محمد مظلوم*
أيُّ حديثٍ عن تجربة فاضل العزاوي في الكتابة، وهي تجربة متشعبة أصلاً في الشعر والرواية والقصة والنقد والترجمة، لا يمكن عزله عن شجون أخرى متشعبة هي الأخرى تتصل بجيل الستينيات في العراق وما عرف بجماعة كركوك حيث تجربة فاضل بينهما بيضة القبان، لأنَّ هذه الشجون تشكل، بتقديري، وشائج متشابكة وأساسية في فهم تجربة العزاوي خاصة كما أنها تحضر حضوراً استثنائياً في شعره ونثره.
وستينيات العراق، حقبة ثرية بقدر ما هي ملتبسة، ومفتوحة على آفاق متعددة بقدر ما هي قلقة ومضغوطة داخلياً، وهي محكومة كذلك بمقولات ومفاهيم الحرية والالتزام، وسجالات الأشكال القديمة والجديدة للقصيدة، وإرث الصراع الملكي الجمهوري، وتعقيدات الصراع القومي الماركسي، متجسَّدة في ثنائية «البعثي» و«الشيوعي». وإذا كانت هذه التعقيدات المحلية سمة أساسية في تجربة جيل الستينيات العراقي، فإن «جماعة كركوك» وهي تسمية مجازية لاحقة، لها شجونها كذلك، وإن بدت أقل تعقيداً، لكنها تتصل بالشجون الستينية أساساً لناحية انفتاحها على الثقافة الأوربية، والتحولات الفكرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فقد وجدت جماعة كركوك -فاضل العزاوي وسركون بولص على نحو خاص-في تجربة حيل «البيت» الأمريكي محرِّضاً ومُلهماً لأسلوب كتابي مختلف، والتمرد السياسي والاجتماعي، كما أن شعراء «البيت» قريبون أساساً من الأفكار الماركسية بل اتهموا بالشيوعية، إذ رأوا أن الرأسمالية مدمرة للروح الإنسانية ومضادة لمبدأ المساواة الاجتماعية. بالإضافة إلى رفضهم لقيم الثقافة الأمريكية بنزعتها العدوانية خارجياً والاستهلاكية داخلياً، ومثلما نَظَر شعراء «البيت» إلى تجربة «اليوت» بوصفه شاعراً نخبوياً محافظاً، لم يُسلِّم فاضل وصحبه من جماعة كركوك بحداثة شِعْر الرواد الذين كانوا فرسان المشهد وقتذاك، فنزعوا إلى كتابة شعر مغايرة، ومتطرفة أحياناً، رغم أنَّ قصيدة «الرواد» كانت في عنفوان زهوها بالتجديد الذي أحدثته.
وإذ مثَّلتْ كركوك، أواخر الخمسينات وبداية الستينيات، معقلاً شعرياً لمجموعة شعراء شباب اكتسبوا نعت «الجماعة» فهي تشبه في ذلك مدينة «سان فرانسيسكو» في كونها المعقل الشعري لجيل «البيت» على الشاطئ الشمالي للولايات المتحدة في ذات الفترة تقريباً. واستقطبت الشعراء من مختلف الولايات الأمريكية الذين أسسوا لما عرف بــ «نهضة سان فرانسيسكو» الشعرية، التي تتشابه مع «نهضة كركوك» ومع أنَّ كركوك بلا شاطئ جغرافي، إلا أنها تعوم على بحر دفين من النفط اجتذب جماعات متعددة الأعراق، وهي تقارب واحة مفتوحة على صحراء وتمثل مختبراً كوزموبوليتياً، وجدت فيها أقليات قومية ودينية عدة، موئلاً لها بلا أكثرية واضحة! حيث العرب: من شيعة وسنة، والكرد والتركمان والمسيحيون: من سريان وأشوريين وحتى اليهود، وحيث الشركات الأجنبية تجتذب الباحثين عن العمل من شتى أرجاء العراق إلى جانب الخبراء الإنجليز، فكانت المعرفة بالإنجليزية مهمة في للعمل في شركة النفط، وأحياناً حتمية بفعل وجود الخبراء الإنجليزي وعوائلهم في المدينة، ففاضل العزاوي ابن العامل في شركة النفط، وسركون بولص القادم من معسكر الإنجليز في «الحبانية» والأب يوسف سعيد الخارج من صومعة الرهبان السريان في «الموصل» شمالاً. وأنور الغساني القادم من «العمارة» جنوباً، ومؤيد الراوي ذو الأب المسلم والأم المسيحية، ناهيك عن لقبه الذي يعود لمدينة أخرى، وصلاح فائق ذو الأب التركماني والأم الكردية، اجتمعوا على مقربة من النار الأزلية في «بابا كركر» حالمين بسرقة نارهم الشعرية منها.
هذا التشابه والتداخل، سيبدو مفتاحاً آخر لقراءة تجربة فاضل العزاوي الأدبية الغزيرة والمتنوعة، ومن خلال ثنائية البحر والصحراء في تجربته فكلاهما، في الجوهر، أفق مفتوح على موشورية كونية.
لكن «كَوْن» العزاوي الذي سمَّاهُ مبكراً في بيانه الشعري بـ «الكون المهجور» لا يتحدد بالضرورة في المعنى المباشر لمكان مُقفرٍ وغير مأهول، فهو مهجورٌ ظاهرياً ومجازياً لكنه زاخر جوهرياً بحقائق ووقائع مطمورة في تلك الرمال وتعاود الظهور لعين الرائي في الفراغ، وهو ما جعله مسكوناً بليل الصحراء العربية، ومستغرقاً في حكايات فرسانها وخرافتها البعيدة، إذ يكتب في وقت مبكر:
«أيقظوا العربيَّ الذي نامَ في جسدي ألفَ عام.
أيقظوا وطني الوثنيَّ»
وهكذا فإن صحراء فاضل كناية عن فيسفساء، وصورة أخرى للتعدد، وليست مجرد انكشاف سطحي يغري البصر، بل غموض يثير شهوة البصيرة، إنه ذلك القفر الذي يزخر في عمقه بأطياف عدَّة، مثلما ينطوي على العواصف التي تجابه رحلة الشاعر، وتحاول خلق متاهته في الرمال وهو يبحث عن مُدنٍ أخرى.
العزاوي نموذج للأديب الثوري ولعل الثورية بالمفهوم السياسي آخر ما يمكن أن يعنيه هذا الوصف هنا، وإن اشتمل عليه، فثورية العزاوي في شعره تنويرية، وتمرده الروحي ليس تقويضياً لكنَّه يقترح بناءً آخر ينزع إلى الانعتاق مما هو رومانسي وطني وعقائدي محلي محدود، نحو ما هو إنسانيٌّ وكونيٌّ. وبهذا المعنى فإن نصوص فاضل متمردة وتبشيرية في الآن نفسه منذ مبدئها، تجمع بين التمرد الغريزي الإنساني، والنقدي العقلاني، وتلك هي ميزته بين شعراء ومثقفي جيله مثل سامي مهدي على سبيل المثال، فالنقد بالنسبة للأخير مثلبي اتهامي كيدي في أحسن حالاته، حيت يتوجه إلى الآخر، ومناقبي تبريري إزاء الذات و«الرفاق»
حاول فاضل منذ أول كتبه «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة» 1969 كتابة نص ثالث بين الشعر والسرد، فبدا معمار النشيد هُجنةً بين القصيدة والقصة، في محاولة لخرق تلك المسافة الصعبة والهوة القائمة بين الإيجاز والسرد، بمعنى إنه يكتب قصيدته بانتباهة السارد، ويكتب روايته بمتاهة الشاعر ومفارقات القصيدة. ووصولاً إلى كتابه الأحدث «الرائي في العتمة» لم يتخلَّ العزاوي عن ذلك الدأب القديم في تزويج الأجناس إذ يقول «أردت دائماً أن أضع كتاباً يكون كل شيء ولا شيء في آن، رواية بلا محور أو مركز» وفي هذا الكتاب تتجاور القصيدة مع القصة، والمقالة مع السيرة، وتتحاور الترجمة مع النقد، والتأملات والفكر الخ.
والواقع أن قبيلة الشعراء «المفلقين» الذين لا يجيدون سوى كتابة الشعر لم تعد تناسب العصر ولا حداثته، أو على الأقل أن هذا النوع من الشعراء يبقى أسير الإنشاء واجترار نص أحادي في أحسن الأحوال. وهذا لا يناسب «كونية» العزاوي وتنوعه الداخلي، وفهمه للتكوين الروحي الشاعر الحداثي، فأدرك ذلك واستشعر كونه الداخلي المتعدَّد فانحاز إلى فكرة «الكون» وغلَّبها بوعي على فكرة «العالم» أو الدنيا، ونزع نحو الإبداع العصي على التصنيف، فغدا الكاتب الذي يدخل ويخرج من أبواب متعدّدة ويتركها مواربة لمن شاء أن يتعقَّبَه في مسيرته التي تخلق المتاهة، ذلك أن المسافة بين فاضل الشاعر وفاضل الروائي والقاص، والمترجم، والصحفي، مسافة ملتبسة حقاً، لأنها تستمد كونيتها من التعدَّد الداخلي للكاتب لتخلق كونها المجازي المقابل.
قصيدة العزاوي نفسها، لم يخضعها لشكل شعري واحد، فقد كتب القصيدة الموزونة، وقصيدة النثر، وقصيدة الكولاج، والنص التجريبي، والقصيدة الملحمية الطويلة والقصيدة اليومية الموجزة، وقصيدة البيت الطويل، وقصيدة الكلمة السطر، وقصيدة الفكرة المكثفة، دافعه في ذلك كله: الحرية والقلق: حريته في التعدد والتنوع التي تخرج كتابته من ضيق شكل محدد، وقلقه ليس ذلك الافتراض المسبق للخطيئة الأصلية، كما خوَّض فيها «كيركغارد» طويلاً وإنما هو قلق البحث عن الهوية والذات واجتراح أفق جديد للحرية الإنسانية.
ومنذ ديوانه الشعري الأول «سلاماً أيتها الموجة سلاماً أيها البحر» بقصائده المكتوبة بين الأعوام 1960 – 1970 بدا أن فاضل العزاوي يكتب قصيدة مختلفة عما سبقها أو جاورها من نماذج ظلت لها السيادة، فـ «الروَّاد» لم يذهبوا بعيداً في فتح القصيدة على احتمالات جديدة لناحيتي الشكل والمضمون، بمعنى أن التحديث كان محدوداً رغم أهميته التاريخية، فكان أدب فاضل العزاوي شعراً ونثراً، مُغايرَةً مبكرةً للأدب المتجهِّم، فشعر السياب شعر شكوى، ومرض!، وقصائد نازك متجهمة وتشاؤمية، لذا حفل أدب فاضل العزاوي بالفكاهة السوداء، فبما أن العالم من حولنا كناية عن فكاهة تتَّشحُ بالحشمة والرصانة، فينبغي التندُّر عليها حتى تجريدها من زينتها الخارجية، وفكاهة العزاوي سوداء ظريفة وليست سوداوية تشاؤمية، بمعنى أنها تسعى إلى أن تجعل من التشاؤم فعالاً ومحرضاً على الفعل المضاد، وليس اعتكافاً ويأساً تاماً، ورغم مراهنته على شحن خطابه الأدبي بجرعة عالية من الشعرية والخيال، وعوالم فانتازية كثيفة الظلال، في محاولة لتضليل الرقابة، إلا أن هذا التحجيب الزائد، والغموض الإيجابي، جعل الرقابة على نصه تتخذ منحى آخر، فما هو غير مفهوم للرقيب يبدو أكثر خطورة مما هو مفهوم بالنسبة له، وإضافة إلى ذلك سنجد في قصيدته ميلاً صريحاً وأحياناً جامحاً للإطاحة بالغنائية التي ظلت راسخة في تجارب الرواد، ورغم وضوح صوت الأنا في تجربته الشعرية، إلا إنها لم تكن تَغنِّياً تقليدياً بالذات، وصوتاً أحادياً بل تنحو منحى مزدوجاً: اعترافياً واتهامياً في آن معاً، كما تتجلى في تجاربه المبكرة نبرة الابتعاد عن إيقاعات شعر الرواد، ولعله هذا ما دفعه إلى تفضيل (بحر المتدارك بِصيغته الخَبَبية) ليمنح جملته الشعرية من خلال تتابع وتداخل الحركات والسكنات في هذا البحر، طاقة حركية واضحة ويتيح لها استيعاب مشهدية سردية تلم بالتفاصيل والرؤيا الكلية معاً وتجعلها ملائمة لحركات الحياة كذلك، وهو ما جعل معمار قصيدته يتسم بالتدفق على صعيد الفكرة، وبدت قصيدته أقرب للتدوير على صعيد الشكل الفني. وتجربة فاضل في القصيدة المدورة ما زالت من القضايا الفنية التي تستحق التوقُّف عندها والبحث في جذورها التي لا تخرج كثيراً برأيي عن نزعته السردية فهي مشحونة ببحثه عن المغايرة ناهيك عن اطلاعه على تجارب مماثلة مهمة في الآداب الأوربية.
أما مطولاته الشعرية فهي بانوراما جامعة للأشكال والتجريب المفتوح يمكن الإشارة هنا إلى نماذج منها مثل: «الصحراء» و«كاتدرائية العصافير» و«نزهة المحارب» و«كل صباح تنهض الحرب من نومها» و«مرثية المشنوقين» وسواها وصولاً إلى قصيدة «مرثية الأحياء» عن الحرب الأمريكية على العراق في أعقاب غزو الكويت عام 1991. وضمها ديوانه «في كل بئر يوسف يبكي»
تعدُّد رؤيا الراوي
تعدُّد فاضل الداخلي أتاحَ له أن يجمع بين ثنائيات تبدو متناقضة، ليدمجها في نسق جماليٍّ وفنيٍّ خلاق، ففي عموم أدبه، وفي رواياته على وجه الخصوص، تجد تلازماً بين السحر والعلم، وتعايشاً بين الخرافة والواقع، بوصفها ينابيع مُتعدَّدة تغذي أرضاً واحدة، وإذ يصف فاضل نفسه بأنه «عابر متاهات» فإنه، في الوقت نفسه، رسَّام خرائط بارع لإحداثيات تلك المتاهة، بما يجعله هو نفسه إحداثيات في الطريق، مُستبدلاً في رحلته قناعاً بآخر، لمخاتلة المتاهة، كي يبدو مشتبهاً به في استكشاف تلك المتاهة، دون أن يكشف عن وجه واحد له أو يقترح طريقاً مثالياً للمتاهة! وهكذا قادت المتاهة شاعر التجريب، إلى الرؤيا والتلصص من كونه الشعري الداخلي، إلى العالم النثري من حوله من خلال أعمال روائية تعد من أهم الأعمال الروائية العراقية، وخاصة روايتي: «آخر الملائكة» التي تدور أحداثها في كركوك الخمسينيات، و«الأسلاف» التي تدور أحداثها في بغداد في الستينيات وأوائل السبعينات. وهاتان الروايتان، تتكاملان لتشكلا سيرة عراقية جامعة، وتقومان على الكوميديا السوداء وهي سمة غير طارئة على كتابته فقد ظهرت مبكراً منذ عمله الروائي الأول: «القلعة الخامسة» حيث يأتي البطل إلى بغداد ويجلس في مقهى بانتظار من يصحبه إلى المبغى، لكنه يجد نفسه فجأة في سجن مع المعتقلين السياسيين! ليستكمله في «آخر الملائكة» برسم صورة مشابهة للبطل الكاريكاتوري أو الكارتوني حميد نايلون الذي اكتسب لقبه بعد أن حاول إغواء زوجة خبير النفط البريطاني بجورب نايلون من أجل أن يقيم معها علاقة عابرة، فطرد من عمله ليصبح نقابياً عمالياً ومن ثم مناضلا ثورياً يخطط لثورة فلاحية. أو «قره قول منصور» الحلاق الزنجي الذي أصبح شهيداً إسلامياً قريناً ببلال الحبشي! رغم أنه لم يشترك في المظاهرة بل قتل وهو جالس على كرسي أمام دكانه، وثمة نماذج أخرى متعددة لمثل هذه المقاربة الساخرة من فكرة صناعة الأبطال المزيفين في العراق التي ما زالت مزدهرة حتى الآن. فرغم أن «آخر الملائكة» تتحدث عن عراق الخمسينات ونشرت طبعتها العربية الأولى عام 1992، فإن صلتها بوقائع الراهن العراقي وثيقة، تؤكد إن المعضلات القديمة تتجدد في المجتمع بين حين وآخر، كما تؤكد الاستشراف العالي والرؤيا الحدسية للكتاب عما يمكن أن تؤل إليه الأحداث خاصة لعودة تنامي الخرافة وصعود الحس المذهبي المقيت والصراعات الدامية.
وفي الواقع كانت كركوك نموذجاً بانوراميا ممتازاً ليلتقط العزاوي من خلاله صورة تقريبية للشرق بأسره، لا للعراق وحده، حيث المبغى على مقربة من مركز الشرطة، والملهى قرب أضرحة الأولياء والمسجد، والمقبرة لا تبعد عن الطريق العام، مما أتاح له أن يجد خلطة سحرية يمزج من خلالها وقائع التاريخ ووثائقه والسيرة الواقعية لمكان محدد من خلال نماذج شخصياته التي تتصف بـ «البهللة»، أي الجمع بين الحكمة والتذرع بالجنون، حيث رأى ابن عربي في «البهللة»: (معرفة بالباطن، وزهد بما هو متحصل من الخارج) ويقرن هؤلاء البهاليل أو «مجانين الحق» كما يسميهم بطبقة الأولياء والأنبياء (مَنْ شاهدَ ما شاهَدوا وأبقى عليه عقلُهُ فذلك أحسنُ وأمكنُ فإنه قد أعطى من القوَّةِ قريباً مما أُعطيت الرَّسُل) ومكَّنه هذا الرسم الذكي لمثل هذه الشخصيات أن يغلفها بأطياف إنسانية سحرية، وأن يخرج بمكانه المحلي الضيق إلى الإقليمية، فالكونية، فجعل من محلة «جقور» تقارب «ماكوندو» ماركيز في «مائة عام من العزلة» أو على أقل تقدير تضاهي «جيكور» السياب ليرسم بانوراما عريضة لتاريخ بلاد بل تاريخ منطقة بأكملها. وهو ما جعل الراوية تحظى باهتمام عالمي بعد ترجمتها إلى الإنكليزية والألمانية في أعقاب الغزو الأمريكي العراق عام 2003.
وإذا كان الملائكة في هذه الرواية لم يأتوا إلا ببذور الخديعة والخيبة فإن مصير البلاد في رواية «الأسلاف» يتشكَّل في رواية غامضة كتبها الشيطان، لكن الشيطان ليس سوى مؤلف خفيٍّ، فهل هي صفقة فاوستية؟ ومن هو الراوي الأصيل؟ فإلى جانب الشيطان – فاوست أرض الرافدين الذي يتدخَّل في حياته ومصيره الشخصي ومصير البلاد-هناك عادل سليم البطل المؤلف، وفاضل العزاوي (الناشر كما يقول) وهذا التعدد للواحد، يعطي صورة نموذجية أخرى عن التناسخ الداخلي في أدب العزاوي ولعل هذا الاقتباس من الرواية المنشورة عام 2001 أي قبل عامين من غزو العراق، يكفي لإعطاء لمحة تنبؤية خطيرة عن طبيعة هذا العمل: «ما كان ينبغي لك أبها الشيطان أن تستفرد بالعراق وتقلب تاريخه بالطريقة التي فعلتها من أعطاك الحق في إنزال اللعنة عليه؟»
وإذ حظيت «آخر الملائكة» بدراسات عدة تستحقها، لأنها تتحدث عن تاريخ واقعي وأحداث حدثت بالفعل وتستشرف المستقبل في الوقت نفسه، فأن رواية «الأسلاف» هي أرخنة للمستقبل! ولذا ستحتاج إلى إضاءات جديدة وعميقة لتقرأ على وفق ما آلت إليه الوقائع في عراق ما بعد 2003.
في الرواية الأولى ثلاثة ملائكة، وفي الراوية الثانية أربعة جنرالات موتى، ينبعثون من موتهم ويحلمون بحكم العراق من جديد (حكم العراق أربعة جنرالات فعلاً: عبد الكريم قاسم، والأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف، وأحمد حسن البكر وصولاً إلى صدام) فلا حلَّ إلا بقوة الشيطان ليدمرهم نهائياً ويقود العراقيين إلى جحيم لا يعرف قراره.
فهل يتلخص مصير العراق بين وعود ملائكة خطائين وما خططه له خيال الشياطين؟ فبذرة الملائكة في الرواية الأولى أنتجت شخصية الشيطان في «الأسلاف» الذي ينهي «التاريخ الدموي للعراقيين» لكنه يقودهم في قوافل إلى الجحيم! (أنا الشيطان جئت لأختم تاريخكم الدموي هنا، قبل أن اقودكم قافلة بعد أخرى إلى الجحيم…لم يكن إطلاق سراحكم من القفص لتعيثوا في الأرض فساداً)
وهكذا يتجدد خلق المنفى مثل تتجدد المتاهة، ومنفى فاضل العزاوي لم يكن مجرد منفى مكاني بحثاً عن ملاذٍ آمن بعيداً عن الاضطهاد، بل مشكلة وجودية تتعلق بالحرية، ونزعة التمرد والانشقاق، إنه صِدامٌ مستمرٌّ مع ما تكرِّسه الجماعة، واحتجاج على إخضاع الفرد لناموس جماعي. ومحاولة إعادة تكوين الهوية في ولادة جديدة بل ولادات متعددة. وبما أن الحياة نفسها منفى منذ صرخة الولادة فينبغي الاستمرار في إطلاق مثل تلك الصرخة، والإيغال في النفي حدَّ التيه، وحتى الفناء قبل الوصول إلى الأبدية التي تطيح بمفهوم المنفى نهائياً، وبما أنَّ المنفى اللاهوتي كناية عن طرد من الفردوس منذ خطيئة آدم فلا ينبغي البحث عن فردوس بديلٍ أو العودة للفردوس القديم بل الايغال في التيه الذي قاده إلى التجريب الفني منذ وقت مبكر، وهو في الوقت نفسه ذلك المصير الذي يستشعره كل كاتب خلاق وينذر له حياته وربما لهذا لم يعد فاضل إلى العراق، شأنه شأن كثيرين من العراقيين، بعد «زوال» الحقبة السياسية التي اضطرتهم للهجرة، ذلك أنه يؤمن بالمنفى المستحيل: المنفى الذهني والروحي في (الكون المهجور) وليس المنفى الجغرافي، والاقتلاع من التربة الأولى. يكتب فاضل ذلك في قصيدة «الصحراء» عام 1973 أي قبل أنْ يتحقق منفاه المكاني بمغادرته العراق عام 1977:
«أملأُ كيسي رَمْلاً
وأؤسِّسُ في المنفى وطناً»
لكنَّ كيسَ الرمل هذا لم يعد مجرد زوادة شخصية في الرحلة الشاقة، إذ يوظفه العزاوي في فانتازيا ساخرة في روايته «الأسلاف» من خلال إعلان تنشره شركة (التراب التأسيس الوطن في المنفى) تعلن فيه استعداداها لتزويد المنفيين بالتراب من أية بقعة من الوطن إلى أي مكان من المنفى ليشيدوا فيه الوطن، في عودة كوميدية سوداء «إلى ما لا عودة إليه!»