لـ بهجوانت رَسولبوري**
ترجمة: سعيد الريامي *
كدت أتعثر وأقع على قطع الطوب المتناثرة في فناء البيت، لو وقعت لاتسخ شعري الذي غسلتُه هذا الصباح. دقاتُ قلبي تتسارع وقدماي تورمتا بعد قطع المسافة مشياً من بيت رَجُّو. العجيب أن شيئاً كهذا لم يكن يحدث في السابق، عندما كنت أقطع أميالاً مشياً على قدميّ هاتين وأنا أحمل فوق رأسي حزمة ثقيلة من العلف. صورة الدماء المتدفقة من جسد رَجّو لا تزال تلاحقني، يا له من مشهد. لا أصدق أنني شاهدت عملية قطع رأسها. لم أكن وحدي بالطبع! أهل القرية كلهم كانوا هناك. لقد قُطّع جسدها كاملاً، يا إلهي! لم أحتمل النظر إليها سوى لثوان معدودة.
لا تزال تمتمات أهل القرية تتردد في مسمعي:
«سامحنا أيها الرب، اغفر خطايانا».
وأسوأ منها كانت كلماتٌ رددها مجموعةٌ من الصبية ساعة خروجي من بيت صديقتي المقتولة:
«لقد نالت ما تستحق، لم يكن لنهايتها إلا أن تكون هكذا، كانت امرأةً فاجرة. لم يكن بالإمكان السماح لها بالعيش معنا في القرية».
أحد الجيران – ممن كانت «رَجُّو» تذكره في أحاديثها معي – قال:
«الحقّ أن دارشي تأخر كثيراً. إنّ الشجاعة التي أظهرها اليوم تأخرت عشر سنوات، ولكن على كل حال لم يفت الأوان كثيراً».
اقشعر جسدي عند سماعي لما قاله. شعرت أن كلماته كانت موجهة لي أنا، فأنا التي قدتُ رَجُّو إلى حتفها. تعرفتُ عليها عندما كانت تأتي لجمع العلف ونقله من بيت ديتّو. عرفت منها أن راتب زوجها – عامل النظافة في البنك – لم يكن كافياً لإعالتهم، طلبتُ من ديتّو تشغيلها، عندها بدأ أهل القرية في الكلام.
رغم خطواتي الحذرة تعثرت ووقعت على قطع الطوب. هذا الطوب اللاهوري المتناثر كان في يوم من الأيام قصراً إسلامياً قبل أن يهدمه ديتّو ليبني مكانه بيتاً من طابقين. أتذكر كيف كنت أنقل الطوب على رأسي فيظل رأسي يؤلمني أياماً. وعندما طلبت المساعدة يوماً من ابني نزار – وكان ساعتها يستحم بماء الصنبور – صرخ في وجهي قائلاً:
«انقلي الطوب بنفسك لبناء قصرك، انا لست خادمك».
ثم بعد أن أنهى حمّامه، ارتدى ملابسه وغادر متوجهاً إلى القرية المجاورة لمشاهدة جولات المصارعة التي تُجرى هناك، لعنْتُه وتابعتُ عملي في نقل الطوب إلى البيت في سلّة على رأسي.
ينتمي ديتّو – الذي يملك الآن مصنعاً للألبان – لطبقتنا. كان في السابق بائعاً متجولاً للبن الجاموس، لكن أرباحه تضاعفت مع الزمن ومعها كبرت كرشه وازداد وزنه كحال جميع التجار. على كل حال فليبارك الرب ديتّو، فهو كان السبب في حصولي على هذا الطوب الذي فرشتُهُ في فناء البيت الذي كان في السابق يتحول إلى بركة من الطين كلما هطل المطر.
يأتيني من الحمام صوت زوجة ابني نزار وهي تغسل الملابس، تضربها بقطعة من الخشب وأشعر أنا أن الضربات تهوي على رأسي. تنبح الكلبة رومي المربوطة في عمود خشبي مغروس في إحدى زاويا الفناء – مرحبةً بقدومي. أنهض من عثرتي متثاقلة واتجه نحو رومي التي تبدأ في لعق قدميّ عندما ألاطفها وأدفن يديّ الجافتين في فروها الطويل. لا يعجبني أبداً ما يفعله نزار، فهو يأمر زوجته بربط رومي في العمود كلما خرج هو من البيت إلى العمل، أفك وثاقها فتتقافز فرحاً وتخرج من البيت مسرعة. أشعر بالارتياح لما فعلتُ، تخرج كِنّتي لتنشر الغسيل فتصرخ فيّ بغضب:
«إذاً لقد سمحت لتلك البائسة بأن تخرج وتتسكع مع الكلاب الضالة. هذا بالضبط ما كان ابنك يحاول تجنبه بربطها داخل البيت. لقد عادت إلى البيت قبل أيام بمعيّة مجموعة من الكلاب. وقد اشتكى أهل القرية من أفعالها المخجلة، وطالبوا بأن يتم تقييدها وحبسها داخل البيت لتجنيب البنات رؤيتها وهي تضاجع الكلاب في كل مكان».
تعود كِنّتي ثانيةً إلى الحمّام وتعاود ضرب الملابس، ليس بوسعي مجاراتها في حدّة لسانها. أنظر بوَجلٍ من خلال نظارتي السميكة ناحية الحمام، لا أشعر برغبة في الأكل. البرودة شديدة حتى خلال ساعات النهار. أكمل سيري نحو غرفتي الصغيرة. أتعثر بقيد الكلبة الحديدي فيُصدر رنّةً موسيقية. أُحضِر الشيشة. أملأها بالتبغ وأضع في وسط رأسها جمرة متقدة. أدلف بها إلى غرفتي. أجلس على سريري، ألف جسدي بلحافي السميك وأبدأ التدخين، أشعر بمعدتي تمتلئ بالغازات. أنفث الدخان وأنا أحدق في الصورة المُبروَزة المعلقة على الجدار المقابل. صورتي وأنا شابّة. أقف وبجانبي يقف والد نزار.. لَكّوه، أكاد أسترجع محتوى مرارتي بمجرد التفكير في لَكّوه. يبدو على ما يرام في هذه الصورة، لكنه بعد فترة قصيرة من زواجنا كان قد بدأ في الإسراف في الشراب يومياً وضعف جسده حتى صار كالعصا. أتذكر جيداً جسده الهزيل، الحقيقة أنه لم يكن والدَ نزار مع أن العالم كله يعتقد ذلك. أنا ولكّوه فقط نعرف الحقيقة التي لم أخبر أحداً بها. كيف يمكنني أن أكشف للعالم أن ديتّو – ذلك السمين الأخرق بائع اللبن هو والد أطفالي نزار وراني؟ لَكّوه كان نادراً ما يعمل، وإذا عمل فإن ما يجنيه كان يذهب في الشراب، وعندما سئم والداه من تصرفاته، طردانا من بيتهما، اضطررت حينها للعمل. كان قد مضى على زواجنا خمس سنوات ولم أرزق بأطفال. كنت أعتني بالأبقار مع زوجة ديتّو وأجيرَين كان ديتّو قد استأجرهما. وعندما منعتْ آلامُ المفاصل زوجةَ ديتّو من العمل، استأجر ثالثاً. كانت مهمتي تجميع روث الأبقار وتنظيف الأرض من بولها، ثم غسل الأبقار وإطعامها، يساعدني في ذلك المستخدَم الثالث. كنت أصنع من الروث وقودا للطبخ أحمله إلى بيتي – مع بعض العلف لأبقاري. بعد فترة تقلصت مهامي واقتصرت على غسل وحلب الأبقار.
تقضي زوجة ديتّو يومها على سريرها تصارع آلام المفاصل، بينما الأولاد في المدرسة، ويخلو الجو حينها للسمين لمعاكستي، بدأ أولاً بالتظاهر بمساعدتي في عملي، وقد لاحظ لَكّوه ذلك فمنعني أكثر من مرة من الذهاب إلى مصنع الألبان، قائلاً:
«اسمعي يا أَمْرُو! لن أسمح لك بالاقتراب من ابن الفاجرة بائع اللبن السمين هذا، لا تذهبي إلى هناك ثانية».
وبعد يوم أو يومين من تغيبي عن العمل يزورنا ديتّو، يسأل عن أحوالنا ويعطينا بعض المال لتدبير أمورنا – كما يدّعي. في حضرة ديتّو لا يملك لَكُّوه إلا ابتساماته التي يرسلها إليه باستمرار. وبعدما يرحل يبدأ في توبيخي وأحياناً يحاول ضربي.
لم أكن أنقطع عن العمل فترة طويلة. أعود إلى المصنع عندما يحتاجون إلي. يرسل ديتو أحد عماله يستدعيني عندما يحين موعد حلب الأبقار. تعود الحياة بعد فترة إلى طبيعتها ثانية وتحلو، أثناء العمل نشرب أنا وديتو الحليب من كأس واحد ونأكل من طبق واحد. كان ديتو أحياناً يبدو لي كالملاك، فلم يكن أحد في بيتي يشعر بالجوع. أنجبت أثناء فترة عملي في المصنع إبني نزار ثم ابنتي راني، وبعدها بنتاً ثانية ثم ثالثة. وكان هناك دائماً من الحليب ما يكفي لجميع هؤلاء. لكن مرض لكّوه كان يزداد سوءاً، وكان غضبه يزداد حدةً كلما عدت إلى البيت محملة بالحليب لأبنائي وبالعلف لأبقاري.
يحط عصفور على إطار الصورة فينقطع حبلُ أفكاري، أحاول بتلويحة من يدي إخافة العصفور فتسقط قصاصات من الخوص كانت عالقة في يدي على جمر الشيشة، لكن لا شرر يتطاير فقد انطفأ الجمر منذ مدة طويلة.
لا تزال كِنّتي تضرب الثياب في الحمام. أتذكر أن ثيابي متسخة ولابد أن أطلب منها غسلها. أضع الشيشة جانباً وأهم بالوقوف. أشعر بألم شديد يبدأ في ركبتي وينتقل منها إلى ظهري وباقي جسدي. أتناول ثيابي المعلقة على وتد في الجدار بالقرب من النافذة. ألمحُ من خلال النافذة الكلبة رومي تقفز وتلعب مع كلب من كلاب البيت الكبير الذي يجاورنا، بينما كلاب أخرى تناظرهما من بعيد. أشعر بالفرح وأنا أرى رومي حُرّة وسعيدة. يعتلي الكلبُ رومي متخذاً وضعية المضاجعة، لا ألقي بالاً للأمر فهذا ما يحدث مع الأبقار يومياً في مصنع الألبان. لكنه ليس كذلك بالنسبة للفتاة طالبة الجامعة في البيت الكبير – التي أراها تتابع الحدث باهتمام وهي تختبئ في شرفتها.
تذكرني الكلاب ببابا كانشي. كنا في غاية القلق عندما بدأت نوبات الصرع تنتاب ابنتي راني وهي في ريعان شبابها. اقترح عليّ كثيرون أن أذهب بها إلى بابا كانشي الذي كان يقطن قرية قريبة، وفعلت. في البداية جلدها بابا كانشي بالمكنسة، ثم طلب منا أن نخرج جميعاً من الغرفة ونتركهما. في اليوم الأول رأيت بابا كانشي يفعل براني ما كان يفعله الكلب برومي. هرعت مسرعة إلى داخل الغرفة فأطلق هو ضحكة خبيثة. شعرت برغبة شديدة في تهشيم جمجمته. بعد ذلك بدأ بابا كانشي بمعاينة راني في بيتنا، وبعد فترة شعرت بالامتنان له لأن نوبات الصرع اختفت تماماً، طلبت منه أن يعالج زوجي لكنه لم يفعل.
عندما تبدأ الكلاب في تقويس ظهورها أثناء المضاجعة أبتعد أنا عن النافذة. أخشى أن لو لمحت كنّتي الكلابَ متلبسةً ستوبخني ثانيةً. أبدأ في تجميع ملابسي المتسخة وأسترسل في ذكرياتي مع ديتّو – عندما كنا أنا وهو نمارس هذه الفعلة وسط الحقول وقد تناثرت ملابسنا حولنا. في أحد الأيام سرق ملابسَنا بعضُ صبية القرية. كنت خائفة مما قد يفعله بي أهل القرية لو هم عرفوا. عاد ديتّو مسرعاً إلى بيته وجاءني ببعض ملابس زوجته. يومها تأخرتُ كثيراً في العودة إلى البيت، ولم أقوَ على النظر في وجه لكّوه وولدي.
أناول كنّتي ملابسي لتغسلها، ثم أسحب كرسياً إلى ساحة البيت حيث دفء الشمس. أشعر بالحاجة إلى تدخين الشيشة ثانيةً، أشعلها وأبدأ في جر الأنفاس الطويلة، أتذكر السجائر التي دخنتها مع بابا كانشي يوماً. كنت قد توقفت لفترة عن العمل في مصنع ديتّو، ويومها كنت في طريقي من جهة الحقول أحمل فوق رأسي علفاً لأبقاري. بعد حادثة سرقة الملابس كنت أتعمد سلك طرق تجنبني نظرات نساء القرية. ولذا فقد دُهش بابا كانشي عندما رآني في ذلك المكان البعيد قرب محرقة الموتى. أوقف دراجته الهوائية وأشعل سيجارة فاخرة أخرجها من صندوق صغير كان في جيبه. جلسنا في ظل شجرة وناولني السيجارة. دخّنت منها قليلاً ثم أعدتها إليه، أخرج من كيسٍ كان يحمله بعضَ فواكه الجوافة وأكلناها معاً. أثناء ذلك لمحت في حقل السكر على يميني إحدى نساء القرية تحمل علفاً على رأسها. عدت إلى البيت عبر طريق يقع على أطراف القرية وتسللت إلى بيتي خلسة كما يفعل اللصوص. اكتشفت حالَ وصولي أن تلك المرأة نقلت إلى أهل بيتي خبر جلوسي مع بابا كانشي. كان ابني نزار غاضباً فضربني. وعندما حاولت زوجته التدخل ضربها هي الأخرى، وصرخ في وجهي:
«لقد أصبحت بسببك الحياةُ في هذه القرية صعبةً علينا جميعاً، لماذا لا تموتين؟»
لكّوه أيضاً لوّح بقبضة يده مهدداً. أحسست ساعتها بالرغبة في قتل نفسي. هذه ليست حياة أبداً.
أثّرت هذه الحادثة على لكّوه كثيراً، فلم يعد بعدها يقوى على النهوض من سريره. صارت تنتابه نوبات سعال عدة مرات في اليوم، وكلما داهمته إحدى هذه النوبات يزداد تسارع لهاثه ويحمرّ وجهه بطريقة مَرَضيّة. ينفق نزار ما يجنيه من مال على نفسه. عندما قرر الزواج اضطررت إلى اقتراض مبلغ من المال لمساعدته في إتمام الزواج، وبعد سنة من زواجه أصبحت أنا جدّة، بناته هن من يجلبن الخضار والعلف إلى البيت.
أجول بنظري في فناء البيت فأرى الكلبة رومي وهي تعبر إلى الداخل. تضربها كنتي الغاضبة فتعوي وتتلوى ثم تزحف لتختبئ تحت سريري. لا أقوى على تمالك نفسي، فأقول:
«هل أنت مضطرة لضرب هذه المسكينة العجماء؟»
فترد علي:
«انت إنسانة طيّبة، ماذا جنيت عندما أطلقتِ سراحها؟ ألا تدركين أن ابنك قد يقتلها؟»
هي إذاً على علم بمغامرات الكلبة الطائشة. تحركت الشمس واحتجبت خلف الأشجار. أعدتُ ربط رومي إلى العمود الخشبي، البرد قارس، سحبتُ السرير إلى الداخل. عادت البنات من عملهن في مصنع تبريد البطاطس. أدخلت راني إلى الغرفة حمولةً صغيرة، ربما جلبت معها بعض حبات البطاطس. كِنّتي لا تطلب مني إشعال النار في موقدنا الطيني. هي تفعل ذلك وحدها وتعد الخبز.
عندما مات لكوه لم أشعر بأنني تحطمت، بل احسست بأن عبئاً انزاح عن كاهلي. علبة السجائر فارغة. أرسل ابنتي الصغرى لجلب بعض السجائر. حفيدي الصغير – ابن نزار – يحبو نحوي. أحمله – رغم تخوفي – وأتذكر طفولتي. كانت طفولتي عادية جداً وبسيطة، كما هي طفولة باقي البنات. كانت أمي تجلدني دائماً، أرفض الذهاب إلى المدرسة فتجرني إلى هناك جرّاً، كنت كل سنة أحصل على أدنى معدلات النجاح. وعندما كنت في الصف السادس أو السابع أصيب أبي بالشلل، فانقطع مصدر دخلنا الوحيد. أرسلتني أمي للعمل مع باقي نساء قريتنا، ولأنني كنت صغيرة كانت أجرتي اليومية قليلة. ثم قررت إرسالي للعمل في غسل الثياب عند الأسر العائدة من إنجلترا. كان أفراد الأسرة طيبين. كانوا يقدمون لي الطعام ويعطوني الملابس. لكني كنت قليلة الحيلة أمام ابنهم – طالب الجامعة. يرتجف جسدي كلما تذكرت المرة الأولى. كان يقدم لي الطعام والملابس في المقابل، وكنت لا أمانع. ثم زوجني والداي من لكّوه. منعتني أمي فجأة من الذهاب إلى ذلك البيت. لعل الجدة العجوز الحدباء في ذلك البيت كشفت الأمر واخبرت أمي. في بيت زوجي كان مستنقع الفقر لا يختلف أبداً عن ذلك الذي في بيتنا.
أضم حفيدي إلى صدري بقوة فأشعر وكأنني أستعيد طفولتي. يبدأ الصغير في البكاء. ربما آلمتُه بضمه إلى صدري بقوة. أحاول تهدئته. تدخل راني حاملة غدائي، وتقول:
«أمي، تناولي بعض الطعام أولاً».
أطالعها بدهشة، أشعرُ بالأسف لأجلها وأنا أنظر إلى وجهها الذابل. فقدت شهيتي للأكل. كان لون مرق الخضار الأحمر يذكرني بالدم، دم رجّو المراق على أرضية بيتها، يتراءى لي عنقها المقطوع ودمها المتخثر. كيف لي أن آكل؟ أسمع صوت دراجة في الخارج. إنه نزار. أتذكر الكلبة رومي وأشعر بالخوف مما قد يحدث لها، لعل كِنّتي أخبرته بما حدث فهو يصيح بها غاضباً:
«ربما كان من المناسب لو تم قطع رأس هذه المرأة كما قطعوا رأس رجّو».
ابني يتمنى ذلك لي، إنه محقّ، فأنا قدت رجّو إلى حتفها. عَلّمتُها كيف تحلبُ أبقار ديتّو. وتعلمتْ هي بنفسها كيف تستحم عند انتهاء اليوم ثم تعود إلى بيتها بعلبة مليئة بالحليب الطازج. لم تتوقف عن العمل في المصنع مثلي بل واصلت العمل مع ديتو. كان يجب أن أقتَل أنا كما قُتلت هي. لماذا لم يقتلني لكّوه قبل أن يموت؟ لماذا لا يقطع نزار رأسي؟ سيحميه أهل القرية كما حمَوا دارشي زوج رجّو، لكن احداً لم يقتلني.
أزيح الطعام من أمامي، كيف أستطيع تغميس الخبز بالدم؟ أشعر أن يديّ ملطختان بالدم، أقوم لغسلهما، فينهرني نزار:
«ماذا فعلت أيتها العجوز؟ لماذا فككت قيد رومي؟ هل يُهمّكِ أن أواصل العيش في هذه القرية؟ أخبريني!»
ألتزمُ الصمت فمن الواضح لحظتها أن غضبه شديد. لعله قامر بما يملك من مال وفقده. يخرج من البيت لاهثاً، أقوم لألحق به فيأتيني صراخ ابنتي من الخارج:
«يا إلهي! لماذا فعلتَ هذا؟»
ينتابني الهلع فأسرع إلى الخارج.
«أيها الشرير! ماذا فعلت؟ لماذا قتلت هذه المخلوقة المسكينة؟»
لا أستطيع تمالك مشاعري. أبدأ في النحيب وأنا أرى جسد روني يتوقف عن الحركة ويهمد. تبدأ البنات في البكاء أيضاً. الفضول يدفع الجيران للتجمع ومعرفة ما يحدث. أشعر وكأنّ لسان حالهم يقول لقد أحسن عملاً نزار بقتله هذه الكلبة، أقع مغشيّاً عليّ، فتسحبني ابنتيّ إلى الداخل وتضعانني على سريري.
أصحو بعد وقت قصير. أرى بقع دم على ثوبي فأتذكر جسد روني وهو ينتفض. تنتابني أفكار غريبة ومجنونة. أعرف أنني لست مجنونة، إنما المجنون هو نزار. لقد تعرضت هذا اليوم للقتل مرتين لكنني مازلت على قيد الحياة، لماذا لا أزال على قيد الحياة؟ لماذا لا أموت؟ الجميع نائمون. أحاول الاسترخاء لكني أشعر بوخز أشواك في ظهري. أخرج إلى الشيشة وأشعلها. يساعدني التدخين على الاسترخاء قليلاً. تشتكي ابنتاي من صوت الشيشة الذي يمنعهما من النوم. مثل كثيرين غيري لم أستطع الإقلاع عن هذه العادة السيئة، منذ أن عودتني عليها أمي. كانت تطلب مني تجهيزها وفحصها قبل أن تبدأ. وكنت آخذ عشرة أنفاس أو اثنتي عشر نفساً قبل أن أناولها إياها. قطعة القماش التي تلف الجزء المليء بالماء ممزقة لكن نزار يرفض استبدالها. بل إنه رمى ماسورة التدخين يوماً وكسرها، يبدو أن حالة شيشتي ليست كثيراً أفضل من حالتي أنا.
أعود للتفكير في رومي المسكينة. عندما اشتكى أهل القرية من اللصوص طلب نزار مالاً من مدير المصنع وابتاعها من أحدهم. كانت كلبة ذكية. منذ أن حضرتْ لم يجرؤ غريبٌ على الدخول إلى بيتنا. وكانت تستجيب كلما ناديتها، وتبدأ في لعق قدمي. وعندما كنت أداعبها كانت تعوي بصوت خافت يشبه صوت الحمامة. هل كانت تستحق القتل لمجرد أنها كانت تتسكع مع ذلك الكلب من البيت الكبير؟ نزار لا يجيد أبداً التعامل مع الحيوانات. لا يكفي أن تعطيهم بعض الطعام ثم تربطهم طوال اليوم. أجدني فجأة أضحك على أفكاري السخيفة. هل أجيد أنا التعامل مع الحيوانات؟
أشعر وكأن امرأة أخرى تتكلم في داخلي. امرأة خلفتها هناك في قريتي التي ولدت بها. قد تكون أمي، أو كيسّو أو لامّو بانشاني ابنة الحلاق هي التي تزحف في أوردتي. تقول لي:
«انظري إلى حالتك يا أَمْرُو. لماذا فعلت ما فعلتِ؟ ألأجل أسرتك»؟
لا يقوى رجال القرية إلا على النقيق مثل الضفادع. هل يستطيعون مواجهتي وجهاً لوجه؟
لو لم أذهب إلى مصنع الألبان التابع لذلك السمين ديتّو، ماذا كان سيحل بأسرتي؟ أنا التي بنيت هذه الغرف. أين كان سيعيش أبنائي لو لم أفعل؟ ثم دبرت مبلغ المال الذي تزوج به ابني. لا أدري إن كان بطني الجائع أو حب المال أو مرض في الروح هو الذي جعلني أرتكب كل تلك الخطايا! أشعر بالألم الآن، أتمنى لو أموت، لو يُقطّع جسدي كما حدث مع رومي أو راجّو.
فجأة قفز فأر أمامي وقلب إناء وصلت منه إلى أنفي رائحةٌ كريهة. التفت ناحية الصوت لأكتشف أن الإناء لم يكن سوى ذلك الذي أتبول فيه ليلاً في غرفتي لأتجنب الخروج في الجو البارد. لقد تركته هناك منذ البارحة ونسيت إفراغه هذا الصباح. كيف لي ان أتذكر أي شيء وقد بدأ يومي بخبر مقتل رجّو. الرائحة هنا كريهة مما اضطرني لترك الشيشة والإسراع إلى الخارج. أفتح الباب وأنظر إلى الخلف. لا أرى بولاً منسكباً على الأرض بل دماً، والإناء يبدو وكأنه رأس رجّو المقطوع. اشعر بالخوف. إنه رأسي! يخالجني شعور بالطمأنينة وأنا أرى رأسي مقطوعاً على الأرض.
تتحرك بناتي في فراشهن. ربما أيقظتهن الرائحة الكريهة التي تملأ الغرفة. تتمتم الكبرى بكلام لا أتبيّنه. أشعر بالبرد. أغلق الباب وأزحف تحت اللحاف. أحاول التدخين لكن النار كانت قد انطفأت. أفتح النور لأذهب إلى المطبخ وأوقد النار. أعود من المطبخ فيلحقني نزار.
«ما هذه الرائحة الكريحة أيها العجوز؟ ماذا سكبتِ على الأرض؟»
«ماذا؟ إنه دمي. لكن رائحته الآن نتنة. أنت أيضاً دمي.»
«يا للعجوز المجنونة.» يتمتم نزار ويخرج مسرعاً.
ثم يأتي صوته من الخارج: «نامي أيتها العجوز ودعي البنات ينمن.»
أعتقد أن نزار أصيب بالجنون. عيناي لا تريا إلا رأس رجّو المقطوع، والدم الدافئ المتدفق من جسد رومي لا يسمح لي بالنوم.
** بهجوانت راسولبوري:
من مواليد ١٩٧٠. أحد أهم الأسماء بين كتّاب القصص في إقليم البنجاب. ينتمي طبقيّا إلى طبقة الداليت (المنبوذين). له أكثر من ٨ مجموعات قصصية من بينها مجموعتان في أدب الطفل. أسس ورأس تحرير مجلتين أدبيتين.
الناشر: بنجوين بوكس إنديا، نيودلهي 2010
1 – من مجموعة «حكايات الأرض»