العصاب الشعري
يتساءل العربي المتلقي للشعر المعاصر والمستقبل له قراءة وسماعا عما آل اليه مصير الشعر، هو (العربي) المسلح بذاكرة إيقاعية ونظمية محتل الشعر في تخومها مركز الثقل والانشاد والمسامرة. مركز الهجاء والمديح والرثاء والنسيب. يتساءل عبر كل مناسبة أو غير مناسبة عن هذا المصير الصعب الذي اليه ربيب ذاكرته وتوأم روحها وأجيالهما المتعاقبة بدوا وحضرا.
يتساءل وهو ينظر الى ذلك التشظي المريع الذي أخذ بالشعر العربي وبعثره الى قصائد فيها الكثير من الانفلات من ربقة ذاكرته المعهودة، الى مقاطع ومشاهد ونصوص واخلاط أشكال أدبية، الى قصائد نثر. وان كانت تحمل صدى الماضي لكنها تقطع أوامره في أكثر من وريد الماضي لكنها تقطع أوامره في أكثر من وريد ووتد وزحاف، وهو في تساؤلا وحيرته هذين زائغ بالدرجة الأولى أمام حركة الأشكال وعنف اندفاعها الى المجهول.
كان على الثقافة العربية التي كان الشعر منها (مستودع هذه الثقافة وتاريخها) أن تأتي الضربة القوية في قلب هذا الشعر واشكاله وروحه التي وصلت كالحياة العربية الى النمط والتكلس والاجترار.
ولم يعد للماضي الشعري العربي المشرق من استمرارية تؤشر الى وجود أو احتمال وجود.. هذا الهرم الذي أصاب مركز الشعرية الكلاسيكية ربما عجل بولادة الأشكال الجديدة واندفاعها بوعي أو غير وعي الى تحطيم صنعية اللغة وثبات الدلالات بالمعنى المتعارف عليه وأقولها، واستمرار بعض الأقلام في تلك الدائرة التقليدية لم يعد لها من صدى يذكر الا في التندر والفكاهة،وعملية الصاقها بالماضي الكبير لا تقود إلا الى عظمة تلك العهود الشعرية الغاربة وتفاهة حاضر اجترارها وتقليدها في عملية اقتلاع بعيدة عن الزمن والتاريخ.
يستمر الشعر الجديد في اجتراع مغامرته مبحرا في المناطق الصعبة للوجود البشري ويستمر في الوقت نفسه صب اللعنات عليه من أكثر من جهة وصوب إلا قلة قليلة.
يستمر الشقاق والانفصال بين أطراف النزاع في الوقت الذي تستمر فيه الحياة العربية نحو مجهولها الخاص مندفعة الى الطرف الأقصى من هاوية مصير لا قاع له ولا قرار. فكأنما هذا الشعر المدان تعبير طبيعي عن شروخ هذه الحياة وتصدعاتها التي لا تحصى. فلماذا لا يكون له الحق في التجريب والاختبار والتجاوز. رغم ما يشرب البعض منه من غثاثة وسوء تعبير وجهل بتاريخ اللغة وطاقات عملها!؟
كل الفعاليات البشرية من أدبية أو علمية، أو هندسية أو طبية.. الخ. تمارس حقها في التجارب والاختبارات ولها نصيب الفشل والنجاح كأي ممارسة بشرية ولا ترتفع أصوات الاستنكار واللعن إلا على الممارسة الابداعية في الشعر.
وهو بلا شك تأكيد آخر على مركز يته في الذاكرة العربية، كون ذلك أيضا لا ينفي مشروعية الدفاع عن المنجز الابداعي الهام فيه والذي لو استقبله نقد موضوعي في اطار حضاري (ليس شلليا أو عشائريا) لفذي الذاكرة العربية المنكوبة بدم جديد ومساءلة جديدة. يبقى هذا الأمر قائما ضمن هذا التصور حتى لو اندفع الشعر الجديد ني مسالك من العدم والفوضى بالمعنى الأصيل الخلاق، تلك الفوضى التي هي قرينة التجريب والتي يصفها ( كلود ليفي شتروس ) بقنطرة البحث عن نظام أفضل للأشياء. وذلك العدم والمنفى والوجد الممزق والعزلات النائمات على شواطىء البحار، تلك الأشياء التي لا يستقيم أؤد أي ثقافة حقيقية إلا باختراقاتها المقدسة.
لم يكن الأدب العربي الكلاسيكي أيضا إلا مخترقا بهواجس هذا الوجود المضطرب روحا وشكلا حسب الفترات والأزمنة والشخوص، ولم يكن أسير الوظيفية الساذجة لمفهوم الأدب والشعر إلا في جوانبه الضعيفة. إذ يطمح الجديد الى الاستفادة من ذلك الميراث الروحي مقرونا باستلهام الحياة والمعيش المعاصر، الحي واليومي، فذلك هو الاستمرار الابداعي في روح الأمة التي أوشك البلاء أن يسود جنبات حياتها.
يختلط المشهد الشعري العربي ويغيم، ويلتبس،0ليس في ذهن متلقيه أو قارئه بالمعنى العادي فحسب وانما يحتدم السجال والصراع ويصل حد الالغاء المتبادل بين أطراف منتجيه ومبدعيه، فلا تتداخل موجاته وتتحاور في سياق ابداعي حقيقي وانما تنبني وجهة وعلي تفتعل القطيعة والتفرد المطلق بأشكال مختلفة، من انبثاق أجيال ومجموعات متوهمة، يصل وهم تفردها واعتدادها بمثالها الابداعي حد العصبية التي لا تلين ولا تتنازل عن حق السحق والتفوق. ينطبق هذا التلميح على أطراف الشعر الحديث أو معظمها، المتقدم والمتأخر منها، فالمتقدم يزعم السبق والأصالة والخبرة وغير ذلك الذي لا يرده اللاحق المنضوي تحت لواء أكثر جدة وهامشية واختراق.
ليست عصبية الشعر الجديد أو القصيدة النثرية وحدها التي تمارس نفي الأخر أو تهميشه فقد سبقت قصيدة التفعيلة، دعك من شعر العمود الخليلي المعروف، الى هذا الالغاء
والتهميش بزمن طويل، فقد مارست حقا شبه مطلق في احتكار الشعرية العربية ومنابرها واعلامها ونقدها. فجاء الرد الصاعق لاحقا بما يتساوى أو يزيد وينقص مع حجم الاجحاف والعشوائية التي مارسها السابقون.وانحشر جدل الشعر بهذا المعنى في زوايا ضيقة واستقطابات عصبية لا ترى شيئا خارج ذاتها ومثالها المسبق. والشاعر قبل أن يستوي ويلامس قدرا من نضج وتأمل واستقلالية تفكير لابد غارق في تلك العصبية واغراء جماعيتها التي توهم بالحماية والأمان الشعري السهل، بما يعنيه من ترويج اسم وكتابة يشبه الربح السريع في عالم التجارة والمقاولات.
الشاعر اللاحق أو الجديد.. الخ. في هذا السياق ينقلب على نفسه وأطروحته التي تحاول اجترار عزلة وهامشية ورفض لجماعة، يرى أنها ذات منحى قطيعي. عكس شاعر المرحلة السابقة الذي يتواءم مع مشروع وهم جماعي لم يلبث أن أصابه العطب والانكسار أمام اختبارات الوقائع والتاريخ.
هل يتمخض في خضم هذا المشهد العصبي شعر حقيقي أو يتجاوز بانفتاح الحوار على الاتجاهات والرؤى والحياة التي لا يمكن تعليبها في قالب ,أو مثال !.
سيف الرحبي