ابتهاج الحارثي*
عندما يسألني الناس: تقرب لك جوخة؟ يكون ردي دائمًا: ”جوخة بنت خالي وبنت عمتي وصديقتي وجارتي التي أأتمنها على أطفالي، جوخة أختي” ، . بلا مبالغة – هي الحقيقة.
نشأتُ سنيّ عمري العشر الأولى طفلةً وحيدة، وكنتُ مؤمنة إيمانًا خالصًا بأن بنات خالي (ومنهن جوخة) هُنّ أخواتي بالدم، ولذا، كنتُ أقضي كامل وقتي معهم عندما أزور قريتنا في عُطل نهاية الأسبوع والإجازة الصيفية، حتى أن جدتي كانت تشتكي وتقول: “نراك فقط عندما تنزلين من السيارة وعندما تركبينها للرحيل مرةً أخرى”، كنتُ أقرب بالعمر والصداقة إلى أخت جوخة الأصغر زينة، وكنا كثيرًا ما نلعب معًا طوال النهار حتى يحين وقت الظهيرة، فنُغير على صومعةِ جوخة لنجدها تقرأ كتابًا كالعادة، نجلس أنا وزينة بقصد الحديث ونقل أخبار نهارنا فقط لتأمرنا جوخة ألا نتكلم ونضيّع وقتنا الثمين في الثرثرة، ثم تمسك كتابًا وتبدأ بتدريسنا والحديث عن الكتب التي قرأتها أو تُسمعنا قصة كتبتها، كنا نجلس بانتباه في البداية ثم يتحول الانتباه إلى نظرات متبادلة ورغبة في الخروج واكمال ثرثرتنا او اللعب بالعرائس، ولكن هيهات أن تفلتنا جوخة قبل أن تتأكد من أننا شربنا من “منابع العلم”، وبعد أن نُفلت أنا وزينة بصعوبة، لا ننفك نرجع مرةً أخرى في ظهيرة اليوم التالي إلى صومعة جوخة وغرفتها، تطورت تلك الظهيرات القائظة حتى أصبحنا نأتي بكامل رغبتنا ودونما إكراه كل ظهيرة إلى غرفة جوخة لنستلقي بثلاثتنا نقرأ بهدوء ولا نسمع حتى صوت تنفسنا إلى أن يعلو أذان العصر، بعدها أصبحت أدخل لوحدي غرفة جوخة وآخذ كتابا -لا بد أن تفحصه هي أولًا وتقرر إن كان يستأهل القراءة أو لا- وأقرأ بهدوء، كانت جوخة -وهي في المرحلة الدراسية الثانوية- دائمًا ما توبخني على قراءة روايات مصرية للجيب وتتعجب؛ لمَ أقرأها وأنا باستطاعتي أن أقرأ أمهات الأعمال الأدبية، هذا الجدل استمر حتى دخلت الجامعة وبعد ما أنجبت ابنائي وإلى الآن وأنا أعطيهم روايات مصرية للجيب ليقرأونها، هذا الجدل اللذيذ الذي يتمحور حول الكتب بدأ في غرفة جوخة في بيت خالي، وبهذا تكون جوخة ابنة خالي الذي قضيت الكثير من طفولتي في بيته والذي كان دائمًا يقول: ” فلوس “فلان” وعلم جوخة من عند الله!،” وبالفعل، هذا الإخلاص للعلم والكتابة طوال هذه السنين لا بد أن يكون من عند الله..
وبيت خالي -الذي هو بيت عمتي أيضًا- كان متميزًا بفترات الظهيرة التي يُفترض أن ترتاح فيها عمتي، ولكن ما كان يحدث في الواقع هو أن تتجمع جميع بنات عمتي معها لتمسك جوخة كتابها، ونلعب أنا وزينة وتقضي عمتي ظهيرتها بالحديث مع بناتها أو الخياطة، أذكر هذه الفتره جيدًا لأن جوخة عنَّ لها في أولى سنين دراسة اللغة العربية بجامعة السلطان قابوس أن تقرأ جميع أجزاء ديوان المتنبي الأربعة وأن تحفظ شعره، وفي فترات الظهيرة هذه بالتحديد، كان البعض يستلقي أملًا بالنوم والبعض يُقلب بعض قطع الأقمشة والدشاديش العمانية والبعض يذاكر لثالث ثانوي وجوخة وأمها يتطارحن شعر أبي الطيب المتنبي، فتقول جوخة: “أمي سمعي هذا البيت ..”، وترد عمتي ببيتٍ آخر من شعره، أو شعر غيره بنفس المعنى، فقط لترد جوخة عليه ببيت آخر، ثم يمضي الجميع لشأنه، وتسود لحظة هدوء تقطعها جوخة فجأه بقصة من سيرة المتنبي مشفوعة ببيت له لترد عليه عمتي ببيت وقصة أخرى وهكذا، هذه الظهيرات القائضة كانت مميزة لأنها لم تكن مفتعلة، كانت صادقة وكان الجميع يشارك بقصة أو بيت ما، ولا أدري ما الذي يدفع طالبًة في قسم اللغة العربية لقضاء إجازتها الصيفية القائضة -بعد فصلين من الدراسة والاستذكار- بحفظ قصائد المتنبي، إلا الحب الخالص للغة والشعر، لم يكن الشعر والأدب في بيت عمتي وغرفتها التي أحب حدثًا مفتعلًا أو متكلفًا كعلم يُدرّس في المدارس، بل حدثًا يوميًا يشبه الثرثرة عن الجارات، وبهذا تكون جوخة ابنة عمتي التي احتضنت غرفتها هذه الظهيرات الشاعرية والتي قالت عنها عمتي الأخرى الصغرى: ” أختي وبناتها لا يتكلمون مثل الأوادم، بل يتراددون بالشعر”، وبالفعل، أجزم أن اللغة الشاعرية السلسة في كتب جوخة ليست إلا انعكاس لهذا الحب المبكر للشعر والتشبع به.
وجوخة- ابنة خالي وابنة عمتي- أصبحت صديقتي عندما جمعتنا الغُربة، كنتُ وقتها أحضّر رسالة الماجستير في ملبورن بأستراليا وهي تحضر رسالة الدكتوراة في أدنبره باسكتلندا، كنا نتصل ببعضنا لنثرثر مطولًا عن الأزمة الحضارية التي نمر بها وعن اختلاف الثقافات والهوية وشوقنا للخبيصة العمانية وعن رسالة الدكتوراة والماجستير اللتين كنا نكتبهما، في تلك الأحاديث المطولة، كانت جوخة تشتكي من اضطرارها للانفصال عن لغتها الأم في تلك الفترة لكتابتها لرسالة الدكتوراة -وهي الضليعة باللغة العربية وقارئتها النهمة منذ الصغر- بلغةٍ كانت لا تزال تتعلمها، أرهقها كثيرًا أن تكتب عن مجنون ليلى وأشعاره ـ تلك التي كانت تقرأها مع أمها ومعنا في الظهيرة- باللغة الانجليزية وأن تُضطر لترجمتها أيضًا، وأغلب ظني أن جوخة كانت حينها تمر بأزمة هوية حقيقية وانفصال عن لغتها وبلدها وما يمثلها، وقد يكون هذا الانفصال هو المنبت لسيدات القمر، لرغبة في الاتصال، وشعور ملازم بالحنين، هذه الأحادث الهاتفية المتذمرة أحيانًا والفكرية المتأملة غالبًا جعلت جوخة رفيقتي في الغربة وصديقتي في التجربة.
وجوخة جارتي، أمشي بضع خطوات لأصل لشرفتها وقت العصر وأشرب كوب قهوة، وجوخة ليست جارتي التي أشرب عندها القهوة وأتذوق لذائذ الحلويات التي تجلبها من مشارق الأرض ومغاربها فحسب، ولكنها الأم الرؤوم التي أأتمنها على أطفالي أيضًا، عندما كانت صديقتي الأيرلندية تحتضر بالسرطان ورغبت أن أزورها لم أترك أطفالي إلا مع جوخة، وعندما رجعت من السفر وجدت أن أطفالي تعلموا من جوخة وقرأوا كما قرأت أنا معها في غرفتها عندما كنت طفله، وفي الحقيقة ما لا يدركه الكثير أن جوخة رغم مشاغلها كأكاديمية واخلاصها لحرفتها ككاتبه، أمٌ متفانية، الكثير مما أعرفه عن تربية الأطفال تعلمته من جوخه، أذكر انها علمتني ان أرجع للكتب ان كانت لدي مشكلة تربوية ما وأعارتني كتابًا – لم أرجعه بالمناسبة – عن كيفية قول “لا” لطفلك، ولا أعرف أمًا تهتم بنشاطات أطفالها الفنية والرياضية غير المدرسية، وبتعليمهم وملء أرفف غرفهم بالكتب مثل جوخة، وكل هذا أثمر عندما فازت جوخة بالبوكر وقال لي ابنها بكل ثقة عندما سألته عن شعوره بفوز أمه: “كنت أعرف أنها ستفوز قبل أن يعلنوا النتيجة،” وعندما هرعت ابنتها – كابنة باحثة أكاديمية حقيقة – من التأكد من الخبر في الإنترنت قبل أن تسمح لنفسها بالشعور بالفرح خوفًا من أن يكون الخبر إشاعة، نعم، أعلم أنني عندما أترك أطفالي مع جوخة أنهم سيتعلمون شيئًا ولا أستغرب هذا أبدًا، فجوخة الآن- وقد أصبحت أمًا وأكاديمية- لا زلت أدخل عليها غرفتها كما كنت أدخل عليها قبل عشرين سنة والكتاب لا زال في يدها..
ولكل هذا، جوخة هي أختي، أختي لأنه عندما بلغني خبر وفاة أبي، كانت جوخة هي أول من اتصلت بي لتكون معي، ولأنها قالت لي: “دائمًا ما تقولين أنه ليست لديك أخوات، أنا اليوم هنا، أنا أختك،” وأحيانًا لا ندرك عظمة الأخوات لأنهن أقرب مما يجب، ربما لأنهن جاراتنا وبنات خالاتنا وعماتنا وصديقاتنا، ومن يحلو لنا أن نشاكسهن لقربهن، وقرب جوخة الشديد مني أحيانًا ينسيني اخلاصها لحرفة الكتابه، وما تعلمته وعلمته وأنجزته، لأننا أحيانًا لقربنا لا ندرك عظمة من نعيش بجانبه ونشرب قهوته كما يجب.