالم المليء بالأمل، رسائله لبناته عبر الموبايل، لزوجته كي يطمئنهن بأنه بخير، لحظات الصفاء الذهني بعد العمليات، كأن يستمع إلى موسيقى أوبرالية، وسيمفونية، هذا الطبيب الذي كان الصورة الأجمل للكثير من الأطباء الذين عملوا في مشافي ميدانية، وهذه صفة حقيقية من صفات الطبيب. كان يستمع لموسيقى كلاسيكية، وكأنه يريد ان يعيش لحظات حلم داخل مسرح الموت كي يستمد رعشة الحياة، ويخفف عن فريق العمل ثقل اللحظات ودمويتها.
كتب مرة على صفحات «الفيس بوك»، ليشارك الآخرين حول دوره، والموسيقى التي كان يستمع إليها:
«انا د. سليم .. وجدت في الإشعارات اشارة لاسمي في التعليقات فقرأتها وقرأت المنشور .. وشكرا على كل الآراء
انا ليس لدي اي معرفة بعالم صناعة السينما، لذلك لن أتكلم عن هذا الجانب، انما يهمني ان اوضح انني من محبي استماع الكلاسيك.. على المستوى الشخصي كنت أهرب من جحيم الواقع الى عالم الموسيقى الكلاسيكية، أثناء العمل كنت حريصا على ان يسمعها معي كادر العمليات لأبدد الخوف والتوتر، وكي تغطي على صوت الانفجارات، وصراخ الألم والبكاء خارج قسم العمليات، وليتذوقوا هذا الفن الراقي، الموسيقى ساعدت كثيرا المصابين، والذين يعالجون، بأنها تمنحهم الطمأنينة والأمان».
أماني والتحدي:
تقول أماني: «بدأ تصوير الفيلم عام 2016. بعد مرور ثلاث سنوات من معاناة أهل الغوطة، في البداية خفت من المشاركة، ولكن نظرا لأهمية الفكرة فقد وافقت، كنا يومها نشعر أننا سنموت جميعا، ولابد من أن نترك اثرا لنا يري العالم حجم مأساتنا».
المهم في الفيلم، عدم تغييب دور المرأة، المرأة حاضرة في البيت، وفي العمل، وفي أروقة المشافي،
أماني بلور، والطبيبة آلاء، والممرضة منى.، التي كانت تضفي جوا من الفرح على المكان، حين تطهو، حين توزع الابتسامة، هذا الوجه الشعبي الذي يشبهنا، وهنا تكمن حرفية كاميرا المخرج فياض، لهذا شكّل حضور المرأة ثقبا في جدار الثقافة الذكورية.
الترشح للأوسكار:
ترشح فيلم «الكهف»، إلى جانب فيلم «إلى سما» إلى الأوسكار، لم تكن الدكتورة أماني تتوقع هذا الوصول، وعبرت أنها شعرت بالفخر، لأن أهم نجوم العالم سيرون الغوطة ومعاناتها.
ولأنها استطاعت أن تؤدي دورها بشكل صادق، فقد حصلت على جائزة راوول وولنبيرغ تقديراً لـ«شجاعتها وجرأتها وحرصها على إنقاذ حياة مئات الأشخاص أثناء الحرب السورية»، كما جاء في بيان مجلس أوروبا الذي منحها الجائزة عن عام 2020، في 15 كانون الثاني/ يناير، وتؤكد بلور بأن النظام السوري نجح في تشويه الكثير من الحقائق، ولذلك أرى أن فيلم الكهف بمثابة شهادة حية تروي ما حدث دون زيادة أو نقصان.
مذكرات يومية:
فيلم “الكهف” حصيلة المذكرات اليومية التي تدونها الطبيبة أماني بلور، مديرة مستشفى الكهف منذ عام 2013، والتي نستمع إلى مونولوجاتها الداخلية بين فترة وأخرى من الفيلم.
وقد كتب السيناريو : (أليسار فراس فياض)، على طريقة المذكرات واليوميات، وقد تميز بالعفوية والطبيعية، التي يتناوب فيها السرد التسجيلي والسرد الدرامي، فمع المونولوج الداخلي للطبيبة (أماني) التي تعكس خوفها حيرتها قوتها.
وقال فياض في تصريحات صحفية نقلتها مواقع متخصصة في أخبار السينما الوثائقية، أن دافعه للعمل كان ما شهده من قمع وتعذيب للنساء في سجون النظام السوري، مع ما شهده من جرائم حرب ارتكبها النظام في الغوطة، أدركت حينها، أنه يجب عليّ تحدي ذلك التخاذل وشعرت بمسؤولية أخلاقية لكشف آثار جرائم الحرب».
وككل النهايات المكسورة، نعم المكسورة، ولن أقول اليائسة، يجبر النظام الطاقم الطبي والأهالي من الغوطة الشرقية، ونقلهم إلى محافظة إدلب شمال سوريا، لتبدأ بعدها هجرات أخرى نجا منها البعض والبعض الآخر أكلته الحيتان.