سليمان المعمري*
(1)
«بداخل كلّ منا كتاب، لكن لا فائدة منه إنْ لم يخرج للعالم»، هكذا كتبتْ الأمريكية جودي بيكولت ذات مرة. أستذكر هذه المقولة ببهجة وأنا أتأمل كيف أن كتاب جوخة قد خرج للعالم أخيرًا، لا ليُعلن عنها هي فحسب، بل عنّا جميعًا نحن الكتّاب العمانيين. أستذكر نبوءة روائي عُماني تفتّقتْ على شكل أمنية في ندوة عن الرواية في عُمان نظمتها مجلة نزوى في مطلع عام 2016 (يومئذ لم تكن جوخة قد فازت بعدُ بأيٍّ من الجائزتين الأدبيتين الكبيرتين في حياتها: جائزة السلطان قابوس، وجائزة مان بوكر). قال حسين العبري: ««نحن بحاجة إلى عماني يفوز بجائزة البوكر». كان العبري يقصد البوكر العربية، وكان باعثه على هذا التمني أن فوز العُماني أيا كان سيشكل اعترافا خارجيا يبدو مهما بين الناس حسب تعبيره. استجاب الله الكريم لدعاء حسين بأكبر مما تمنى: جائزة مان بوكر الدولية، ثاني أكبر جائزة أدبية في العالم بعد نوبل، تفوز بها كاتبة عُمانية لم تبدُ قبلها متعجّلة هذا الفوز، ولا ناشِدة للشهرة. كانت كمن يطهو وليمته على نار هادئة، مستمتِعة بمنظر النار وهي تومض بهدوء تحت الموقد.
(2)
من يعرف جوخة جيدًا سيعرف أنها قضت معظم سنوات كتابتها وهي تطاردُ – كنحلة تعرف مصدر رحيقها – النص الجيد بصبرٍ وأناة، ولا يهمّها كم سنة ستقضي في كتابته ما دام سيخرج في النهاية بالشكل الذي يرضيها هي على الأقل. لم تكن تبحث عن المديح، إلا إن كان مشروع كتاب عن الحب(1). ولذا، فقد انتقدت دومًا المديح المجاني، سواءً كان لها أم لسواها من الكتّاب. من منّا ينسى مثلًا مقالها عن «المرايا المحدبة» الذي كتبتْه مطلع هذه الألفية، فجلب لها غضب غير قليل من الكتّاب الشباب آنئذ. تلك المرايا كانت –حسب جوخة- تُري كاتبًا مازال في طور البدايات صورته مضخمة بسبب المديح المجاني المبالغ فيه الذي يتحصّل عليه أثناء نشره نصّه في موقع إلكتروني حواري (لم يكن فيس بوك قد ظهر بعد وقتَ كتابتها ذلك المقال) من قبيل :»أذهلتَني، أذهلتني»، و»يا للروعة، يا للإبداع المتميز!». تتساءل جوخة: «ماذا سيظن الذي يكتب قصيدته الأولى؟ ألا تكفي كل هذه العبارات وأمثالها لمنحه جواز سفر نحو مصاف الشعراء المتميزين؟ لن يمرّ شهر حتى سنراه يتحدث عن نفسه وكأنه وريث المتنبي الأوحد، والأمل المتبقي للشعر العربي، فإذا ما كفَّ عن محاولة تطوير نفسه، وإذا كان موهوبا حقا، فنقبل العزاء حينئذ: قد خسرنا شاعرا. والشعر مجرد مثال، وإلا فإن الأمر منسحب على كافة الفنون الأدبية في المنتديات، قصص في غاية التواضع الفني، وخواطر ساذجة توضع كلها أمام مرايا التضخيم والتمجيد، وتُمنح صكوك الإبداع..»(2)
(3)
لكن هذه الصرامة في التعاطي مع الأعمال الأدبية لدى جوخة تخفت قليلا، وتتحول إلى تعاطف ودفاع مستميت إذا ما تعرّض كاتبٌ ما لظلمٍ أو تنمُّر بسبب مشهد في نصّه أو عبارة عابرة. تنسى جوخة هنا اختلافها مع النص وتتضامن مع الناص. عندما تعرضت المجموعة القصصية «ملح» لأختها في الكتابة بدرية الإسماعيلي لتنمُّر مجتمعي بسبب عبارة مجتزأة من إحدى قصص الكتاب، وهو الأمر الذي أدتْ تداعياته إلى صدور حكم قضائي بإتلاف المجموعة من السوق، كانت جوخة من الكُتّاب القلائل الذين تضامنوا كتابةً مع الكاتبة ودافعوا عن حقها في التعبير. حيث نشرتْ مقالا بعنوان «بلادي تكرم أدباءها، ومحاكمها تدينهم» تحسّرتْ فيه على أنه «في بلدِ تُنشَد فيها القصائد حتى اليوم في مجالس العزاء، والمناسبات الوطنية، وتضم مكتبات بيوتها قبل مكتباتها العامة نسخ ألف ليلة وليلة، وتتدفق في معرضها للكتاب آلاف العناوين الأدبية في أكثر الموضوعات حساسية، وتنفتح قنواتها الفضائية على كل شيء للصغار قبل الكبار، ويحمل الانترنت فيها لكل بيت الغث والسمين ليختار، في نفس هذه اللحظة التي تلتفت فيها البلد لأدبائها، وتحاول رد الاعتبار لمثقفيها، يصدر حكم إحدى محاكمها بإتلاف كتاب ومنع توزيعه، وكأن المحكمة هي الوصيُّ على أذواق الناس وأخلاقهم، وكأن الأدب هو المسؤول عن مظاهر الانحلال التي لم يرها رافعو الدعوى في مجتمعهم “الطاهر”، وإنما اقتنصوها في جملة أو جملتين في قصة لم تزعم أنها تقدم سجلا للمجتمع، وليست بطبيعة الحال مرآة ولا منارة، كما يفهم أي قارئ للأدب العربي منه والعالمي، وليست بكل تأكيد أكثر خطرا من قضايا الفساد والرشاوي والإتجار بالبشر وتدهور التعليم، ولكنها – لسبب ما – أصبحت من اختصاص المحاكم في بلادي، وصدر الحكم بإعدام القصة». وختمت جوخة مقالها بتساؤل ذي مغزى : «ما الذي يرعب المحكمة في قصة؟». لم تكن جوخة تدري وهي تكتب هذه الكلمات أنها ستتعرض لنفس التنمّر المجتمعي بُعيد فوزها بالجائزة، لا لشيء إلا لأن إحدى الشخصيات الثانوية في روايتها اغتُصبتْ في مكان ما من عُمان يظنه أهله مدينة فاضلة لا يحدث فيها أي منكر!. غير أن هذا التنمّر لم يستطع لحسن الحظ أن يعكّر صفو فرح العُمانيين بفوزها. كان كقطرة صغيرة في بحر من الفرح بهذا الفوز، والافتخار بالإنجاز.
(4)
من المؤكد أن حياة جوخة الحارثي بعد الــــ«مان بوكر» ليست هي نفسها قبلها. تلخصها حالتها على الواتسب التي استمرت إلى ما بعد ثلاثة أشهر من الفوز: «أعتذر عن عدم إجراء حوارات صحفية، الرجاء عدم الإلحاح. مع الشكر لتفهمكم». تعكس هذه العبارة ضجرها من تشقلب حياتها رأسا على عقب بعد هذا الفوز، وكأنها ضريبة لا بد من دفعها. لو قال لي صديقي عبدالعزيز الفارسي ونحن نراجع روايتنا المشتركة قبل ثلاث سنوات ونختار لشوارعها أسماء كتاب عُمانيين إن نبوءتنا تلك ستتحقق قريبا لاتهمته بالجنون. بلى يا عبدالعزيز. إن كاتبة في عُمان ممن أصابتهم حرفة الأدب صارت بين عشية وضحاها نجمة كبيرة، تنافس في شعبيتها اللاعب الدولي علي الحبسي والفنانة فخرية خميس. بل إنها تتفوق عليهما عربيًا وعالمياً. لقد صرنا نشاهد صورتها في ساحات أستراليا وفي مولات مسقط. طبيعي إذن أن تتزايد الدعوات وطلبات الحوارات. في حواري الإذاعي الأخير معها تطرقت لهذه النقطة وسألتُها: لماذا ترفضين الحوارات؟ ألا تخشين أن يزعل منك الصحفيون والإعلاميون؟». كانت إجابتها هادئة ومركزة. استدعت أولاً كاوباتا من قبره ليذكَّرني أن «الشهرة تخترق حياة الكاتب وتصادرها على نحو غير إنساني». وأضافت: «هذا صحيح. فكيف سيكتب إن كان محاطاً بالضوء طوال الوقت؟!. كما تعلم إجراء الحوارات واللقاءات يستهلك جزءا كبيرا من الوقت والطاقة، وأنا كاتبة وموظفة وأم أيضا، فأحتاج إلى أن يكون لي وقتي الخاص، والذي يطالبك بحوار لا يتصور أن خمسة أو ستة أشخاص اتصلوا بك قبله في اليوم ذاته، ومجرد الاعتذار والرفض جهد نفسي». وفي الحقيقة فإن جوخة منذ أن دخلت روايتها في القائمة الطويلة للــ»مان بوكر» ثم القائمة القصيرة ثم فازت أجرت عشرات الحوارات لقنوات تلفزيونية وإذاعية ومجلات وصحف في عُمان وسنغافورة والهند والخليج العربي ومصر وبريطانيا ورومانيا ودول أخرى، لدرجة أنها تشبعتْ وشعرتْ أنها قالت كل ما لديها عن الرواية بشكل خاص، وعن الكتابة بشكل عام.
(5)
كأترابها من القاصين والروائيين العُمانيين الشباب وُلِدت جوخة الحارثي بلا أب. صحيح أن عبدالله الطائي هو مؤسس الرواية العُمانية تاريخيّا، لكن ظروف عمره القصير نسبيا وتعدد اهتماماته الأدبية لم يتح له الذهاب بعيدا في الرواية من الناحية الفنية. أما الروائي سعود المظفر الذي أتى بعد الطائي بقليل، ورغم رواياته العديدة، إلا أنه خطّ لنفسه خطّاً لم يستهوِ كثيرًا من الكتّاب الشباب الذين أتوا بعده باحثين بلهفة عن التجريب في الشكل والتجديد في المضمون. ولذا، كان علينا نحن الأدباء الشبّان البحث عن ضالتنا الفنية في الروائيين العرب والروايات المترجمة. ولم يكن صعبًا على روائية شابة بدأت الظهور في الألفية الجديدة، في وقت بدأ النتّ يعوض كل نقص لدينا في الكتب، أن تجلب كثيرا من هذه الكتب التي تحبها بضغطة زر. ومع ذلك تؤكد جوخة أنه لا يمكن تجاهل الطائي ولا المظفر عند التأريخ للرواية العُمانية لمجرد أن أعمالهما كانت أقل من طموحات الشباب الفنية، بل إنها تلتمس العذر لهذا الاختلاف الفني بين جيلنا وجيلهما: «علينا أيضا ألا ننسى وجود فجوة تمتد لثلاثين عاما بين جيل عبدالله الطائي وجيل الأسماء اللاحقة له، وهذه الفجوة ليست صغيرة زمنيا». هكذا تقول في ندوة مجلة نزوى التي سبقتْ الإشارة إليها، بل وتعترف في هذه الندوة أنها لم تقرأ روايات عُمانية إلا في مرحلة متأخرة جدا، وأن تأسيسها الأدبي كان على روايات عالمية وعربية، ولكنها لا تنسى مع ذلك أن تؤكد أنّ «التجريب العُماني تأسس، وليس بالضرورة أن يخرج من عباءة روائيين عمانيين». هذا التجريب يمكن أن نلمسه في «سيدات القمر» نفسها، التي كنتُ أعتبرها شخصيا – حتى قبل سنوات من فوزها بالبوكر- من أجمل الروايات العُمانية فنّيا، سواء في تشظية زمنها السردي أو تعدد أصواتها الروائية، أو براعة رسمها للشخصيات، أو لغتها الأدبية الفاتنة. وهذا سيقودني إلى تفنيد مغالطة قرأتها في أكثر من مقال عن الرواية بعد فوزها: وهي أن «سيدات القمر» لم يكن ملتَفَتاً لها عربياً ولا محلياً إلا بعد أن فازت بالجائزة الدولية!. وهذا ليس صحيحاً بالمرة. فقد كُتِب عنها الكثير من الدراسات والمقالات النقدية الرصينة (كمقال الناقد المغربي محمد برادة عام 2012 على سبيل المثال)، وفازت بجائزة الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء، وصعدت للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد، وقُدِّمت فيها رسالتَا ماجستير، وأُلِّف فيها كتاب نقدي (هو كتاب «سيميائية الخطاب السردي العُماني: سيدات القمر نموذجا» للباحث الجزائري محمد سيف الإسلام بوفلاقة). أما عدم وصولها لأي من القائمتين الطويلة أو القصيرة لجائزة البوكر العربية سنة صدورها بالعربية، فقد كان لسبب بسيط: أن دار الآداب لم ترشحها أصلا.
(6)
في أحد أيام شهر يوليو الحار، بعد شهرين فقط من فوز جوخة بالجائزة، وبينما هي منهمكة في مكتبها بقراءة بعض الأوراق اقتحم عليها المكتب فجأة هندي بقميص مشجر وشَعْر مسرّح وهو يهتف: « madam. Are you Jokha Alharthi? . فكان جوابها : «yes» . انفرجت أساريره وبان الانشراح على ملامحه. «أنا سعيد جدا بمقابلتك». حدستْ جوخة أنه لا بد أن يكون أحد المعجبين بروايتها أو الفرِحين بفوزها، فدعته للجلوس. قعد وطفق يسرد لها كيف أنه يقطن منطقة بعيدة في الهند، وأنه يعمل في عُمان منذ عدة سنوات، وأنه أخبر كل عائلته وأصدقائه في الهند أنه سيتجشم مسافة طويلة من خارج مسقط إلى الجامعة فقط ليقابل جوخة ويتشرف بتكريمها، وأنه وعدهم بأنه سيصوّر معها ويبعث لهم الصور. كل هذا وهي تستمع إليه بصبر ولسان حالها الحكمة الشهيرة «كل هذا سوف يمضي». لكن الرجل يبدو أنه تسمّر في الكرسي المقابل لمكتبها ولا يستطيع القيام منه، بل شرع يطرح عليها أسئلة شخصية عن زوجها وأولادها وإخوتها وأين يعملون وكيف يعيشون، وهي ترد عليه بصبر وحلم، موبِّخة نفسها الأمارة بالغضب :«يجب ألا أكون فظة وعليّ أن أقدّر تجشّمه كل هذه المسافة». ثم فجأة باغتها بالقول إنه سينشر هذا الحوار في الجريدة المحلية في بلاده. هنا قالت له بصرامة : «NO. هذه دردشة بيني وبينك وليست حوارا للنشر». عندها، تراجع الهندي عن طلبه وقال : «لا تفهميني خطأ مدام. أنا لم آتِ هنا لإجراء حوار أو لأي مصلحة شخصية، أنا جئتُ هنا فقط لأكرمك. لأُلبسك هذا»، ورفع كيساً كان قد وضعه على الأرض. قالت جوخة مندهشة : «ما هذا؟» قال « هذا رداء تشريفيّ من بلدي، وهذه هي طريقة تكريمنا للأبطال في بلادنا». وقبل أن تفتح جوخة فمها خرج من المكتب إلى الممر وفي يده الرداء الشبيه بالشرشف وصاح ببعض الفتيات أن تعالَيْن صوّرن هذه اللحظة التاريخية. استغرقتْ جوخة وقتًا غير قصير في إقناعه أنها ستضع بنفسها هذا الرداء على كتفيها، وعليه هو فقط أن يقف أمام الكاميرا. ابتسما والتقطتْ الفتاة الصورة. ثم غادرت هي وصويحباتها. لكن الرجل عندما شاهد الصورة في هاتفه لم تعجبه هيئته. يبدو أنه لم يبتسم جيداً، أو أن ابتسامته بدت مفتعلة أو غير طبيعية. لا بد أن عائلته وأصدقاءه سيوبخونه على هذه الوقفة التي لم تكن مستقيمة. لم يترك نفسه طويلاً لهذه الهواجس، فقد ركض مرة أخرى للممر وجاء بفتاة أخرى لتعيد التصوير من جديد!.
هذه صورة واحدة من الصور العديدة التي يعرب فيها قراء من أربع رياح الأرض عن فرحهم بجوخة وفوزها. وأظن أن هذا هو أقصى ما يتمناه أي كاتب. أن يحبّه القارئ ويفرح لفوز نصّه، فيعتبره فوزه الشخصي. من هنا أفهم فرح هذا الرجل الهندي بجوخة، وفرح ذلك القارئ الغزاوي الذي بعث لها رسالة مؤثرة يقول فيها: «نحن أفراحنا قليلة في غزة، ووددتُ أن أشكرك أنْ قدمتِ لنا واحداً من هذه الأفراح القليلة».
(7 )
في أحد مساءات ديسمبر 2014 سألتُ إبراهيم الطيب، الذي لم يتجاوز سنواته الست بعدُ، في برنامجي الإذاعي «القارئ الصغير» عن أمنيته في المستقبل، فكان جوابه العفوي الفوري : «طبعاً مؤلف قصص». وطبعاً لم أتفاجأ. هل يُعقَل أصلاً أن يتمنى غير هذه الأمنية وهو محاط بكل هذه العائلة من الكتّاب: أمه جوخة، جد أمه الشاعر أبو الحكم أحمد بن عبدالله الحارثي، خالها الشاعر محمد الحارثي، خالها الآخر القاص عبدالله أخضر، خالتها القاصة والروائية أزهار أحمد، أخوها يعقوب الحارثي الذي ألف كتباً ونافح في المحاكم عن كُتّاب، ابنة خالها الفنانة ابتهاج محمد الحارثي. هذا محيط لا بد أن يؤثر في أي موهوب. وهو سيقودني بالضرورة إلى جوخة نفسها التي قالت في شهادتها عن خالها محمد الحارثي في كتاب «حياتي قصيدة وددتُ لو أكتبها» :» كل من اتصل بجدي الشاعر، أصابته لوثة الأدب». جدها الذي استغرقت عشر سنوات كاملة في تحقيق ديوانه كمن يلوك في فمه قطعة حلوى ببطء مخافة أن تذوب بسرعة، فيما استغرق خالها بدوره سنوات في تحقيق الأعمال الشعرية لشاعر عُمان الكبير أبي مسلم البهلاني. ثمة تشابهات عديدة بين الخال وابنة أخته، لكن ما يوحدهما هو الشغف بالحكايات والخيال، كما تسرد في شهادتها. يحكي لها – مع مبالغات درامية – حكايات مغامراته في الرحلة الأخيرة، وهو بالمناسبة من أهم كتّاب أدب الرحلات في الوطن العربي، وتحكي له عن المؤتمر الأخير الذي حضرتْه، «وقذفت فيه النسويات الغاضبات بأحذيتهن الرجل الذي يظن نفسه يعيش في القرون المنصرمة». يحكي لها حكاية القاضي المهووس بالغلمان، وتحكي له عن طلابها الذين أطعموا نياقَهم المقررات الدراسية. يهزأ من آخر كتاب قرأه، وتقرأ هي عليه مقاطع من آخر كتاب قرأته، وتطير الشرفة بالضحك. غير أن هذه العلاقة الحميمة بين كاتبَيْن رائعَيْن لن تمنع ابنة الأخت من أن تكون من أشد ناقدي كتابة خالها، كما سنرى في الفقرة القادمة.
( 8 )
((..في كتابي «عين وجناح» كنت قد أشرت ممتدحًا ما فعله الاستعمار الفرنسي في الدول المغاربية قياسًا إلى ما فعله الإنجليز في مسقط وعدن، ومديح أبي مُسلم البهلاني لسكة القطار في شرق إفريقيا واعتبارها منقبة تعاكس قصائده النهضوية. وفي كتابي الرّحلي «محيط كتمندو» أشرتُ للتطوير والتحديث الذي قام به الصينيون في التيبت –مع نقد نهجهم، طبعًا- لأستشهد بما قاله صديقي الفنان المغربي أحمد بن اسماعيل الذي قال: هل محمد الخامس أو المقاومة المغربية هو ما خلق البنية التحتية في المغرب من سكك الحديد والسّدود والتعليم والطرق وتنظيم المؤسسات؟.. لا. من فعل ذلك –يضيف بن اسماعيل- هو الاستعمار الذي طردته المقاومة، ولو بقي الفرنسيون في بلادنا لكان الوضع أفضل بكثير من تهافت الحكومات المستقلة، ويبدو أنني آزرت رأيه مُبرِّرًا محاسن الاستعمار. بيد أنّ ابنة أختي الروائية والأكاديمية د. جوخة الحارثي كانت تنزعج من هذا النهج؛ ففي آخر بريد أرسلته من لندن كانت في غاية الضيق حين أخبرتها أنني في المراحل النهائية من كتابي الرّحلي الجديد حول سيلان، فقالت: «بسّ أرجوك، أرجوك خالي لا تتطرق مرّة أخرى لمحاسن الاستعمار»!)).
من كتاب «فلفل أزرق: رحلتان في سيلان» للشاعر والكاتب الراحل محمد الحارثي، وهو قيد الصدور عن دار مسعى البحرينية.
(9)
كتبتُ هذه الكلمات قبل شهر على صفحتي في فيسبوك، ولكن لا ضير من إعادة نشرها هنا للأهمية :
لنتفق أولا أن فوز جوخة الحارثي بجائزة مان بوكر الدولية، وإن كان إنجازا فرديا نابعا من اشتغال جوخة على نفسها ككاتبة، إلا أنه كان في الوقت ذاته إنجازا ثقافيا لعمان. لمسنا ذلك من حفل الاستقبال الرسمي لها في مطار مسقط الذي تصدره معالي وزير الإعلام، ومن استقبال سعادة رئيس جامعة السلطان قابوس لها في مكتبه. (بالمناسبة عدا هذين الاستقبالين البروتوكوليين لم تتلق جوخة أي تكريم رسمي، والتكريم الوحيد الذي حظيت به حقا هو تكريم مؤسسة الزبير) ولمسنا ذلك أيضا من افتخار مؤسسات رسمية كثيرة بهذا الإنجاز، بل إن صورتها وهي تتسلم الجائزة كانت تتوسط تقريرا في تلفزيون سلطنة عمان عن الإنجازات الثقافية في يوم النهضة العمانية قبل أسبوع.
أسوق هذه المقدمة لأقول إن جوخة الحارثي قد أصبحت اليوم سفيرة عمانية بالفعل، وما الدعوات التي تنهال عليها من جامعات ومؤسسات ثقافية عربية وعالمية إلا دليل على ذلك. لذا ينبغي علينا جميعا أن نسهل عليها القيام بهذه «السفارة». وأخص بذلك جهة عملها (جامعة السلطان قابوس) التي يفترض أن تراعي هذا الأمر، ولا تتعامل معها بالمنطق البيروقراطي نفسه الذي يحكم مؤسساتنا للأسف الشديد. لا يكفي أن ندعي افتخارنا بإنجازها بالكلام الإنشائي، في حين نضع العراقيل في طريقها. وعندما تطلب اليوم تعاون الجامعة معها لتتمكن من تلبية الدعوات الكثيرة التي تنهال عليها في جامعات ومؤسسات العالم الثقافية فهي لا تطلب المستحيل، ولا ينبغي التعامل مع طلبها هذا بدون وضعه في سياقه الأعم والأهم: كونها سفيرة عمان الثقافية، التي استطاعت أن تلفت أنظار العالم للأدب العماني، والتي هي كغيمة الخليفة العباسي: أينما أمطرت فسيأتينا خراجها.
(10)
«أنا أيضا أقول لدي أمل في الرواية العُمانية».
هكذا اختتمت مجلة نزوى ندوتها عن الرواية في عُمان، التي أشرتُ إليها في بداية هذه الكتابة. وليس بغريب أن قائلة هذه العبارة هي جوخة الحارثي.
الهوامش
1 التلميح لكتابها «مديح الحب» الصادر عن دار ميريت المصرية عام 2008
2 سبق أن عرجتُ على هذا المقال في مقال لي بعنوان «رسالة إلى كاتب شاب» نُشِر في كتابي «يا عزيزي كلنا ضفادع».