جرجس شكري*
يضم كتاب “قراءة النص المسرحي (1)” للدكتور أحمد مجاهد ثلاثة أبحاث عن ثلاث مسرحيات وسوف يسأل القارئ نفسه ما الذي جمع النصوص الثلاث في كتاب واحد؟، وبمجرد قراءة العناوين سيلاحظ أيضاً أن الكتاب الثلاثة ليس لهم تأثير كبير في الواقع المسرحي المصري، وأن المسرح ليس مهنة أصيلة في مشوارهم الإبداعي، فالأول محمد مهران السيد أحد شعراء جيل الستينات الذين كتبوا ودافعوا عن قصيدة التفعيلة ولد عام 1927 ، وأصدر عدة دواوين منها ” بدلاً من الكذب ، الدم في الحدائق ، طائر الشمس” وله مسرحيتان شعريتان” الحرب والسهم 71 ، وحكاية من وادي الملح 75. والبحث الثاني حول مسرحية لجاذبية صدقي 10″ 1920- 2001 ” وهي صحفية كتبت الرواية والقصة والدراسات المسرحية فضلا عن مساهمتها في مجال الترجمة والكتابة للأطفال، والبحث الثالث حول مسرحية كتبتها نوال السعداوي “1986”وهي طبيبة وروائية ومدافعة عن حقوق الإنسان وبشكل خاص حقوق المرأة ولدت عام 1931.
الكتاب الثلاثة ولدوا ما بين بداية ونهاية العقد الثالث من القرن العشرين فهم ناتج لحظة تاريخية بلغ فيها الوعي المصري سن الرشد بعد ثورة 1919، ودون شك سوف يتردد هذا في النصوص رغم التباين الكبير بينها علي المستويين المسرحي والأيدولوجي، وأيضاً رغم التباين في زمن النشر أو العرض فمسرحية “سكان العمارة” التي لم تُنشر في كتاب، فقط عرضت على خشبة المسرح القومي 1955 من إخراج يوسف وهبي، و”حكاية من وادي الملح” نشرت 1975، و”إيزيس” 1986، ووفقاً للترتيب الزمني جاءت المسرحية الأولي في سياق أحلام المواطن المصري بعد يوليو 1952، والثانية التي بدأ مؤلفها في كتابتها عام 1971 ونشرت 1975 لا تخلو من تأثير نكسة 1967 والثالثة نُشرت عام 1986 مع تبلور قضايا المرأة والاهتمام بها في المجتمع علي المستويين الرسمي والمستقل وهذا ما سوف يتأكد من خلال الأبحاث الثلاثة.
سوف أترك هذه التساؤلات وأعود إليها لاحقاً وأبدأ من العنوان” قراءة النص المسرحي “حيث إن قراءة المسرح ثلاثة أنواع : قراءة النص ، قراءة العرض، وقراءة علاقة النص بالعرض و أختار منها الكاتب النوع الأول قراءة النص وهي “(2)عملية تحليلية تأخذ بعين الاعتبار البنية العميقة والبنية السطحية للنص وتربط بينهما ،ودراسة البنية العميقة تعتمد علي أدوات منهجية مستمدة من الدراسات اللغوية والدراسات البنيوية المطبقة علي السرد ، وهي تأخذ بعين الاعتبار أيضا البناء الدرامي للحكاية وتطور الصراع وشكل توضيع هذه البنية في الفضاء المسرحي” وهذا ما فعله الباحث في المسرحيات الثلاث رغم التباين سالف الذكر حيث يؤكد في المقدمة “(3) إن قراءة النص بوصفها فعلاً إيجابياً تسمح بوضع النص في السياق الاجتماعي والثقافي والفكري لكل من المؤلف والناقد معاً عوضاً عن سياقه الأدبي المسرحي الذي يمثل قاعدة الانطلاق ” ففي المسرحية الأولى – وفقاً لترتيب الكتاب – حكاية من وادي الملح يحدد الأدوات وهي التناص ليس بمفهومه لدي جوليا كرستيفا الذي يعتمد علي التواجد اللغوي بل الأوسع والأشمل عند جيرار جينت، مفهوم التعالي النصي والذي يتمثل في معرفة كل ما يجعل النص في علاقة خفية أو جلية مع غيره من النصوص وإن كان سوف يلجأ كثيرا لجوليا كريستفا والتواجد اللغوي وخاصة في التناص الشعري من خلال مجموعة من الأمثلة تؤكد تأثر مهران السيد بصلاح عبد الصبور، وتؤكد أن أخنوم الفلاح الفرعوني الفصيح يسير علي نهج الصوفي الحسين بن منصور الحلاج في العصر العباسي وفي أحيان كثيرة تتطابق الجمل الشعرية ” وكأنهم يمشون إلى الموت ” مهران – وإذ شاهدتهم يمشون إلى الموت “صلاح عبد الصبور ”
ويحدد ثلاثة مستويات للتناص في هذه المسرحية
الأول: مع الحكاية التراثية
الثاني مع نص شكاوى الفلاح الفصيح وفقاً لسليم حسن
والثالث: مع مأساة الحلاج لصلاح عبد الصبور ومسرحيات أخري في محاولة للبحث عن القيمة الفنية لتوظيف التراث في هذه المسرحية، وإن كنت قد تساءلت بعد أن انتهيت من قراءة هذا البحث عن ضرورة اللجوء أو قل توظيف التراث في هذه المسرحية؟ فما قدمه الباحث أقرب إلى تحقيق استقصائي تتبع من خلاله أصول هذه المسرحية سواء في التراث أو في الواقع علي مستويين: زمن الحدث وزمن الكتابة عند الفراعنة وعند صلاح عبد الصبور من خلال أمثلة عديدة تؤكد تطابق المعنى والفكرة، بل والوزن والقافية والتواجد اللغوي الصريح ، فالشبلي صديق الحلاج يقابله فلاح ثائر من وادي الملح، نعم أمام حكايتين واحدة من العصر الفرعوني، وأخرى من العصر العباسي إلا أن الغرض أو المقولة الرئيسية مقاومة الظلم، ظلم الحكام، حيث يقوم الشاعر بتعديل مسار الحكاية فيضع الفلاح الفرعوني في السجن ويقيم له المحاكمة ويحوله إلى فلاح ثائر يلعب دوراً بطولياً في الحكاية مثل الحلاج !
ففي المشهد الثالث يرصد د. أحمد مجاهد ستة تناصات بين وادي الملح وصلاح عبد الصبور خمسة منها في مأساة الحلاج وتناص وحيد مع مسرحية مسافر ليل. فكما أن الفلاح في مأساة عبد الصبور صُلب بدافع سياسي تحت ستار ديني، هكذا حوكم أخنوم من وجهة نظر مهران السيد الذي أقحم حتى الرشوة في المعالجة الدرامية للحكاية حيث يقول الفلاح:
“سلة فاكهة طيبة الريح / تنحرف بقاضيك العادل / مكيال شعير واحد يفسد ذمة جابي المال/ الرشوة تحكم كل دوائر أعمالك.” لتكون الرشوة سبب التحول الدرامي في موقف جماعة الفقراء كما في مأساة الحلاج : ” صفونا صفاً صفاُ / الأجهر صوتاً والأطول / وضعوه في الصف الأول / ذو الصوت الخافت والمتواني/ وضعوه في الصف الثاني / أعطوا كلا منا ديناراً من ذهب قاني / براقاً لم تلمسه كف من فبل / قالوا : صيحوا زنديق كافر ” ووفقا للبحث ما كان يعني مهران السيد سوى الإسقاط علي الواقع المعاصر ، والحكاية التراثية فلا محاكمة ولا سجن ولا ظلم فقط تأثر بمسرحيات صلاح عبد الصبور” الحلاج 64- مسافر ليل 68 – ليلي والمجنون 71 – الملك هو الملك 73 – ويؤكد مجاهد في النهاية أن الشاعر استخدم كل السبل الفنية الممكنة لصرف القارئ عن مغزى الحكاية –وبعد قراءة هذا البحث العميق حول وادي الملح والتناص مع صلاح عبد الصبور يتأكد لي أن هناك مشكلة في المسرح الشعري بعد صلاح عبد الصبور الذي لم يتأثر به فقط من كتبوا المسرح الشعري بل من كتبوا المسرح النثري، لدرجة استعارة البحر والقافية خبب المتدارك ومسرحية ” عنترة ” للكاتب المسرحي الكبير يسري الجندي نموذجاً في المسرح النثري للتأثر بصلاح عبد الصبور.
سكان العمارة
تحت عنوان الخطاب النسائي يضع الباحث مسرحية سكان العمار 1955 وذلك بعد أن يفرق بينه وبين الخطاب النسوي وهو توجه فكري لا علاقة له بالبيولوجي والذي سوف يحتفظ به للبحث الثالث في مسرحية ” إيزيس” للكاتبة نوال السعداوي، الخطاب النسائي الذي يهتم بقضايا المرأة ويتتبع هذا الخطاب على مستويين الشكل والموضوع، ويؤكد أن الصراع في نص جاذبية صدقي الذي أخرجه يوسف وهبي للمسرح القومي ليس بين رجل وامرأة من أجل مزيد من الحقوق لكنه صراع طبقي، سبعة رجال وسبع نساء أبطال العرض ما بين البرجوازية والبرولتاريا والطبقة الوسطى ليصف النص الوضع المستبد للطبقة الارستقراطية قبل يوليو 52 19 وينحاز للطالب محمد الذي يدرس ويتعلم ولا يهتم بمظهره مخالفاً سمات وتقاليد وأعراف طبقة النصف في المائة / البرجوازية ، ليضع البحث النص في سياقه التاريخي كما حدث في وادي الملح ، فعلى مستوى الموضوع يرصد مساوئ الطبقة الارستقراطية من خلال عدة نقاط “حقوق الزواج / الطلاق / العمل/ التعليم ، التربية ” مستعينا بما كُتب حول هذه النقاط بأقلام كتاب تلك الحقبة الزمنية مثل لطفي السيد، طه حسين، لطيفة سالم ص 129، فالنص يقدم وفقا للبحث صورة للواقع المتردي قبل الثورة من وجهة نظر الكاتبة !ثم ينتقل إلى الشكل وتحليل آليات الخطاب النسائي كما وردت في النص وقسمها الكتاب إلى ستة عناصر
1 – حقوق المنصة … أو قمع الرجال للنساء في الحوار الذي يصل إلى التهديد بالضرب
2 – الحوار الحميمي وهي قراءة ممتعة في بناء الحوار ولغة النص ” همة التواصل أو أصوات التفاعل الإيجابي “هيه، هاو، هه ياه وهكذا وأيضا إشارات الممثل التي وضعتها الكاتبة والتي تجسد الحالة النفسية للشخصيات ” بفرح، بحزن، بضيق، متخاذلا ” بالإضافة إلى ما أطلق عليه الباحث استراتيجيات السؤال ليرصد من خلالها طبيعة الأداء في تلك الفترة ولا أيصد الأداء التمثيلي بل قوة الشخصيات، ممثلة في الترابط الحواري، النميمة
3 – قافية التفريع الساخر أو “آفيه” أسماء التدليل
4 – الغناء، الأغاني التي وردت في النص
5 – الأمثال الشعبية
6 – فلتات اللسان. وهذا الرصد جاء لي مستويين الشكل والمضمون قدم من خلاله صورة للواقع أو قل لزمن الحدث وأيضا زمن الكتابة أو زمن العرض في انحياز واضح لثورة يوليو.
إيزيس نوال السعداوي 86
وجاء البحث الثالث حول الخطاب النسوي والكتابة لا علي أساس الجنس يل علي أساس الوعي والمنظور، ويحدد أن النقد النسوي بدأ عندما أصبحت أول امرأة على وعي بعلاقتها باللغة وإدراكها لذاتها ككاتبة وتطرح من خلال الحكاية التراثية التي عالجها الحكيم بشكل يقلل من دور المرأة إيزيس فردت نوال السعداوي بأن أخفت أوزوريس ولم يظهر سوى في النهاية !، وراحت تطوع الأسطورة لخدمة أهدافها التي يرصدها البحث ،التحرر من السلطة البطركية ” رئيس القبيلة ” التميز ضد إيزيس الإلهة – المشاركة السياسية للمرأة – الختان ومقصود به الختان الثقافي لا الجسدي فقط – الإخصاء – الاغتصاب – مفهوم الشرف – إعلاء قيمة العقل
تغيرت الأسطورة تماما.
ووفقاً للباحث الكتاب الثلاثة لديهم موقف سياسي وليس معالجة درامية، سواء الشاعر الذي ينتمي إلى جيل الستينات، أو الكاتبة المنحازة ليوليو 1952 أو الناشطة الحقوقية المنحازة لقضايا المرأة سواء اعتمدت على التراث الفرعوني في مسرحيتين أو قراءة اللحظة الراهنة في ” سكان العمارة ” ولو شاهدت المسرحية الأولي حال عرضها ” وادي الملح “لكتبت عنها التوظيف القسري للتراث الفرعوني في مسرحية شعرية! والثانية صلاحيتها انتهت سريعاً فهي تنتمي إلى مسرح ما قبل السؤال أين يقف مسرحنا الذي طرحه المسرحيون المصريون بعد ثورة يوليو بأربع سنوات عام 1956.
وفي النهاية إذا كانت الكتابة المسرحية تقوم في جوهرها علي نوع من الاقتصادية في العلامات علي اعتبار أن النص المسرحي سيظل مادة أولية تستكمل في العرض من خلال تجسيد العناصر الموجودة فإن المعني في النص المسرحي يظل مفتوحا لاحتمالات متعددة تختلف بين القارئ أو المشاهد العادي ، قدم أحمد مجاهد في هذا الكتاب ثلاث أطروحات لهذه النصوص من خلال تفكيكه للنظم الدلالية لها مما جعل القراءات الثلاث عملية مفتوحة ارتبطت بالتداعيات الخاصة بالباحث والخلفية المعرفية التي يمتلكها وهذه قراءة أحمد مجاهد المثقف وليس الناقد المسرحي القاصرة علي نظريات المسرح البحتة وأيضا الباحث الذي قدم من قبل رسالة مهمة عن صلاح عبد الصبور والمسرح الشعري ،وهنا وفي النصوص الثلاثة تبدو خلفيته المعرفية ليس فقط في المسرح أو النظريات والمناهج التي استخدمها كأدوات بحثية ولكن في الخلفية الثقافية لزمن كتابة هذه النصوص السياسي والاقتصادي والاجتماعي . فرغم تواضع مستوي النصوص الثلاثة على المستوى الفني إلا انه استطاع أن يقدم قراءة للمجتمع المصري في تلك الحقب المختلفة من خلال انتصاره للمنهج النقدي.
الهوامش:
1 – قراءة النص المسرحي – المطابع الأميرية 2019 .
2 – معجم المصطلحات المسرحية د. ماري إلياس ، د. حنان قصاب.
3 – قراءة النص المسرحي ص8.