ليلى جاسر سلامة*
بينما كنت أجلس في شرفة الشقّة أتصفّحُ الشارع المهجور، إذ يقع بصري على ورقة متطايرة مرّة وساكنة مرّة أخرى، فأمعنتُ النظر بدقّة أكبر من خلال منظاري لأتيقن أنها ورقة من فئة عشرين دينارا هاربة من آلة الصرّاف الآلي. أَلْتَفِتُ إلى زوجتي مقبولة منهمكة في جرّ أنفاس ممتدة من الشيشة فيما تتابعُ الأخبار على التلفاز وتقلّب في هاتفها المشحون بتسجيلات ورسائل كلها طرائف مسليّة تقتل الوقت والنعاس. أسمعُ صياح الخادمة مالا آتٍ من المطبخ: بابا.. كل شيء خراب! تجاهلتها.. تسلّلتُ نحو الأسفل كسحلية، ولكنني توقفتُ فجأة خشية أن يكون الأمر كمين دبرته شرطة حظر التجوال. أصبح مبارك سمحان عالقًا في المنتصف على المزراب، لا يرى شيئًا سوى الغبار، لا شيء إلّا دبيب الغبار. كل الأحياء هنا غارقة في الضيق وما يخيف الجميع هو أن يُهيجّ الصمت رغبة الانفجار في أي لحظة. وبينما هو معلّق في الهواء إذ بأصوات أطفال الحي الصغار تتبعثرُ في الأرجاء بحرّية.. فبحسب الشائعات فإنّ: (حالة العزل الاستثنائية لا تشمل الأطفال؛ لأنهم محصّنين من ارتكاب الخطأ). ولمّا مرّوا بقربي انطلقت ضحكاتهم الهستيرية تدوّي في أذنيّ السماء حتى كادت تقتلعُ عروق الأرض. ما زلتُ معلّقًا على الجدار أشعرُ بمعدتي تمتلأ بالغازات ووجهي يتوارى خلف كمّام العزل. إنهم يتفرّجون عليَّ وبهواتفهم التقطوا لي صورًا حصرية…. ثمّ أخذ الأشقياء منهم يرمونني بالحجارة مرددين سويةً: (الفناء للكبار!) إلى أن سقطتُ منكبَّا على وجهي في حفرة طين لملَمتْ بقايا عظامي. تأملتُ سقوط سمحان وقلتُ في سرّي: احفظْ للحفرة هذا الفضل ..
أفقتُ من إغماءتي السريعة معتقدًا أنَّ ممرضة فاتنة تمنحني قبلة من خلف كمّام العزل، ولكني صعقت عندما رأيتُ الصغار الملاعين يقبضون على ورقة العشرين دينار التي رهنت حياتي لأجلها. سمعتهم يهتفون ساخرين: رجل أخرق ذي أربع قوائم يعلك القطن، سقط في الطين!..تمنيّتُ آنذاك لو أنّني محصّن من السخرية والاستهزاء …لعْلَعَ صياحي متتبعًا أثرهم: أيها اللصوص الصغار أعيدوا لي نقودي!! فارتدَّ صوتهم بسرعة البرق: اثبتْ في عزلتك..إلى أن يصلَ المصل! أعتقْتُ حنجرتي تنبح خلفهم: سأثبت رأسي بمسمار! ……..في مهنة المحاماة يرفق مبارك سمحان حججًا دائمة أنّ على القاصرين تحمّل تبعات جرائمهم مؤكدًا أنّ حادثة سقوطه الشنيع كشفت أنّ الأمر أشدُّ تعقيدًا فهو إما مناعة أو حصانة. في مكتبه مشابك ورق متناثرة في كل مكان شفطتها السكرتيرة مؤخرًا بالمكنسة الكهربائية..إذ لم يعد هنالك أحد يشتكي وكلُّ شيءٍ بيد الله. ….. شعرتُ بجفافٍ في الحلق يتسلّطُ على أوتاري الصوتية، فزحفتُ إلى شقتي وحراشفي تتقشّرُ من خشونة الاحتكاك بالأرض، ولمّا صعدت وجدت زوجتي مقبولة بانتظاري فأرعبتني بزعيقٍ من الإشارات الصامتة: اختبئ يا رجل! قلتُ لها: مما أختبئ يا فلفل هذا البيت؟! …أمسكت ذراعي واقتادتني إلى الشرفة …ومن خلف ستار مظلم عيّتْ ذبذبات من حبالها الصوتية تلوك بكمها: ألقِ نظرة! .. اختلستُ النظر فإذا بها آلة الصرّاف الآلي تُشمشمُ الشارع أمام منزلي. وبينما كنّا نتلصص على الشارع إذ بجرس الباب يجلجل .. انتفضتُ خوفًا فوقف شعرُ زوجتي من ردّة فعلي كأنّ أحدًا علّقها بسلسلة من مشابك الورق، سألتُ بنبرة مرتعشةٍ ومترددةٍ: من بالباب؟ فردّ عامل التوصيل: أنا سهيل من بقالة الضاحية! ….قلت له: قفْ خلف الخط الأصفر! نظرتُ من خلال العين السحرية وكان يقف على الخط تمامًا ولذا قلتُ له: ارجع خطوتين للخلف!، فوقف خلف الخط وهي مسافة متر..في تلك الأثناء جاءني أحد أطفالي يشدّني من الخلف وسألني: بابا..بابا، ما معنى كلمة فاسد؟ شرحت له معناها وهو ما زال يتشبّث بثوبي كمشبك ورق. قال لي: لم أفهم! فقلتُ له: اذهب للمطبخ واسأل مالا! لكنّ سهيل، عامل التوصيل، كان منصتًا للحديث ثابتًا في مكانه وقال من وراء الخط الأصفر: فاسد يعني أن يعطس أنفك لقاح الأزهار في الربيع ثمّ تعلّق عطاسك من رقبته على أعمدة الكهرباء ليلعب مع بقرة بالطائرات الورقية. قلتُ له: ما كل هذا الفساد؟ لم يدركْ سمحان شدّة تعقيد هذه الفلسفة الحمقاء! في تلك الأثناء أسدلت مقبولة الستائر جيدًا وأشارت له من بعيد أنها ستجلس خلف الحاسوب من أجل حضور مراسم جنازة عمّها، الذي توفي في يوم سابق، عن بعدْ وألحّت عليه بالانضمام إليها تأكيدًا على أهمية حضوره مناسبة العزاء عبر برنامج التواصل سكايب..في الواقع أشكُّ بقدرة سمحان على إظهار مشاعر الحزن في جنازة تقام أونلاين. لوّحتُ لها بيدي: يا مقبولة.. المسكين سهيل ما زال ينتظر .. سألتهُ من خلف الباب: هل المشتريات معقّمة؟ فردّ يالإيجاب: نعم، سيدي…! كأني سمعته يقول لي: سيدي الأحمق صاحب الصورة المتداولة، المعلّق على المزراب بمشبك ورق ..قرأتُ شفتيه اللعينتين من خلف العين السحرية، لكن لا بأس فهو مواظبٌ على عمله في فترة الحجر. وقبل أن أفتح الباب لاستلام الحاجيات سمعت مالا تقدّم شرحًا لابني: فاسد تعني..أن تتسلل متخفيًّا برفقة بقرة إلى داخل ماكينة تفريخ بيوض تطفو على الماء. أصابني دوار خفيف وظهرت علي أعراض الغباء مصحوبة بدهشة؛ ما علاقة مالا بعامل التوصيل،سهيل؟!! ..من المؤكد أنّ سمحان رجل مغفل ومقيت؛ لأنَّ مدبرة المنزل مالا لم تخرج من الشقّة منذ أحضرتها مقبولة من مكتب العاملات قبل عشر سنوات إلّا برفقته لشراء حاجيات المنزل. صهْ سمحان ..صهْ!! ارتديتُ قفازين طبيين، وتكمّمت ثم فتحتُ الباب لأعطي سهيل النقود، أطلقتُ رذاذ مُطهر الكحول لتعقيم حدود المسافة الفاصلة بيني وبينه.. ولمّا أراد أن يرجع لي الباقي، سألته: هل هذه النقود مغسولة؟ فبحلق في وجهي المتكسّر من أثر السقوط وقال: لا تخفْ سيدي…لقد وصل المصل! ..ثم رأيتُ آلة الصرّاف الآلي خلفه تتغرغرُ به.