يؤرخ الشاعر (دلدار فلمز) في ديوانه (امرأة بمظلّة ورجل بقبعة)- الصادر عن دار الرائد سنة 2017، والذي يقع في 60 صفحة من القطع المتوسط، ويضم مجموعة من القصائد هي “الريح الزرقاء- امرأة بمظلة وشاعر بقبعة- بيدين من كرز- ربما وجودي- شجرة البرتقال- هي قادمة- محنة تذكر”- اللحظة في حالات عابرة؛ فيجعلها تنساب في ثنايا اللقاء من ذاكرته سيلاً دافقاً من المشاعر؛ لتبقى تلك اللحظة رسول الحبّ، رسول الشوق، ورسول القلب الذي يهفو إلى التماهي مع امرأة تسكن زماناً ومكاناً غير موجودين، حين يجعل الريح الزرقاء تنقل رسائل حبه في ليلة نجوى روحية إليها؛ لتتحدث له عنها، وعن كل شيء يترك رائحة وأثراً لديه، عندما تجلس تلك الريح – التي تتجوّل إلى راوٍ يعرف كيف يعبر عن شوقه لها، واغترابه الروحي في الحياة- أمام نافذتها “الريح الزرقاء… تجلس أمام نافذتك.. في هذه الليلة.. رسول بيننا.. تتحدث لي عنك” ص7.
لغة تختصر المسافات، وتبعثر حنينه على مدى صفحات حاول الشاعر أن يكسيها من روحه حلّةً جديدة لتموت تلك المسافة؛ لأن في داخله رغبة شديدة إليها رؤيتها، وهي تصوغ دروبه بهدوء عابق برائحة تلك الرغبة.
يتنقل الشاعر من مشهد إلى آخر في رؤية متكاملة من العام إلى الخاص، ومن الخارج المادي إلى عالم روحيّ صرف، يبتدع منها صورا وأخيلة في ليل ينقطع فيه كل شيء في الوجود عن الحركة والصوت، ليلٍ طويل لا نهاية له، وحده يقاسي الانتظار، ويحلّق بخياله بعيدا؛ ليرى تلك المرأة تحتضنه أمام الكون كلّه، وتترك بقايا صورها معلّقة في كل زاوية من جسده، وحدائق روحه التي ودّعت كل شيء، وآثرت أن تعيش وحيدة غريبة إلا منها؛ فالمكان كلّه يتحوّل إلى حدائق لها وحدها، “ويقيني بأن ثمة في حدائق روحي مكان لكِ… لكِ وحدكِ” ص9.
تتماهى الفصول لديه في كلّيتها؛ لتصبح فصلاً واحداً في السنة، عبر المتناقضات التي أسس لها في قصائده؛ فالبرد يمتزج مع الربيع في حركة دائبة لا تهدأ، لتجمع السنة بقايا صورها وأيامها، ويكتمل المشهد بأبهى تجلّياته في لوحة مشهديّة “لمنزلٍ مضاء.. ودروب خضراء.. وارتجاف للقالق أشواقه من البرد في شرفة منزلها” ص10.
اتكأ الشاعر على مجموعة صور في قصائده تنداح هادئة؛ تبحث عن تلك المرأة (اللاوجود- الحديقة من اللذة والحبّ)؛ فالرغبة الجارفة في التخلص من اغترابه الحياتيّ حوّل عالمه إلى حنين كضباب عند نافذة مطلّة على واجهة غريبة لروحه، حيث تهبّ الرياح التي تحمل بشائر وإرهاصات ولادة جديدة، عمرٍ جديد؛ تتراقص فيه أشجار وطيور قلبه فرحا بتلك الدلائل التي جعلته يجتمع بها صدفة على أكتاف المدينة؛ ليضع البعد أوزاره، ويلتمّ شملهما معاً في تلك المدينة الحالمة والعاشقة معه بلقائها.
مسكونٌ في قلق حياتي
ليس لديه الأفضل ليعبر به عن عالمه الداخلي الذي استولى عليه القلق، وأدخله في معترك لا خلاص منه إلا بالشعر؛ فهو مستغرق في نفسه، في أعماقه، تذهب محاولاته أدراج الرياح كلما حاول الخروج من مأزقه؛ رغبة في السعي بتلك الذات التي سيطر عليها القلق، وداخلها من وجودها وحالتها الداخلية إلى الحياة، ومفارقة تلك الأخيلة التي تحكّمت به، وبمصيره، فبات يعيش في قلق لا فكاك منه، وتبقى المحاولة والرسم بالكلمات السبيل الوحيد أمامه للانطلاق نحو عوالم أخرى؛ ليزيله عن كاهله؛ ذلك القلق الذي حدّثه عن “أشجار روحه، وعن وجوه عابرة وغابرة، في ليلته تلك”ص7، على الرغم من ألمه اللامتناهي، وبعده في عالمه اللا منتمي، لمواصلة الطريق في دروب المنفى التي حكمت عليه بذلك، ودفعته إلى حالته تلك.
رغبة عارمة في البوح
حين يعلو به اغترابه، ويخلق حوله جدراناً من الشقاق والبعد، ويحكم عليه بالاختناق في الحياة، يحاول أن يجتاز الزمن الذي أحكم رتاجات الأبواب عليه؛ لتقوده اللحظة إلى الانعتاق لاختصار المسافة، واللقاء الذي سيجدد من أمله، ويدفع بقارب حياته إلى النجاة؛ فالمرأة التي يبحث عنها تصوغ دروبه بدون ضجيج أو افتعال، “رغبه جارفة كزهرة سنواتي التي نبتت بين أناملك، وأنت تصوغين دروبي بدون ضجيج أو افتعال”ص8، فحنينه وشوقه أبدا نحو خطواتها، في كل مكان في أروقة الزمن. وعلى الرغم من ضياعه في معترك وجوده، لكنه يدرك أن اليأس لا يعرف طريقا إلى قلبه هذه المرة؛ مع أنه يستغرب من ذلك “غريبٌ أني لم أيأس كما يحصل لي دائما”ص16.
رجاء لا ينتهي
يرتدي الشاعر حلّة الرجاء في محاولة لاستعطاف قلب تلك المرأة “الضوء، النور، المطر، الزهرة” لكي تغدق عليه من روحها شيئا؛ لعله يعود لسكناه، ويجد روحه بعد ضياع واغتراب ممزوجين بلغة شعرية؛ ولّدت في داخلها لغة أخرى، حين يطرق بابها، ويستميحها عذرا، لتمسك بيده، فتجتاز به من تناثره في الأمكنة إلى مكان واحد؛ لتخلق حوله جنةً وربيعا طالما جهد في البحث عنه في أعماق تجربته الانفعالية والشعورية؛ ليصبح بذلك كائناً جديداً، لم يكن له وجود من قبل، ويصبح هو الربيع، والجهات الأربعة تدل عليه بمطر روحها؛ بعدما جفّت ينابيع الحياة من حوله، وصار أرضاً عطشى، يابسة، “أنا أرض يابسة وعطشى، وأنت المطر الذي يتساقط في هذا الليل الجميل، فأرجوك أن تتساقطي على الجهات الأربعة من ربيعي”ص19.
للطبيعة منحنى آخر وبعد مختلف
لكل مفردة خاصة بالطبيعة، وصاغها الشاعر منعطف آخر، ودلالة أخرى؛ رسمها في قالب شعريّ خالص استطاع أن يغني به تجربته الشعرية، ونصّه، ويتماهى معه أحيانا؛ جاعلاً من المرأة، ومن نفسه جزءاً لا يتجزأ منها؛ فهو وهي “المطر، الحديقة، الأزهار، الجهات الأربعة، الربيع، الينابيع، الرياح”.
وهذا يدل على رغبةٍ كبيرة لديه في “تحويل آلام دمه؛ كما قال الناقد توماس إليوت إلى حبر”، وكلمات، وحاله إنسانية انفعالية وعميقة، تسبر أغوار روح مبتدعها، ليُخرج لنا في النهاية نصّاً مشبعاً بعبير الطبيعة، ويعطي هذا النص بعداً جديداً ومختلفاً، أقرب إلى مناجاة الإنسان؛ بسبب خيباته المتكررة، والمتوحّدة مع اكتئابه، من خلال إسباغ صفات آدمية محسوسة على تلك الطبيعة.
عبدالمجيد محمد خلف*