محمد عبد الوهاب الشيباني*
باستثناء المستعمرة الإنجليزية «عدن» وحوافها الجغرافية القريبة بقيت اليمن -منذ خرج العثمانيون منها غداة الحرب الكونية الأولى « 1918» ولأكثر من خمسة عقود- هامشاً قصياً بفعل عملية العزلة التي فرضها نظام الحكم المتوكلي بصيغته الإمامية، والذي تسلَّم حكم المناطق التي كان يديرها العثمانيون عدا مناطق المحميات، التي وقَّعت مع الإنجليز معاهدات حماية، ولاحقاً استشاريات أعاقت مساعي السلطة المتوكلية من فرض السيطرة عليها.
نقَل صور هذه العزلة الصلبة الباكرة كثيرٌ من الرحالة من بينهم أمين الريحاني في كتابه «ملوك العرب» وعبد العزيز الثعالبي في «الرحلة اليمانية» ونزيه العظمة في «رحلة في بلاد العربية السعيدة» وأحمد فخري «اليمن ماضيها وحاضرها» ومحمد حسن المحاويلي -عضو البعثة العسكرية العراقية- «قلب اليمن»، ومصطفى الشكعة في «مغامرات مصري في مجاهل اليمن»، وما تلا ذلك من رحلات وكتابات لعرب ومستشرقين وتقارير لبعثات طبية، وصولاً إلى الطبيبة الفرنسية «كلوديا فايان»، التي وصلت إلى اليمن عن طريق عَدَن مطلع الخمسينات فنقلت وبريشة فنان كل مظاهر الحياة القاسية في البلد المعزول في كتابها الشاهد «كنت طبيبة في اليمن»، والذي نقله إلى العربية أول مرة السياسي اليمني المعتَّق «محسن العيني» أواخر الخمسينات.
السلطة الجديدة بنزوعها الديني المتشدد، والتي كانت تتباهي بإدارة أول دولة عربية مستقلة، عمدت منذ أيامها الأولى إلى تفكيك البنية الحديثة لنظام الإدارة وحداثة الوسائل، على محدوديتها، التي قام بها المحتلون العثمانيون في وجودهم الثاني في اليمن، مثل مدارس الصنائع ومكاتب التعليم والمستشفيات والأسواق الحديثة، فحوِّلت المستشفى التي أُديرت بطاقم فرنساوي منذ ستينات القرن التاسع عشر إلى قصر للإمام يحيى ونقلت المشفى إلى إصطبل للخيول، ومدرسة الصنائع تحولت إلى مخزن للحبوب، والمكاتب المدرسية إلى كتاتيب، أما الشارع الرئيس في المدينة القديمة، الذي كان يربط الميدان بسوق الملح وكان يعرض بحوانيته الجميلة بعض التجار اليونانيون الذين جاءوا إلى صنعاء بعد حفر قناة السويس- سِلعَ أوروبية راقية من الأدخنة والمشروبات والمعلبات والملابس (1)، فسُدَّتْ بعض واجهات حوانيته بالأحجار وأكثرها تحولت إلى مخازن وعرائش للبهائم.
وحينما وجدت هذه السلطة نفسها تسبح عكس مجريات العصر، حاولت التخفيف من العزلة السياسية التي وضعت البلاد تحت ضغطها، بتوقيع معاهدة مع الطليان منتصف العشرينات في ذروة التنازع مع حاكم عسير محمد الإدريسي المدعوم من بريطانيا والسعوديين، وأقامت علاقات دبلوماسية باكرة مع دولة الاتحاد السوفيتي في العام 1928، قبل أن توقع معاهدتين سياستين مع ابن سعود شمالاً ومع الإنجليز جنوباً في العام 1934، بعد خسارة جيشها حرباً قصيرة مع الجارة، واستعصاء تمدّدها جنوباً وسقوط ورقة مطالبتها بضمّ المحميات إلى كيانها، حين غيرت الطائرات الإنجليزية معادلة الحرب لصالح الدولة الاستعمارية التي لم تكن تغرب عنها شمس القوة.
وفي محاولة ثانية لكسر العزلة المعرفية، أرسلت مجموعة من الطلاب لدراسة الطيران في إيطاليا في 1926، وبعد عشرة أعوام أرسلت مجموعة من الطلاب إلى العراق للدراسات العسكرية بعد أن فضحت الحرب مع السعودية قِدَمَ الأساليب والمعدات العسكرية التي ورثتها سلطة الإمامة عن العثمانيين، لكنها لم تتح للبلاد الاستفادة من خبرات الطُلاّب، حين قامت بتوزيعهم ككتبة في الدوائر الرسمية.
في أكتوبر 1926 قامت بإصدار أول أعداد مجلة «الإيمان» (2)، مستفيدةً من المطبعة المتهالكة التي ورثتها عن الأتراك، والتي كانت تُستخَدم لطباعة صحيفة «صنعاء» ذات الطابع الرسمي والبروتوكولي، لكن صحيفة الإيمان التي كانت تصدر على رأس كل شهر هجري، كُرِّست لمتابعة أخبار الإمام وأبنائه من السيوف، وبعد اثنتي عشرة سنة «في ديسمبر 1938» ستخرج من المطبعة ذاتها أول مجلة تبنتها وزارة المعارف في البلد المغلق والمعزول، هذه المجلة حملت اسم «الحكمة يمانية»، والتي عدّها بعض الدارسين من مبذولات التنوير الباكرة، وقلت عنها «إنها كانت وسيلة من وسائل سلطة الإمام يحيى، لاحتواء الصوت الشاب من الأدباء والمثقفين المطالبين بالإصلاح «بإيجاد متنفّس يمكن السيطرة عليه، وكان ظهور هذا الصوت معبِّراً عن حالة السّخط الشديد الذي تملَّك هذه الشريحة جرّاء انتكاسة مشروع الدولة وانغلاقها المميت، فكانت ببساطتها وبدائيتها أول مطبوع يصدر في عاصمة الإمام يحيى، يفتح كوّةً صغيرةً في جدار الانغلاق الصلب والمعتم»(3).
في عقد ونصف من الزمن لم يستطع الحاكم بأدواته تطويع المجتمع، فبدأ صوتٌ يتشكل في عمق المجتمع، يمكن وسْمه بصوت التنوير السياسي الباكر، والذي كان لديه ما يقوله خارج التقوُّل الرسمي، ومنه تيقنه «أن الإمام يحيى قد أحال مشروع الدولة إلى إقطاعية خاصة به وبأبنائه»، وبسبب عقليته التقليدية المحافظة وتشدّده الديني وشحه الشديد، دمَّرَ كل شيء له علاقة ببناء دولة مواطنة وخدمات.
فعملوا كلّ ما يستطيعون ليصل صوتهم الضعيف إلى المجتمع المغلق. وفي سبيل ذلك قدموا التضحيات الكبيرة، التي لم تقف عند حدود التسفيه والمطاردة، أو تصل للاعتقال بل امتدت لتنتهي في حالات كثيرة إلى حبال المشانق. غير أن فعلاً مقاوِماً مثل هذا، كان يفتح النافذة الأهمّ لدخول النور القليل لفعل التغيير(4).
في يوليو 1947، غادرت من عدن صوب لبنان أول بعثة تعليمية يمنية لأربعين طالباً «في سن المراهقة المبكرة تتراوح أعمارهم بين الثانية والخامسة عشرة» من مُدن مملكة الإمام الرئيسة، اُختِيروا بمقاييسَ فرضها الأمير عبدالله بن الإمام وزير المعارف وقتها، لحسابات سياسية في إطار التنافس داخل بيت الحكم.
الأربعون طالباً الذين نُقِلوا إلى بعض مدن مصر بعد عام واحد فقط من دراستهم في لبنان، ومن سيلتحق بهم من طلاب مبعوثين من الشمال والجنوب، وكذا مبعوثو الأندية والأحزاب والأُسَر في عدن؛ سيشكلون اللحظة الفارقة في التاريخ السياسي والثقافي اللاحق لليمن.
ففي القاهرة كان هؤلاء المبعوثون «منجذبين سلفا إلى النشاط السياسي، وفي هذه العملية، صاغوا علاقات سياسية قيمة مع حركات يمنية وعربية متعددة. وكانت رؤاهم عن التطور الاقتصادي والعلاقات الأجنبية والتركيبة السياسية متكيفة مع نموذج الثورة المصرية «(5)، التي دخلت بكل ثقلها في معترك التحول في اليمن مع بزوغ ثورة سبتمبر، والتي كان فيها لطلاب البعثات في القاهرة (عسكريين ومدنيين)، الإسهام الممَيَّز فيها من خلال وجودهم ككادر متعلم في دوائرها ومؤسساتها، أو تحولهم إلى قادة سياسيين في الأحزاب «الدينية والقومية واليسارية» التي حضرت في مشهد التحول الجديد، بوصفها حواضنَ للوعي السياسي وروافعه المنظمة. ومن هذه البعثات، خرجتْ أول مرة الحركةُ الطلابية اليمنية الموحدة التي ضمت أبناء كافة مناطق اليمن ودعت في مؤتمرها الدائم المنعقد في يوليو 1956 في القاهرة إلى الوحدة اليمنية، وناهضت كل دعوة تتناقض مع هذا التوجه، وهي بذلك أول من أكّد في العصر الحديث على وحدة الشعب اليمني ووحدة الأراضي اليمنية، وهو ما يعني أن فكر تلك الحركة قد اتسمَ بالعمق، كما انطوى على نظرة استشراف تتّسم ببعد النظر حول مستقبل اليمن «(6).
من هذا المعترك وارتداداته، خرجت الأصواتُ الأدبية الجديدة للتعريف باليمن المنسي، منها القاص والروائي «محمد أحمد عبد الولي» الذي أحدث بنصوصه نقلة جمالية بالغة الأهمية في كتابة القصة، وعرَّف بها في واحد من أهمّ المراكز الثقافية، حين أصدر في بيروت مجموعته الأولى «الأرض يا سلمى» في عام 1966، بعد أن اقتصر الإصدار والنشر قبلها في مدينة عدن المستعمرة الإنجليزية. أما الشاعر الرائد «محمد أنعم غالب» في إقامته كطالبٍ في القاهرة منذ أواخر الأربعينات بدأ بكتابة ونشر نصوصه الشعرية الجديدة التي التمّت لاحقاً في ديوانه «غريب على الطريق»، والذي عُدَّ أخطر ديوان يمني في ثلاثة عقود» (7).
ومع أنعم سيظهر شاعران رائدان في القاهرة هما «إبراهيم صادق» صاحب عودة بلقيس، وعبده عثمان محمد الذي زاملَ عبد الصبور وحجازي والفيتوري منتصف الخمسينات، واشترك مع عبد العزيز المقالح لاحقاً في إصدار ديوان مشترك حمل عنوان «مأرب يتكلم» مطلع السبعينات.
الفضاء الذي فتحته ثورة سبتمبر 1962، كان لا بُدّ أن يتظهَّر منه وجهُ اليمن الجديد، غير أن سنوات الحرب -الملكية الجمهورية- وعدم الاستقرار السياسي بسبب تحوّل اليمن إلى بؤرة للتصارع الإقليمي في عقد الستينات، عتَّمت جزءاً كبيراً من الصورة التي كان من المفترض أن تكشف عنها عملية التحول، لكن لم تتنصّع هذه الصورة إلا في فترة السبعينات التي كانت حاضنة للصوت الإبداعي الجديد الذي استطاع كسر العزلة الطويلة التي عانتها أصواتُ سابقيهم من الشعراء والأدباء والفنانين بسبب حالة الانغلاق التي فرضها نظام الحكم، وانعدام منابر التوصيل، مستفيدين من جملة عوامل منها الاستقرار السياسي النسبي الذي شهدته البلاد، شمالا وجنوبا ـ بعد أن وضعت الحربُ الجمهورية الملكية أثقالها، وكذا التسوية الأولى لاحتراب الشطرين ـ وعودة الكثير من الطلاب المبعوثين ومنهم شعراء وكتّاب معروفون، إلى جانب تأسيس العديد من المنابر الثقافية وعلى وجه الخصوص الدوريات المتخصصة في الموضوع الثقافي.
بقيَ السبعينيون صوتا رائدا يقطر لاحقيه التالي من الثمانينيين، لكن مع مطلع التسعينات كانت اليمن كجغرافية قد دخلت منعطفاً تاريخيا جديداً باندماج الشطرين في دولة واحدة، استولد حلماً فارطاً في رأس كل شخص عاش هذا الحدث الذي كان حتى قبل أشهر من تحقيقه بعيدَ المنال. وكان للشعراء والقصاصين والتشكيليين الشبان مغامراتهم الأكثر جرأة في التماهي مع هذه اللحظة الفارقة، لهذا صار الحديث عن كسر تابوهات الشكل وأصنام الأبوّة ويقين السطوة، أهمَّ أدوات هذه المغامرة، حتى وهي تُعبِّر عن وجودها باضطراب بائن.
وجد هؤلاء المبدعون في الحدث مساحة لمعاينة السؤال الوجودي… من نحن؟ وماذا نريد؟! ومع هذا السؤال استطال مفهومُ التّجييل، الذي تحول في القراءات النقدية إلى مجهر معاينة لخصوصية هذا الصوت باندفاعه الحالم وتالياً بارتطاماته الدامية في الصّخور الصلدة للواقع العاري، الذي تحول في ظرف أعوام ثلاثة إلى حفرة امتصاصية اِبتلعتْ كل شيء!
مبذولات سنوات الألفية في عشريتها الأولى، لم تكن في نسقها الثقافي سوى تنويعات على خلاصة التسعينيين، من أدباء وفنانين ومثقفين الذين بقوا عاملاً مؤثراً داخل البنية التجيلية التالية، حتى إنّ التجارب الإبداعية التي شقّت مساراتها بعيداً عن هذه السطوة، كانت تظهر كظلال مستكينة تحت شجرة تقف وحيدة في العراء.
حملتِ العشريةُ الثانية من الألفية في أحشائها صاعقَ الانفجار الكبير، والذي راهن على محموديته الجيل الشاب والجديد في المجتمع، حين أبصرَ عملية التحول والتغيير على بعد خطوات، لكنه لم يكن يُبصِر وحشاً خرافياً كامناً خلف تلّ الحلم، يُسمِّنه متصارعو السلطة وبهلوانات السياسة.
عامان فقط وصار فيها الحلم كابوساً اسمه الحرب، لم يعدم مسيروها في الجغرافية المتهتكة من خلق مساحات للتنفيس عن الاحتقانات الإقليمية التي تتضخم في الجوار، فصار اليمنيون في مرجل واحد، الكل يقاتل الكل، بمن فيهم المثقفون أنفسهم الذين «بدؤوا بالتحوصل داخل هوياتهم الأضيق «السياسية والمناطقية والطائفية» حين لم يجدوا مؤسسات الثقافة التي ينتمون إليها قادرةً على حمايتهم والتعبير عن استقلاليتهم، وقبل هذا إذابة أحاسيسهم بالتمايز داخلها، فصاروا مع الوقت عنواناً لانقسام المجتمع، بدلاً عن وحدته وتماسكه، بل وصاروا عنواناً لمتاريس المتحاربين في كل الجبهات، لأنهم ببساطة لم يستطيعوا تشكيلَ صوتٍ نابذٍ للحرب ومجرِّمٍ لها، بسبب الضّغوط الشديدة عليهم، وبسبب هشاشة تكويناتهم الفكرية التي من المفترض أن تكون عابرة للجغرافيا والطائفة والعائلة»(8).
بعد أعوام خمسة صارت البندقية هي التي تتقدم، والحياة وحدها من تتراجع، في البلد المنكوب بفعل الصراع الذي يُخَاض بأدواتٍ شتّى، أقلها الهتك لمظاهر الحياة التي غدت الثقافة أحد عناوينها الرئيسة.
أما الخلاصة التي تحاول هذه القراءة بمشغلها «التارثقافي» قوله: إنّ اليمن الذي عانى طويلاً من كونه هامشاً قصياً في ثنائية المركز والأطراف بتعيينها الثقافي، وحاول مبدعوها خلال نصف قرن الفكاك منها بإحداث بعض الخروقات «هنا وهناك» في جدرانها الصلبة، ها هي الحرب المستديمة، برغبة الأمراء والمستنفعين في الداخل والإقليم تعيد التعريف بهم وببلدهم من موقع الهامش بصيغ هتكية لبلد فقير ومنسي.
الهوامش:
(1) رينزو مانزوني «اليمن… رحلة إلى صنعاء 1877ـ 1878» الصندوق الاجتماعي للتنمية 2011
(2) عبد الوهاب المؤيد، موسوعة الصحافة اليمنية، إصدارات نقابة الصحافيين اليمنيين، 2003.
(3) محمد عبد الوهاب الشيباني، تنويريون يمنيون وأسئلة النهضة والتغيير، مجلة الفيصل، نوفمبر 2016.
(4) أسئلة النهضة والتغيير «سابق»
(5) كيفن روزر ـ بعثة الأربعين الشهيرة، ترجمة عبد الوهاب المقالح مركز الدراسات والبحوث اليمني، 2014.
(6) د. أحمد القصير، «إصلاحيون وماركسيون»، مخطوط.
(7) عبد الودود سيف، محمد أنعم غالب شاعرا، مركز الدراسات والبحوث اليمني، 2009.
(8) محمد عبد الوهاب الشيباني، المثقفون اليمنيون وخطايا الحرب والاستبداد، 20 /5/ 2018.