صلاح الأصبحي *
سأفتتح قراءتي هذه بمقولة لشاعر عربي (رؤى سالم)، راقت لي وأجدها تفصح جلياً حول ما أنا بصدده: «إن الأرضية التي يقف عليها الشعراء الشباب هي أرضية مؤلفة من فقر وجوع وهزيمة وقهر وذات تحولات مخاضية صعبة وواقع عالمي متغير متفجر ومنصهر». ومن خلالها سيتسنّى لي الولوج في طرح قراءة نقدية مقتضبة عن شعر الشباب في اليمن، ومن الصعوبة بمكان وضع صورة مكتملة وواضحة المعالم دون التطرق إلى بعض جوانب هذه الصورة، وإخلاء مساحة للأرضية التي وجد فيها هذا الشعر خلال العقد الأخير ونيف من السنين قبله، وهذا التحديد الزمني يُعدُّ إطاراً دائرياً يختص بهذه التجربة بتقسيم ميلاد شعرائها إلى ثلاثة مخاضات متباينة ومتناوبة على كتابة الأشكال الشعرية الثلاثة: العمودي والتفعيلة وقصيدة النثر:
الأول: برز وترعرع في مطلع الألفية واستطاع الثبات والظهور بجدارة وموهبة كأحمد العرامي وفتحي أبو النصر وجلال الأحمدي وليلى إلهان وزياد القحم وميسون الإرياني.
الثاني: لمع اسمه مع اندلاع ثورة فبراير رغم محاولته قبل ذلك، كعامر السعيدي وزين العابدين الضبيبي ويحيى الحمادي ومنير عوض.
الثالث: يافع ومستحدث برز بعد الثورة بعامين كقيس عبد المغني ومها عبد الرحيم وصلاح الورافي وصابرين الحسني وعادل نور وغيرهم.
والجدير بالذكر أن التجربة الشعرية الشبابية تزامنت مع متغيرات جمة ومتسارعة في الوعي والتفكير والواقع فصبغتها بلونها، وفرضت وجودها بإلحاح واقتدار على تمثل متطلبات النص الجديد ومآلاته وخصوصياته الحداثية البحتة وانطلاقاته العابرة للسكون والجمود الفكري والإبداعي ونشاط خيالاته المشعّة وتشظي صوره وتركيباته واتكائه على الدفقات الشعورية واحتضانه للسرد والحوار، وهذه المحاكاة وصمت النص الشعري المنتمي إلى هذه التجربة بالمراوغة والقلق والجرأة الهائلة والتحدي المجازف في إثبات ذاته وتشكيل هوية إبداعية متجاوزة للنمط المألوف لشعر أسلافهم، ولذا فإن الشعراء الشباب تمكنوا بمحاولتهم الحثيثة من ترسيخ وجودهم الشعري المتأثر بعاملين مهمّين:
الأول: قيام ثورة شبابية مناهضة لنظام الحكم في فبراير 2011م، والتنديد بفرض التغيير وأحقية حركته واستلهام قيم التحرر من أغلال الواقع والسياسة والإبداع واستغلال ظهور وسائل التواصل الاجتماعي الدافعة بطاقاتهم الشعرية الكثيفة إلى سطح المشهد الإبداعي وجعل الشاعر يتخذ من نصه مسرحاً لعرض أفكاره وانفعالاته ومشاعره وهواجسه القلقة تجاه الواقع ومعضلاته، كما في نص الحارث الثور «إلى ثائر»:
ليست الثورة
أن تقلب الصفحة الثانية
من كتاب المقبرة
أو تؤرخ اللحظة الأولى
وآخر مجزرة..
لا تعريف للثورة
والحياة أهم صفاتها.
إلى بلادي:
كوني على الأقل منفى
إذا ما استطعتِ لنا
أن تكوني بلاداً
نحن سنعمل ألا نكون سوى غرباء.
إلى الغد:
بعيداً قريباً، انتظرني أيها الغد
ممكناً مستحيلاً
معي دفتر وفاة العصر
لكن لم يصدقني أحد
معي حفنة الزفرات الأخيرة
لكن لم يصدقني أحد
وكالشمس رفعت جمجمته
لكن لم يصدقني أحد
انتظر ولو لم أجيء
وانتظرني كلما ابتعدت عني
رسمت في الأيام عيوناً
تقتفي أثرك
للساعات آذان تصغي إلى خطاك
ورشيت شرطة المحطات
بحجزك
ورشيت عمال المطارات
انتظر ميتاً أو حياً مكتملاً أو ناقصاً
انتظر أيها الغد.
العامل الثاني:
سقوط صنعاء بيد جماعة الحوثي في نهاية سبتمبر 2014م وتهشم الروح الشعرية الشابة البازغة التي بدأت تتشكل وتنمو بفعل الهدوء النسبي ونشاط المشهد الثقافي اليمني الذي منح شعر الشباب اهتماماً دافئاً لولا السقوط السياسي آنف الذكر الذي يعدُّ تمزيقاً للإطار الشعري الشبابي الذي كان تحركه ونشاطه متقاربين في الوعي والأسلوب والنضج وانكساراً نفسياً لهذه التجربة مضفياً عليها فقدان التوازن وتغير المسار نحو وجهة مجهولة المعالم وغائبة الملامح نظراً إلى تسرب الخوف والهلع إلى أعماق الذات والوجدان والتربص والنيل من النص قبل الشاعر ومن اللغة قبل الإنسان، وذلك بجرف نمط الحياة والوعي واللغة والمصير والهوية كلياً والقذف بكل هذا في حرب دائرة ومتقلبة حتى اللحظة، فأصبح النص الشعري الشبابي مشرداً وممزوجاً بالعويل والأنين، كما في نص زين العابدين الضبيبي:
ثمة يدٌ تحكمُ قبضتها حول عنقي
ويدٌ أخرى تغرز أصابعها في عينيَّ
وأيدٍ كثيرةٌ تدحرجُ الصخور على صدري
وأيدٍ حنونةٌ تصفعني فقط
وأيدٍ كلما فتحتُ فمي لأصرخ
أغلقته بالأحجار
وأيدٍ كثيرةٌ تعمل بجدّ
لتخرجني من هذا العالم
بأمان
بعضها ترشّ الظلام أمام منزلي
وتصعقني بالكهرباء
وبعضها تسبقني لاستلام الراتب
وتغدق عليّ اللعنات
وبعضها تمتدّ إلى جيوبي
لتغسلها من الأوساخ
وبعضها تخطف الخبز من فمي
وتصعقني بمواعظ الصبر
وبعضها تنوي أن تقطع رأسي
لتضعه حجر أساس منزل
سيبنى لإمام المسجد
وأخرى تتحسس كلماتي من الخلف
وتتحرشُ بأفكاري النحيلة الجائعة
وأخرى تقيم الحد على نواياي المنفلتة
وأخرى تدخن أصابعي
ولأن كل هذه الأيدي الطيبة ترافقني
لن أشعر بالخوف
وإن تركت بقيتي في العراء لتأكله الكلاب والقطط
غير أن هذه الأخيرة قد سبقتني إلى العالم الآخر لنفس الأسباب الآنفة الذكر
فعلام أخاف إذن؟
أنا جائعٌ الآن وهذه هي الحكاية الأهم
أراكم في موتٍ آخر.
انشطر الشعراء الشباب إلى نصفين: نصف تشتت في الداخل وارتدى حلة مغايرة تحول دون سقوطه في براثن الموت وقمع الواقع له فتوغل لديه اليأس والخوف على نصه الشعري وانقشاع سكينة الروح، يقول قيس عبد المغني:
كنت قاصاً في الماضي
كتبت مرة عن شاعر معتقل في زنزانة ضيقة
قضى عمره وهو يحفر نفقاً سرياً للهروب
وحين انتهى منه
هربت زنزانته وتركته وحيداً..
في قصة أخرى
وضعت فتاة حسناء في مأزق من ثلاثة ذئاب
وسقت إليها بطلاً وسيماً بحذاء أسود مصقول وظل رشيق
حين أسرع لينقذها جعلته يتعثر بلا سبب
ليسقط على وجهه
وتتهشم جمجمته على صخرة جلبتها من خارج النص.
أردت -بحبكة مضطربة- أن أقتحم قصصي وأتحكم في دفقات الشر
أردت أن أتدخل وأنقذ -بنفسي- فتياتي اللواتي ابتكرتهن وأمعنت في حسنهن..
كنتُ قاصاً مندفعاً
لكن كانت دائماً تكبلني
روح الشاعر اليائسة.
نصف نزح خارج الديار اليمنية لكن بنفسية ممزقة ولغة متشظية تنعى وطناً غارقاً في الجحيم وانسداد الأفق الذي لا أمل فيه، يقول أحمد النجار:
أنا مطلوب سابق
نمت بالمقلوب في زنزانة انفرادية
اعترفت بارتكاب كل الجرائم المقيدة ضد مجهول
أحببت ثلاثين امرأة بالخطأ وعالجت الأمر بالنسيان
هربت من السجن ثلاث مرات..
في الحقيقة، لم يكن سجناً بل كان قبراً ضيقاً اسمه العالم،
متُّ سبع مرات في العمر
أشكّ أحياناً أنني مازلت على قيد الحياة
رأيت جثتي ذات مرة عائدة من الحرب
أنا كائن زائد عن الحاجة،
أشتبك مع ظلي بالأيدي في المرآة كنوع من الاحتجاج الصامت ضدي
أثبِّت رموشي بلواصق إلى أعلى الحواجب كي لا تموت دموعي في العتمة..
أرتدي قميصاً مشقوقاً من جهة القلب كرئة ثالثة للتهوية
أبيع وجهي لوغد يشبهني
أخونني كطعنة جبانة من الخلف
أنا ذلك الفراغ الظريف الذي يمازح غصاتي داخل جيوب بنطلوني
أسير عكس اتجاه نفسي
أتشبث بأطراف جاكيتي
وأعانق لهفتي كأنني حضني الوحيد…!
إشكاليات شعرية:
هناك بعض المآخذ الشاخصة عند هؤلاء الشعراء الشباب كتشتت نقطة الانطلاق المصاحبة لمخاضه كما لو كان مجهضاً نظراً إلى الاستيعاب البطيء وغير الواعي لملامح الحداثة وأفكارها التي تتطلب زمناً طويلاً لبلوغ مرحلة الدهشة في الوعي واللغة والخيال واحتراف أدوات النص وقوالبه الفنية الخاصة التي يفرضها الشكل الشعري والموضوع والرؤيا، يتعرى هذا الإخفاق لدى شعراء قصيدة النثر باستثناء أسماء محدودة منهم استطاعت التغلب وعبور هذا التعثر بما تضمر من وعي واتساع في الثقافة وموهبة أصيلة وخيال جامح وهواجس قلقة وتساؤلات حائرة حول الذات والوجود والقضايا الشائكة، مما جعل قصيدة النثر متوهجة في خيالهم ومكتملة في نتاجهم الشعري كجلال الأحمدي والبكري وقيس عبد المغني وأحمد النجار ومها عبد الرحيم.
وفي المقابل يفيض المشهد الشعري الشبابي بنصوص هشة التركيب وسطحية الوعي ومشتتة الرؤيا ويغلب عليها الغموض والتشتت والغياب الدلالي وذلك لضعف التكوين المعرفي والثقافي والإبداعي لدى هذا الفصيل من الشعراء إذ يتوجب التنبه إليهم ولفت نظرهم إلى الشلل الذي تزخر به نصوصهم وتدارك تجاربهم من داء الجمود والتصلب بكتابات ومقاربات نقدية جريئة ومنهجية تقف معهم وجهاً لوجه قبل تلوث المشهد الشعري بأسمائهم ولولا الغياب النقدي للمشهد لما ظهرت تلك النصوص بذاك المستوى، كما ساهم الغياب النقدي أيضاً في إزاحة بعض الأسماء التي توهجت فترة وجيزة ثم انكفأت منسحبة إلى الظل وكفّت عن إخراج نتاجها الشعري للقارئ متحجّجة بالمشهد الشعري المتدني الممتلئ بالخواطر والجمل المبتورة المحسوبة على القارئ شعراً بفضل ابتذال أصحابه في الترويج والنشر.
يتبادر إلى ذهني في هذا السياق الشاعر محمد فائد البكري كنموذج غائب بنصوصه حاضر بتجربته العميقة.. فهذا نص له بعنوان «حرية الريح»:
منذ صار اسمي ضيقا على ألمي
وبعيداً جدا عن الصدى،
لا أجد زمنا خارج نفسي
شيء ما انكسر في داخلي
والمدى يترنح وراء قلبي،
والسماء التي كانت في قبعة الساحر
تحررت من حافة المجاز
وطارت إلى أبعد من العدم.
والسماء التي كانت في الغرفة
لم تجد جداراً تعلق عليه العالم.
والسماء التي نسيت اسمها تبحث عن حائط لتصلب الغيم.
والسماء التي تحت أقدامك ترتب أعصابها وتبكي صارت مواربة.
والهواء الذي غادر بعد ظلك؛
لم يجد وسادة لينام!
لا أفهم كيف يجد المساء متسعا ليعمل في تربية الأرق.
النملة التي خوفها من الشتاء يقتل فرحها بالربيع
حملت أضعاف وزنها خوفا من الجوع.
وأنا فقدت أضعاف وزني حرصا على صحة ظلي.
يمكنك انتزاع عيون الدمية لمنحها رحلة مجانية إلى الداخل.
للريح قلقها الشخصي
فمن يحاسب الجدران على تحدي حريتها.
أدفن معنى مات هنا
وأخرج من جثتي واثقا بالآه..
وفي نص آخر يقول:
قد لا يكون لي وطن بالنيابة عنك
ولا تكون لي حدود مع العدم
لكني أخاف أن توجعك كلمة أحبك!
فقد أوجعتني كثيرا كثيرا حدّ الصمت؛
أخاف أن تضعك هذه الكلمة تحت سكينها
فما زالت الذكريات تذبحني بين السطور
وتفرِّق دمي بين الرسائل؛
كل الكلمات التي استسلمت لها لم تعاملني كأسير؛
كلها اعتبرتني غنيمة حرب؛
وكل الكلمات التي قاتلت من أجلها تخندقت في دمي، وأعلنتني شهيد الواجب؛
وكل الأوهام التي دافعت عن حدودها رسمتني أسلاكا شائكة بين الريح والفراغ؛
وكل الكلمات التي وقعت في أسرها مسختني إلى جندي مجهول!
أنا سارية ألم
وأخاف أن تحبي المستحيل!
مثل هذا الصوت الشعري المحجوب يفترض الاحتفاء به وإبرازه إلى المستوى الذي يليق، ولك عزيزي القارئ الخيار في النظر إلى هذا الصوت الشعري اللامع بما لديك من ذائقة ورؤيا تمكنك من إدراك الشعر الحقيقي عما سواه.
سأوصد هذه القراءة المقتضبة بالقول إن شعر الشباب في اليمن يشقّ طريقه في التجربة الشعرية العربية مصرّا على حجز مقعد شعري يمني فيها، متجاوزاً كل الهزائم والخيبات التي تحاول إقعاده وتجميد حركته وإلغاء وجوده، وأبشره بمستقبل مشرق ونجاح باهر محلياً وعربياً وعالمياً، فهناك أسماء تقفز يوماً بعد آخر قفزات هائلة للوصول إلى هذا المستوى المنشود.