محمد موهوب*
«ما أن يبدأ استعمال التحليلات التاريخية لأهداف نقد اديولوجية حتى تصير هي نفسها متهمة».
(ر. كوزيليك، تجربة التاريخ، غاليمار، 1997، ص. 88)
التاريخانية كقدر
لدراسة العلاقة بين الفلسفة والتاريخ، الممتدة على خمسين سنة، منذ المقالات المكونة لكتاب العرب والفكر التاريخي(1)، والحاضرة بقوة، تصريحا وتلميحا، في جميع كتابات الأستاذ عبدالله العروي، نعتبر صدور كتابه، الفلسفة والتاريخ (2)، فرصة لا تعوض، فهو يصرح في أول جملة من كتابه: « مشيت دوما على رجلين: التاريخ والفلسفة» (3). مداخل عديدة لمقاربة هذا الإشكال، والمحاولة التالية واحدة منها.
الحديث عن العروي عموما حديث معقد ومتشابك. تشابك القضايا التي يخوض فيها، كثافة كتابته، تعدد مصادره… ينضاف إلى ذلك وغيره، في حالة الكتاب الذي نتوسل به مقاربة إشكالنا، أن يُحسب صاحب هذه المقالة، وبضرورة حكم المهنة، تدريس الفلسفة، خصما له(4). غير أن الآسر في الأمر، والشيق فيه، هو أن يتحول الشنآن وتتحول الخصومة إلى شخص عبدالله العروي نفسه، فيصير هو نفسه خصما وحكما. خصم وحكم لذاته، لمساره، لما كان ممكنا أن يكونه. ومن ثمة فما يبدو من احتمالية خصومته للغير، الغير الذي قد نكونه كمسالك واختيارات، كممثلين لمسالك واختيارات مخالفة، هي مسألة عرضية ولا تطالنا إلا بالتّبع. فهو كما يقول، منذ بداية الكتاب، قد «يعطي الانطباع خطأ(5)»، أنه خصم للفلسفة كتخصص. غير أن الأمر انطباع، وفقط انطباع!
يقوم المؤلف على تخيل لائحة بالإمكانات المتاحة أمام طالب مغربي يجر وراءه تاريخا / تواريخ جعلت منه ما هو عليه: العروي، عبدالله، المؤرخ مثلا، وليس غيره: الأديب والروائي، الخطيبي، عبد الكبير، مثلا. ظروف، إمكانات وملابسات دفعت بصاحب الكتاب، قيد الدرس، إلى ساحة التاريخ، إلى واجهة الأحداث؛ دفعت بالاختيارات التي هي اختياراته، واللاإختيارات التي لم تكن اختياراته. لا زال يناضل ضد هذه ويعرض حظوظها، منافعها، انسجامها…، وينافح لصالح تلك ويسعى لمنحها فرص النجاح والوجود.
هنا نأتي إلى مربط الفرس. سيسعى العروي لتبيان أنه كان ما كان الاختيار الذي تبناه، فقد كان بإمكانه أن يكون أستاذا للفلسفة. الاحتمال وارد ! إلا أن ما هو أهم من هذا الاحتمال أو ذاك، في سياق استعراضه لسيرة حياته، هو أنه ضرورة ولزاما كان سيكون تاريخانيا أي خصما للفلسفة وللتقليد الفلسفي من أرسطو حتى هيدجر وفوكو!
الآن وقد أحطنا مسعانا بما قد يكفي من الحذر، نعرض الخطوط الكبرى لمقالة الأستاذ، ساعين إلى القبض على الناظم لخيوطها: ما التاريخ الذي اعتمده الأستاذ؟ ما التاريخانية التي تماهى بها؟ أي تصوّر هو تصوّره للفلسفة؟ كيف ميّز بين الممارسة الفلسفية والممارسة التاريخية؟ على أيّ أرضية وانطلاقا من ماذا تتحدد شروط القراءة والانتقادات…؟ نعتمد في ذلك كله رواية الرجل ما وسعتنا إلى ذلك الحيلة والسبب.
لنبدأ بغض الطرف، ولو مرحليا، عن البدايات: فُقدان الأم في الصغر وتولي الأب مسؤولية التربية، بما قد يكون لهذا المعطى من ايجابيات: الصفاء الديني / العقلي الذي سيورّثه له الأب مثلا…، بما له وبما عليه من سلبيات: قد يكون ميوله نحو التجريد، سيقول العروي، انعكاسا للحرمان من حنان الأم… ولنأت إلى مرحلة الشباب ومرحلة طلب العلم.
قبل استعراض العروي لما تتيحه له فرنسا، يبدأ باستعراض زاده من الحياة قبل التحاقه بها. استعراضُ ما تتيحه هذه هو استعراضٌ لما هو مقدور لهذا الوافد الجديد،هذا المغربي ذي الإمكانات التالية: العروي وما تسمح أو لا تسمح به إمكانياته الذاتية، وسطه ونشأته، العروي وإمكاناته الموضوعية: العربي المسلم المنتمي لمغرب عشية الاستقلال. يقول: «هناك إذا شيء واضح: كل طالب أجنبي أتى للتكوين في جامعة غربية، يتحمل ضرورة عبء تاريخ مضاعف، تاريخه هو وتاريخ البلد المضيف»(6) . ثم يعطي أمثلة على هذا وذاك: «لن يكون بإمكاني في باريس أن أعرف شيئا عن الوضعية المنطقية، ولا عن فلسفة اللغة الأنجلوساكسونية. أكون قد سمعت عنها عرضا، ولكن ليس بالطريقة المجلبة للفائدة. سجين للتقليد الفرنسي، دون امتلاك للغة اللاتينية ولا معرفة لا باليونانية ولا بالألمانية، يكون قد حيل بيني وبين كل عمل موسوعي. هكذا تكون ظروفي قد أجبرتني على الاشتغال بالحاضر. عندها عن رضا أو عن غير رضا ستتلقفني السوسيولوجيا / العلوم الاجتماعية(7)، وفي هذه الحالة أي مهرب عن الشحن الماركسي »(8). لا مهرب من تأثير المناخ الثقافي والسياسي العام الذي كان سائدا أنذاك، كما يبين العروي في اللوحة التي يرسمها للحياة الثقافية الفرنسية قبل التحاقه بها وكيف تحدد مساره ضرورة جراء ذلك.
ولتأكيد هذا المعطى يلجأ العروي، على شاكلة «التنويع»/ التعداد الفينومينولوجي(9) ، إلى تقنية التجريب العقلي، تقنية الافتراض(10). سيلجأ إلى “لعبة”، كما يسميها فيما بعد، إلى مسألة “فنية”، مسألة غير علمية: «يمكننا دوما تصور احتمالات (تاريخية) مغايرة لتلك التي حصلت بالفعل، إلا أن هذا مجال الفن» (11) ؛ يقول: «(…) لنستمر مع ذلك في لعبة الرجم بالغيب هذه (باليوكرونيا(12)) ولنتصور ما كنت سأكونه عقليا / ثقافيا لو أني اخترت القيام بدراسة الفلسفة»(13). ثم يذكرنا بالغاية من هذا التنويع، من هذه الآلية: «لأتيقن من تأثير المكان واللحظة، الذين أعيرهما هنا كل هذا القدر، يلزمني أن أتساءل عن ما كان يمكن أن يكون عليه مساري الثقافي لو ذهبت للدراسة في غير باريس، أو لو كنت ولجتها قبل أو بعد»(14).
أمام جبرية ساذجة، أمام تبريرية فجة تتهدد موقفا مماثلا من التاريخ، يتوقف العروي للتمييز في الجبرية بين جبرية وجبرية. فيميز بين جبرية التاريخ الواحد الذي يحكمنا، في الأزمنة الحديثة مثلا، والذي بمقتضاه تكون كتابات ” فينومينولوجيا الروح ” لهيجل مثلا، و”الاديولوجية الألمانية ” لماركس قي القرن التاسع عشر، تلزم واقعا ثالثيا كواقع مغرب عبدالله العروي في القرن العشرين. لهذا يحذرنا قائلا: « فهذا التلازم بين المنطق والكرونولوجيا، إذا ما لوحظ بدقة وأخذ بجد، فهو، في حدود يجب ضبطها مع ذلك، يؤدي إلى نظرة جبرية للتاريخ »(15) .
غياب هذا التمييز بين جبرية وجبرية، يكشف جانبا آخر لهذا الاعتراض. «هل كنت سأفكر بطريقة مغايرة لو درست بكامبريدج (…) بمدرسة الاقتصاد اللندنية؟ لا أعتقد، إذا ما اعتمدت الانطباع الذي تركه لدي اقتصاديون شباب من رواد هذه المؤسسات والذين أتيحت لي الفرصة للالتقاء بهم في 1958 بيوغوسلافيا تيتو»(16).
على خلاف ما قد توحي به إقامته لشرطي الزمن والمكان في تحديد حيواتنا، «لا يعتقد» العروي أن اختلاف الأمكنة التعليمية بين باريس ولندن، مثلا، كان سيغير شيئا في مساره. لا يعتقد أن الوحدة الثاوية وراء اختلاف روسيا، ذات التطور الرأسمالي البطيء، وألمانيا، التي نظّر لها ماركس، لا علاقة لذلك كله بظروف العروي. هي نفس الأوضاع اجتازها الغرب وتجاوزها، فهي تشكل ماضيه، ويطالب العرب، في رأي العروي، بتمثلها وتبنيها، لأنها تشكل أفقا / مستقبلا لأوضاعهم المتخلفة. وهو ما يعني أيضا أن هناك وحدة تجمع بين أماكن التعليم الآنفة. فعلى ما يظهر من اختلاف في الأوضاع المادية: اللغات، أنماط العيش…، هناك وحدة الأوضاع، وحدة الذهنية: الرؤية، منهج التلقين، باختصار هناك وحدة إبستيمية. يقول:«كل يوم كان يتضح لي أكثر أن “فينومينولوجيا الروح”، “الاديولوجيا الالمانية”، “تطور الرأسمال في روسيا”، لم تكتب هذه الكتب إلا لأن أصحابها كانوا يعيشون أوضاعا متشابهة، إذا لم تكن متماثلة، لتلك التي تؤرقني، والتي كان كل من هؤلاء مطالب بالقيام بخلاصته المفهومية الخاصة بغاية واحدة هي: التحكم ولو عقليا، في الوضعية المعنية»(17).
ومع ذلك، فالاعتراض على جبرية التاريخ لازال قائما ومستمرا في عناده:« لماذا، في حالات معينة، نفس الظروف لا تعطي نفس النتائج، وأن مناطق كاملة (من العالم) لم تسر حتى نهاية تطوره المفترض، وأنها وقد حققت بعض الأهداف، أضاعت أخرى؟»(18).
يبدو أن عنادية السؤال عصية على الذوبان وأن لا حل، «لا حل نظري» يقول العروي، سوى الوقوف، بعد الاعتقاد / الانطباع / الإيمان، والكلمات كلها للعروي،على لطائف الإشارات: « فالماركسية الموضوعية مبثوتة في الموجودات. وهي وإن كانت موجودة بطريقة متقطعة وغير ظاهرة، فهي لا تنتمي لمجال اللاوعي، بل لمجال اللامرئي، الذي لا يمنع مع ذلك من التحرك والاقتراب بقليل أو كثير من السرعة من الهدف المقصود»(19).
هكذا يوقفنا العروي على الحقيقة التالية: جماع شأننا في كل مرة مرة أننا صنيعة التاريخ. هذه صياغة لمكر التاريخ لهيجل ولترجمتها في الأطروحة الثالثة حول فيورباخ لماركس. لن يتردد العروي في القول بأن هيجل تأثر كثيرا بالمؤرخين وليس بالفلاسفة. غير أن ما يهم سياقنا هو أن هذه الأطروحة إمضاء وتوقيع لصك اتهام ضد الفيلسوف. إنها ضرب لا في مصداقيته فحسب، بل في مستوجبات / مقومات وجوده. وجود الفيلسوف نفسه متهافت، غير ضروري ويمكن الاستغناء عنه. لهذا سيطالب بالانتفاء كفيلسوف ليصير شيئا آخر. شيئا آخر على غرار تحوّل كلود ليفي شتراوس إلى الأنتربولوجيا أو بورديو الى علم الاجتماع(20). تعامي الفيلسوف عن هذه الحقيقة التاريخية التي خلصنا إليها، هو الذي جعله ينفي التاريخ أي ينفي الواقع. «معطى التجربة هذا، يقول العروي، يتغاضى عنه قصدا من طرف بعض المثقفين الذين يرفضون النظر إلى الفلسفة، التي يعتقدون أنهم تبنونها عن اختيار، أنها كانت مفروضة عليهم. كان الوعي بهذا المعطى حريا بإيقافهم تلقائيا فعليا على ما هي التاريخانية»(21).
حتى الآن توقفنا عند دافعين اثنين وراء ظهور العروي المؤرخ وظهور اهتماماته. فبحكم ثقافة فرنسا التي ترعرع فيها، ما تتيحه وما لا تتيحه، اهتم العروي بالاجتماعيات، بسوسيولوجيا الثقافة. وبحكم «فلسفته» التاريخانية، أولوية التاريخ الحاضر(22)، سيهتم بالحركة الإصلاحية العربية / نشأة الدولة الوطنية. منطق هذه الإصلاحية هو الذي لقنه ضرورة(23)، لقنه ضرورة وجودية (=وجوب / لزوم / جبرية): اقتفاء خطى الدول الناجحة لإنجاح تجربة الدولة الناشئة. إنه السبيل الوحيد الذي سيورّث المجتمعات الناشئة العقلنة والتنظيم. هذا المنطق هو الذي حذا بكل مكونات الإصلاحية العربية الثلاثة: الليبرالي، التقني والسلفي، التي نظّر لها العروي في كتاب الاديولوجيا العربية المعاصرة (1967)، حذا بها، جميعها، لرفض الفلسفة والفيلسوف. لم تكتف مكونات الثقافة العربية الكلاسيكية هذه برفض وجود الفلسفة والفيلسوف. بل حاربت وجودهما وأحالت إجماعا على ابن خلدون، الفقيه والمؤرخ، وقد يقول قائل غير العروي، المؤسس لعلم الاجتماع / العمران، المنتقد لها(24).
حتى هنا نكون قد وصلنا إلى خلاصة أولى: العروي، الطالب المغربي، ذي الأوصاف الإجتماعية والأسرية المعلومة، صار تاريخانيا (تدريس التاريخ عرضي في حياته، كما يقول، وهو لكسب قوته ليس أكثر) ولم يكن باستطاعته غير ذلك. «إن الأطروحة التي تم الدفاع عنها في هذه الصفحات، يقول العروي، هو أن كل مثقف عربي، إذا ما وعى الوضع الذي يعيش فيه، هو إراديا / طواعية اديولوجي؛ وأنه بمقتضى هذا الوعي يخضع ضرورة لإصر التاريخ المشترك، ويكون تفكيره بالضرورة جدليا، وأن هذا الجدل هو ما يكشف له التاريخانية كأفق، التاريخانية كاستعادة واعية، إرادية / طواعية لأنها ضرورية، لمرحلة معينة من التاريخ، ليست معروفة فقط سلفا، بل مدروسة ومقوّمة. هذه النزعة التاريخانية ذات المنحى العملي تميل بالمتبني لها نحو أخلاق نفعية، نحو فلسفة وضعية تؤدي على الأقل للحذر من كل مشروع يتغيى إقامة ميتافيزيقا أو تجديد الانطولوجيا. عندها، تبدو الفلسفة في أحسن الأحوال كترفيه أو تعبير شعري» (25) . طوي ملف الفلسفة والحكم الصادر لا استئناف ممكن له، ما دام التاريخ، الماضي والحاضر، والواقع يشهدان ضده. وما لنا إلا أن نتتبع عواقب هذا الحكم. نبدأ بما معنى أن تكون تاريخانيا، وهو ما بمقتضاه تم الحكم ؟ ما معنى هذا الانتماء الذي حدّ به العروي هويته وارتضاه ضدا على الفلسفة والفلاسفة؟
في معنى التاريخ التاريخاني
«اقترح كروتشه (1866 – 1952)، وهو في نفس الوقت العارف الكبير بهيجل والمنتقد الكبير له، اقترح التمييز بين نزعة تاريخية، تشرح كل حدث بظروف نشأته، ونزعة تاريخانية، نزعة تاريخية مضاعفة، تكمن في ملاحظة أن التاريخ الذي يصنعه البشر، وفي كل مستويات نشاطاتهم، لا يوجد له مبدأ تنظيمي، أو محتمل التوجيه سوى داخل التجربة التاريخية نفسها» (26).
لا معنى للتاريخانية خارج افتراض واحدية الأزمنة الحديثة، المتأتية من وحدة التاريخ البشري، ومعقولية الحدث الإنساني / إيجابية الزمن أي قابليته للفهم، ولو تقدم هذا الفهم على شكل سوء فهم، على شكل الدرجة صفر للفهم. بمقتضى هذه الوحدة يصير تنظير ماركس، الإديولوجية الألمانية، الموروث عن فينومينولوجيا الروح لهيجل، ينطبق على / ويسعف في فهم أوضاع روسيا القيصرية، ومن ثمة مغرب العروي. بهذا المعنى تكون التاريخانية إديولوجية الأزمنة الحديثة.
ومع ذلك، وهو ما يذكرنا به تمييز كروتشه الذي يورده العروي، تلتزم التاريخانية بوجوب الحد من جبرية التاريخ وإلزاميته هذه. فخارج حد أدنى من المسؤولية، من الحرية، لا معنى للمعقولية التي رفعت لها الحداثة، التي تورد التاريخانية أن تكون المعبّر عنها، نصبا في كل مكان. بما أن الدولة الوطنية قامت على أساس نموذج سبق وأن جرّب في أماكن أخرى، بل وأكثر من ذلك أنه أعطى ثماره، فقيامها في بقية بلدان العالم ضرورة مستغنية عن الحجة والتعليل. لهذا كله «فالدولة الوطنية لا تكتفي فقط بعدم الإنخراط في مجال الفلسفة وتتمنى أن يعرض عنها كل واحد، بل لا تريد بالخصوص أن تتم محاولة إيجاد تبرير نظري لسلوكها الضّد نظري. فالفعل بالنسبة لها أسبق، وهي لا تحرص على تأسيس عقلاني لهذه الأولوية»(27) .
أما وأن جبرية التاريخانية لازمة لها، ولا أمل يلوح في التخفيف من غلوائها(28) لنسائل مقوماتها قبل أن نقف على ترادفها مع شكل جديد للتفكير هو الاديولوجيا. يتحدث العروي عن شكل مختلف مطلقا عن التفكير الفلسفي، والأصح، وعلى الحقيقة، يلزم الحديث عن شكل جديد يسعى لأن يقوم مقام الفكر، بكل ما تميّز به هذا الفكر من مقوّمات: البحث عن الحقيقة، حقيقة الأشياء (كغاية)، واعتماد العقل والمراهنة على تماسك الخطاب الإقناعي (كمنهج ووسيلة) :«تلاحظ النزعة التاريخية، تسطّر وتنظّر لهذا المعطى الواقعي والبديهي، أنه منذ نشأة الإنسان في التاريخ، قبل حوالي خمسة آلاف سنة، كحيوان سياسي، امتثل دوما لمدرسة التاريخ، لا لمدرسة الأخلاق، ولا لمدرسة الدين أو الفلسفة (الحكمة)، إلا عندما تنزل هذه إلى الأرض وتصير بالضبط نزعة تاريخانية» (29).
لا يكتفي التاريخاني بالتأكيد على: جبرية التاريخانية وجبرية الفلسفة / اللافلسفة المتضمنة فيها؛ وأن الاختيار التاريخاني في غنى عن أن يكون اختيارا عقلانيا واعيا، معتمدا لحجة وتعليل وجود. الاختيار التاريخاني، في الحدود الذي يمكن فيها الحديث عن اختيار، «مجبرين على الاختيار»، كما سيقول كل من سارتر، الفيلسوف وخصم العروي أولا، كما العروي نفسه فيما بعد، الاختيار التاريخاني تنظير الاستغناء عن التنظير. إفراز أولية لا تبحث عن أول / مصدر تستند إليه في وجودها، فالتاريخانية، يقول العروي، لا تحرص «على تأسيس عقلاني لهذه الأولوية». مفارقة تاريخانية العروي: دعوى العقل / دعوة للعقل لا تتأسس على العقل بل على نقيضه، على الإيمان، على البداهة. الأكثر من ذلك، وحتى تكون التاريخانية أكثر منطقية، فهي تنحت لنفسها، في مقابل مفهوم التفكير هذا، مفهوما تعرف به: إنها اديولوجيا. الفكر كإديولوجيا! وكل استعمالات للفكر فيما بعد بالنسبة للعروي تدخل تحت هذا الشرط. «فالفكر، يقول العروي، كما يفهم عادة، يبحث عن الحقيقة، ويدعي التعبير عنها بوفاء وانسجام. الاديولوجيا، هي أيضا منسجمة، وفية للواقع مع الاستجابة لحاجة / تفي بغرض، غير أن الإيمان وحده الضامن لبداهتها»(30).
للإشارة فميزة نمط التفكير هذا، التفكير الاديولوجي، وخلافا للتفكير الذي يسعى أساسا للفهم، فهذا ليس غاية الاديولوجيا، كما أن الحقيقة ليست ما يهمه. ما يهمه أساسا هو كيف نؤثر في الواقع ونقوى على تغييره. «فإذا ما اخترنا منهجية تحليل المنطق الصوري أو اللسانيات، واخترنا ببساطة الفهم كغاية، فإننا نلج مجالا / عالما آخر»، غير مجال التاريخانية، مجال البراكسيس / العمل، والحقل الذي يؤدي إليه: السياسة. السياسة علم تدبير الشأن العام وقيام المجتمعات. بهذا المعنى هي سوسيولوجيا أو أنتربولوجيا، هي اجتماعيات. وحكمها حكم العلوم التي تبحث تطويع الطبيعة، وتقتفي أثر العلم الطبيعي (الفيزيائي): «إن تدبير شؤون الناس ليس في آخر المطاف سوى طريقة أخرى لامتلاك الطبيعة / للتحكم في الطبيعة »(31)؛ « فما أثر في من قراءتي لديكارت، هو دعوته لأن نصير سادة وملاكا للطبيعة »(32). التاريخانية بهذا المعنى هي ضرورة تقوم على أنقاض الفلسفة، صرامة الفلسفة.«ما يحدد الاديولوجيا هو غايتها المعلنة (اجتماعية، سياسية، ثقافية)؛ وما يبرر أن نحاكمها، نقوّم فعاليتها، هو العلاقة التي تستعجل هي نفسها إقامتها مع التاريخ؛ فالإشكال إذا هو مسألة انسجام علاقة تربط بين وسيلة وغاية»(33).
بما أن الاديولوجيا، نمط التفكير التاريخاني، التفكير الذي يدعونا له العروي، ليست مسنودة إلى حجة، فهي إذا رأي، رأي على رأي، كلاميات، علم كلام جديد. وحده الإيمان ضامن لبداهتها. وبالتالي فمن الطبيعي أن تتخذ الفلسفة، التي تعرف التاريخ «بأنه مجال الضرورة ومحكمة العقل»(34)، أن تتّخذ خصما. يقول العروي: « (…) إن التاريخ كما هو مكتوب اليوم، يركز على منطق الأحداث إلى حد أن الأحداث في ماديتها قد تذوب ويظهر التاريخ كأنه من عمل عقل المؤرخ. (…) إن المؤرخ المعاصر لا يفسر الوقائع بمنطق المشاركين فيها. بل حسب منطق لم يعوه هم ويعيه هو اليوم»(35). هذا التضخيم للرأي، لرأي المؤرخ، لحاضر المؤرخ، الموروث عن اديولوجيا الأنوار، عن قراءة معينة للأنوار، هو الذي سينتفض ضده الفلاسفة منتصرين لإمكانية أن يكون الحاضر ضالا وعلى خطأ، منتصرين لمحاولة التخلص من وهم أن حاضرا يفضل حاضرا آخر.
لنجمل الآن، وقبل أن نعود إلى تفصيل المأخذ الأخير، لنجمل بديل الفكر هذا، مقومات الاديولوجيا / الرأي اختصارا:الاديولوجيا هي أولا منسجمة، ثم ثانيا هي تعكس واقعا وثالثا وأخيرا تفي بمهمة وتقوم بوظيفة.
كيف يفهم العروي، الداعية الاديولوجي، الرأي؟
يقول العروي: «بينما نسمي الاديولوجيا، أحيانا وببساطـة، رأيا، تـقوم الفلسفة بالضبط كإرادة للتخلص عبر النقد من الرأي»(36). مسألة الرأي مسألة ارتبطت بتاريخ الفلسفة، وتكاد تكون جوهر الخلاف في ما يتعلق بإشكال الحقيقة. ليس هنا مجال التفصيل في هذا الموضوع. نقف فقط على واحدة من حلقاته ليتضح السياق الذي استوجب الخوض فيها.
في بداية القرن العشرين، وفي مقالة ظهرت بمجلة اللوغوس، التي لم يكن مِؤسسها سوى مجدد المدرسة التاريخية “دالثاي”، كانت هناك مساهمة شهيرة لمؤسس الفينومينولوجيا، هوسرل، بعنوان: الفلسفة كعلم صارم (1911).
يتساءل الرياضي، الذي أتى على الحسم، في كتاب أبحاث منطقية (1900 – 1901) ، في قضية محورية شغلت العلم في القرن التاسع عشر، في نهاياته، تعلقت بأساسيات المعارف بين التحليل النفسي والتحليل المنطقي الرياضي، عن أي العلوم أكثر صرامة للتأسيس للمنهجية المنشودة في تحصين المعارف / الموضوعات، والإبقاء عليها “كما تظهر” (من هنا اشتق اسم المدرسة الظاهرية / الظاهراتية). مع التنبيه إلى الفرق الذي تسمح به اللغة الألمانية، بحكم رافديها اللاتيني والجرماني، بين الظاهر (Erscheinung) والفينومين. وهو ما يسمح لها بتجنب المعنى القدحي للظاهر، في مقابل اللب، وسلب التضارب مظهر / مخبر، مادة / صورة…وإعادة الإعتبار لما يظهر ويرشح.
أبان هوسرل في هذه المقالة، من جهة، على أنه لا مجال للرأي في العلم، وأن العلم النموذجي، العلم الرياضي، مجال الضرورة. كما أبان فيها، من جهة أخرى، مسؤولية كل من كانط أولا، وهيجل أساسا، عن البلبلة التي أوقعت العلم في أزمة ثقة، أزمة أسس كما ستعرف في الرياضيات، وجعلت كلا يلغو بلغوه. وذلك عندما أحالا معا، كانط أولا بإنزاله الزمن منزلة محورية في فهم الذات، قبل هيجل المنظّر الفعلي للانعطافة التاريخية، وعرضا المعارف / الحقائق، حقائق الموضوعات على محكمة التاريخ. بذلك شرعا لنسبية الحقائق واستقدما طيف السوفسطائي، عدو الحقيقة في نظر هوسرل.
في هذا السياق يخلص العروي إلى اتخاذ الموقف التالي. ينتصر للرأي في مقابل الحقيقة / الموضوعية، الحقيقة الموضوعية، مجال الفكر والفلسفة التي تقوم على أنقاض الرأي، الذي هو ما يميز أساسا اجتماعيات الثقافة.
وعليه، يحق لنا أن نتساءل: أي دليل يمكنه أن يقدمه من يكتب، من يُنظر للاديولوجيا، انطلاقا من موقف اديولوجي، لا موقف الباحث عن الحقيقة، من يحاول أن يفهم، ما دام يعتقد أن الإيمان / التسليم / البداهة هو من يسنده؟ من يعصمه من الزلل، من الوقوع في «ذلك النوع من الفهم الخادع »(37) ، كما يقول هو نفسه في نقده لفون غرونباوم؟ إلاّ أن يكون موقفه هذا “من طبيعة أخرى” و”من مستوى آخر”: «إن مؤلف كتاب عن الاديولوجيا، الذي يعطي رأيه في آراء أخرى، يلزمه أن يعطي الدليل بأحقيته في ذلك وبأن رأيه، حكمه، هو من طبيعة أخرى / مغايرة، ينتمي إلى مستوى آخر غير مستوى الآخرين. هنا (…) تتدخل النزعة التاريخانية، ولكن بمعنى جد خاص»(38) . لنتذكر أن الحاسم في الاديولوجيا، في التاريخانية، هو مدى مناسبتها أو عدم مناسبتها، لا صحتها أو عدم صحتها.
بما أن التاريخاني، الاديولوجي، لا يتغيى الفهم والاستيعاب، ففي ماذا تكمن مهمته؟ «دوره هو دور الناقد الاديولوجي، دور الملاحظة والتثمين، هو عرض، إيضاح المنهجيتين معا، منهجية الباحثين الذين يريدون فقط فهم ما كان (النزعة التاريخية بالمعنى الأول)، ومنهجية صناع الحدث العازمون على التحرر من الماضي (النزعة التاريخانية بالمعنى المركب)»(39) .
إذا كان إبداء رأي في آراء، رأي على رأي، قول على قول، هو معنى “العرْض”، “الإيضاح”، ألا يؤول في النهاية موقف داعية الاديولوجيا، التاريخاني، إلى شكل من أشكال منازعة الفلسفة سلطتها التقليدية؟ ينازعها دعوى الحياد / دور القاضي / الحكم؟ فهو، وإن كان لا يتحدث عن الخطإ والصواب، إلا أنه لا يسعى فقط إلى تقديم الدليل بل وسيبحث أيضا عن الانسجام والتناسق. إلا أنها، مع ذلك، سيخبرنا العروي، يلزم أن تفهم في إطار بديل الفكر القديم، وفي إطار الاديولوجيا، مجال الرأي، وأنها تتحدد بمجال الفعل، الفعل في مقابل النظر، لا الفعل كفعل من أفعال النظر ولا النظر كفعل له فعاليته(40).
الأكثر من ذلك، يحدد العروي مهمة الاديولوجي، بعد أن صار حكما (وليس حكيما، ولا محبا للحكمة) في أنها بحث في الانسجام والتماسك، بحث في منطق الدعوى (أو الكتاب)، بحث في إشكال التناسق / الانسجام «بين ما هو مقترح وما هو مقصود»(41)، في حيادية تامة عن طبيعة ما هو قائم وقيمته. نذكر بأن كل بحوث القصدية الفينومينولوجية (وهو وراء الإسم الذي تحمله)، التي يخاصمها العروي، هي، إيضاح للاتطابق هذا، إيضاح لما يقع من تمايز بين ما يظهر من الأفعال، ما يعطي الانطباع للناس بأنهم يقصدونه ومن ثمة يعونه، وبين ما يخفى، خفاء يستوجب تأويله تحليلَ الوعي / الذاكرة / اللغة مع هوسرل أو اللاوعيى / الذاكرة / اللغة مع فرويد، أو أخيرا مع ماركس التحليل الطبقي للمجتمع / الذاكرة الجماعية / اللغة.
سيذكر العروي بأن لا شيء بقي على حاله، بعد تحويل الفكر إلى اديولوجيا، وأن كل شيء شيء داخل هذا الاختيار / الضرورة يلزم أن يقرأ ويفهم داخل السياق الجديد:«إن القاعدة الأولى لهذه المنهجية الجديدة، تلك التي توقع دخولنا، تفكيرا وعملا، لزمنية مغايرة، هو بالضبط اتخاذ موقف محايد تجاه الموضوعات الخارجية (عنا)، كانت ما كانت طبيعتها. نقرر مبدئيا أن ليس هناك في البداية أية وسيلة للبث في كون هذا الحكم أو ذاك صحيح أو خاطئ. وحدها الوضعية التاريخية هي ما استوجبه، حتى ولو لم يصر ذلك واضحا إلا تدريجيا وأثناء التجربة. يلزمنا احترام وحدة الموضوعات الخارجية، أن نكون في خدمتها وأن لا نرغمها على الدخول في قوالب تقليدية»(42) .
هكذا تتحدد مقومات المنهجية الجديدة على الشكل التالي:
أولا وفي مقابل الحقيقة، هناك أولوية الرأي. حذار أن تؤخذ هذه الأولوية بمعنى الاختيار الواعي. وهو الشّرك الذي وقع فيه الفيلسوف، حسب العروي، عندما عاب عليه تناسيه أنه إفراز لزمان ومكان معينين، وبالتالي لا مجال لوهم الاختيار. فبالنسبة للعروي ليس هناك إلا التاريخ، التاريخ وضروراته؛
ثانيا، «نقرر مبدئيا»، يقول العروي، الحياد / الامتناع عن إصدار أحكام فيما يتعلق بالموضوعات الخارجية. فهذه بقدر ما هي معطيات، وبالتالي ليست موضوعات لأحكام القيمة من خطإ وصواب، حسن وقبيح، خير وشر… بقدر ما هي مناسبات للوقوف على الضرورة التي أوجبتها. وكل إقحام لها في قوالب تقليدية يهدد موضوعيتَها / objectité قبل أن تهدَّد الموضوعيةُ / objectivité والحيادُ المفترض في موقفنا تجاهها.
هذا التهديد للموضوعات الخارجية، كانت ما كانت تجلياتها: منطق الإصلاحية العربية مثلا، هو ما أوجب على العروي، وقبل أن يخضع هو لمنطقه، متتبعا له، لتماسكه، لـلنظر في مدى «تطابقه/مطابقته»(43)، أوجب عليه أن يقف على حقيقة التحول الذي طرأ على الفكر الحديث الذي يحكمه هو أولا. التحول الذي صار الفكر بمقتضاه اديولوجيا، أوجب عليه أن يقوم بنقد ذاتي قبل أن يتناول دراسة هذا الكاتب أو ذاك؛ نقد يفترض فيه أن يوقفه على تغيّر معالم الزمانين: زمانه هو وزمان الفكر المدروس. إذا لم يعترف الفيلسوف بهذا القطع المؤسّس لثقافتنا الحديثة، ستكون دراسته، كانت ما كانت الإمكانيات النقدية التي عبأها، مجرد كلاميات(44). يقول العروي: «إن قراءة / دراسة مباشرة، ودون نقد مسبق، أي واحد من الإصلاحيين المحدثين، هي رفض رؤية أن ما يحدد تفكيره يختلف تماما عن ما دفع (مثلا) الغزالي أن يدخل في سجال ضد الباطنية، أو ابن تيمية أن يهاجم علم الكلام (اللاهوت العقلاني). إن رفضا من هذا القبيل، هو اعتماد لمفاهيم من قبيل: الدولة، الحرية، التاريخ، العقل، على أن لها نفس المعاني التي كانت دوما معانيها، مفترضين بذلك ثبات الحال. أن لا نبدأ بوضع فكرنا الخاص موضع تساؤل، هو إما تعام عن ما هو جديد في إثباتات مقالات الإصلاحيين، وإما أن لا نرى في هذه المقالات سوى تعاقب أحكام مجانية. الخطإ الغير قابل للصفح، بالنسبة لقارئ / لدارس مثل هذا، هو اتخاذ موقف تجاه أدبيات المصلحين»(45).
هنا يسرع العروي الخطو لينبهنا إلى أن نتائج تفكيره هذه ليست من التفكير التقليدي في شيء، وأنها ليست نتيجة تفكير عقلاني، بقدر ما هي حصيلة استقراء للتاريخ. هذه الأشياء مبثوثة في التاريخ ومكتوبة كتابة وإن كانت لا تكاد تقرأ، إلا أنها لا تنتمي إلى شيء اسمه اللاوعي. وإذا ما ساءلنا العروي: ما السبيل إليها؟ سيكون جوابه لا محالة / ضرورة، من جنس ما واخذ به محمد عبده: افتقاده للإلمام ومعرفة أساسيات الليبرالية! يقول:«ما الذي يحول بين عبده والتخلص من أغلال ثقافته؟ جهله بأساسيات الليبرالية »(46).
نفسه خطأ ديكارت وهو يؤاخذ أرسطو، السلطة العلمية منذ القرن الرابع قبل الميلاد: أنّى له، يستنكر ديكارت في رسالته الى مترجم كتابه مبادئ الفلسفة(47)، أن يتحدث عن العلم والعلمية وأن يعتقد ويؤخذ على أنه سلطة علمية وهو يتحدث عن الأجسام المشكلة للطبيعة وعلم الطبيعة وهو لم يكتشف الجاذبية؟! فبدل أن يسائل العروي، وهو صاحب الدعوى العريضة بأنه لا يُقول الإصلاحيين ما يريد / لا يفكر بدلهم، بل يتتبع ويدرس منطقهم، منطق تفكيرهم، بدل أن يسائل ما الذي دفع بمحمد عبده مثلا أن يجهل / أن لا يعرف / أن لا يهتم، بل العروي نفسه في حواره النقدي مع فون غرونباوم يتحدث عن ” النسيان المتعمّد”(48) ، ما الذي دفع بعبده « أن يجهل أساسيات الليبرالية» ؟ بل لماذا، وهو عمق اختلاف الفلاسفة مع العروي، لم يسائل الغياب، يسائله كشكل من أشكال الحضور، كعلامة على الحضور؟ فحتى فيزياء الكوانتا في بحثها عن حقيقة الفوتون، لم تنخدع بغيابه وتواريه، وقبضت عليه في شرطه: حضوره غيابه(49). الشيء نفسه يقوله مؤرخ وفيلسوف كبير اهتم كثيرا، تنظيرا وممارسة، بعلاقة الفلسفة بالتاريخ، هو كولنجوود:«إن صمت جول قيصر فيما يتعلق باكتساحه لبريطانيا هو ما يشكل حجتنا الأساسية عن ما كانت عليه مقاصده»(50). ضرورة استثمار مأخذ الغياب، غياب الفعل، كولنجوود يتحدث في مقابل الفعل عن انعدامه، عن السلبية (passivité)(51)، تشي بتقصير في تصور العروي القائم على الفعل الواعي، القاصد، المريد. وهذا سر خلاف العروي مع الفكر الفلسفي المعاصر، الفرويدي، الظاهراتي، التأويلي، الوجودي، اللساني، التفكيكي…
ماذا لو كان موقف محمد عبده هو موقف الغزالي مثلا، في كتابه قانون التأويل، عندما يقول:«(….) لا أدري ولا حاجة إلى أن أدري، إذ لا يتعلق به عمل»؟(52)، لماذا لم ينسحب على عبده، في ما جهله وما ربما لم يرد أن يعلمه، ما حكَم معرفة العروي نفسه، على ما هي عليه من سعة وعمق، سلطة الزمان والمكان، سلطة الحاجة، كدارس بباريس وليس بكمبريدج أو توبنغن ؟!
نفس المأخذ يطال العروي وهو يقارن مثلا، في غير ما واحد من كتبه، مفاهيم نقدية مثلا، ابن خلدون في تصوره للمجتمع وتصور قريب منه في الزمان، مكيافيللي. يلاحظ «التكافؤ» بينهما، «بل، يقول العروي، يمتاز عليه الأول في بعض المناحي». موضوع تكافئهما هو جهل بعضهما بأوضاع الآخر. في حين لا تبدي المقارنة مع مونتسكيو فقط الفرق بين الرجلين. بينما يعلم هذا الأخير الكثير عن الأنظمة الإسلامية، إيران الصفوية مثلا، لا يعرف الأول «إلا شذرات عن أنظمة أوربا الفيودالية الجرمانية »(53). بل إن هذا الجهل / النقص لم يكن إلا أن يحول بين ابن خلدون والقيام بثورة مكتملة وغير منقوصة في تأسيسه لتصور مغاير عن التاريخ وعن العمران.
لا يماري أحد في أهمية المقارنة عموما، فهي حتى قبل أن تصير مبدأ علميا، كانت مبدأ إمبريقيا يعتمده الناس في العادي من حياتهم: بضدها تتميز الأشياء كما قيل قديما. لهذا لا مشاحة في أهمية المقارنة بين، مثلا، بورديو وكامو، جزائريين مجايل بعضهما لبعض، كلاهما، بلغة العروي، منتوج نفس الظرف الزماني المكاني، لا مشاحة في مساءلتهما عن ظاهرة الإستعمار ومعنى الإنتماء للوطن / للجزائر. وذلك لنقف على أيهما كان أوعى بشرط التاريخ واتجاهه. أفهم أهمية المقارنة بين هيدجر وهوسرل أو أوجين فينك فيما يتعلق بالنازية؛ أن نقارن بين مادام دوستيل وهيجل فيما يتعلق بتصورهما للتاريخ على شاكلة ما قام به بنديتو كروتشه في كتابه تاريخ أوربا في القرن 1954 ولكن أن نقارن فيزياء أرسطو مع فيزياء غاليلي، المعرفة المتاحة لابن خلدون مع ما أتيح لمونتسكيو ؟!… ثم يؤاخذ الفلاسفة على تصورهم لحاضر سرمدي وتزامن العصور… إنها على الأقل دعوة لديكارتية متجاوزة.
«إن دراسة الحالة الخاصة، تحليل الخطاب الذي اعتمده الوطنيون المغاربة لتبرير أقوالهم وأفعالهم، بتحديداته للمجال، والزمن والثقافة، اعتمادا على وثائق أصلية، كان يهدف لتثمين درجة مطابقة [جعله “قابلا للمقارنة”] هذا المفهوم مع الواقع، مع إغنائه وتحديده انطلاقا من خصوصيات بديهية. (…) نفس الكلمة / المقولة تنطبق على وقائع إنسانية مختلفة» (55). العروي التاريخاني مهووس بوجود نموذج قائم ناجح، مهووس بمدى مطابقة النماذج المحلية للنماذج الناجحة، مقارنتها معها للوقوف على ما يعوق نجاحها ويصيرها ضمن ما هو واقع إنساني.
أليس ما يقوم به الفكر التقليدي، هنا الفكر الفلسفي حسب العروي، هو الوقوف عند منطق الخطابات / الاديولوجيات / الدعاوى ليعرض سياقاتها، غاياتها وما تتوسل به، لينظر في الباطن والمعلن منها قبل أن يخلص إلى الاعتراض عليها أو الانخراط فيها؟. لنأخذ مثالا صريحا في هذا المجال: الغزالي الاديولوجي المنافح عن عقيدة رسمية في مقابل عقيدة باطنية معترضة. يعترض العروي على المثال ويقدم لنا طريقته / ما يشترطه في قراءة نصوص التراث: «(…). أمام إثبات، نصفه بالاديولوجي انطلاقا من حس محايد، يلزمنا أن نتحلى بالتأني، وأن ننتظر الخلاصة قبل أن نصدر حكما عن هذه النقطة أو تلك، عن مدى تطابقها مع ما تدعيه كهدف. (…) فما يدفعنا لوصف فكر ما أنه اديولوجي، هو مجرى التاريخ، وهناك مجرى للتاريخ لأن هذا الأخير يتصور كحلبة للتباري. تتصارع على سطحها مشاريع متنازعة. لا حكم لإعلان المنتصر، هناك فقط تشكّل جديد لواقع الحلبة، نتائج مرحلية، بديهية للعموم. وهو ما يجعل أحد المتصارعين يستعيد مشروع الآخر / المنازع ليستأنف المعركة / اللعبة، فوق نفس الحلبة أو في مكان آخر، وضد نفس الخصم أو ضد خصم آخر» (56).
هكذا نخلص، بعد أن أوقفنا العروي، في الخطوة الأولى من بحثنا، على تهافت معنى الفيلسوف في سياق ثقافتنا، الحديثة والتاريخية، هاهو يوقفنا في النقطة الثانية على من يقوم مقامه، يوقفنا على من يملأ المكان الشاغر الذي قد يحدثه لفظه (فالفيلسوف مرفوض تاريخيا) أو تحوله على طريقة كلود ليفي شتراوس. هنا يجب التنصيص على أن مشكل العروي ليس مع الفلسفة العربية، بل مع الفلسفة عموما وبالتالي وقوعه في المحظور الذي هو إنتاج معرفة مطلقة حول موضوع عام: وليس مونوغرافيا. هاهو يوقفنا على أن ما يقوم به هذا الطارئ الجديد / الاديولوجيا، ليس بعيدا عن التنظير:«تعلمت في نهاية تكويني الثانوي أن (…) التاريخانية هي الفلسفة الساذجة للمؤرخين، المحترفين وبالخصوص الهاوون (…) وعند دراستي لمنطق الاديولوجيين العرب فهمت أن ليس ثمة شيئا من ذلك، وأن التحدث بلغة الناس، اللغة المفهومة للجميع، هو دليل تواضع وواقعية، وليس بالضرورة نقصا في الطموح النظري»(57) .
موقف التاريخاني من الترجمة
غير أن العروي ينبه إلى شيء أساسي مرافق لهذه الجدة التاريخية، هو افتقاد القديم، الثقافة العربية الكلاسيكية لمرادف للاديولوجيا. المسألة أكثر من ملاحظة انعدام / افتقاد لمصطلح ومن استدراك لخصاص معين في ثقافة معينة . لقد سبق، بالخصوص في الزمن الأول لحركة الترجمة، وعيب على اللغة العربية افتقادها لفعل الوجود. نعرف أهمية هذا الفعل / المصدر في كل اللغات الهندو-أوربية التي احتضنت الفلسفة. تكفي الإشارة إلى مدار الجملة في اللغات التي تسكنها هذه الأمم والشعوب على هذا الفعل، لنذكر بمحوريته. هذا الغياب في العربية أفقدها، في نظر المستشرقين، وقبل الفقد الجديد، أن يكون لها حظ في / من الفلسفة، من الفكر/ من العقل الذي كانت هذه، قديما، راعيته على الحقيقة. من إرنست رينان إلى فون غرونباوم، حتى نبقى فقط بين عقلاء المستشرقين، تعددت أوصاف هذا العوز والفقر: قلة الفكر، انعدام الفكر، الفكر الغيبي، غياب العقلانية، غياب القدرة على التركيب والتنظير… الذي وجدت فيه الثقافة العربية نفسها جرّاء هذا الفقد. يقول العروي: «فمفهوم الاديولوجيا نفسه، الذي نعدم له كما هو معلوم معادلا في اللغة العربية، يطرح إشكالا»(58). إن هذا النقص علامة على عدم مرورنا إلى التمييز/ التساؤل «في ماذا تختلف الاديولوجيا عن الفكر ولماذا لا يمكننا أن نقول عنها صحيحة أو خاطئة وإنما فقط مناسبة أو غير مناسبة؟» (59).
غياب المقابل المعجمي، هو أكثر من غياب. إنه علامة على انقطاع وتخلف عن ركب التاريخ، علامة على افتقاد منهجية لا تتنكر للواقع وتنفيه (على شاكلة الفلسفة)، علامة على ضرورة التاريخانية وإلحاحية مطلبها. فالغياب / النقص، كما كان الحال في تجربتنا الحضارية الأولى قبل قرون، وعلى بعد الشقة بين الزمانين إلا أن «الوضعية» هي هي، دالة على الحالة الذهنية التقليدية التي تحول بيننا وبين الحداثة. «فالفلسفة الإغريقية وصلت المسلمين في صورة مشوّهة والترجمات الأولى كانت مخلّة وقلّما تم تصحيحها فيما بعد. الخطر إذا كبير، بأن نجد أنفسنا، من هنا قرن أو قرنان، في نفس المنزلة / الوضعية. فالأكثر علما بما هو رائج في الفلسفة الغربية من بيننا هم في نفس الآن الأقل تسلحا لنقلها» (60).
الأطروحة والاختيار / اللاإختيار الذي يضعنا العروي / يضعنا التاريخ في نظر العروي، أمامه إذا ما اقتفينا أثره وتتبعنا، كما حاولنا أن نفعل، شكل القراءة كما يوصي بها: من تعليق للرأي والتقييم إلى نهاية الوقوف على الأطروحة هو التالي:
إما القبول، مطلقا، بالتحول إلى الاديولوجيا، الاعتقاد في الاديولوجيا، بما أننا داخلها ضرورة بالنسبة للعروي؛ وإما رفض بداهاتها، بداهة الحداثة: عدم الاعتقاد في القطيعة التي تمت على مستوى التاريخ العالمي وما يستتبع ذلك. «قد يلاحظ البعض حقا: فماذا تعني بالضبط قطيعة على مستوى المجرى العالمي للتاريخ ؟ (…) من يتخذ موقفا مماثلا (…) لا يلزمه العودة خلسة لملعب الاديولوجيا فيزيد في اللبس. يؤكد عدم وجود قطيعة في التاريخ، وأن الاستعمار لم يكن سوى قوس، وأن الاستشراق مجرد كذبة (…) في هذه الحالة، لماذا يضيع وقته في إظهار تهافت ما يقوله الناقد الاديولوجي. فمفاهيم الاديولوجيا، البراكسيس، التاريخ ليس لها مكان في نسقه. فهو يسفه نفسه بإصراره على تفكيكها» (61).
في الحالة الأولى، حالة القبول، نعلق أحكامنا، نثمن على النماذج الناجحة ونجتهد في تأدية الثمن، كان ما كان، لنكون جزءا من التاريخ ومن الحداثة. في الحالة الثانية، إذا ما كانت هناك حالة ثانية، فإننا لا نضيع الوقت فحسب، ونعمق التخلف، بل إن الموقف المنتقد الذي نكون قد اتخذناه يسفه ذاته ونعمق به تناقضنا. إنها نفس تراجيديا كيركيغارد، إمّا … وإمّا، التي سبق للعروي أن واخذ بها فون غرونباوم: «كتب فون غرونباوم عدة مقالات حول تفاعل الثقافات في العالم الإسلامي الحاضر تتلخص في نقطة واحدة. إن كل تحديث يكون تغريبا لا محالة، أي تأويل الإسلام على أساس فرضيات غربية. وإن لم يكن اندماجا فسيكون اعترافا بأن مقصد الإسلام يندرج تحت المفهوم الغربي للإنسان والحقيقة» (62). نربأ بالعروي أن يتقاسم معه الفرضية التي ينطلق منها: « لم يظهر الإسلام (في تصور فون غرونباوم) في القرون السابقة مقدرة على الإبداع، فلا يضيره إذن في شيء الإستعارة من الغير»(63) .
هكذا تعْلق بالوجود المنعدم الجدوى للفيلسوف هذا، على الأقل، ثلاثة مطبات: وجوده نفسُه هو مجلّ ومسرح لهذه التناقضات ولهذا السفه. فخلافا للعلم الذي يبحث في الكيفيات، يعتبر بحثه في الماهيات مضيعة للزمن؛ ولغته المختلقة تلبس على الناس أمرهم وتضيف غموضا إلى غموض أوضاعهم: «فليس من القبول، تحت ذريعة أننا فلاسفة، أن نتحدث على هوانا، في لغة مستحدثة للغرض الآني »(64) . وفي مقابل هذا لدينا لغة التاريخاني، عبدالله العروي، الذي يتحدث لغة الناس ولا يتعالى عليهم (تكاد هذه الجملة لا تستقيم من هول مفارقة دعوى العروي أنه يتحدث لغة الناس)؛ ثالثا وأخيرا، على خلاف ما يقع مع الفلاسفة «الأقحاح» (65) ، الفلاسفة الخلص، سارتر وميرلوبونتي، (الكلام للعروي) ففي حالتنا العربية الإسلامية، التي يطالب فيها الفيلسوف / «يتوقع منهم نظريا» يقول العروي، أخذ المسافة الكافية من الفلسفة الغربية التي تحاصره، وأن يفي بالترجمة، وبدور الوسيط بين اللغات والثقافة الموكول إليه، إلا إنه نظرا لكل ما سبق لا يستوفي شروط القيام بهذه المهام. عدم تملكه لثقافته، بسبب لغته التي تخونه، يحول مطلقا بينه وبين ذلك. يقول العروي: «كل العاهات ملتصقة بلغته، بعلاقته المتوترة باللغة». وبقدر ما يتقن / «يتقنون لغة أجنبية / غربية، بقدر ما يخلون بلغتهم» 66. «انعدام القدرة هذا في التعبير بنفس السهولة، وبنفس الضبط في اللغتين معا (إذا ما تم افتراض أن هذا ممكن) يفسر بما فيه الكفاية نوعا من العقم لدى من يتوقع منهم نظريا تنشيط الحوار المشار إليه مع الفلسفة الغربية» 67 ؛ «فأن تثبت وجودك كفيلسوف آت من خارج الغرب، يستوجب إما أن تأخذ مسافة من التقليد الغربي وإما أن توقف على حدود هذا التقليد. (…) لتكون لعربي مسلم القدرة على اخذ المسافة، يلزمه أن يكون مستأنسا بتقليده الخاص، وهو قلما يقع كما سبقت الإشارة» 68 .
نغض الطرف عن الجملة التي مرت خلسة، عرضية وبين قوسين، في لغة العروي: تساؤله (الاستنكاري) عن إمكانية الترجمة، « (إذا ما تم افتراض أن هذا ممكن) » 69 . للإشارة فالعروي هو الذي يضع الاستشهاد الأخير بين معقوفين. جملته التقريرية حتى في صيغتها المترددة، تشي بحقيقة موقفه من الحداثة التي تكاد تكون مجمعة على أن «الكل يتحدث لغة الترجمة» على حد قول امبرتو ايكو، أو أن الحداثة هي «أكثر من لغة» كما يقول دريدا. بل إن موقف العروي من الترجمة، ومن الحداثة كأفق، دون ما تم الوقوف عليه من إمكانيات الترجمة منذ الجاحظ في بداية القرن الثالث الهجري.
في آخر المطاف، يبدو أن العروي يستمر في الانخراط في إشكالية هي إشكالية القرن التاسع عشر وصراع العلوم الإنسانية مع الحاضن التاريخي لها. وقد كانت هناك حتى الأزمنة الأخيرة نماذج عديدة لهذه المنازعة: منازعة السوسيولوجي، منازعة اللساني، منازعة المؤرخ… لم يتم الوقوف على تحول النزاع، أساسا مع هيجل على أن كل صراع في التاريخ هو صراع حول التاريخ، حول فلسفة التاريخ التي تسنده أي حول تاريخية / صرامة المسعى. هذا الخلط الذي وقع فيه هِؤلاء والآتي أساسا من تصورهم الفقير والمفقر للحاضر (على شاكلة ديكارت) يأتي من وهم تصور الفلسفة كتخصص في مقابل تخصصات. وهو ما انتبه له، كروتشه، شيخ التاريخانيين، «بتعريفه للفلسفة بأنها منهج البحث التاريخي »70. ها هو العروي يستمر في منازعة الفلسفة منزلتها التقليدية، فيقول: «التاريخ يستعبدنا والفلسفة تحررنا. هذا ما تعد به الحكمة ونحن نميل بالطبع إلى اعتقاد ذلك. فكل منا، كلما فشل أو ذاق مرارة خيبة، إلا وتمنى أن يكون مكان الحكيم، السعيد في عزلته. أولسنا مغوون بالقول على العكس من ذلك: التاريخ يحرر والفلسفة تستعبد؟ » 71.
اللمسة الأخيرة ضمن الملامح العامة لبورتريه الفيلسوف التي ترسمها لنا ريشة العروي، تقول: «فالذي يعلن أن التاريخ دوما مفتوح، يبدأ، دون أن يدري، بنفي وجوده. وبالفعل فنفي التاريخ، هو عدم رؤية الواقع، عدم رؤية الجدل، غياب المساواة، الصراع، التهميش / الهيمنة / التبعية، عدم رؤية أولوية المجتمع، وربما مرحليا، عدم أهمية الفرد؛ باختصار أن تقرر قتل السياسة والانسحاب داخل خيمة بعيدا عن ضجيج الناس. أو ليس هذا معنى الحكمة منذ الأبد ؟ وماذا تعني محبة الحكمة (التفلسف) إذا لم تكن تبني هذا السلوك (= في الهامش يحيل العروي على ابن باجه قائلا: « فالحكيم، بمعنى الفيلسوف أو المتصوف، هو بالتعريف متوحد، خارج مجتمع الناس وتاريخهم؛ إنه داخل تاريخ آخر»؟ 72؛ « لم يعدُ ما تم تقديمه كفلسفة جديدة، أو كماهية للفلسفة، أن يكون شرحا لكلمة “العدمية” إنه الانتحار، الذي لا يعني فقط، أو بالأساس، الهدم المادي، بقدر ما يعني الطلاق التام والمستمر مع التاريخ، مع المجتمع، مع العقل واللغة / الكلام »73.
هكذا ينتهي العروي إلى تخيير الفيلسوف، بل يصدر في حقه الحكم التالي / « «محكوم»: «بين ضرورة أن يتحول إلى شيء آخر أو يستمر في لعب رقصة البطن هذه»74؛ محكوم «أن يبحر بين تيه الاديولوجيا ويوتوبيا الحلم)»75؛
هل هذا الموقف من الفلسفة مجرد انطباع كما سبق العروي وقال في مقدم كتابه. إنه الثابت في مساره: تصور بئيس76 عن الفلسفة، عن التاريخ. عزاؤنا فيه غنى تناقضات “مغامرته في ملعب الفلسفة” ، غناه بتناقضاته.
1 دار الحقيقة بيروث الطبعة الأولى 1973، الثالثة 1980
1Abdallah Laroui, Philosophie et Histoire, éditions La croisée des chemins et le centre culturel du livre, 2 017
3 العروي،، ص, 7
4 « Deux esprits, dit Lucien Febvre en 1938, c’est entendu: le philosophique et l’historique.(…) Il s’agit de faire en sorte que (…) ils n’ignorent pas le voisin au point de lui demeurer sinon hostile, en tous cas étranger », Historiographies,tome 1, sous la direction de F. Dosse et autres, Gallimard, 2010, p. 562
5 العروي، ص7-8
6العروي، 2017، ص,، 25
7 السوسيولوجيا هنا ليست تسمية لقطاع معرفي بقدر ما هي ممارسة / طريقة، تفهم أساسا في إطار محاولات العلوم الإنسانية في القرن التاسع عشر الخروج من حضن الفلسفة / الطريقة. لهذا يقول العروي: « نعني أساسا بعلوم الاجتماع الاقتصاد ثم الاجتماع ثم التاريخ ثم السياسة ثم الجغرافية البشرية ثم علم النفس ثم التربية (…) نهتم هنا بالقواعد المشتركة بين هذه للمطالب لا بالمميزات التي تفصل بعضها عن بعض ». أنظر، عبد الله العروي، نقد المفاهيم، المركز الثقافي العربي، 2018، ص،25-26 . وسبق وأن عرفه، في كتابه العرب والفكر التاريخي قائلا: «(…) حقل العلوم الإجتماعية: منهجية علوم الإجتماع، الإجتماعيات العامة، إجتماعيات الثقافة (التراث)، إجتماعيات الديانة». ص. 105، دار الحقيقة، بيروت، ط. 3، 1980. بل إن مؤرجا كبيرا مثل كولنجوود سيقول: « (…) إن التاريخ الذي يقدمه أوغست كونت تحت تسمية السوسيولوجيا… »ص. 125. من:
R.G. Collingwood, An Autobiography, tr. De l’anglais et présenté par Guy Le Gaufey, ed. Epel, 2010
8 العروي، 2017، ص,، 26
9 La variation phénoménologique
10 وهي تقنية كثيرا ما لجأ إليها العروي في كتاباته. ففي كتابه الإصلاح والسنة مثلا يسميها “رياضة ذهنية”، المركز الثقافي العربي، 2008، ص.175،. يقول: « في كتاب “مفهوم العقل”، تخيلت شخصا قد يكون أستاذ فلسفة وقد يكون فقيها وقد يكون روائيا (…) وكل مرة حاولت رسم المنطق الذي يسيره ويتحكم في تصرفاته »، نقد المفاهيم، ص. 21
11 العروي 2017، ص.، 49
12 يستعمل العروي كلمة يونانية (Uchronos) اجترحها الفيلسوف الفرنسي ، شارل رونوفيي (1815-1903)، مجدد النقدية الكانطية، على وزن (Utopie)، في محاولته كتابة تاريخ لأوربا «كما لم يكن وكما كان باستطاعته أن يكون». أنظر قاموس لالاند.
13 العروي 2017، ص.،135
14 العروي 2017، ص.، 27
15 العروي 2017، ص.،93
16 العروي 2017، ص.، 37
17 العروي 2017، ص.،56
18 العروي 2017، ص.،41
19 العروي 2017، ص.،108
20 « Des sociologues aussi différents que (…) Pierre Bourdieu (…) partagent la caractéristique d’etre philosophe par formation, de meme qu’avant eux Durkheim, Mauss, Holbwachs ou Levi-Strauss, mais aussi la plupart des auteurs de l’école de Francfort », Historiographies, t.1, cité
21 العروي 2017، ص.، 136
22 يلجأ العروي في كتابه العرب والفكر التاريخي، مرجع سبق ذكره، الى التمييز بين: « التاريخ كفن والتاريخ كوسيلة تقييم الحاضر وتحديد المستقبل عن طريق اختيار سياسة (…) وسنرى أن التمييز المقترح (…) تمييز تجريدي فقط وأما في الواقع فالاثنان متحدان في لحمة التأليف التاريخي»، ص. 69-70.
22 «فالتاريخ، على غرار المختبر بالنسبة للعلوم الطبيعية، هو وحده الفيصل فيما بين الآراء حول الإنسان وقدره.» ، العروي، 2017، ص,، 49؛
23 ليس ضرورة منطقية، لنذكر بأن تاريخانية العروي، وهو ما سنعود إليه، تلزمه القطع مع المقاربة المنطقية، مقاربة المنطق الصوري
24 بل إن هذا التوجس من صاحب النظر له تاريخ في تقليدنا تجب تعبئته: الموقف من علم الكلم ومن الفلسفة والإشادة بابن خلدون والظاهرية وابن تيمية وأصحاب النزعة الاسمية والمقاصديين. يقول العروي في أماكن عديدة من الكتاب قيد الدرس :«هذا السلوك / الموقف هو إرث مباشر للموقف المشترك للنماذج الممثلة للاديولوجية الإصلاحية (…) كلها تكره اللاهوت (علم الكلام العقلي/الجدل)، الميتافيزيقا والتيوصوفيا. كلها تعتقد في مسؤولية كل الذين أضاعوا الكثير من الوقت في معرفة ماهية الزمن، اللانهائي، العلل الفاعلة…، في مسؤوليتهم عن الانحطاط» (ص.، 117)؛ «وقد حدث ووجد دوما تقليد رافض للاهوت، للميتافيزيقا، للمنطق الأرسطي، تقليد معترض على البحث في ماهية الأشياء (…) هذه الآراء، كانت ما كانت تمثيليتها في هذه المرحلة أو تلك، في هذه البقعة أو تلك، تمشي كلها في الاتجاه الذي أراده الإصلاحيون. فلماذا لا تعتمد عند الحاجة ؟ لأول مرة هناك شيء يجب إنقاذه داخل التقليد، فلماذا لا يعتنى به ؟ من المثير للانتباه أن المؤلف الكلاسيكي الذي يحب هؤلاء المصلحون الإحالة عليه الذي هو ابن خلدون، هو في نفس الآن مؤرخ وفقيه. وكما تم وصفه بالواقعي والوضعي، يمكننا وصفه بالأمبريقي والبراغماتي» (ص.، 118).
25 العروي، 2017، ص,، 94
26 العروي، ص,، 78
27 العروي، ص,، 116-117
28 الكلمة من استعمالات العروي. يقول:« لذا أغلو أحيانا فأقول: لا يوجد اليوم إلا شغلان جديدان:العلم والخيال العلمي». مفاهيم نقدية، ص. 23
29 العروي، ص,،79
30 العروي، ص,،69
31 العروي، ص,،18
32 العروي، ص,،15
33 العروي، ص,،71
34 العرب والفكر التاريخي، ص. 78
35العرب والفكر التاريخي، ص. 69
36 العروي،2017 ص,،69
37 العرب والفكر التاريخي،1980، ص.، 122
38 العروي، 2017، ص,، 58
39 العروي، 2017 ،ص,، 115
40 عندما اعترض عليه أستاذه فون غرونباوم، خمسين سنة (في نهاية 1968)، اعترض على هوس الفعل لديه ووهم مقابلته للنظر، أجاب العروي قائلا: “أفهم تماما أن انتقاد المحاولة على أساسها قيمتها التطبيقية (أي النظر هل يساعد على تخطيط سياسة ناجحة في البلاد الإسلامية) ليس في محله”. العرب والفكر التاريخي، ،1980،ص,، 117
41 العروي، 2017، ص.،99
42 العروي، 2017، ص.،122
43 حتى نستعمل المصطلح الوحيد الناجي من طوفان القطيعة مع التقليد، لأنه الوحيد المستمد من منطق المقارنة كقانون علمي
44 الأستاذ علي أومليل في نقده للانتصارات المتتالية للرشدية في العهود المتأخرة، يعتبر التاريخ الوسيط بمجمله يغترف من نفس الإبستيمي. خلاف شهير بينه وبين المرحوم الأستاذ الجابري ومسالة القطيعة في فكر ابن رشد.
45 العروي، 2017، ص.، 121
46 العروي، 2017، ص.، 83
47 ديكارت، أعمال ورسائل، لا بلياد، ص. 560-561
48 العروي، 2017، ص.،113
49 العروي نفسه، قبل خمسين سنة، تدارك على فون غرونباوم تناسيه أن العلم الحديث نفسه اعتمد//تعايش مع معرفة قديمة ولم يقطع معها. يقول:”من العجيب أن لا ينتبه فون غرونباوم الى أن العلم في أوربا حتى أواخر القرن السابع عشر كان أيضا يقوم على نظرية معرفية مخالفة للنظرية الحديثة”، العرب والفكر التاريخي، 1980، ص. 119
50Robin Collingwood ; Toute histoire est histoire d’une pensée, Autobiographie d’un philosophe archéologue, Epel, 2010, p. 148
51 كولنجوود، مرجع سابق، ص. 145
52
53 مفاهيم نقدية، مرجع سابق، ص 29
54 Benedetto Croce, Histoire de l’Europe au XIX siècle, Gallimard 1959, p. 50-51
55 العروي، 2017، ص.، 125-126
56 العروي، 2017، ص.، 122
57 العروي، 2017، ص.، 119
58 العروي، 2017، ص.،120
59 العروي، 2017، ص.،120
60 العروي، 2017، ص.،144
61 العروي، 2017، ص.،105
62 العرب والفكر التاريخي، 1980، ص. 115
63 العرب والفكر التاريخي، 1980، ص. 116
64 العروي، 2017، ص.، 29
65 العروي، 2017، ص.، 142
66 لعروي، 2017، ص, 145
67 لعروي، 2017، ص.،145
68 لعروي، 2017، ص,، 148
69 لعروي، 2017، ص.،105
70 كولنجوود، فكرة التاريخ، ترجمة محمد بيكر خليل، راجعه محمد عبد الواحد حلاق، لجنة التأليف والترجمة والنشر، دون تاريخ، ص, 353
71 لعروي، 2017، ص.،133
72 لعروي، 2017، ص.،131
73 لعروي، 2017، ص.، 14
74 لعروي، 2017، ص.،169
75 لعروي، 2017، ص.،161
76 حتى نحيل على كتاب شهير لكارل بوبر: بؤس التاريخانية