حين يكتب يصطاد حكاية صغيرة أو “شيئا تافها”، أو حُلما بسيطاً ينطلق منه، ثم ما يلبث أن “يصير كل شيء متاحا وحاضرا”، وتسلم له الكلمات والتأملات قيادها. هذا هو عبدالفتاح كيليطو، الكاتب المغربي، والقامة الثقافية العربية المعروفة. غير معني بتصنيف ما يكتب. ولذا، فليس من المستغرب أن يتساءل بعد أكثر من أربعين عاما من الكتابة : “إلى أي نوع أدبي تنتمي كتاباتي؟”. لم تكن الرغبة في التميز وحدها هي التي وجّهته لدراسة التراث الأدبي العربي الكلاسيكي مُعمِلاً فيه المناهج النقدية الحديثة، وإنما أيضا ثراء هذا الأدب وتشعّبه وتميزه بمنعرجات ودروب وطرق عديدة، وإيمانه اننا حين نبحث عن الأول فإننا نبحث عن الأخير”، فـــ”دراسة الماضي ما هي إلا مسوغ أو مبرر لفهم الحاضر”. تعلم من الجاحظ فن الاستطراد وتقليب الفكرة ونقيضها في الآن ذاته، وأَحَبّ في المعرّي طريقته في الحديث عن أدبه والدفاع عن نفسه ضد مناوئيه، وأخذ من بورخيس عشقه الكبير لـ”ألف ليلة وليلة”، أما ابن رشد فلا يتمنى إلا أن يواجهه بسؤال يتيم :هل كان يعرف اللغة اليونانية حينما كان يتحدث عن فلسفة اليونانيين؟. يؤمن أن الكتابة تجاوُزٌ للذات”، وأن باستطاعة الكاتب أن يختار، لو توفرت له الإمكانات، اللغةَ البعيدة، الغريبة الأجنبية، كي يقترب من ذاته، ولذلك، فهو “يتكلم جميع اللغات لكن بالعربية”، والقراء والمستمعون هم في النهاية من يفرضون عليه اللغة التي يتحدث أو يكتب بها، فَأَن تكتب كتاباً طلبه منك أو حثّك على تأليفه تزيفيتان تودوروف أمر مختلف تماما عن توجهك لقارئ عربي في الرباط أو مسقط أو القاهرة. يشعر بالامتنان الشديد لكُتّاب قرأهم وهو فتى يافع وساهموا في تكوينه وتشكيل وعيه، ومن فرط وفائه لهم وامتنانه بجميلهم يتحاشى إعادة قراءتهم اليوم لكي لا تنخدش الصورة الجميلة المنطبعة عنهم. يهتم كثيرا بعناوين كتبه، لأنه يعتبر العنوان “كمدخل البيت أو المنزل الذي هو الباب الرئيس، فينبغي أن يكون شيقا ويجذب الانتباه”، وهذا ما يتجلى في هذه العناوين الجميلة لكتبه: “لسان آدم”، “حصان نيتشه”، “خصومة الصور”، “أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية”، “العين والإبرة”، “من شرفة ابن رشد”، “الحكاية والتأويل”، وصولاً إلى كتابه الأخير “من نبحث عنه بعيداً يقطن قربنا”.
في أواخر نوفمبر 2018 زار عبدالفتاح كيليطو مسقط بدعوة من مؤسسة بيت الزبير، حيث قدم شهادة عن تجربته الأدبية. وعلى هامش هذه الزيارة كان لنا معه هذا الحوار:
uu لنبدأ هذا الحوار من السؤال الذي اخترتَه عنوانا لشهادتك في أمسية بيت الزبير: “إلى أي نوع أدبي تنتمي كتاباتي؟”، هل توافق من يرى أن عدم توفر إجابة يقينية على هذا السؤال هو ما يجعل من تجربتك الكتابية فريدة ومميزة؟.
u هذا صحيح. فما يهم في النص الأدبي هو ما يكون فيه من لبس وغموض، فتتساءل: “ماذا أقرأ؟ ما هذا النص الذي أقرأه؟ وإلى أي نوع ينتمي؟”. في هذه الحالة، حينما يكون ملتبسا وغامضا من ناحية النوع الذي ينتمي إليه، يكون النص ناجحا أو أوفر حظوظا للنجاح. أنا منذ صغري أقرأ الحكايات والروايات، فلا يمر عليّ يوم دون أن أقرأ شيئا من السرد، هذا قد يكون شبه مستحيل، بل مستحيل إطلاقا، وحتى عندما لا أقرأ فإنني أروي لنفسي الحكايات، فحين أكتب أحاول أن أصطاد حكاية صغيرة أنطلق منها، وحين أنطلق من الحكاية يصير كل شيء متاحا وحاضرا، مثلا قد أصطاد بداية نص حين أستيقظ في الصباح بعد حلم، فمرة استيقظتُ وفي ذهني عبارة غريبة، احتفظت في فكري بذكرى عبارة غامضة هي “لغتنا الأعجمية”، فقلت في نفسي: “ما معنى هذه العبارة؟”. ومن يقول هذه العبارة: ابن رشد. وهو لم يقل أبدا [في حياته] هذه العبارة، ولكنه في حلمي قالها، فأنا نسبتها إليه في الحلم، وكتبت نصا انطلاقا منها لأوضح ما معنى “لغتنا الأعجمية”؛ لأن هذه العبارة مبنية على تناقض؛ فإذا كانت لغتنا فهي ليست أعجمية، وإذا كانت أعجمية فهي ليست لغتنا!، فكيف نوفق بين هذا التناقض، وهذه المفارقة كيف نفسرها؟!. وفي الواقع اهتديت إلى جواب عن هذا، كيف تسربت هذه العبارة إلى منامي وحلمي؟! كيف سمعت هذه العبارة في المنام كما يقال؟!. العبارة في الحقيقة قالها، أو كاد يقولها، ابن منظور صاحب “لسان العرب”، أين قال هذا؟ أو أين أوشك أن يقوله؟ طبعا في قاموسه “لسان العرب”، لكن فضولي الفكري دفعني ذات يوم إلى قراءة مقدمة ابن منظور، [رغم أنه] لا أحد يقرأ مقدمات القواميس، فعادة نتصفح الصفحات الأخرى في القاموس. عموما قرأت المقدمة، فاكتشفت شيئا مفاجئا إذ تحدث ابن منظور – وأظن أنه كان يعيش في القرن الثالث عشر الميلادي في مصر – عن ميل القوم إلى ما يسميه باللغة الأعجمية أو اللسان الأعجمي، ونفورهم من العربية، وهذا شيء غريب، ما هذه اللغة الأعجمية التي كان الناس يميلون إليها؟ والله لا أدري، أهي الفارسية؟ أهي التركية؟ المهم حصل هذا الأمر في القرن الثالث عشر، وبالنسبة للمغاربيين فهذا الأمر له دلالة عميقة. أخذت الأسطر التي تتضمن هذه الفكرة، وعرضتها على طلبتي في الجامعة دون أن أذكر أن مؤلفها هو ابن منظور، فسألتُهم : من قال هذا الكلام؟ من قال إننا نميل إلى اللغات الأعجمية وننفر من لغتنا العربية؟ فتعددت الأسماء، ذكروا لي أسماء لكُتّاب معاصرين يدافعون عن العربية، وهم كُتّاب لا أقول إنهم ضد الفرنسية، ولكنهم متحفظون من هيمنتها، مثل عبد الكريم غلاب وعلال الفاسي وغيرهم، إذاً ما قاله ابن منظور في القرن الثالث عشر تجده يوافق حالتنا في القرن العشرين مثلا، هذا هو تفسيري للحلم، نسبت إلى ابن رشد شيئا قاله أو أوشك أن يقوله ابن منظور.
uu وهذا يذكّرني بما قلتَه في أحد حواراتك عن الشيء البسيط الذي يكون نقطة انطلاق ثم ينمو ويتحول إلى شيء آخر يفتح آفاقاً لم تكن في الحسبان في كتاباتك. ذكرتَ ابن رشد، وابن منظور، وأيضا تتزاحم أسماء كثيرة في تجربتك الكتابية، أهمها ربما الجاحظ، وأبو العلاء المعري وابن حزم، وأسماء كثيرة من التراث العربي الأدبي القديم، وهذا يدفعني إلى سؤال طُرِح عليك سابقا: أنت مدرس في اللغة الفرنسية في جامعة الرباط، ولك دراسات طبعا في الأدب الفرنسي، ولكنها لا تقارن من ناحية الكم بالدراسات التي كتبتها في الأدب العربي الكلاسيكي. ما الذي شدك في الأدب العربي الكلاسيكي لتجعله مشروعك؟
u ربما الرغبة في التميز، أو لنقل بسبب ثراء هذا الأدب وتشعباته، فالأدب العربي متشعّب وله منعرجات ودروب وطرق عديدة، فذلك ما جذبني إليه. وفي الواقع ما جذبني في البداية هو النقد الأدبي العربي في كتابات الجرجاني والآمدي وابن قتيبة، وهكذا كانت هذه نقطة الانطلاق، وكان هذا في وقت كانت فيه المناهج الحديثة قد تسربت إلى الدراسات العربية وإلى العالم العربي، فكنا جماعة نحاول أن ننظر إلى التراث العربي انطلاقاً مما كان شائعا من أفكار ودراسات حول ما يسمى المناهج الحديثة، طبعا لم نكن نحاول أن نوفق بقدر ما كنا نحاول أن نرى الفروق بين ما يسمى المناهج الحديثة (مناهج القرن العشرين) والمناهج القديمة؛ لأن ما يهمني ليس توافق الجرجاني مع مثلا فرديناند دي سوسير، بل ما يهمني هو اختلافهما، من السهل أن تقول إن الجرجاني قال هذا قبل فلان أو علان، ما يهمني هو اختلاف الجرجاني بالنسبة للآخرين، فهذا هو المهم بالنسبة لي، أما التماثل ونقط الالتقاء فهي ثانوية بالنسبة لي.
uu في شهادتك أيضا ذكرتَ في معرض حديثك عن الجاحظ “الكتابة بالقفز أو الوثب”، وهو المصطلح الذي سكّه الأديب الفرنسي مونتيني. وهذا يجرنا إلى حديث عن إعجابك بالجاحظ، مُدشِّن فن الاستطراد، كما تخبرنا في شهادتك، وهو – أي الاستطراد- نجده أيضا في كتابة عبد الفتاح كيليطو، بل إنك أيضا تقول في موضع آخر من الشهادة: “أفهم اليوم لماذا قضيتُ سنوات في دراسة المقامات، ذلك أن مؤلفيها المتشبعين بفكر الجاحظ نسجوا على نفس المنوال ونهجوا الأسلوب نفسه، وقد أكون تأثرت بهم”.
u طبعا في البداية كان التأثر لا واعيا، فما معنى أن أكرس في السبعينيات من القرن الماضي سنوات لدراسة المقامات التي -كما قلت في مداخلتي- لا يقرأها أحد، ولكني كنت أبحث عن نفسي، وتبين لي أنني لا يمكن أن أكتب إلا وأنا أنتقل وأقفز من موضوع إلى موضوع، أو كما يقول مونتيني “بالقفز والوثب”، وهذا ما يحدث في المقامات، مثل مقامات الهمداني التي صفحاتها قليلة، فكل مقامة طولها من خمس إلى ست صفحات، ثم ننتقل من هذا الموضوع إلى ذاك، ومن هذا المشهد إلى ذاك، بحيث ليست هناك وحدة، فيمكنك أن تبدأ بالمقامات الأخيرة وتنتهي بالمقامات الأولى، لا يهم. المهم هي وحدة كل مقامة، مع خيط رفيع يجمع شمل المقامات، هذا الخيط الرفيع هو عودة البطلين، وهما الراوي والبطل البليغ، وهذا ما حاولت القيام به في أعمالي السردية. أعمالي السردية المنشورة قليلة، ولكنني وجدت في المقامات وعند الجاحظ المبرر لطريقتي في الكتابة المبنية على الاستطراد، وجددت مبررا وشيئا يشدني إلى أساس صلب، هذا الأساس هو المقامات والجاحظ.
uu في شهادتك عندما تحدثت عن تدشين الجاحظ لفن الاستطراد قلت: “ها نحن قد رجعنا دون أن نشعر إلى المرة الأولى”، وفيها أيضا تتساءل: “هل هناك أصلاً مرة أولى؟”. نلاحظ منذ بدايات تجربتك أنك مهجوس بالبدايات، في “لسان آدم” تكتب عن القاتل الأول وعن اللغة الأولى، في كتب أخرى تتحدث عن الحبيب الأول والمنزل الأول، ودائما هناك نزوع للأشياء الأولى. ما هو السر؟.
u هو سرٌّ …. (يصمت قليلا). هذا البحث عن البدايات هو شيء قديم. هناك كتاب لم أقرأه، ولكنني أعرف عنوانه؛ كتاب الأوائل، الذي يتحدث عمن فعلوا شيئاً لأول مرة (مثلاً أول من ركب الفرس، وأول من تكلم اللغة العربية، وهكذا)، فهذا فضول عام وقديم لمعرفة الأوائل. وفي الواقع فإننا حين نبحث عن الأول فإننا نبحث عن الأخير؛ أبحث عن لسان آدم، الإنسان الأول، وفي ذهني الحاضر وما يحدث اليوم، ما هو لسان اليوم بالنسبة للّسان الأول؛ لسان آدم، أي أن ما نحاول أن نبحث عنه في الماضي هو من أجل فهم الحاضر، فدراسة الماضي ما هي إلا مسوغ أو مبرر لفهم الحاضر، هذا هو السر. وأعود مرة أخرى إلى ما يحدثه النص الأدبي من تأثير. النص الأدبي هو الذي يكون في الوقت نفسه غريبا وأليفا، قد يبدو لك غريبا مفاجئا، ولكن إذا به يمنحك نظرة إلى شيء ألفته [اليوم] ، أو ألفتَه فيما مضى، ولهذا أذكر دائماً بيتَيْ أبي تمام:
نقل فؤادك حيث شئت من الهــوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى
وحنيـــنه أبدًا لأول منـــزل
إنه يذكر هنا المنزل الأول والحبيب الأول. وكثيرًا ما ذكرتُ هذين البيتين في كتبي، بل إن شعاري في الكتابة هو ما نجده في هذين البيتين، فكثيرًا ما تساءلت: تُرى من هو الحبيب الأول؟ وما هو المنزل الأول؟، هل نقول إن الحبيب الأول هو الأم؟ هل نقول إن أبا تمام قصد بـــ”الحبيب الأول” نفسه لأن اسمه “حبيب”، أي أن لديه شيئاً من النرجسية؟، ماذا سنقول؟ إلى أن اهتديت إلى جواب، ليس هو جواباً نهائيا وإنما افتراض: أن الحبيب الأول هو المذكور في معلقة امرئ القيس “قِفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل”، فنجد في بدايةِ المعلقة الحبيب والمنزل، كما نجد ذلك عند أبي تمام :”كم منزل في الأرض..”، إذًا، الحبيب الأول والمنزل الأول هما البيت الأول من معلقة امرئ القيس. أي أنهما – الحبيب الأول والمنزل الأول- بداية الشعر كما تخيلناها، فالعودة إلى أول بيت في أول معلقة عربية هي التي أثارتني في هذه المسألة.
uu بما أننا تحدثنا عن الأشياء الأولى، دعني أسألك عن الكتب الأولى التي شكلت أو كوّنت وعي عبد الفتاح كيليطو، في شهادتك تحدثت عن مكتبة في الرباط في الخمسينيات كنت تزورها وقرأت بفضلها بعض الكتب، تحدثتَ أيضا عن مصطفى لطفي المنفلوطي كأحد الكتاب العرب الذين كان لهم دور في تكوينك، دعني أسألك عن هذه الكتب الأولى التي ساهمتْ في تشكيل وعيك سواء كانت كتبا عربية أو فرنسية أو بلغات أجنبية.
u نسيتُ أن أذكر في شهادتي شيئا أحدث فيَّ تأثيراً كبيرا، فلقد كنت في البداية أقرأ كثيرًا القصص المصوّرة، أي تلك المصحوبة بالصور، مثل كتاب مصوّر بطله يسمى “بليك لو روك” (Blek le Roc) الذي كان يصدر كل شهر ويحكي عن المتمردين في أمريكا ضد الإنجليز، إذ كان هناك متمردون يقاومون ما يعتبرونه استعمارًا إنجليزيا. هذا الكتاب المصوّر قرأته حين كنت طفلا، وحين كبرتُ وقعتْ نسخةٌ منه في يدي، ففوجئت وتساءلت : أما زالت هذه الأشرطة تصدر؟! والعجيب ليس في كونها مازالت تصدر وحسب، بل أيضًا أن أبطالها مازالوا يناضلون ضد الاستعمار الانجليزي!، أي أنه مضت خمسون سنة وهم يناضلون ولم ينالوا بعدُ استقلالهم، فهذا أمرٌ كان له تأثير كبير على نفسي وعلى نفسيتي. ومن ضمن هذه الأشرطة أو الحكايات المصورة [التي قرأتها] شريط بطله ميكي لُورانجر (Miki le Ranger)، وهو بطل مراهق يقوم بمغامرات ويحارب اللصوص والمستبدين، وكانت له خاصية وهي أنه لم يكن يشرب إلا اللبن، بينما معارفه في الحانة في أمريكا يشربون المشروبات الكحولية، وحين يرونه يشرب اللبن يضحكون عليه، ويستفزونه، فيرى نفسه ملزماً بالدفاع عن نفسه وأحيانا بالتشاجر من أجل حقه في شرب اللبن، وعدم الامتثال لرغبة من هم حوله. وفي النهاية يخرج من الحانة وهو مغتاظ ومكفهر، ويكتشف أن الاختلاف شيء صعب، ولا بد من تأدية الثمن لكي تكون مختلفا، فلكي تشرب اللبن لا بد من أن تؤدي ثمن ذلك بالشجار وبالعراك والمنافسة.
uu هذا بالنسبة للكتب المصورة، فماذا عن الكتب الورقية العادية؟.
u من بين الكتب التي قرأتها كتاب “آخر المُوهيكان”، ولستُ أدري إن كان ما يزال يقرأ اليوم. ومؤلفه هو فينيمور كُوبر، وكان مشهوراً في زمنه. ولقد كنتُ إذْذاك طفلاً، والأطفال كما تعلم يحبون القصص التي فيها نوع من الصراعات مع الهنود الحُمر، وهكذا. لكن العجيب أنني أعدت قراءة هذا الكاتب مؤخراً فكانت الصدمة، كنتُ معجباً به ولكن حين أعدتُ قراءته بدا لي مخيبا للآمال، ولهذا أنصح نفسي بأنْ لا أعيد قراءة ما أحببته في صغري، لأن خيبة الأمل ستكون في الميعاد، ولهذا أيضاً لا أريد إعادة قراءة المنفلوطي أو العقاد أو طه حسين؛ لأنني أخشى أن أُصدم ويخيب أملي.
اuu على ذكر العقاد وطه حسين قرأت لك حوارا استشففتُ منه أنك مهتم أكثر بطه حسين وتوفيق الحكيم لخلفيتهما في اللغة الفرنسية أكثر من العقاد والمازني اللذَيْن تعتبرهما مثقفين لغتهما أنجلوسكسونية، هل هذا الاستشفاف صحيح؟.
u هذا صحيح. أنا أميل أكثر إلى طه حسين وتوفيق الحكيم. طبعا أميل إلى الكتاب الذين لهم رصيد أنجلوسكسوني، ولكن أحس أُلفةً كبيرة مع من لهم رصيد فرنسي، لأن هذا يظهر في كتاباتهم، تحسّ بالنبرة الأنجلوسكسونية عند المازني والعقاد، وتحس بالنبرة الفرنسية عند توفيق الحكيم وطه حسين، فهناك فكران أدبيان في كلتا الحالتين، اللغة الثانية تكون مهيمنةً وبادية في اللغة الأولى، هذا ما يمكنني أن أقول عن هذا [الأمر]، فمثلا أجد أسماء عند أصحاب الثقافة الأنجلوسكسونية التي لا تُحيلني إلى شيء أعرفه، مثلا أسماء كتاب كــ”إيمرسون” و”برنارد شو”. من هما هذان الكاتبان؟ لم أعتد قراءة هؤلاء الكتّاب، بينما الأنجلوسكسونيون اعتادوا ذلك وهذا الأمر بالنسبة لهم عادي وطبيعي. وفي جانب آخر، الإحالات [لدى الكتاب المتأثرين بالفرنسية] معروفة لديّ، فإحالات توفيق الحكيم وطه حسين معروفة لديّ، فهناك أدبان في حديث أهل الأدب: الأدب المتأثر بالفرنسية، والأدب المتأثر بالإنجليزية والأميركية.
uu هذا إذاً يحيلنا إلى اللغة الفرنسية، وكتابتك بها، ودعني أطرح هذا السؤال الذي طرحتَه أنت في كتاب “أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية”، ففي هذا الكتاب تكتب: “لماذا تكتب باللغة الفرنسية؟ سؤال يُطرح عادةً على الكاتب الذي ينشر كتبه بهاته اللغة، وهو سؤال من شأنه أن يثير قلقه وشعوره بالذنب. وعند رده، يظهر لباقة ورهافة، يَذكر فعلَ التاريخ، كما يذكر التكوين الذي تلقاه، وقد يقول أيضا إنه يحس أنه يتمتع بنوع من الحرية في الفرنسية، وأنه يلمس بدرجةٍ أقل تابو الجنس والسياسة. كما سيقول بأنه عاجز عن الكتابة بلغة أخرى، وقد يتحدث أحيانا بطريقة غامضة عن اللذة التي توفرها له الفرنسية. لن يَعترف دوما أن الكتابة بالفرنسية تحقق لكاتبها بعض الحظوة وتمنحه اعتبارا، وتمكِّنه من جمهور مضاعف وانتشار واسع. يمكن تصور افتراض آخر: الكتابة تجاوزٌ للذات، حتى إن اقتضى الأمر أخذ مسافة مع اللغة الأم، فباستطاعة الكاتب أن يختار، لو توفرت له الإمكانات، اللغة البعيدة، الغريبة الأجنبية، كي يقترب من ذاته…”، السؤال الآن: أي من هذه الأسباب يمكن أن يختاره عبدالفتاح كيليطو للإجابة عن سؤال: لماذا تكتب بالفرنسية؟.
u هذا سؤال كان يطرح بحدة على من يكتبون الفرنسية في مرحلة استقلال البلدان المغاربية، (ليس فقط في المغرب بل أيضا في الجزائر وتونس)، وكان سؤالاً استفزازيا، “لماذا تكتب بالفرنسية” يعني أن ما اقترفتَه منكر وشيء لا يجوز، فإذا في الجواب يحاول الكاتب أن يبرر ذلك. حدث هذا مباشرة بعد الاستقلال. وينبغي أن نتفق على شيء: الأدب المغربي الحديث عمره قصير يعود إلى الخمسينيات [من القرن الماضي]، قبل الخمسينيات ماذا كان؟ والله لا أدري. المهم؛ نقول إن الأدب المغربي الحديث ابتدأ في الخمسينيات، وفي الجزائر ابتدأ قبل الخمسينيات، لأن تاريخها مختلف. إذاً، كان بعض الكتاب [المغربيين] يدرسون في مدارس تهيمن فيها اللغة الفرنسية، فصاروا يكتبون بالفرنسية، وفي تلك الفترة كانت حاضرةً بقوة مسائل العروبة والقومية واللغة الأم، فكان الكُتّاب حين يطرح عليهم هذا السؤال: لماذا تكتبون بالفرنسية؟ يخجلون من ذلك. وهم في الحقيقة لم يكن بمستطاعهم أن يكتبوا بلغة أخرى، لأنهم درسوا بالفرنسية ويقرؤون بالفرنسية. اليوم لم يعد هذا السؤال مطروحا. لا أحد يسألك: لماذا تكتب بالفرنسية؟ بل على العكس ربما تُعَدّ كتابتُك بالفرنسية نوعاً من الرقي الفكري والوجاهة. هذا يرجع بنا إلى “لغتنا الأعجمية” التي تحدثنا عنها سابقا. اليوم صارت الأمور ملتبسة، ولكن ما يحدث أن الكتاب العرب بصفة عامة يكتبون بلغتين: بلغتهم الأم (الفصحى)، واللغة الثانية التي يكونون قد قرأوا بها وتعلموا بها، والتي هي إما الإنجليزية أو الفرنسية. فالأدب العربي يمكن أن تقرأه وأنت تتتبع الإحالات العديدة للثقافة الأوروبية في أفق هذه الكتابات. المهم، لم يعد أحدٌ يلومك اليوم على الكتابة بالفرنسية، فقد انتهى الأمر الآن. اكتُبْ باللغة التي شئت. ربما لأن الأدب لم يعد له ذلك المفعول السحري الذي كان آنذاك. كان الكاتب في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات له مكانة ودور واعتبار، وكان مثقفا. اليوم انتهى هذا، لم يعد له الاعتبار والتقدير نفسه، صار شخصاً عاديا ينتج الأدب كما ينتج أي صانع منتوجا صناعيا، هذا هو ما حدث، لم تعد تحيط بالأديب تلك الهالة التي كنا نعرفها، حين كنا نسمع اسم توفيق الحكيم وطه حسين [ونردد]: “شيء عظيم”. اليوم لأي كاتب ستقول: “هذا شيء عظيم؟!” اختلفت الأمور اليوم واختلطت.
uu مازلنا في اللغة الفرنسية: كتبتَ كتاب “الكتابة والتناسخ” و”أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية” و”حصان نيتشه” باللغة الفرنسية، في حين كانت لك كتبٌ أخرى بالعربية (“متاهات القول” مثلا). فما الذي يحدد أن هذا تكتبه بالفرنسية وذاك تكتبه بالعربية؟
u لنأخذ مثلا كتاب “الكتابة والتناسخ” الذي ترجمه [من الفرنسية إلى العربية] الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي. كيف نشأ هذا الكتاب الذي كتبته بالفرنسية، وكان عنوانه الأصلي “Lauteur et ses doubles” (“المؤلف وبدائله”)؟. كنتُ في سنة 1981 إن لم تخنّي الذاكرة في ندوة نظمها عبدالكبير الخطيبي، وكان بين الحاضرين المشاركين في الندوة تزفيتان تودوروف الناقد المعروف. وكانت الندوة عن الازدواجية، وتحدثتُ فيها عن ما كان يسمى “المستنبِح”؛ أي البدوي الذي يضل طريقه في الصحراء ولكي يجد سبيله إلى أهله ودياره في الليل يأخذ في النباح، فتتبعه الكلاب فترد عليه، فيعرف أين هم أهله وذووه، فيهتدي بذلك. هذا ما ذكرته في تلك الندوة، فأَحَبَّ تودوروف هذه المداخلة وأخذني جانبا بعد الندوة وقال لي: “لماذا لا تنشر انطلاقاً من هذه المداخلة كتابا أنشره في منشورات لوسيه” ، فقد كان إذذاك له سلسلة في هذه المنشورات هي سلسلة “بويتك” التي كان يديرها هو وجيرار جينيت. وهكذا كتبتُ ذلك الكتاب استجابةً لرغبة تزفيتان تودوروف، وطبعا كنتُ أعرف أنه سيكون قارئي الأول، كنت أعرف أنه إما سيقبل الكتاب أو يرفضه، لهذا كنتُ أتوجه إليه محاولا إغراءه وإثارة فضوله، طبعا مع الصرامة الأدبية والعلمية، ولكن أيضا هو كتاب موجه إلى قراء ليس اختصاصهم الأدب العربي، بل لا يعرفون أو لا يكادون يعرفون شيئا عن الأدب العربي. إذاً، دخلت عدة اعتبارات: فيما يخص اللغة لم يكن بُدٌّ من الكتابة بالفرنسية، وفي الإحالات والأشياء الأخرى كان لا بد من التأقلم مع من سيقرأني في البداية، وهنا نرجع إلى المرة الأولى، كان سيقرأني جيرار جينيت وتزفيتان تودوروف، وكان مصير الكتاب بين أيديهما، هذا هو الذي كان يحدو رغبتي في الكتابة حينئذ. أما فيما يتعلق بالعربية فهناك كتب كتبتها بالعربية لأن السياق مختلف، وعادة كتاباتي تكون في البداية محاضرات ومداخلات هنا وهناك، وأختار اللغة حسب من يدعونني، فمثلا البارحة تحدثت بالعربية لأني افترضتُ أن الحضور يودون أن أتحدث بالعربية، لو كنت في باريس لتحدثت بالفرنسية، فمرة أخرى القراء والمستمعون هم من يفرضون عليّ اللغة التي أتحدث بها أو أكتب بها، فالمسألة تتعلق بي في نهاية الأمر، وكما يقول فولتير “الكتاب نصفه يعود للمؤلف ونصفه للقارئ”، أي أن القارئ يشارك ويساهم في كتابة الكتاب، هو الذي يحدد لك بأي لغة يجب أن تكتب، هذا هو الأمر بالنسبة لي، وربما بالنسبة لغيري أيضا.
uu وهذا القارئ أيضا يدفعني إلى سؤال: نلاحظ أن عبد الفتاح كيليطو رغم خلفيته الأكاديمية وتشبعه بالنظريات النقدية الغربية إلا أنه يتوجه في كتابته للقارئ العام وليس القارئ المختص. ذكرتَ قبل قليل أنك وأنت تكتب “الكتابة والتناسخ” كان في ذهنك قارئ معين هو تودوروف، فهل وأنت تكتب كتباً أيضاً باللغة العربية تضع قارئا نموذجيا بعينه تتوجه إليه في كتابتك جاعلا نصب عينيك أن يفهم كل عبارة تكتبها له؟.
u طبعا أضع أمام ناظري حين أكتب بالعربية (وأيضاً بالفرنسية) القارئ العام كما قلتَ، وأحذر من شيء لا أريد أن أقع فيه وهو استعمال الكلمات التي لا يفهمها إلا المختصون، فأنا ليس لي اختصاص، فأصحاب الاختصاص فيما بينهم لهم كلماتهم ومصطلحاتهم وأفقهم إلخ، أما أنا فأخاطب القارئ العام، فلهذا أتجنب مصطلحات من نوع “الحداثة” و”البنيوية”، أتجنب الكلمات التي لا يفهمها إلا أهل الاختصاص. وهناك مسألة القراءة؛ من سيقرأني؟ وكيف أجعله يقرأني؟. ثم إن هناك شيئاً آخر؛ وهو أن المصطلحات العلمية تتقادم مع مرور الزمن، فتُنسى ويُنسى مفهومها ومعناها، فإذا بك تجرّ معك هذه المصطلحات العلمية بينما هي تتبدل كل عشرين سنة. كل عشرين سنة تتأسس مدرسة جديدة وهكذا، لذا أحاول أن أنقذ ما أكتب بأنْ لا أستعمل إلا الكلام العام الذي يفهمه كل قارئ، وهكذا أضمن لكتاباتي شيئاً من الدوام والقراءة، فهناك كلام يرهبني ويخيفني، مثلاً “هرمنوطيقا”، فطبعاً بالنسبة للمختصين يعود هذا [المصطلح] إلى هذه المدرسة أو تلك، إلى هذا المنظر أو ذاك، ولكن بالنسبة للقارئ العام لماذا ستستعمل كلمة “هرمنوطيقا” عوض “تفسير” مثلا؟. هذا لا يجوز بالنسبة للقارئ العام، ولكن كما قلت فإن الأمر يختلف عندما يكون الكاتب مختصاً في علم من العلوم، فهذه مسألة أخرى.
uu لا يكون هناك حوار مع عبد الفتاح كيليطو دون أن يُتطرَق إلى “ألف ليلة وليلة”؛ هذا الكتاب التراثي العربي كان له نصيب وافر من اهتماماتك، إنْ بالدراسات النقدية أو حتى بالكتابات الإبداعية مثل “أنبئوني بالرؤيا”، وأيضا “العين والإبرة” الذي خُصص بالكامل لــ”ألف ليلة وليلة”، وكانت أيضا حاضرة في كتبك الأخرى. السؤال هو: ماذا وجدت في “ألف ليلة وليلة” لكي تشدك هكذا إلى هذه الدرجة فتتطرق إليها غير مرة؟.
u لأن هذا الكتاب يطرح الأسئلة الكبرى المتعلقة بالحب، والموت، والمصير، وهي الأسئلة التي يتعين على كل شخص أن يحاول الإجابة عنها، أقول “يحاول”. ثم هو كتاب تعلمتُ منه كما تعلمت من الجاحظ فنّ الاستطراد، فنحن ننسى أن “ألف ليلة وليلة” كتاب كله استطرادات، قصة تجرّك إلى أخرى، ثم نعود إلى القصة الأولى وهكذا. ثم هو كتابٌ -ألاحظ هذا مرارا- يدعوك إلى الكلام، كل واحد يريد أو يحب أو يودّ أن يتكلم عن “ألف ليلة وليلة”، حتى الذين لا يقرأونها يودون الحديث عنها. هذا الكتاب يجعلك تتحدث وتتمنى أن تتحدث، يبعث فيك شهوة الكلام والرغبة في الكتابة، هذا تقريباً اعتباري لعلاقتي بهذا الكتاب.
uu الآن أريد أن أسألك عن مراجعة الكاتب لما يكتب مع مرور الوقت عليه. الذي يدفعني إلى هذا السؤال أنني قرأتُ في أحد حواراتك أنك عندما أعدت قراءة كتاب “الأدب والغرابة” بمناسبة جعله مادة في الدراسة المغربية، انصدمت أو ذهلت من بعض ما جاء في هذا الكتاب وكأنك تقرأه للمرة الأولى، فهل يحدث لك أن تقرأ كتاباً قديماً لك فتفكر في أنك لو كتبتَه اليوم ستكتبه بشكل مختلف؟.
u طبعا. طبعا، فــ”الأدب والغرابة” نُشِر عام 1982، أي أن عمره نحو أربعين سنة. وخلال أربعين سنة تغيرت أمور كثيرة في العالم حولي وفي نفسي، ولقد أعدت كتابته فيما تلاه من كتب، فكل كتاب يصحح الكتاب السابق. أما ما يخص المراجعة فأنا لا أود إعادة قراءة ما كتبتُ، وإلا سأكون مدفوعا إلى إعادة كل شيء. حدث لي هذا عندما جمعت أعمالي الكاملة، فهناك أشياء كانت تجوز في وقتها قبل أربعين سنة، فكان الكلام عنها، لكن اليوم ماذا سأفعل بما كتبت قبل أربعين سنة؟، الأحسن هو أن أتركه كما هو. فيما يخص “الأدب والغرابة” ندمت على الخصوص على شيئين، أولهما هو العنوان، العنوان هو “الأدب والغرابة” وهناك عنوان فرعي : “دراسات بنيوية في الأدب العربي”، كلمة “بنيوية” لو كنت عاقلا لما استعملتُها في ذلك الوقت، لم يكن جائزاً أن أستعمل هذه الكلمة.
uu لماذا؟
u لأنها كلمة كان لها مدلول في وقتها، وكانت تعني شيئا، أما اليوم فقد انتهت الموضة، فاليوم هناك أشياء جديدة في دراسة الأدب. هذا لا يعني أن البنيوية انتهت. البنيوية ينبغي دراستها ثم -كما كان يقول القدماء- نسيانها أو تناسيها، أي نستوعبها ونحاول تجاوزها مع استيعابها تماما، ولا نستطيع تجاوزها إلا إذا استوعبناها بكامل نواحيها، ولكن كلمة “بنيوية” كانت في ذلك الوقت كلمة سحرية، تمنح الكِتاب والدراسة إشعاعا ووهجا خاصا، اليوم لم تعد هذه الكلمة ذات سحر. أليس كذلك؟
uu ندمك على عنوان “الأدب والغرابة” يدفعني إلى التطرق إلى عناوين كتبك، التي هي في الغالب الأعم عناوين جذابة ويبدو أنك تستغرق وقتا في اختيارها، فهناك عناوين جميلة كثيرة في تجربتك: “لسان آدم” على سبيل المثال، و”أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية”. بل إنه حتى كتابك الجديد الذي لم يصدر بعدُ “ما نبحث عنه بعيدا يقطن قربنا” عنوانه جميل. ما هي فلسفتك في اختيار العناوين؟.
u هناك من الكتب ما ينطلق من العنوان، يكون في البداية عنوانا ثم يُصبح كتابا. وهناك كُتّاب لا يجدون العنوان إلا في النهاية، أي عندما ينتهي الكِتاب، وأنا من بين هؤلاء، فأتعب كثيرا حتى أجد العنوان المناسب. وبرأيي أن العنوان أساسي، فهو مدخل الكتاب، كمدخل البيت أو المنزل الذي هو الباب الرئيس، فينبغي أن يكون شيقا ويجذب الانتباه. بل ينبغي أن يكون مكتفيا بذاته. مثلا عنوان كتابي المقبِل الذي اقتبستُه من نص لكافكا: “من نبحث عنه بعيداً يقطن قربنا”، هذا العنوان قائم بذاته ويمكن أن يكتفي بنفسه، يمكن للقارئ أن يقرأه ولن يكون ملزماً بقراءة الكتاب، فيكون العنوان هو المفتاح وهو كل شيء. وهناك أيضا شيء آخر أحرص عليه، هو الاستشهاد الذي يكون في بداية الكتاب، عادة أستشهد بقول هذا الكاتب أو ذاك، وأحرص على أن يكون هذا الاستشهاد متلائما مع الكتاب وموضوعه ونواحيه المتعددة. ولكن العنوان صعب. وأنا شخصيا معجب بالكُتَّاب الذين يستطيعون الكشف عن عناوين جذابة.
uu مثل من؟
u مثل إحسان عبد القدوس. عناوينه جميلة جدا: “في بيتنا رجل”، “لا شيء يهم”، “البنات والصيف”، “لا أنام”.
uu “شيء في صدري”؟
u نعم. “شيء في صدري” عنوان جميل أيضا، وهو كتاب مهم جدا. ومما زاد في أهمية هذا الكتاب بالنسبة لي هو أنه كله بالفصحى، بينما الكتب الأخرى لإحسان عبدالقدوس الحوار فيها بالعامية، وكنت لا أعرف العامية المصرية، فكان يضيع مني نصف الكتاب، وكنت أغضب، أزعل -كما يقال بالعامية المصرية- من هذا. لكن كتاب “شيء في صدري” كله بالفصحى وانتهى الأمر، لأن هذا الكتاب ليس فيه حوار، وإنما فيه راوٍ يحكي، وكل شيء يتم بالفصحى. وهناك أيضا عناوين أخرى لكتاب آخرين أعرفها بالفرنسية ولستُ أدري كيف أعبر عنها بالعربية، مثلا كتاب لكاتب ألماني اسمه ريمارك : “في الغرب ليس من جديد”، تقريبا هذا هو المعنى.
uu ترجم إلى العربية “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية”.
u نعم. بالفرنسية له عنوان جذاب : “”A l’ouest rien de nouvea. هذا العنوان بالفرنسية له مذاق خاص ونكهة خاصة.
uu نعود إلى التراث العربي، هناك مفارقة تحدثت عنها في أحد حواراتك عن علاقة العرب بالشعر والنثر، العرب يعتبرون الشعر أهم إنتاجاتهم الإبداعية التي أبدعوا فيها، فهو ديوانهم، الشعر ديوان العرب، بينما يعتبر الغربيون أن العرب هم من بين الأمم التي تفوقت في سرد الحكايات. كيف تفسر هذه المفارقة؟
u المفارقة تكمن في الشعر. يقولون إن الشعر هو ديوان العرب، ولكنه ديوان العرب بالنسبة للعرب فقط، أما خارج العالم العربي فلا أحد يطرب للشعر العربي؛ لأن هذا الشعر كما قال الجاحظ لا تُمكن ترجمته، وتَنبغي قراءته بالعربية فقط، وحين يترجم يصير شيئا عاديا وتمجّه النفس. هناك من يقول إن العرب تفوقوا في الشعر، حسنا.، تفوقوا في الشعر فيما بينهم، ولكن بالنسبة للآخرين من يعترف بالشعر العربي من غير العرب؟ لا أحد. لا أحد. على العكس، فإن الكتب الفكرية والسردية هي التي تم الاعتراف بها من قِبل الآخرين، إذاً، فيما يخص تأثير الأدب العربي كان هذا التأثير في الفكر والسرد، أما في الشعر فلم يكن هناك تأثير إلا في أشياء بسيطة جدا عبر الأندلس مثلا. فالثقافة العربية في نهاية الأمر هي ماذا؟ هي ما كتبه المفكرون والفلاسفة مثل التوحيدي ومسكويه، وما كتبه أصحاب السرد مثل ابن المقفع وأصحاب “ألف ليلة وليلة”، وهكذا. هذا هو الأدب الذي يخاطب الآخرين. ولكن فيما يخص الخطاب الموجه إلى النفس فالشعر العربي طبعاً هو الملائم، الشعر العربي يخاطبني لأنني عربي وأفهم العربية، أما بالنسبة للآخر فإن الشعر العربي [لا يخاطبه]، وهذا يحدث لي أحيانا حين أحاول أن أترجم بيتا وأنا في حديثي مع فرنسي فأكتشف حينئذ أن الترجمة فظيعة. فالجاحظ على حق حين يقول إن الشعر لا تجوز فيه الترجمة، الشعر لا يُترجم بمعنى أنه لا يجب أن يترجم، هذا هو القول الكامن وراء ما كتب الجاحظ؛ ممنوع أن يُترجم [الشعر]، لأنك حين تترجمه تفسده، لهذا من الأحسن بل من المفروض أن لا يترجم لكي لا تحط من قيمته، بينما الكتب السردية والفكرية تترجم دون أن يضيع مضمونها، أو على الأقل لا يضيع بالكامل، وإنما يضيع شيء بسيط من مضمونها. وقد تزيد حسنا كما يقول الجاحظ. الكتب السردية والفكرية قد يزيد حسنها حين تترجم.
uu الآن سأطرح عليك بعض الأسماء سواء من التراث الأدبي العربي الكلاسيكي أو من الأدب الغربي ممن كتبتَ عنهم، ماذا لو أتيح لك أن توجّه رسالة قصيرة لهذه الأسماء؟ ولنبدأ بأبي العلاء المعري.
u ماذا سأقول لأبي العلاء؟. سأطلب منه أن يحدثني عن أدبه، هو كتب أشياء عن أدبه، ألف كتبا للدفاع عن نفسه ضد مناوئيه، فأتمنى أن أصغي إليه وهو يتحدث عن أدبه. كان هناك محظوظون حين كان يملي أشعاره وكتبه، كان أعمى فكان يحتاج دائما إلى من ينسخ كتبه فكانوا محظوظين أولئك الذين كانوا يكتبون عنه كتبه.
uu ابن رشد؟
u ابن رشد أتمنى أن أطرح عليه سؤالا يتعلق بمعرفته، لا بالفلسفة اليونانية بل باللغة اليونانية. ماذا كان يعرف عن اليونانية؟ وهل كان يتمنى أن يعرف هذه اللغة؟ وهل في نهاية الأمر كان يعرفها؟ بطبيعة الحال هو لم يكن يعرف اليونانية ولكن في نفس الوقت يمكن أن نقول إنه كان يعرفها، فلا يمكن أن تخصص حياتك للفلسفة اليونانية دون أن تعرف بصفة أو بأخرى اللغة اليونانية، اللسان اليوناني. هذا هو السؤال الذي أود أن أطرحه عليه.
uu الجاحظ؟
u سأسأله عن السر الذي يجعله يقول الشيء وضده. هو كان يمتاز بهذا. المعري أيضاً سيمتاز بهذا ولكن الجاحظ هو الذي نلاحظ عنده هذا الشيء بكثرة، لا يمكن أن يذكر شيئا دون أن يذكر ضده. سأحاول أن أناقش معه هذا الأمر؛ الكتابة الضدية، أو المتناقضة، أو الكتابة التي ينقض بعضها بعضا، لستُ أدري كيف أعبر عن هذا. كنتُ أودّ أن أتحدث معه عن هذا. وطبعاً لو وضعتُ عليه هذا السؤال لذهب في استطرادات لا نهائية، ولضاع السؤال الأول (يضحك).
uu بورخيس؟
u بورخيس كنتُ سأضع عليه سؤالا هو : تُرى لو لم يقرأ الأدب العربي ماذا كانت تكون كتاباته؟ هل يتصور نفسه دون ما قرأ في الأدب العربي؟. لأنه قرأ الأدب العربي بصفة جيدة. لم يكن يقرأ بالعربية ولكنه كان يقرأ الأدب العربي مترجما وكان يعرف دقائق الأمور في هذا الأدب. وكنت أود أن أسأله عن علاقته بالأدب العربي. ومن المعروف أنه في السنة التي توفي فيها أخذ يتعلم الكتابة واللغة العربية، فها هو وقد شارف على الموت فأحس بالحاجة إلى تعلم اللغة العربية، فاتفق مع معلم مصري كان يسكن حينئذ في جنيف وأخذ يأتي عنده يومياً إلى بيته ويعلمه العربية، وتعلم شيئا من العربية ثم توفي. والسؤال هو: هل توفي لأنه تعلم العربية؟ هل العربية لغة قاتلة؟ (يضحك) يتعلم العربية، يسعى إلى تعلمها، ثم يموت!، فهل هناك سبب ومسبب؟ هذا هو السؤال (يواصل الضحك)، وكنتُ سأطرح عليه هذا السؤال لو حدث أن التقيت به في عالم من العوالم الأخرى.
uu تَبقَّى لدي اسمان، أولهما الحريري صاحب المقامات.
u الحريري صاحب المقامات هو العجب العجاب. هو صاحب أعظم كتاب أدبي ألفه العرب، وكان القراء العرب القدماء يقولون إن أفضل كتاب عربي هو مقامات الحريري. كان كل أحد يقرأ هذا الكتاب، وكان هناك من يحفظه عن ظهر قلب. ثم ماذا حدث؟. ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر أخذ تأثيره يضمحل ويتضاءل، فماذا حدث؟. حدث اللقاء بالأدب الأوروبي. كان سبب اضمحلال الحريري هو اكتشاف العرب للأدب الأوروبي، فأخذوا يتجنبون الكتابة القديمة لأنه [الحريري] صار رمزاً للكتابة القديمة، وصاروا يقبلون على كتابة جديدة مصدرها الأدب الأوروبي. وهكذا صار الحريري طي النسيان، وهو الآن شبه مجهول لا يقرأه أحد، وكما قلتُ ينتظر هذا المترجم العبقري الذي سيعيد فيه الحياة كما حدث لــ”ألف ليلة وليلة” حينما ترجمها أنطوان جالان إلى الفرنسية في بداية القرن الثامن عشر. هذا هو الحريري. كان أعظم كاتب ثم انتهى أمره. انتهى. كيف نفسر هذا؟. التفسير الوحيد هو اكتشاف العرب للأدب الأوروبي. الأدب الأوروبي هو الذي قضى على الحريري.
uu وأخيرا: حي بن يقظان؟
u هي قصة جميلة وكتاب كبير.
uu أنت في أحد حواراتك شبهت الأدب المغربي بقصة حي بن يقظان، والغزالة التي أرضعته.
u نعم. هناك أم حي التي سلمته في صندوق إلى الماء، إلى البحر، إذاً هي الأم التي ستتخلى عنه، ثم هناك أم ثانية هي الغزالة التي ربته حين كان رضيعا وأرضعته واعتنت به إلى أن كبر. فهناك الأم الأولى ثم الأم ثانية، ربما هذا رمز لما يحدث للأديب العربي، فهناك الأم الأولى التي ولدته، ثم هناك الأم الثانية التي تعتني به في فترة لاحقة، الأم الأولى تلده وربما تتخلى عنه أو هو يتخلى عنها، ثم تأتي الأم الثانية فيكبر معها ويترعرع بفضلها، يمكن أن نبحث في هذا الكتاب انطلاقا من هذه الفرضية: الأم الأولى والأم الثانية، كما تحدثنا عن المنزل الأول والحبيب الأول. الآن يمكن أن نتحدث عن الأم الثانية، هناك شيء تنبغي دراسته وهو ميدان مفتوح: الأم الثانية، ما معنى الأم الثانية؟ ما معنى هذه الغزالة التي ربت حي بن يقظان؟ لماذا كان من اللازم أن تربيه أم ثانية؟ وهي حيوان وليست من الإنس، أي شخص غريب. هذا هو الشيء الذي كنت أود أن أتحدث عنه مع ابن طفيل.
uu سؤال أخير: أتمنى أن تحدثنا عن كتابك الأخير الذي لم يصدر بعد “من نبحث عنه بعيدا يقطن قربنا”.
u هو كتاب عنوانه الفرعي “عشر حكايات”، تناولتُ عشر حكايات ( ربما أكثر أو أقل)، وصرت أتحدث عنها من جديد، لا أقول إنني أعدت كتابتها وإن كان في ذلك شيء من الواقع، هي عبارة عن حكايات أعدت تفسيرها وترتيبها، هذا هو الكتاب. وهذه الحكايات تؤيد ما جاء في العنوان: “من نبحث عنه بعيدا يقطن قربنا”، نجد صدى لهذا في الحكايات التي تحدثتُ عنها.
uu هل هي حكايات من التراث العربي؟
u نعم. من التراث العربي، وأيضا من الأدب الأوروبي؛ مثلاً أدب بلزاك وأدب ديدرو، وأيضا من الأدب القديم جدا مثل [ملحمة] جلجامش، ولكن المرتكز هو الأدب العربي طبعا.
حاوره : سليمان المعمري *