أحمد الملا*
عدسة مكبرة
تعجلنا الحياة
يوم كنا صغارها
وصار لكل منا عدسة مكبرة
مثلما وصفها كتاب العلوم المدرسي،
حملناها
وقسنا من خلالها الكون.
أول ما رأيت
أبي.. طويلا وشاهقا
وتأكد لي أنه قادر على فعل ما يعجز الرجال
أفعال لا يقوى غيره فعلها
كأن يمسح على رأس النخلة العجوز مثلا
ويناولني تمرها
بيسر،
ما أسمّيه الآن معجزة فيزيائية.
وأمي لم تخرج من المطبخ أبدا
كنت أراها بثوب مشجّر وشال أسود يلفّ رأسها
تحرك ملعقة في قدر ضخم، يكفي العالم اللحوح بصحنه خلفها.
كبرت قليلا
صغرت العدسة وصارت منظارا يقرّب ما أشاء
الجار الغامض يقف في حوش بيته
أطل من فوق الطين أقرّبه من زجاج العدسة حتى يكاد يغدو عملاقا محبوسا في القصص المصورة.
أجلس في الصف الرابع بمدرسة الفتح قرب النافذة
أرقب السجن ويرقبني
بعدستي أجرّه
أجرّ قصر إبراهيم
القلعة العثمانية وأرى ملامحه الواجمة من أعلى كوة في السور وجه سجين مؤبد يقضي نهاره مطلا على مدرسة أطفال
ويوم افتقدته صباحا لازمني فضول لم ينقطع إلا في عصر يوم بارد
حيث صدفة عبرت السوق
أدخلت رأسي بين أجساد متراصة عند دوار البلدية.. ولكي أختفي عنهم
وضعت العدسة فانفتح الحشد فجأة صرت في حلقة مفرغة محاطة بالرجال وفي وسطها يركع سجين القلعة بوجه شاحب يشخل بالعرق ولمعة طويلة معقوفة تقيس المسافة بين رقبته والسماء
لاحقا قيل أنه دفن بلا قبر معلوم
بلا غسل
ولاحقا أيضا عرفت وظيفة السياف.
كبرت أكثر ومع العدسة في سطح البيت تآمرنا على الشمس واتهمناها بحريق فراش الأب القطني.
العقاب نزعها من يدي المحروقة
ودفنها النسيان
كي أدوسها حافيا كلما هبّ التذكّر.
كبرت وكنت في طائرة تخترق سماء الأربعين ضاعت الحروف فجأة من الكتاب
اشتريت من المضيفة نظارة القراءة الأولى
وتعاميت عن لمعة في كفي أثارت ريبة الراكب المجاور ولم أعرف كيف أشرح له سر
عدسة الطفولة المكبرة.
تلك العدسة الخارقة التي رافقت طفولتي
لم أكن أملك ما يطابق صورتها في كتاب العلوم تماما
ابتدعت قعرا زجاجيا لقارورة كوكاكولا بعد كسرها على عتبة المسجد وسحكها في الجدار هاربا في الضحك من المؤذن العجوز.
أهذا ما يجعلني الآن عَطِشاً
وحين أرفع الماء لا أجرؤ على النظر في قاع الكأس أبدا.
مرآةُ النائم
جاري لم آخذه على محمل الجد منذ طفولتي، لسبب وحيد كدت أنساه من فرط خفته.
حين أسرّ لي أول مرة عن جسده الذي ينقص ويذوي كلما طالعَ في المرآة.. وقتها ضحكت ودمعت عيناي، ورأيت في ملامحه كيف اتّخذ قرارا سريعا بعدما اكتشف مدى فداحة قوله، فلم يعد يذكر المرايا، وألغاها من كلامه ولهذا نسينا هذا السر أو هكذا ظننت.
ورغم تجنّبه المرايا وتفادي المرور أمامها في كل مكان، وانقطاع حديثه عنها، إلا أنه أشار مرة بين أصدقاء مشتركين إلى معرفته طريقةً فريدة في الانتحار دونما ألم، يخبّئها تحت سريره منذ سنين، ولم أربطها بالمرآة لولا غمزته الخاطفة لي.
كبرنا ونسينا ثانية، مثلما عاش، وحيدا بلا مرايا، يرعى أمه بعطف وحنان متبادلين، حتى عشق أختي الصغيرة أو أحبّها بجنون حسب قوله.
لم يبح بذلك لأحد غيري، وكلما قلت له حدّثْ أمك لتفرح لك، صفن وقال إنها تشعر بذلك، أراه مطبوعا في وجهها وهي تتفادى أن أصرّح به.
هكذا بدأ حال أمه يسوء وصحتها تذوب حين جاءني قائلا: لا أستطيع أن أفقد أمي وأشهد تلاشيها أمامي، وليس باستطاعتي محو حبّي لأختك، على الرغم من محاولتي الشاقة في التظاهر بالنسيان، لكن قلب الأم مرآة.
البارحة طرقت أمّه باب بيتنا متأخّرا وقالت، مكسورة، ابحثْ عن صديقك، لم يخرج من غرفته منذ يومين. فتّشت عنه لم أجده.
عدت بها إلى غرفته. سريرُهُ مقلوب
ورأيت ثياب نومه مكوّمة على الأرض أمام مرآة كبيرة لم تكن موجودة من قبل. وكأنما لمحته فيها، ضحكتُ في سري ودمعتْ عيناي.
ننطقُ بالجملةِ في صوتٍ واحد
أنقذتني ريم عدّة مرّات..
وأظنّها اعتادت على ذلك ولم يعد الأمر يعني لها غير تمرين مهارةٍ أجادتْها مرّة بعد مرّة،
وإذا لم تكن في حال يسمح لها بذل الجهد، فهي تتفادى الوضع وتقفل عني المكتبة بالمفتاح.
في شدة غضبي، تمنعني من قراءة تلك التي في دولاب مغلق عن الفلسفة والأديان وليس مسموحا بأي كتاب فيه؛ قائلة «هذه ليست للنزهة»، فالكتب تعلّق لي مفاتيحها على الحروف وتترك الجملةَ مواربةً على معنى فسيح.. وبأثر من شعور الغليان الذي أحمله؛ أدوخ وأدخل في ثنايا الكلمات وعبر نقاطها، مثلَ بخارٍ يتكثّف على الناحية الأخرى من الزجاج ورويدا أتجمّع قطرات؛ أطلع هناك داخل الكتاب وأتلاشى هنا في البيت.
مرّات كثيرة أعادتني عنوة من مدن الملح وهي تشتم وتصيح: «ماكوندو ماركيز على الاقل».
في بداياتها معي كانت تتوه حتى تجدَني. في المرة الأولى هجمتْ عليَّ، متلبّسا أنظر بشفقةٍ «تيريزا عند وصولها محطة براغ»، باكية وضربت صدري بقبضتيها مفزوعة.. ولاحقا صارت تعرف أثري بين «أبوطالب» في داغستان و»غرنوي» المهووس بالعطر، ومطاردا طيف «باولا» على شواطئ تشيلي.
أحيانا أسمع صوتها فألبد بين مقاهي باب الليل أو في حانة «هورتنس» منتظرا سنتور زوربا.
اعتدتُ أخْذَ الشِّعرَ معي إلى بارات يرتادها بحّارة وعتالون، يومَ جاءت وبدلا من الخروج؛ اقتربتْ وسألتني نسخةً من مفتاح الرحلة، حين التفتَ النادل ضاحكا: «مفاتيحه لا تحيا في غيره»، وأسرَّ لها غامزا بطرف عين، أدّتْ بي إلى جرْع الفودكا دفعةً واحدة بيد وبالأخرى سحبتُ فتاتي، وهجرنا تلك الرواية تماما.
في ليلة الحادثة، اختفت ريم من البيت، عدتُ متأخرا من الخارج ورأيتها في شاشة التلفزيون، نائمة في سرير أليسيا في فلم « Talk to her» مددتُ يدي وأيقظتها بقوّة، فتحتْ عينيها على كنبة الصالة رفعت ببطءِ المستجدّ مفتاحها وابتسمت بتشفٍّ من هلعي وكأنها سجلت أخيرا هدف التعادل الكوني.
ها هي تعدّ الأفلام قبالة كتبي، صار كل منا يقترح رحلته على الآخر، ثم نربّي الغضب فينا، كنا نجده بيسرٍ وينمو عارما بسهولة، ثم أخذ يستعصي علينا معا ولم يعد من ضغائن كافية لتحريك الوجع، حتى أن ليالينا الأخيرة نجرّ فيها جسدينا منهزمين إلى النوم.
هكذا أصبحنا لا نفرط في قدح شرارةٍ بيننا ونتسابق إلى النفخ فيها وإشعالها، ما إن تتفتّح لنا رحلة، حتى نعدّ أنفسنا بحماس، نلهو بالحوارات ونتقافز بين المشاهد قبل إنقاذ أنفسنا من النهايات الكئيبة.
كثيرا ما تهرب ريم وتغامر عند حدود الصفحة الأخيرة، خاصة عندما تنتقي لي كتابا تبتغيه وتضعه جانبي عندما أكون متوقّدا.
وفي اتفاق غير معلن لم نذهب فرادى هي أدخلتني قبو أمير كوستاريكا وأحلام كيروساوا ووتبعتُها في حكايا مايازاكي. وأنا دليلها في أساطير سليم بركات وقصص أورهان باموق.
كم تهنا في شوارع مشتركة، فوق جبال وداخل غابات، ننطق بالجملة معا في صوت واحد، ولولا طفل لنا يلعب في البيت، لم ينضج غضبه من هذا العالم بعد، ما رجعنا.
* من مجموعة قيد الطبع.