سليم النجار *
كعاشق للبراري، عاش الشاعر والروائي علي فودة، وهكذا أيضاً، عند هذا (العشق).. تضيع الفواصل بين الواقع والمجاز، سواء جاء ذلك بالكتابة التي اتخذت مجالاً لها، السرد الروائي والشعري، أو الحياة التي كان مجالها (الفلسطيني)1 في بيروت، دون أن يتوسل هذا الكاتب مسؤولي المنابر الإعلامية، أو توسل أضواء العاصمة، أو المدينة.
علي فودة، الذي لا يزال صدى صوته يُردد إن إحدى الجرائد اليومية المحلية الصادرة في بيروت*، كانت ذات يوم المحرضّ له في الدخول إلى عتبات الكتابة الصحفية(2)، لكن بهدوء ودون جلبة، أو تعجل، ثم كانت هذه الكتابة الساخرة، لم تكن معروفة أو معهودة في الوسط الثقافي العربي والفلسطيني في بيروت في الثلث الأخير من القرن الماضي.
انتشرت رصيف 81 كمجلة شهرية ساخرة، أو (متساخرون)، كما يُطلق على المجلة في الوسط الثقافي العربي في بيروت آنذاك، واستفاد علي فودة من تجربة الصحافة الساخرة السورية، التي كان رائدها الكاتب الراحل حسيب كيالي(3).
اغترف علي فودة أغلب موضوعاته من الحالة الفلسطينية والعربية التي كانت تتصدر المشهد الثقافي في بيروت، وكانت فلسطين الصخرة الأولى الذي كان عليه أن ينطحها أو يرفعها إلى أعلى كما سيزيف، ولعل رصيف 81 كان محله الضيق، وهو النواة الأولى أيضاً لرؤياه حول العالم.
من هذا المكان قدم صاحب «رصيف 81» ما يُقارب (دسته) من أعداد الرصيف، التي ليست فستان السخرية، دون أن تتقصد ذلك، وإنما جاء الأمر من نوافح روح استظلت أغصان التهكم – ربما – لتستطيع التكيف مع قسوة العيش، بأقل ما يمكن من الخسائر، تماماً كمن يعيش في أرض الديس، أو يقوم باستصلاحها، فلابد من بعض الأشواك، في سبيل الوصول إلى الأرض الخصبة التي تنتج الأشجار المثمرة.
وفي حقول علي فودة أنبتت أعداد رصيف 81، يغلب عليها الهميّنً الإنساني والقومي، توزعت على عدد من «المانشيتات» التي تصدرت مجلته، وكان المانشيت الأول لافتاً ومدهشاً إذ كتب عن «البدلة» و«وربطة» العنق وعشقه لهذه الملابس وكذلك احتوى فحوى المانشيت كلمات للتعريف بما ذهب له فودة، عن عشقه للعطور، وهذا كان مستغرباً ومستهجناً من بعض المبدعين العرب والفلسطينيين، وكان محل سخرية من البعض الآخر، لأن الذي جاء به علي فودة مغايراً لما هو سائد آنذاك من ثقافة «غابة البنادق» و»ديمقراطية البنادق»(4).
ولأنه كان «يسخر» من كل الظواهر الاجتماعية والثقافية التي كانت سائدة في ذلك العصر البيروتي، جاء سرده الصحفي بكل هذا الصدق الفني، من خلال نصِّ صحفي يأخذ بتلابيب القارئ، وكان حال قلمه يقول: أيها الحمقى توقفوا عن نشر هذا الخراب والدمار في هذا العالم، أيها الأشرار لن تفلحوا في تخريب الأوطان، فطائر الفينيق يتخذ تشكلات متنوعة، ذلك أن ثمة شاعراً موجوداً في غابة يخط قصة الفينيق الذي احترق، لأنه تجاوز الحدود المسموح بها..، ولذلك فأنتم الخاسرون أبداً لأني فينيقي حي، وأنتم بسبب شروركم التي شوهت الحياة وحولتها إلى فضاء الموت، وهذا ما يشي به علي فودة أثناء إصابته البليغة جرّاء القصف الذي تعرض له من قبل الطائرات الإسرائيلية عام 1982 اثناء دخوله للمطبعة وهو يتأبط أوراقه، عندما طلب من زوجته الألمانية ورقة وقلم، قبض القلم بباطن يده، وخط بيده حتى كاد رأس القلم ينفذ من الورقة، وجاءت كلماته ضاغطة: «الأخ ياسر عرفات، الرفيق حبش، الرفيق نايف حواتمة «بالدم نكتب لفلسطين، علي»(5).
«تلك الكلمات التي أرادها إحساسه في لحظاته الأخيرة كان الشعار المرفوع للاتحاد للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، منذ كان الشاعر عبد الكريم الكرمي رئيساً للاتحاد، وما هي إلا بضع ثوان، حتى دخل بعض الكتاب وكان في مقدمتهم غانم زريقات الذي ناولته الورقة دون وعي مني، فقد كنت مشحوناً بما يفوق طاقتي على الاحتمال، وقلت له: هذه أمانه كتبها علي لأنكم (اتحاد كتاب) أحق بالاحتفاظ بها»(6).
يبدو أن عليّ فودة وقتها أطمأن لذلك، وظن أن روح الثورة باقية، عندها أسلم الروح لربه.
استشهد علي فودة الشاعر، وهو يمتشق الكلمات ذاهباً بها للمطبعة، فباغته الصاروخ الإسرائيلي، فهل كانت تعرف إسرائيل ذلك، أنها تغتال شاعراً لا يحمل إلا كلمات؟! وقتها قال عليّ قبل استشهاده وهو يوزع جريدة الرصيف على خطوط التماس للمقاتلين، (اقتلوهم جميعا)، لا فرق بين شاعر ومقاتل أو طفل(7).
وما لم يعرفه عليّ أن خلافا دب بين الكتاب الفلسطينيين حول هذا الشعار «بالدم نكتب لفلسطين» وهناك من عارض هذا الشعار واعتبره شعارا عنصريا، وكان على رأس المعترضين الكاتب فيصل حوراني، لكن في نهاية الأمر تم اعتماد الشعار الذي كتبه الشهيد علي فودة بدمه.
أما الورقة التي كُتبت بدم علي مازالت عند الكاتب غانم زريقات.
ولا شك أن الحياة عند علي فودة بصفتها نقيضاً للموت قد شغلت باله وحمّلته ما لا يحتمل، فوقف بداية من الموت موقف الحائر، لماذا، ومن أوجده، ولماذا يموت؟ فكانت تساؤلاته تصطدم بضبابية رمادية وبِحيرة مدهشة، فعرف منذ أيامه الأولى الجوع والخوف إلى كانت حِيرته العظمى عندما أول موت أمامه، ليقف مذهولاً مما يرى، فلم يدر ما يصنع أمام تلك المعضلة، فكتب بدمه لفلسطين.
انطلاقا من هنا كان موقف الشاعر الشهيد علي فودة من الموت إشكالياً، وتمظهرت رؤياه حول هذه الإشكالية الإنسانية، عندما طلب من صديقه الفنان التشكيلي محمد خالد مصمم مجلة رصيف 81 وفيما جريدة رصيف 82 رسم غلاف لأحد دواوينه الشعرية صورة رأسه وفيه عدة طلقات، في بداية الأمر رفض محمد خالد هذا الطلب المستهجن، وقال أنا لا أرسم «الأحياء أمواتاً»(9) وقال: «أنا الحي الميت، والحي الميت ما الفرق عندك؟!» (10)، وأمام إصرار علي فودة وافق محمد خالد على تصميم الغلاف شريطة أن لا يضع اسمه وهذا ما تم بالفعل.
وأختم ما قاله الكاتب سامح المحاريق: علي فودة ينتمي إلى خانة الضمير، وكان خياره الصعلكة، فكل ما يحدث حوله يغريه بأن ينظر في فعله الثقافي، أن يحاول اتباع منطق الفرّ والكرّ دون أن يحاول تفويضها. هو يريد فقط أن يعلق الجرس في عنق القط « (11).
وقبل أن أغادر وجعي – هذا – ما كتبته عن الشهيد علي فودة:
نحن أمام تجربة – رصيف 81 – لم تغفل البعد المهني والفكري التحليلي، وهي بنت الواقع بامتياز، إذ تناولت المشهدين الثقافيين الفلسطيني والعربي القائم آنذاك في بيروت في صور شتى، وهي وضعت القواعد وأسست لثقافة السخرية لكل ما هو مزيف ومناهضة ثقافة «القامات» التي كانت شائعة في تلك الفترة، حسب فهم معمق للثقافة الوطنية والقومية والإنسانية وتصدت في نفس الوقت لقضايا خلافية ظّلت غائبة عقودا من الزمن، مثل المبدع ودوره في إبداع ثقافة تنويرية مقاومة، ومثل الإجابة على سؤال متى يكون المبدع ثائراً؟ ومتى يكون فعل تنوير؟.
وما بين حكاية رصيف 81 واستشهاد علي فودة.. حكاية فلسطين.
الهوامش
1. رواية الفلسطيني الطيب – علي فودة – دار ابن خلدون – بيروت – 1979
2. مجلة الرصيف 81 – 1981 كانت تصدر في بداية صدورها مجلة شهرية وبعد ذلك تحولت إلى يومية أثناء حصار بيروت عام 1982
3. جريدة النور – تصدر في دمشق – أسبوعية ثقافية سياسية- العدد 617 – 5 مارس 2014 – الأديب الساخر الذي تجاهله النقاد « أنيس إبراهيم « على الراعي ص 6
4. مصدر سبق ذكره في المصدر 2
5. علي فودة – شاعر الثورة والحياة – تقديم وتحرير نضال القاسم – سليم النحار – دار الان ناشرون وموزعون – 2013
6. مصدر سبق ذكره في المصدر 5 محمد خالد – الغلاف الأخير – ص224
7. مصدر سبق ذكره في المصدر 5 ص 225
8. كلمة أ.د عز الدين مناصرة – على الغلاف الأخير لكتاب علي فودة شاعر الثورة والحياة.
9. ذكر تلك الحادثة الفنان التشكيلي محمد خالد في حوار مع ما كاتب المقال في بيته في عمّان عام 2013
10. مصدر سبق ذكره في المصدر 9.
11. مصدر سبق ذكره في المصدر 5 أرصفة تمتد إلى ما لا نهاية – سامح المحاريق – ص ٢٧٨.
* كان الجو الثقافي السائد في بيروت آنذاك لا يتقبل الصحافة الساخرة. فكانت فكرة الرصيف ردا على هذا الجو.