مكسيم غوركي
ترجمة: أحمد م الرحبي *
أدركت مبكرًا أن لجدي ربا ولجدتي ربا آخر.
كان يصدف أحيانًا، وبعد استيقاظها من النوم، أن تجلس جدتي على السرير فترة طويلة، تمشط شعرها الهائل، فيهتز رأسها ويتطوح، وتصر بأسنانها وهي تسرح خصلاً بأكملها من ذلك الشعر الأسود الطويل، وكانت تشتم شعرها بهمس خشية أن توقظني:
– فليأخذك الجدري، وليفتك بك الطاعون، ولتحل عليك اللعنة…
في الأخير، وبطريقة أو بأخرى، تجمع ضفائرها السميكة فوق رأسها، وتقوم لتغتسل على عجل وهي تجمجم غاضبة، ثم، ومن غير أن تزيل آثار النوم المتبقية على وجهها، تجثو أمام الأيقونات، حينها يبدأ اغتسالها الصباحي الحقيقي، فيشرق وجهها وضيئًا، في الحال واللحظة.
تُعامد ظهرها، وتلقي برأسها إلى الخلف، وتنظر بعطف إلى الوجه المدور للعذراء القازانية(2)، ترسم إشارة عريضة للصليب، وتهمس بصوت متفجر وحارق:
– يا أم الرب المجيدة، باركي في يومنا الجديد وأسبغي عليه برحمتك!
وسجدت حتى لامست جبهتها الأرض، ثم قامت ببطء، ومن جديد جعلت تبتهل بالحرارة وقوة الترجي نفسها:
– يا ينبوع السعادة، يا فارعة الجمال، شجرة التفاح المزهرة أنت!..
كانت تعثر في كل صباح على كلمات جديدة تكيل بها المديح على معبودتها، وكان هذا يشدني إلى صلواتها، فأصيخ سمعي إليها، وأشحذ انتباهي.
– يا قلبي النقي والسماوي! يا حاميتي ودرعي وغطائي، أيتها الشمس الذهبية، أم الرب، احرسيني من كل شر مستطر، ولا تجعليني ألحق الضرر بالآخرين، ولا أن يلحقوا الضرر بي دونما سبب!
وبحركة بطيئة من يدها الثقيلة تصلّب ثانية، بينما ابتسامة تسيل في عينيها الداكنتين وتعيد إليها شبابها.
– يا يسوع المسيح، وابن الرب، ارحمني أنا المخطئة، بشفاعة أمك العذراء…
كانت صلواتها على الدوام، بوحًا من التقريظ والمديح الصادق والبسيط.
وكانت لا تطيل في صلواتها الصباحية، فلم يكن للجد خادم، وكان عليها أن تعد السماور وتحضر الشاي له في الوقت المحدد، وإلا فسيدوم غضبه عليها ولن تنتهي من مشاجراته.
كان يستيقظ أحيانا قبل جدتي، فيصعد إلى العلية ويجدها تؤدي صلاتها؛ ينصت بعض الوقت إلى همسها، فترتسم على شفتيه الرقيقتين بسمة احتقار، وحول طاولة الإفطار ينهرها قائلا:
– كم مرة، يا أيتها الرأس الفارغة، أعلمك فيها الطريقة الصحيحة للصلاة، وأنت ما زلت على همسك وزندقتك! لا أعرف كيف يصبر عليك الرب!
– إنه يفهمني، – تجيبه جدتي بنبرة الواثق من كلامه. – قل له ما تريد، وبأي صورة كانت، وهو يتدبر الأمر بنفسه…
– جاهلة وملعونة! أف منك…
وكانت تصطحب ربها معها طوال اليوم، وتتحدث عنه حتى مع الحيوانات. وكان واضحًا أن كل شيء يخضع ويطيع هذا الرب بسهولة ويسر: الناس والكلاب والطيور والأعشاب؛ وبأنه طيب مع الجميع وقريب منهم على قدم المساواة.
وذات مرة قام قط زوجة صاحب الحان، المدلل من جميع قاطني البيت، بوبره الرمادي وعينيه الذهبيتين الماكرتين، باقتناص زرزور من حديقة البيت، فانتزعت جدتي الطير المسكين من بين مخالبه وأنبته قائلة:
– ألا تخاف الله، أيها الشرير الماكر!
فضحكت زوجة صاحب الحان ومعها البواب على كلمات الجدة، ولكنها نهرتهما متطيرة من سخريتهما:
– أتظنان أن القطط لا تفهم شيئا عن الله؟ إن كل عشبة تفهم ذلك مثلكما تمامًا، يا أيها الغليظان…
وحينما تسرج مهرها السمين شاراب كانت تتبادل معه الحديث:
– ما الذي يحزنك هكذا، يا خادم الله؟ هل هرمت؟…
فيتنهد الحصان وهو يطوح برأسه.
ومع ذلك لم تكن تنطق باسم الله وتكرره مثلما يفعل جدي. وقد فهمت رب جدتي ولم يعد ما يخيفني فيه، إلا أنه لا يمكن الكذب عليه، وإنه لمن العار والشنار أن يحدث ذلك. ثمة خجل يقهرني ويمنعني عن الكذب في حضرته، ولذلك أيضًا لم يحدث قط أن كذبت على جدتي. وكان ضربًا من المستحيل أن أخبئ شيئًا عن هذا الرب الطيب، بل ولم يخطر على بالي أن أخفي عنه شيئًا.
ذات مرة تخاصمت زوجة صاحب الحان مع جدي، وانتقلت خصومتها إلى جدتي التي لم يكن لها يد في شيء، ولم تكتف تلك المرأة البدينة بذلك، فشتمت جدتي بل ورمتها بالجزر.
– يا لك من غبية يا سيدتي، – بهدوء قالت لها جدتي، أما أنا فجرحتني الإهانة، وقررت أن أنتقم لجدتي بأشد ما يكون الانتقام.
أخذني التفكير طويلا في كيفية إيذاء تلك المرأة السمينة الحمراء، مزدوجة الذقن وغائرة العينين.
وبمراقبتي لعلاقات الجيران بعضهم ببعض، عرفت أنهم يثأرون لأنفسهم عن طريق قطع أذناب قطط الخصم أو تسميم كلابه أو قتل ديكه ودجاجه أو التسلل إلى أقبيته ليلا وصب الكيروسين في برطمانات ملفوفه وخياره أو إهدار الكفاس من براميله، ولكن كل ذلك لم يرق لي، فكنت أرغب في ابتكار طريقة أكثر تأثيرًا وفظاعة.
وهاكم ما توصلت إليه في الأخير: ترقبت زوجة صاحب الحان حتى نزلت إلى قبوها، فأغلقت خلفها الباب بالمفتاح، انتزعت المفتاح وراقصته رقصة الانتقام قبل أن أقذف به إلى سطح الدار وألوذ بالمطبخ حيث وقفت جدتي تعد الطعام. في البدء لم تدرك ما اقترفته، ولكنها، وما إن أدركته حتى أخذت تلطمني وتصفعني أينما وقعت يدها، ثم قادتني إلى الباحة، وأرسلتني إلى السطح لآتي بالمفتاح. فوجئت بموقفها، وبصمت مطبق جئت بالمفتاح، وهربت إلى زاوية الباحة، ومن هناك رأيتها وهي تذهب لتحرير الأسيرة، ثم وهي تقطع الباحة بصحبتها، تضاحكها بألفة ومودة.
– سوف أريك ما تستحقه! – هزت زوجة صاحب الحان قبضتها الضخمة نحوي، ولكن وجهها الذي يُخفي عينيها ابتسم بغبطة ولين. أما الجدة فاقتادتني إلى المطبخ من ياقتي وسألتني:
– لمذا فعلت ذلك؟
– لقد رمتك بالجزرة…
– هكذا إذاً، فعلت ذلك من أجلي! فاسمع يا صعلوك، لسوف أحشرك تحت الموقد لتكون طعامًا للفئران، وعندها ستنتبه لأفعالك. انظروا إلى هذا المُحارب الذي يحميني، منفوخ وسينفجر بعد قليل! سوف أخبر الجد عنك وسينتزع جلدك! والآن اصعد إلى العلية وراجع كتبك…
وطيلة اليوم بعدها لم تبادلني بكلمة، أما في المساء، وقبل أن تتوجه إلى الصلاة، جلست على السرير وقالت لي بتأثر كلامًا ظل عالقًا في ذاكرتي:
– اسمع جيدًا يا لينكا، يا حمامة روحي، وردد بينك وبين نفسك هذا الكلام: لن أتدخل في شؤون الكبار! فالكبار أناس فاسدون، وقد جربهم الله وعرفهم، أما أنت فلا، ولذلك عليك أن تعيش بعقل الصغار. وانتظر حتى يلمس الله قلبك، ويدلك على ما يجب أن تصنع، ويرشدك إلى الطريق التي يجب أن تسلكها، هل فهمت؟ أما من أذنب في حق من، فهذا ليس من شأنك. الرب يقضي بينهم ويجازيهم. هذا عمله وليس عملنا!
سكتت لتتنشق السعوط، وضيقت من عينها اليمنى، ثم واصلت:
– بل حتى الرب نفسه يحتار أحيانًا بين المذنب وغير المذنب…
– ولكن، ألا يعلم الله كل شيء؟ – سألتها مندهشًا، فأجابتني بهدوء وبصوت منطفئ:
– لو أنه يعلم كل شيء لكف الكثير من الناس عن ارتكاب المعاصي. إنه ينظر من عليائه في السماء إلى الأرض، يراقبنا جميعًا، ثم، وبين الحين والآخر، ينتحب باكيًا: «آه يا أبنائي وأحبتي، يا أيها الناس الطيبون! آه كم أشفق عليكم!».
وبكت هي نفسها، ثم توجهت إلى ركن الصلاة من غير أن تجفف الدموع على خديها.
ومنذ ذلك الحين وأنا أتقرب أكثر من رب جدتي، وأزداد فهما له.
وكان جدي يعلمني أثناء دروسه أن الرب موجود في كل مكان، ويعلم ويرى كل شيء، وأنه يساعد الناس في كل أفعالهم الطيبة، ولكنه يصلي أقل مما تصلي جدتي.
صباحا، وقبل أن يتوجه إلى ركن الأيقونات، كان يقف للاغتسال فترة طويلة، ثم يرتدي ملابسه بعناية؛ يمشط شعره الأشقر باهتمام، ويصفف لحيته، وينظر إلى نفسه في المرآة، يسوي قميصه ويربط وشاحه الأسود حول عنقه، بعدها، وبحذر بالغ، يتسلل إلى حيث الأيقونات. وكان دائمًا ما يقف على نفس عقدة الأرضية الخشبية الشبيهة بعين حصان، فينتصب هنالك صامتًا لمدة دقيقة واحدة، محني الرأس ومرخي اليدين مثل الجنود. بعد ذلك يبدأ صلاته بصوت حاد ومؤثر:
– «باسم الأب والابن والروح القدس»
وبعد هذه الكلمات يخال لي أن هدوءًا ما يخيم على الغرفة، فحتى الذباب كان يحاذر في طنينه.
يقف مُلقيًا رأسه إلى الخلف، حاجباه مرتفعان في تحفّز، ولحيته الذهبية تهتز أفقيًّا؛ يتلو صلاته برزانة كأنه يلقي محفوظاته من الدروس: فصوته يصدر قاطعًا وجليًّا.
– «سيأتي يوم الحساب وسيُفتح لكل إنسان كتابه»
وبلينٍ يضرب صدره بقبضة يده، ويطلب متلمسًا بصوت حماسي:
– «أمامك وحدك أقترف الخطايا، فأشح وجهك عن خطاياي»
ويقرأ من «دستور الإيمان»(3)، ضاغطًا على كلماته؛ ساقه اليمنى ترتعش برفق، فتبدو وكأنها، هي ذاتها، تردد الصلاة في صمت؛ يختلج كل ما في جدي وينجذب إلى الأيقونات، فتراه يزداد طولا، ويرق ويهزل، وكل شيء فيه ينطق نظافة وتأنقًا وانغماسًا في التوسلات:
– «وأنتِ يا من ولدتِ المداوي، داوي فؤادي من ذنوبه الكثيرة! إني أحمل في قلبي نحيبًا لا يتوقف، فعالجي قلبي يا أم الرب!»
ثم ينادي بصوت عالٍ، والدمع يبلِّل عينينه الخضراوين:
– «يا إلهي، فلينب إيماني عن أفعالي ولتمح كل ذنوبي»
عندها يتكرر تصليبه بوتيرة أقوى من السابق، وتتصاعد نجواه، ويومئ برأسه كأنه يناطح، ويتحول صوته إلى بكاء ونحيب. وفي وقت لاحق، حين زرت كنيسًا يهوديًّا، أدركت أن صلاة جدي لا تختلف عن صلاة اليهود.
كان السماور يغلي منذ وقت طويل، وعبقت الغرفة برائحة خبز الجودار الساخن بالقشطة. وأنا أتضور جوعا، بينما وقفت جدتي مستندة على الباب وقد خفظت عينيها نحو الأرض، وقطبت وجهها وراحت تتنهد بضجر؛ وعبرت الشمس باحة البيت ببهجة وبرقت في النافذة، ولمع لؤلؤها على الأشجار، وهواء الصبح يتضوع برائحة نبتة الشمر والعنب والتفاح الناضج، أما الجد فما زال يتمايل في صلاته وينوح:
– «فلتطفئ نار شغفي وأشواقي، أنا الفقير الملعون»
كنت أحفظ كل الصلوات الصباحية والمسائية عن ظهر قلب، فألبث في مكاني، وأتنصت إلى الجد، مترقبًا أن يخطئ أو يغفل عن كلمة. ولكنه قلما يسهو عن صلاته، وإن حدث وأخطأ مرة، فإن نشوة خبيثة تستيقظ في داخلي.
وما إن يفرغ من صلاته حتى يتوجه بكلامه إلينا، أنا وجدتي:
– أسعدتما صباحًا!
ننحني ثم نجلس، أخيرًا، إلى الطاولة. حينها أبادر جدي بقولي:
– لقد تخطيت اليوم كلمة «يُغنيني»!
– ألست تكذب؟ – يسألني غير مصدق، وقد ارتسم القلق على محياه.
– بلى، لقد تخطيتها! كان عليك أن تقول: «حسبي إيماني فهو يغنيني عن كل شيء» ولكنك لم تذكر كلمة «يُغنيني».
– هكذا إذا! – يقول واجمًا والحرج يبلل وجهه.
فيما بعد سيرد على جرأتي في اصطياد أخطائه ردًّا خشنًا، أما الآن فحق لي أن أعيش نشوة النصر برؤيته وهو يرزح تحت ثقل الاستحياء.
وذات مرة قالت له جدتي مازحة:
– إنك تصيب الرب بالملل من سماعه لصلاتك التي تكررها المرة تلو الأخرى.
– ماذا؟ – أرعد في وجهها – ما الذي تهرفين به؟
– أقول بأني لم أشهدك قط تهدي الرب ولو كلمة واحدة صادرة من صميم قلبك! ولا مرة فعلتها!
تورد لونه، وانتفض جسمه، وقفز على الكرسي، ورمى طبق طعامه على رأسها، رماه وراح يحشرج مثل منشار:
– إليك عني أيتها الساحرة العجوز.
وكان جدي حين يحدثني عن قوة الله الكلية، دائمًا ما يؤكد على شدتها وقسوتها: فها هو الله يُغرق القوم المخطئين في الطوفان، وإن عادوا إلى خطيئتهم، أحرقهم ودمر مدنهم؛ وهاك الله وهو يعاقب الناس بالمجاعات والأوبئة، فهو دائمًا وأبدًا سيف مسلط على المخطئين في الأرض.
– كل من يخطئ ويعصي أوامر الله فإن جزاءه الشقاء والدمار – يقول ذلك وكأنه يتلقى إلهامًا بينما أصابعه العظمية تدق على الطاولة.
كان صعبًا عليّ أن أصدق ما يقوله عن قسوة الله، وساورني الشك بأنه يفعل ذلك عمدًا لكي يزرع الخوف في صدري، ليس تجاه الخالق وإنما تجاهه هو نفسه. وقد سألته بشكل لا مراء فيه:
– هل تقول هذا حتى لا أعصيك؟
وأجابني بدوره بشكل صريح:
– طبعًا! وهل تتجرأ وتعصي أوامري!
– وماذا عما تقوله الجدة؟
– لا تصدق ما تقوله تلك العجوز الحمقاء! – راح يملي عليّ بشدة وحزم. – إنها غبية منذ البداية، لم تتعلم ولا عقل لها. ولسوف ألزمها بالكف عن الحديث معك في مثل هذه المواضيع الكبيرة! أجب عن سؤالي: كم عدد مراتب الملائكة؟
أجبته سائلا:
– وماذا تعني كلمة «مرتبة» هذه؟
– إيه، أين ذهب بك عقلك يا ولد؟ – ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، وعضَّ على شفته، وشرح لي متضايقا:
– الرتبة لا تخص ملكوت الله، وإنما نقولها للمسؤولين من موظفي الحكومة، إنه شأن بشري! المسؤول هو مفترس القوانين وملتهمها.
– أية قوانين؟
– القوانين تعني الأعراف، – تحدث العجوز بمرح وحماس، وتألقت عيناه اللماحتان والحادتان. – يعيش البشر مجتمعين فيتفقون على أفضل الطرق للحياة، ويأخذونها كعرف ويضعون لهذا العرف القواعد والقوانين. فلنأخذ مثلا الأطفال حين يعتزمون اللعب، إنهم يتفقون على طريقة اللعب والنظام الذي ستسير عليه، هذا الاتفاق هو نفسه القانون!
– والمسؤولون؟
– المسؤولون يشبهون الأولاد المشاكسين، وظيفتهم مخالفة جميع القوانين.
– ولماذا؟
– لن يكون بمقدورك فهم هذا! – قال بحدة وقد قطب جبينه، ثم عاد – من جديد – واتصل بإلهامه:
– إن الله يراقب جميع أعمال البشر! هم يريدون شيئًا، وهو يريد شيئًا آخر. ولكن مشيئة الله هي الأقوى، ويكفيه أن ينفخ حتى يتحول كل شيء إلى رماد وغبار.
كانت لدي الكثير من الأسباب للاهتمام بالمسؤولين، فألححت عليه في مطلبي:
– انظر إلى الخال ياكوف، إنه يغني ويقول:
– الملائكة الطاهرون عباد الله، وموظفو الحكومة عبيد الشيطان.
رفع جدي لحيته براحة يده، وغمسها في فمه، ثم أغمض عينيه؛ خداه يرتجفان فأدركت أنه يضحك في سره.
– من الأجدر بي أن أوثقكما أنت وخالك ياكوف وألقي بكما في الماء! – قال جدي. – لا يليق به أن ينشد هذه الأغنية ولا يليق بك أن تسمعها. إنها من تجديف الزنادقة والهراطقة الخارجين عن الكنيسة.
وشرد بفكره، ساهمًا ينظر من خلالي إلى نقطة بعيدة، ثم تابع حديثه بهدوء وتؤدة:
– تبًّا لهم…
ولكن، ومع أنه يسمو بربه فوق كل الخلائق ويضعه سلطانا عليها، إلا أنه، مثل جدتي، يُشركه في سائر شؤونه، هو ومعه عدد لا يحصى من القديسين، الذين لا تعرف منهم جدتي سوى نيكولاوس، وجاورجيوس، وفرولا، وألعازر، علمًا بأنهم طيبون مثل ربها وقريبون من الناس: يطوفون بالقرى والمدن، ويشاركون الناس حياتهم، ويقاسمونهم معاشهم. أما قديسو جدي فغالبًا ما يكونون من أولئك الشهداء الذين حطموا الأصنام، وجادلوا القياصرة الرومان، فكان جزاؤهم أن نُكل بهم، فعذبوا وأحرقوا وانتزعت جلودهم.
وكان جدي يستغرق في رؤاه أحيانًا، ويقول:
– لو أن الله يعينني على بيع هذا البيت الصغير بربح خمسمائة روبل، لأقمت قداسًا خاصًّا بالقديس نيكولاوس!
فتسخر منه جدتي، وتقول لي:
– يستحق هذا العجوز الأحمق كل ما يصيبه؛ يطلب من القديس نيكولاوس أن يبيع له بيته وكأن لا شغل عند القديس أفضل من هذا!
وقد احتفظت لفترة طويلة بتقويم جدي الذي خط بيده على ورقاته تعليقات مختلفة؛ ومن بين ما وضعه ذلك المكتوب بحبر أحمر في الصفحة المقابلة لعيد يواكيم وحنة: «لقد تخلصنا بفضلهما من بلاء كبير».
أتذكر ذلك الـ «بلاء»: فلكي يقدم الدعم لولديه، ويقي أشغالهما شر الكساد، بدأ جدي يتعامل بالربا، وشرع يستلم الحاجات من الناس ويبقيها معه إلى حين سداد الدين بالفائدة. ولكن أحدهم وشى به، فداهم الشرطة المنزل ليلا وقاموا بتفتيشه. حدث هرج عظيم، ولكن الأمر انتهى بسلام، فعكف جدي على الصلاة حتى بلوج الشمس، وفي الصباح كتب بحضوري تلك الكلمات على التقويم الديني.
كان يقرأ المزامير معي قبل العشاء، أو كتاب أفرام السرياني(4) الصعب، وبعد العشاء يبدأ صلاته من جديد، فيسري صوته الحاد في هدأة الليل، ولفترة طويلة تتردد كلماته الكئيبة:
– «أنت وحدك الواهب والقابض، يا أيها الملك الخالد… فلتقنا كل المآسي ولتحمنا من الأشرار».
وبينما هي تنتظر أن يقضي جدي وطره من الصلاة، لا تتوقف جدتي عن الترديد: آه، لقد تعبت من الجلوس! ويبدو أني سأنام الليلة من غير صلاة…
كان جدي يصطحبني إلى الكنيسة في أيام السبت لإقامة صلاة الليل، وفي الأعياد لحضور الصلوات المتأخرة. أبدل ملابسي في الكنيسة وأستمع إلى صلوات الكاهن والشماسين، فكانوا كلهم يصلُّون لرب جدي، أما ما تردده فرق الإنشاد من غناء فهو موجه إلى رب جدتي.
وإني لأعترف أنني كنت متطرفًا في قسمتي الطفولية بين الإلهين، وأتذكر أن ذلك شطر روحي بحدة وعنف، ولكن، وبعد كل شيء، فإن رب جدي قد أيقظ المفازع في روعي، وزرع الكراهية في نفسي: لم يكن يحب أحدًا، وظل يراقب البشر بعين متجهمة، يبحث عن السوء والشر والخطيئة في الإنسان قبل أي شيء آخر، وكان واضحًا أنه لا يثق بالإنسان، وعلى الدوام يترقب خطاياه، ويشتهي معاقبته.
في تلك الأيام كان التفكير والشعور بالرب هما الغذاء الرئيس لروحي. ذلك هو أجمل ما عشته في تلك الفترة من حياتي، أما كل ما عداه فقسوة وقذارة تنسكب على روحي وتسكب فيها الكآبة والاشمئزاز. كان الرب أفضل وأجمل من كل ما أحاط بي، إنه رب جدتي، الصديق اللطيف والمحبب من جميع الخلائق. وبطبيعة الحال أثارني السؤال حول جدي: فكيف لا يمكنه رؤية هذا الإله الطيب؟
الهوامش
1 – مقتطع من رواية «الطفولة» التي ستصدر قريبا
2 – نسبة إلى مدينة قازان أو كازان؛ العاصمة الحالية لجمهورية تتارستان الروسية.
3 – كتاب يحتوي على مبادئ العقيدة الأرثوذكسية.
4 – راهب سرياني عاش في القرن الرابع الميلادي؛ كتب القصائد والترنيمة الدينية وأبرع فيها.