تبدو قضية اقتباس النصوص الأدبية مدخلا مناسبا للتفكير في موضوع العلاقة بين الأدب والسينما. فبالرغم من تعدد إمكانات النظر للروابط الشبكية بين فن الكلمة وفن الصورة، إلا أن موضوع الاقتباس هو الذي يستحوذ على جل اهتمام النقاد عند طرح المنظور البيني في دراسة هذه العلاقة، سواء بسبب هذا الكم الهائل من الأعمال الأدبية التي انتقلت للسينما على مدار التاريخ وكونت تراثا فنيا شكل وعي أجيال عديدة من القراء/المشاهدين، أو بسبب حدة القضايا الخلافية التي تثيرها عملية تحويل نص أدبى إلى نص فيلمي، وهي القضايا التي لم تتطور كثيرا منذ بدأت هذه العلاقة مع فجر السنيما في نهاية القرن التاسع عشر وفي القلب منها ثنائية الإخلاص/الخيانة التقليدية التي مازالت تتحكم في جانب من المنظور النقدي المتتبع لموضوع الاقتباس. تبحث الدراسة في الأسس النظرية التي شكلت قيم الخطاب النقدي حول هذا الموضوع بالتركيز على قضيتين خلافيتين أساسيتن: قضية التراتبية بين الفنون والتي تتشكل حول تساؤلات ماتزال تطرح عن الفن الذي يحتل المرتبة الأعلى أوالأدنى بين الأدب والسينما، وقضية الشرعية وتساؤلات أخرى حول مدى الشرعية الممنوحة للعمل السينمائي في تغيير النص الأدبي الذي يقتبسه واقترانها بموضوع حدود سلطة المؤلف على نصه. في الجزء الأول من الدراسة نتتطرق لبعض من الأصول النقدية المؤسسة لمفهوم التراتبية بين فن الكلمة وفن الصورة من خلال التعرض لرؤى قديمة أسست لعلاقات صراعية بينهما ارتكزت أحيانا على مفاهيم لاهوتية تباعد بين الروح والجسد، وأحيانا أخرى على رؤى فلسفية ترسخ لمبدأ الفصل بين الأصل والمستنسخ. وفي الجزء الثاني نستدعي مفهوم التناص في مقاربة عملية الاقتباس باعتباره يقدم منظورا يدحض الثنائيات القديمة فيكسر الحدود المقدسة التي تغلق النص على ذاته، ويشاكس سلطة المؤلف وبالتالي يتيح مقاربة الاقتباس كظاهرة إبداعية تفاعلية متعددة الروافد والأصول. ونقف في الجزء الأخير من الدراسة عند ممارسة الاقتباس السينمائي من الأدب تاريخيا كمرآة لحركة القيم التي تحكم علاقة الأدب والسينما.
وقفة عند المصطلح
«الاقتباس» ترجمة لكلمة Adaptation والمقصود بها «عملية تختص بحيازة مادة ما، تنتسب غالبا لشخص آخر، وإخضاعها لمجموعة من التحولات التي تؤدي لتكوين مادة جديدة.»1 وفي المجال الذي نناقشه، الاقتباس الفني هو مجموعة من العمليات المركبة التي يتحول بها عمل أدبى لعمل سينمائي . المصطلح مرتبط بعدد من الأفكار المتداولة التي تضع شكلا تراتبيا لعلاقة بين نصين لأحدهما أسبقية أو أفضلية أو قوة الأصل، بينما للآخر تبعية النسخة المقلدة. «الاقتباس في اللغة العربية : يأتي من «القبس» وهو الأخذ والاستفادة : «قبس النار»: طلبها أو أخذها و»قبس العلم»: إستفاده ويقال : «جئت لأقتبس من أنوارك» (المنهل). والمعنى يكرس لنفس التراتبية التي تجعل المقتبِس في منزلة أقل من القابس أي المانح أو الذي يؤخذ منه.»2
لكن Adaptation من الممكن ترجمتها أيضا بكلمة «تكيف» والتي يلقى معناها العلمى بظلال مثيرة إذا ما انعكست على مفهوم الاقتباس الفنى. فبعيدا عن حقل الفنون والأدب تشير كلمة «تكيف» في العلوم الطبيعة إلى عملية تطورتحاول الكائنات الحية أن تواجه بها تغير بيئتها للحيلولة دون فنائها.3 وبالتالي فهي تشير لخاصية عند الكائن الحي تفترض عدم ثباته وقدرته على التحول والتكيف مما يمنحه إمكانية الاستمرار في الحياة، ويفترض التكيف كذلك أن البيئة المستقبلة تتطور باستيعابها للوافد الجديد. يحطم هذا التعريف فكر التراتبية، بل هو يجعل من عملية التحول عملية محمودة ومن الكائن المتكيف كائنا متطورا خلاقا وليس تابعا ثانويا.
التراتبية شبح لا يموت
لكن بعيدا عن القفزات داخل الحقول المعرفية الأخرى، تقودنا هذه المفاهيم البينية للبحث في الأصول الإشكالية لقضية علاقة الأدب بالسينما في الخطاب النقدي الخاص بهما. تحكمت ثنائية الأمانة/الخيانة في الأسس النظرية لمقاربة عملية الاقتباس على مدار حقب طويلة قبل أن يتجاوز النقد الحديث قضية التراتبية المؤسسة لهذه الثنائية. تجاوز النقد الحديث قضية التراتبية في فهم هذه العلاقة وتم ذلك على مراحل عديدة تزامنا مع تحول الرؤى للسينما والنظر لها كفن مستقل ومتكامل، وهي مسيرة بدأت منذ عشرينيات القرن الماضى مع ظهور السينما الطليعية وتبنى تيارات نقدية وفنية حداثية لها، ثم بعدها مع ظهور مفهوم سينما المؤلف في الخمسينيات والاحتفاء بمقولة ألكسندر أستروك (Alexandre Astruc) يكتب المؤلف السينمائي بكاميرته كما يكتب الأديب بقلمه. هذه المقارنة الشهيرة ربطت فعل الكتابة بالإخراج السينمائي وليس بكتابة السيناريو4، وجعلت من التأليف عملية إبداعية تتساوى في قدرها عند الأديب والسينمائي. ساهم النقد السينمائي خاصة على يد أندريه بازان (André Bazin) في فرنسا في اكتشاف ماهية لغة السينما بالنسبة لماهية الأدب مما جعل من مبدأ «إخلاص» الفيلم لرواية اقتبس عنها حتى في أكثر الأفلام قربا من النص الأدبى فكرة غير ممكنة بسبب الاختلاف الجوهري في طبيعة الوسيط.5 ثم جاء تطور النقد في الستينات والسبعينات مع نظريات السرد والسميولوجيا بالنظرة «العلمية» التي وضعت كل العلامات أي ان كانت النظم التي تنتمي لها على نفس مائدة البحث والتشريح، فقضت على فكر التراتبية في مقاربة العمل الفني وأصبحت الأدوات المستخدمة في تحليل قصيدة شعر أوإعلان مصور عن عجائن «بانزانى»6 تنطلق من نفس الأرضية النظرية وتستخدم ذات الأدوات التحليلية. أدت الدراسة المقارنة لمفاهيم مثل الأصوات السردية والتلفظ والتبئير والزمكان .. إلخ. في التعبير الأدبي والتعبير السينمائي لمعرفة أعمق بخصوصية وحدود كل وسيط ولإظهار تباين نظامي العلامات هنا وهناك7، بحيث لم يعد من الممكن تصور أن الصورة السينمائية قد تكون ترجمة سمعية بصرية للكلمة المكتوبة.
بالرغم من ذلك فإن التهديد الذي تشكله قيمة التراتبية يظل معلقا فوق الرؤوس تحاربه أقلام النقاد كأشباح لا تموت. ما الذي يجعل الحديث عن رفض التصنيف التراتبي هو المفتتح للعديد من الكتب التي تتناول موضوع العلاقة بين الأدب والسينما؟ يقول بول ريكور Paul Ricoeur في تقديمه لكتاب أندريه جودرو André Gaudreault) ( Du littéraire au filmique (1989) أن فضيلة هذا الكتاب هي وضع الفيلم في منزلة مساوية للنص المكتوب.8 وتؤكد جان ماري كليرك Jeanne Marie Clerc ، في مقدمة كتابها Littérature et cinema (1993) أنه في ظل التفاعل بين نظامي لغة الكلام ولغة الصورة في مجتمع يتعرف على ذاته في «حضارة الصورة»، رفضها لفكرة التراتبية بين المنتجات الثقافية.»9 أما براين ماكفرلان (Brian Mcferlane) في (1996) :An introduction to the theory of adaptation Novel to Film ، فيرى أن « الإصرار على منظور الإخلاص في فهم علاقة الأدب والسينما أدى لكبح مقاربات لظاهرة الاقتباس تعتبر أكثر فاعلية.»10 كذلك يكتب كل من لوران ميليه وشانون ويلز لاسانيي (Laurent Mellet) و Shannon Welles) Lassagne ( في تقديم Etudier l’adaptation filmique (2010) أن هدف الكتاب هو دراسة العلاقة بين العمل الأدبي والعمل المقتبس عنه : «نحن لا نسعى لرسم علاقة تراتب بين النص الأصلي والاقتباس السينمائي، على العكس فتحليل العلاقة بين العملين يساعد على فهم أفضل لكل منهما.11 أما فرانسيس فانوا (Francis Vanoye) فيقر في (2011) L’adaptation littéraire أن «السينما لازالت تعاني من كونها ليست «القادم» الأول فيما يتعلق بالفنون.»12 ويتطرق جان كليدير (Jean Cleder) في مقدمة كتابه Entre littérature et cinema (2012) وفي معرض حديثه عن «العلاقات الشائكة» بين الأدب والسينما للتعالي الواضح الذي يسيطر على نظرة الدراسات الأدبية للسينما.13
– الكلمة / الصورة .. أصداء بعيدة
يبدو هؤلاء المنظرون وهم يفندون مفاهيم التراتبية وكأنهم يتصدون لقيمة قديمة أقدم من الفن السينمائى ذاته. فتصنيف الفنون بين فئات عليا وفئات دنيا مبدأ يعود لعصر النهضة، ويشير لتقسيم مبنى على الفصل بين الفنون التي تعتمد على الفكر مثل الشعر وتلك التي تعتمد على المادة مثل النحت: في الجانب الأول الذهنية والمفهوماتية وفي الجانب الثاني التقنية والتعامل مع الخامة. التصنيف في أصوله يتبنى التمييز اللاهوتي الفاصل بين سمو الروح وتدني الجسد. وقد لعبت هذه المقابلات التي تمتد أصولها لنظم قيمية مركبة وقديمة دورا كبيرا في إذكاء التنافس بين الكلمة والصورة قبل ظهور السينما. فأعرب فلوبير (Flaubert) في وقت مبكر عن رفضه مصاحبة رواياته بالصور المرسومة وهو الاتجاه الذي تنامى بشكل غير مسبوق في النشر الأدبى خلال القرن التاسع عشر تحت تأثير التطور الصناعي في مجال الطباعة والهوس بفكرة المحاكاة التي تجلت في طغيان الواقعية في الأدب والفن، وعبرعنها تطور صناعة أجهزة الإبصار وكذلك الفنون التي استخدمتها ومنها الفوتوغرافيا. يقول فلوبير:
«لن أسمح مطلقا ما حييت بمصاحبة الصورة لكتاباتي، فأجمل وصف أدبي يلتهمه الرسم الأكثر فقرا، وبمجرد أن يثبت القلم نمطا ما على اللوحة يفقد هذا النمط عموميته، … إمرأة مرسومة تشبه واحدة من النساء، هذا كل ما في الأمر. الفكرة أصبحت مغلقة، منتهية وكل الكلمات لن تجدي معها. بينما المرأة عندما توصف بالكتابة فهي تثير الخيال عن آلاف النساء.»14
في كتابه «سينما الشيطان» رأى جان ابستن (Jean Epstein) في الخطاب السائد عن الصورة المتحركة ما يدل على شيطنتها من قبل حملة القلم، شيطنة يتردد صداها على خلفية المقابلة الأنطولوجية بين العقل والعاطفة :
إن تأثيرات كل من الفيلم والكتاب تتخذ اتجاهات متباينة. فالقراءة تنمي ما يعتبر من سمات الروح العليا وهو ما يقصد به السمات المكتسبة: القدرة على التجريد، التصنيف، الاستنتاج. أما العرض السينمائي فيمس قدرات أكثر قدما، قدرات أساسية ويقال عنها بدائية، تتعلق بالقدرة على تحريك المشاعر والحث على الفعل ]…[ ففي حياة الروح، يسعى العقل بأدواته من القواعد الثابتة لفرض نظام، لفرض ثبات نسبي لحالة التدفق والارتداد المستمرة التي تموج بها العواطف في مدها وجزرها ـ في عواصفها التي تثير بلا توقف عالم الغرائز[…] هكذا يبدو الكتاب أداة للعقلنة بينما يحيي الفيلم ذهنية غريزية.15
اعتمد أنطونين أرتو (Antonin Artaud) على نفس تلك المقابلة بين العقل والعاطفة لكن ليس بهدف تبني الخطاب الذي يعلي من شأن الكلمة مقابل الصورة، بل العكس، فهو قد سئم من العقل ووضوحه، ووجد في السينما، تلك المادة غير الملموسة، ما يدنينا من الأحلام التي هي لب الواقع على عكس الكلمة التي تثقل الفكر.16
«جاءت السينما في منحنى من تطور الفكر الإنساني حيث اللغة قد استهلكت وفقدت قدرتها على الترميز. جاءت في لحظة قد مل فيها العقل من لعبة التماثلات. الفكر الواضح لم يعد يكفينا […] الشيء الجلي يمكننا الوصول له في التو، أما الشيء غير المتاح بشكل فوري فهو ما يشكل لحاء الحياة السينما هذه اللغة المباشرة، السريعة، لا تحتاج لمنطق بطيء وثقيل كي تحيا، هي أقرب للخرافة، الخرافة التي نتبين أنها لب الواقع.»17
بالإضافة لذلك، توجس الأدب خيفة من السنيما، فارتباط القراءة بالذهنية جعل من الأدب فنا نخبويا مقارنة بالفن السابع هذا الوسيط الذي يتواصل مع الجمهور الواسع بيسر. فيرى إبستن في العرض السينمائي منافسا للقراءة، وسيط يتجاوز تأثيره بتوجه لجمهورأكثر اتساعا وتنوعا من جمهور القراء. فيقول: ان ما نتعلمه من الأفلام يتخذ طريقه مباشرة للقلب، لأنه لا يترك فرصة للتفكير النقدي وللرقابة المسبقة.18
بعيدا عن التوجس والتنافس والعداوة التي دبت كثيرا بين الفنين، يقف أيزنشتين(Eisenstein) السينمائي والمنظر الروسي الأشهر في مدار آخر ويقدم تصورا عن علاقة السينما بالأدب مبني على فكر التكامل والتآزر من خلال مفهومه عن الـ Cinématisme. صك أيزنشتين هذا المصطلح قاصدا به جماليات سينمائية تجلت في الأدب والفنون وسبقت ميلاد السينما تاريخيا. ففي محاولة لفهم مكان ووظيفة الصورة في الثقافة الحديثة بعيدا عن الحدود التي تفصل مجالات التعبير الفني عن بعضها البعض يوضح أيزنشتين أن مفهوم Cinématisme يعتمد على استخدام السينما بهدف إعادة تفسير طرائق للتعبير الأدبي سبقت ظهور فن الصورة المتحركة، ومنها ما رآه مثلا عند تشارلز ديكنز (Charles Dickens) من تقنيات سردية، كتنوع حجم اللقطات أو تقنية المونتاج19 وغيرها وقد تجلت في الكتابة الأدبية قبل أن تولد في صورتها السينمائية مع مجيء السينماتوجراف. وكأن ما يجمع هذه الفنون ببعضها هو ذهنية بصرية تطورت في مرحلة تاريخية بعينها وترجمتها الفنون المختلفة كل في مجاله وكل بلغته الخاصة.
استخدام الأدب للتقنيات السينمائية سواء قبل ظهور السينما أو بعد ظهورها ودورها في تجديد طرائق التعبير الأدبي هو ما التفت إليه طه حسين في ثقافتنا العربية في مقال مبكر نشر بمجلة الكاتب المصري. «الكتاب الذين يستعيرون من السينما طريقتها في العرض والحركة والتنقل السريع يجددون في الأدب تجديدا خطيرا، ويفتحون للأدباء آفاقا واسعة سواء وفق المخرجون أو لم يوفقوا في إخراج ما يكتبون.»20 هذا المدخل لفهم العلاقة بين الأدب والسينما يعتمد على فكرة تكامل الفنون واستخدامها لأدوات ذات أصول متنوعة ودمجها في نص واحد، وهى فكرة قديمة ارتبطت بتراث الفن التشكيلي وحللها لويس ماران (Louis Marin) في دراسته الشهيرة عن لوحات بوسان( Poussin) ، حيث أظهر أن بوسان قد وظف في لوحاته نماذج سابقة مسرحية وموسيقية وأسطورية.21 لذا يبدو مما سبق أن علاقة الأدب بالسينما سواء اتخذت شكلا تراتبيا أو تنافسيا أو تكامليا، قد ورثت جانبا من إشكاليات وسجالات قديمة ولدت في جولات الحوار الطويلة بين الفنون منذ عصور سبقت ميلاد السينما بقرون.
– التراتبية على خلفية الهوية التقنية للفن السابع
لكن مما لا شك فيه أن خصوصية السينما كفن حديث ولد في كنف الآلة وعلى يد رجال الصناعة قد لعب دورا في خلق تراتبية جديدة تختص بوضعية الصورة السينمائية بالذات وتسكنها مقاما أقل قدرا من فنون قديمة وفي مقدمتها الأدب. في كتابه «العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنياً» يرى والتر بنيامين (Walter Benjamin) أن أصالة العمل الفني وتفرده، تلك الهالة القداسية التي تحيط به وهو في حالة وجوده الأول، وجوده الفعلي، قد دمرتها الآلة التي تعيد إنتاج هذا الأصل في شكل صورة مميكنة أو عدد لا نهائي من الصور المميكنة، بحيث يتحلل مفهوم الأصل. عين الكاميرا بالنسبة لوالتر بنيامين تنتزع الوجود من الأشياء وتقضي على كينونتها، فيرى أن «التمثيل الأكثر بؤسا لـ»فاوست» على مسرح ريفي أفضل من فيلم مقتبس عن نفس الموضوع، لأنه على الأقل يتنافس مع إبداع ويمار (Weimar) لمسرحيته.»22 يشير والتر بنيامين باستياء ضمني لما يقوله بحماس المخرج الفرنسي أبل جانس Abel Gance في كتابه «عصر الصورة قد حل» (1927)، عن إعادة بعث الشخصيات التي صنعت تاريخ الفن والفكر والأدب وإعادة بعث الأساطير والأديان أمام عدسة الكاميرا.23 فيرى بنيامين أن استحواذ السينما على هذا التراث هو إفناء له لأن السينما تنتج العمل الفني من خلال عملية تفكيك وتركيب للوجود الأصلي للأشياء، سواء في مراحل التمثيل أو المونتاج أو في تقطيع الكادرات أو توزيع الإضاءة .. الخ. بحيث لا يتبقى شيء من أصل ما كان أمام الكاميرا. ومع فناء الأصل تموت هالة القداسية التي طالما شكلت المجال الأوحد للفن. تكتمل الصورة فقط على الشاشة أثناء عرضها على الجمهور، «فتزيح السينما بهذا الشكل القيمة القداسية للعمل الفنى وتستبدلها بالقيمة الاستعراضية.»24
حضورالآلة في قلب عملية إنتاج العمل الفني التي استحدثتها السينما بالنسبة لبنيامين ولآخرين هو انعكاس للحضارة الحديثة بإيقاعها المتسارع وأشكالها الجديدة وقيمها المتغيرة، حيث التعبير عن تلك الحداثة لايكون إلا من نفس مادة وجودها: «جهاز، هو سيد التزامن وحاكم أسراره.»25 لذا وجد العديد من الأدباء والفنانين الطليعيين منذ بدايات القرن العشرين في السينما ضالتهم، فطالب أبولينير (Apollinaire) الشعراء في محاضرته الشهيرة «الفكر الجديد والشعراء» أن يستعدوا لهذا الفن الجديد، وأن يصنعوا بأنفسهم أفلاما تخاطب ملكات الروح والتأمل.26 بدت في هذه المرحلة السينما كفن مصنوع من خامة الواقع لكنه يستطيع كما لم يستطع أي فن آخر أن يأتى باللامرئي والميتافزيقي ويبثه في قلب تلك التفاصيل العادية التي تعزلها الصورة : ورقة الشجر، قشرة البرتقالة، أصابع اليد .. ما رآه هؤلاء المنظرون الأوائل في السينما من قدرة على التجريد الذي تختفي معه الحدود الفاصلة بين الشكل والفكرة، بين المادة والروح ارتبط إلى حد بعيد بصمت السينما وطليعيتها في العشرينات. فالصورة قادرة بالنسبة لأرتو على منح الأشياء حياة منفصلة عن معناها العادي: «تشجي الروح تلك الثمالة الفيزيقية التي تنقلها مباشرة للمخ الصورفي حركتها الدائرية»27 ، بعيدا عن أي من المعاني التي تنتجها حالة التماثل مع الواقع. هكذا بدت السينما وكأنها حل لصراع أزلي عاشته الإنسانية، فالبعد الميكانيكي في الإبداع السينمائى وهذه القدرة الهائلة على مزج العوالم والخطوط والحكايات أمام العين الجديدة التي منحتها الكاميرا والصورة المتحركة للإنسان أتاحت إمكانيات للرؤية لم تتح من قبل في التاريخ.28
هذه التقنية الحديثة التي جاء بها جهاز السينماتوجراف سواء كانت هي السر الذي يمنح الروح للموجودات من خلال الصورة ويخلق وجودا موازيا لأكثر الأشياء اعتيادية، أو على العكس كانت المسؤولة عن قبض تلك الروح الأصيلة في العمل الفني وتدمير كينونته الفريدة وقداسيته كما رأى والتر بنيامين، هي التي ارتكز عليها تقدير مكانة الفن السابع بهذه المرحلة المبكرة من تاريخ السينما. فالإنسان والآلة، الروح والجسد، العقل والعاطفة، الذهنية والغرائزية، النخبوية والسوقية.. كلها ثنائيات قديمة تلبست العلاقة بين الكلمة والصورة وبين الأدب والسينما، فأسست تراتبية مبنية على مبدأ الفصل ورسم الحدود بين الجزئيات المكونة لوحدة ثم إغلاق تلك الحدود. وحدة استبصرتها في النقد الأدبى نظريات التناص في الستينات وعملت على بنائها في مقاربة علاقة النصوص بعضها ببعض، وفي رؤيتها للتراث الأدبي بشكل عام. يسمح مفهوم التناص بتجاوز مبدأ الفصل والتجزئة لأنه يكسر الحدود المقدسة التي تغلق النص على ذاته29 من ناحية، ويسمح بإعادة النظر من ناحية أخرى في قضية شرعية التغييرات التي يلحقها نص بنص سابق له، وهما القضيتان اللتان انطلقنا منهما في تساؤلنا الأول المطروح عن إشكالية الاقتباس.
التناص وانفتاح النص
يخلق التناص إمكانية لفهم علاقة النصوص الأدبية ببعضها بشكل عرضي، بمعنى أنه يحيل تراث الأدب لمساحة مفتوحة تتجول فيها النصوص، تتداخل وتتحول في عملية كتابة متواصلة تجعل من الأدب مجالا ديناميكيا ، بخلاف الرؤية الإسطاطيقية لعلاقة النصوص المعتمدة على مفاهيم الأصل الثابت والمصدر الأول الذي ينبت منه فرع يتأثر به أو يكون له تابعا. استبدل التناص الشكل الخطي ذو المنطق السببي الذي يجعل من نص ما أصلا لوجود نص آخر، بشكل شبكي تترابط فيه نصوص محملة بنصوص أخرى ممكنة ومتضمنة داخلها،30 أجنة تولد مع كل قراءة جديدة. فالأعمال طالما هى متاحة للقراءة تكون قابلة لإعادة الاستخدام، «النص لا يتوقف على ماكتبه مؤلفه لكنه يظل يكتب بقلم كل من يستشهد به أو يعيد كتابته.»31 لم يعد مفهوم النص قاصرا على المكتوب منذ أن عرفه رولان بارت Barthes ككيان عابر لنظم العلامات. «فكل الممارسات الدلالية تنتج نصوصا : الممارسة التشكيلية، الممارسة الموسيقية، الممارسة الفيلمية ..الخ.»32 حطمت نظرية النص الفصل بين الأنواع والفنون، هي لم تنظر للنصوص باعتبارها رسائل يتم إغلاقها في مظاريف مختومة بعد كتابتها، بل ككائنات في حالة توالد مستمر تمنح حيوات جديدة من قبل من يكتبها ومن يقرأها على مر الزمن.
– الاقتباس كتناص
من هذا المنطلق يصبح من الممكن قراءة علاقة الاقتباس بين العملين الأدبي والسينمائي في ضوء مفهوم التناص وفي ضوء لانهائية النص المفتوح على الزمن دائم الحركة والتشكل بالجدل المتواصل مع الآخر.هنا ينبغي أن نفرق بين التناص السينمائي مع الأدب، ومقاربة عملية الاقتباس برمتها من منظور التناص. في الحالة الأولى يتعلق الأمر باستخدام عناصر من النص الأدبى كصور أو مقاطع أدبية : أشعار، عناوين روايات أو حتى أجزاء كاملة من عمل أدبى تقرؤه شخصية في فيلم (على سبيل المثال، نص إدجار آلان بو(Edgar Alain Poe) المقتطع من قصة «البورتريه البيضاوي» الذي يقرأ منه البطل فقرات على حبيبته في فيلم جودار (Godard) «تحيا حياتها». أما في الحالة الثانية، فإن الأمر يتعلق بعمل أدبي اقتبسته السينما بشكل كامل، لكن المنظور الذي نستدعيه لقراءة هذا التحول عبر النوعي هو منظور التناص.
إن اقتباس رواية وتحويلها لفيلم من الممكن مقاربته كتناص، عندئذ تصبح دراسة الاقتباس «دراسة لما يفعله النص بالنص الآخر، كيف يحوله، يستوعبه، يفتته»33، بعيدا عن السلطة التي يمارسها النص السابق في إملاء شروط الوجود على النص اللاحق. فكما شكل التناص قطيعة تاريخية مع منظور الأصل والتأثير والتأثر34 الذي حكم علاقة نصوص الأدب ببعضها قبل أن تكتب جوليا كريستيفا (Julia Kristeva) مقالها التأسيسي35، يتحول مركز الثقل في علاقة النص الفيلمي بالنص الأدبي المقتبس من مركز الانطلاق أو «الأصل» (الرواية، القصة، المسرحية … الخ.) إلى محطة الوصول، ذلك النسيج الفيلمي الذي تتخلق فيه التحولات وتتجادل فيه عناصر تركت بيئتها وحلت في بيئة جديدة تشكلت بها وأعادت تشكيل الأصل من خلالها. بهذا المعنى يصبح النص «أبديا»36، فالفيلم المقتبس عن العمل الأدبي حلقة من حلقات حياة النص في الزمن، لحظة من لحظات العملية المتواصلة لبناء معناه. اقتباسات «ألف ليلة وليلة» في السينما العربية، اقتباس شادي عبد السلام لبردية «شكاوى الفلاح الفصيح»، اقتباسات «هاملت» في السينما العالمية .. كلها امتدادات للنص الأدبي، تستجلبه من عمق الزمن وتنفخ الروح في متنه المفتوح، تتلبسه وتعيده للحياة في صور أخرى وبدلالات جديدة. وفي انقلاب للتراتبية الزمنية لا يعود النص الأول محددا للثاني، بل العكس، يصبح الفيلم هو من يستعيد العمل الأدبى ويتيحه في سياق جديد . فالفيلم المقتبس عن عمل أدبي يستدعيه من تاريخه الماضي ويطرحه في لحظة راهنة تعيد تشكيل هذا الماضي وتحوله. أعمال أدبية كثيرة كانت منسية أعادت الصورة إحياءها بالاقتباس، ليس فقط من خلال المعاني الجديدة التي أضافتها للنص الأول، ومن خلال إدخالها في دورة الخطاب النقدي الجديد الذي تناولها، والخطاب الاجتماعي الذي انشغل بها، لكن الإحياء بمعناه المادي : عودة القراء وزيادة المبيعات ونفاد الطبعات (اقتباس رواية «أفراح القبة» لنجيب محفوظ (1981) مثلا التي شارك الناشر (دار الشروق) في انتاج الدراما التلفزيونية المأخوذة عنها (2017) أنعش الرغبة في قراءة الرواية لدى جمهور جديد، فانتقلت لخانة «الأكثر مبيعا» بعد اقتباسها بعد أن كانت نسيا منسيا.)37
– سلطة المؤلف المقدسة
إذا كان العمل الأدبي المقتبس يحيا من خلال العمل السينمائي الذي يستدعيه على الشاشة فإلى أي مدى يمتلك حق التغيير فيه؟ يضعنا هذ التساؤل أمام قضية أخرى شائكة هي قضية الشرعية. يتساءل فرانسيس فانوا Francis Vanoye هل الاقتباس سرقة؟ ويرى أنه بالرغم من حسم القانون لموضوع حقوق المؤلف لكن استخدام السينمائي لنص كتبه أديب يظل على المستوى النفسي ممارسة تحوم حولها شبهات تتعلق بقيمة التفرد وحق الأبوة الممنوحين للنص الأدبي. ولكن Vanoye يضع القضية في منظور أوسع من علاقة الأدب بالسينما. «كل فن، كل تكنولوجيا تتضمن تطورات فنية، يبدو أنها تعتمد على احتياز ما سبقها، في أجواء من الشد والجذب للاعتراف بالحقوق والأصول. فالقدماء يطالبون بحصتهم والمحدثون بحقهم في الوجود.»38
تناقش صوفي رابو (Sophie Rabau) نفس القضية لكن في إطارعملية التناص الأدبى. فتقول:
«أمام كل ممارسة للتناص، يطرح بشكل تلقائي تساؤلا عن الشرعية : هل لدي الحق في تملك نص ينتمي لهوميروس؟ هل لدي الحق في السخرية من عمل عظيم كهذا العمل؟ هل من الممكن أن أقتني نصا كتبه آخر؟ وإلى أي مدى تتحقق الملكية؟ في الحالتين، يطرح السؤال عن سلطة النص بمنطق الملكية : لمن ينتمي النص؟ لأي مؤلف؟ وبمنطق الامتياز الثقافي : هل من الممكن احترام نص الآخر عندما أعيد كتابته أم أن أي تحول له هو هتك لقداسته؟»39
تجيب صوفي رابو على هذه الأسئلة من خلال العودة لمفهوم التفرد تاريخيا، مبدأ التفرد المرتبط بمفهوم النص الأول، هذا الذي لم يكتب من قبل. فترى أن قيمة التفرد بدأت تتشكل كمعيار للحكم على الأعمال تحت تأثير الرومانسية الألمانية مع بدايات القرن الثامن عشر حين أصبحت تلك القيمة نابعة من خصوصية الذات مقابل سلطة القدماء التي ربطت قيمة العمل الأدبي بمدى تماثله مع النموذج الكلاسيكى على مدار عصور سابقة. إن إعادة النظر في مفهوم المؤلف بوصفه ليس المالك الوحيد للنص الذى ينتجه، تشي بتغيرات بدأت إرهاصاتها مع أزمة الذات في نهاية القرن التاسع عشر ووصلت لذروتها في ستينيات القرن العشرين مع فكرة موت المؤلف.40 يمكننا القول أن دراسة الاقتباس كدراسة التناص لا تفترض موت المؤلف بقدر ما تسمح بمشاكسة سلطته أو التفاوض معها. فبعيدا عن معيارية مفهوم الإخلاص وفكر المحاكمة وضيق المساحة النقدية التي تغلق الحدود أمام التفكير في عملية الاقتباس كرحلة أو بعث أو توالد، تصبح التغييرات التي يلحقها الفيلم بالرواية مبنية على تلقي السينمائي للعمل الأدبي الذي يقتبسه. بمعنى أنها رد فعل أو تفسير أو تعليق، أو تحديد موقف، أو إعادة كتابة، أو استجلاب نص من نوع ومن حقل ومن تاريخ ومن جغرافيا، وإعادة توطينه في حقل آخر تتشكل فيه تلك العناصر بعد أن عبرت الحدود.
– الاقتباس كمساحة جدلية
عندما يولد النص الأدبي المقتبس من جديد خارج سياقه يتخلى عنه صاحبه (من الممكن أن نقارب بين هذا التخلي وفكرة إعطاء حقوق الملكية للسينمائي صاحب الفيلم) هو يترك موطنه :اللغة الفنية التي تشكل فيها وصهرته داخل قاموسها، النوع الذي اتخذ سماته أو تحاور معها، التيار الأدبي الذي اندرج فيه أو ثار عليه، الحقل الذي ولد به والذي يحدد بشكل ما الشروط المؤسسية التي تؤطر وجوده والتي تفاوض معها حتى يخرج بشكله النهائى (الحقل الأدبى بمفرداته من دور نشر، شروط رقابية، خطاب نقدي، سياسات ثقافية تحكم عملية الإنتاج بشكل عام ..)، أفق انتظاره الذي يتحدد بالقيم الثقافية والذوق الجمالي السائد عند جمهور مستهدف، الظرف التاريخي والسمات القومية في العمل الأدبي .. كل تلك المحددات تتحول لعناصر نصية داخل بنية ونسيج العمل الأدبي تتجادل معها السينما في عملية الاقتباس، فيولد الفيلم نسيجا جديدا تتشابك خيوطه، يمتد بعضها في النص الأدبى الذي استحوذ عليه الفيلم، ويُغزَل البعض الآخر داخل العالم الإبداعي والفكري لصانعه الجديد وفي اللحظة التاريخية التي ينتمى إليها.
العمل السينمائي قد يناكف سلطة النص الأدبى ويحول جوهره («مالك الحزين» قطب الرواية الجديدة، بمثقفها الثائر المغترب تتحول سينمائيا لأنشودة ساخرة في حب الحياة يعزفها مغنى كفيف في «الكيت كات» فيلم داوود عبد السيد)، قد يعيد بناء الزمن (عدد لايحصى من أعمال شكسبير اقتبستها السينما العالمية ونقلت أحداثها لأزمنة حديثة ومعاصرة) قد يغير في المكان ( السينما المصرية في اقتباساتها العديدة لرواية «الكونت ديمونت كريستو» وكلاسيكيات الأدب الفرنسي عموما في فترة الثلاثينيات، أو السينما المكسيكية في اقتباسها لنجيب محفوظ) قد يغير في النوع (قصائد شعرية عديدة تحولت لأفلام روائية كعشرات الأعمال السينمائية المقتبسة عن الأوديسا لهوميروس، أو تلك اللوحات التشكيلية التي تصبح أفلاما : فيلم Loving Vincent (2017) المقتبس من لوحات فان جوخ). الفيلم يغير في الأحداث، يختار منها، يضيف إليها، يخترع شخصيات أو يقلص من عددها ، قد تختلف البدايات والنهايات تبعا لرؤية المؤلف أو لأعراف ثقافية أو شروط إنتاجية أواتجاهات ذوق عام .. إلخ.) كل تلك التمايزات وغيرها تسحبنا لمنظور للاقتباس يكشف عن مادة ثرية للتفكير الجدلى في الأنا الذي يصبح آخر، في ماهية النص الأدبى وماهية الفيلم السنيمائي وهذا الوجود البيني الذي يتشكل بهما. تسحبنا تلك التمايزات أيضا للخروج من النص للسياق وإدراك الاقتباس كظاهرة إبداعية مركبة متعددة الروافد. لذا فمع كل اختلاف نطرح تساؤلات ولا نطلق الأحكام : والتساؤل موقف نقدي يسعى للاكتشاف والكشف، اكتشاف الكيفية التي تضافرت بها الخيوط الأدبية والسينمائية في نسيج الفيلم وكشف السياق الذي صاغ الاقتباس ووضع شروطه. فيصبح الاقتباس بعيدا عن الطرح المعياري الذي يحاكم الفيلم المقتبس عن مدى «التزامه»، «إخلاصه»، «احترامه» للرواية، أو المسرحية، أو القصيدة… الخ. من هذه المصطلحات الحاسمة التي تنطلق من مفهوم أخلاقي في مقاربة الظاهرة الفنية، أداة كشفية لفهم حركة النصوص في تحولاتها عبر النوعية.
تاريخ الاقتباس كمرآة للتحول القيمي في علاقة السينما والأدب
من المؤكد أن تاريخ ممارسة السينما للاقتباس قد لعب دورا إضافيا في تحديد شكل العلاقة بينهما. التراتبية والشرعية قضيتان لا تنفصلان على مستوى الممارسات. لجأت السينما في بداياتها للأدب وأعماله الكلاسيكية لتستفيد من رصيده الثقافي كفن قديم ذي مقام متميز وتضيف لرصيدها. في فرنسا، حيث نشأ هذا الفن على يدي الأخوين لوميير، استطاعت السينما في عهودها الأولى أن تكتسب رقيا بفضل القيمة الأدبية للأعمال المقتبسة وبفضل الاستعانة بممثلين مسرحيين ذوي شهرة من الكوميدي فرانسيز مثل سارة برنار (Sarah Bernard) مثلا41. وهو ماحدث أيضا في مصر في الثلاثينات عندما وقف أمام الكاميرا كبار ممثلي المسرح كيوسف وهبي ونجيب الريحاني. وفيما بعد استدعت سياسة القطاع العام السينمائي في مصر الستينيات أعمال كبار الأدباء كنجيب محفوظ، يوسف إدريس، عبد الرحمن الشرقاوي، يحيى حقي ..وغيرهم «للإعلاء» من مكانة السينما، فكانت هذه الفترة هي الأكثر ازدهارا في تاريخ الاقتباس السينمائي في مصر والعالم العربي. لكن الفن السابع الذي استظل على مدار حقب متعددة بسلطة الأدب مالبث أن تململ منها وعبر عن ذلك بعدة طرق. منها اقتباس أعمال ليس لها رصيد أدبى ضخم مما سمح للسينمائى بالتحرر من سطوة النص الأصلى واستخدام مساحة الحرية تلك للتجريب في اللغة السينمائية. ظهر ذلك في السينما الهوليودية: موجة الفيلم نوار Film noir بعد الحرب العالمية الثانية التي اعتمدت على أعمال أدبية تجارية،42 وفي السينما الأوروبية نذكر أعمال روبير بريسون(Robert Bresson) ، مثل «يوميات كاهن في الأرياف» (1951) عن رواية جورج برنانوس (Georges Bernanos) أو «هروب محكوم عليه بالاعدام» (1959) عن سيرة أندريه دفيني.(André Devigny) وفي السينما المصرية حدث ذلك مع أعمال مثل «الجبل» لخليل شوقي (1964) عن رواية فتحي غانم أو»المستحيل» لحسين كمال (1965) عن رواية مصطفى محمود، أو «المتمردون» لتوفيق صالح (1968) عن رواية صلاح حافظ .. إلخ. وغيرها من أعمال سينمائية هامة اعتمدت على كتابات أدبية لا تصنف ضمن الأعمال الكبرى أو الكلاسيكيات المصونة. ظهر التمرد على سلطة الأدب بشكل آخر أكثر حسما عندما جافى السينمائيون الاقتباس وسعوا للبحث عن قيمة السينما داخل خصوصيتها. فكانت الموجة الجديدة في فرنسا التي قدمت منذ الخمسينات فناً ثارعلى التقاليد السينمائية وعلى وصاية النص الأدبى على يد مخرجين مثل فرنسوا تروفو(François Truffaut) وجان لوك جودار (Jean Luc Godard). وفي مصر ابتعد أصحاب الواقعية الجديدة في سينما الثمانينات والتسعينات عن الأدب (عاطف الطيب، محمد خان، بشير الديك، رأفت الميهي ..) وقدموا همأهم أفلام المرحلة من خلال كتابة سينمائية بحتة. مع تحرر السينما تدريجيا من أبوية الأدب وظهور عدد كبير من الأدباء في المشهد المعاصر ممن يمارسون السينما بالكتابة أوالإخراج (على سبيل المثال الروائي والسينمائى الفرنسي فيليب كلوديل (Philippe Claudel) الحاصل على العديد من الجوائز أهمها جونكور الأدبية وسيزار السينمائية، أوالروائى وكاتب السيناريو المصري أحمد مراد صاحب جائزة البوكر)، بالإضافة لعودة ظاهرة الاقتباس بقوة في السينما العالمية في السنوات الأخيرة، لم يعد مدخل التراتبية أو شرعية التغيير في النص الأدبي تصلح لمقاربة أعمال سينمائية تستمد قوتها من قدرتها على الإبداع الفريد داخل نص كلاسيكي تم اقتباسه عشرات المرات في تاريخ السينما.
مما سبق نخلص إلى أن التراتبية والشرعية في علاقة الأدب بالسينما مفهومان تشكلا عبر تاريخ الخطاب النقدي وتأثرا بسياقات تاريخية ورؤى وقيم فلسفية ونقدية وجمالية لم تكن بالضرورة مرتبطة بقضية الاقتباس وإن كانت هي المحرك الأكبر للإشكاليات المثارة حولها. ولقد أظهرت تلك المواجهة بين الكلمة والصورة التي تعيد إنتاج الكلمة أن العلاقة بينهما يتحكم فيها إلى حد بعيد جدل مفاهيمي مرتبط بثنائية الأصل والنقل: على الجانب الأول منظومة القيم المؤسسة للأصل كمرادف للحقيقة والنقل كمرادف للزيف، وعلى الجانب الثاني قيم تعلي من مفهوم النقل كعملية منتجة، تكاد يكون شرطا للوجود كما هو الحال في عمليات التكيف البيئي التي تضمن استمرارية الحياة، وذلك في مقابل أصل دائما ما يكون مهددا بالفقد. النظر للاقتباس من خلال هذا الجدل المفاهيمي يظهره كعملية فنية خلاقة لها أبعاد ومستويات متعددة تتحاور فيها النصوص والسياقات حوارا يتجاوز في تركيبه إمكانات النظر التي تتيحها القيم المعيارية المرتبطة باشكاليات التراتبية والشرعية، تلك الثقوب الضيقة التي تقلص ظاهرة بالغة التعقيد. يتيح هذا المنظور إدراك اللقاءات بين فضاءات الكلمة والصورة المقتبسة عنها كفرص عظيمة لدراسة واكتشاف طرق تفاعل الظواهر الفنية/الثقافية في حركتها المستمرة ويعيد فتح مبحث علمي بدا في حقل الدراسات النقدية كما لو كان قد أستنفد أغراضه.
الهوامش
1 VANOYE, Francis, L›adaptation littéraire au cinéma, Armand Colin, Paris, 2011, p. 54
2 – سلمى مبارك، «النص والصورة السينما والأدب في ملتقى الطرق»، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 2016 ، ص. 87
3 – حازم ضاحي شحادة، «مفهوم التكيف والتوافق،» بحوث ودراسات جريدة المنال، يونيو2014.
4- CLEDER , Jean, « L›Adaptation cinématographique », Fabula.org, 13 Juin 2004 https://www.fabula.org/atelier.php?Adaptation
5 – المرجع السابق.
6 – BARTHES, Roland, « Rhétorique de l›image », in Communication, n°4, 1964, pp. 41-42.
7 – Jean CLEDER ، إنظر الهامش رقم 4
8 – GAUDREAULT, André, Du littéraire au filmique, Méridiens Klincksieck, Paris, 1989, p. XI.
9 – CLERC, jeanne Marie, Littérature et cinéma, 1993, Nathan Université, Paris, p. 4.
10- MCFERLANEA, Brian, An introduction to the theory of adaptation Novel to Film Clarendon Press, Oxford 1996, p. 10.
11- MELLET, Laurent, SHANNON, Lassagne, Etudier l’adaptation filmique, Presses Universitaires de Rennes, Rennes, p. 11.
12 – VANOYE, Francis, L’adaptation littéraire , 2011, Armand Colin, Paris, p. 14.
13 – CLEDER, Jean, Entre littérature et cinéma, Armand Colin, 2012, Paris, p. 3.
14 – FLAUBERT, Gustave, « Lettre à Ernest Duplan du 12 juin 1862 », Correspondance III, Paris, Gallimard, Bibliothèque de la Pléiade, 1991, pp. 221-222 ذكره Jean Cleder (2004)
15 – EPSTEIN, Jean Le Cinéma du diable (1947) version numérique, collection : «Les classiques des sciences sociales», dirigée par Jean-Marie Tremblay, p. 23
16 – ARTAUD, Antonin Sorcellerie et Cinéma dans Œuvres complètes III, Gallimard, 1961, pp.82-85.
17 – المرجع السابق
18 – إنظر هامش 15، Jean Epstein
19- ESEINSTEIN, Sergueï, Cinématisme : Peinture et cinéma, Les presses du réel, Dijon, 2009.
20 – طه حسين، جان بول سارتر والسينما» مجلة الكاتب المصرى، العدد 26، 1947
21- BUTOR, Michel, Le dialogue avec les arts, Presses Universitaires du Septentrion, Lille, 2006, p. 26
22- L›Œuvre d›art à l›époque de sa reproductibilité technique, Editions Allia, Paris 2006, p.16
23 – المرجع السابق، ص. 17
24 -نفسه، ص. 31
25 – MOUSSINAC, Léon, L’Age du cinéma, Paris, Editeurs français réunis, 1946n 1967, p. 143 ذكرته Jeanne Marie Clerc, Littérature et cinéma, Nathan Université, 1993, p.15.
26 – FRANCIS, Ramirez, « Apollinaire et le désir de cinéma », Cahiers de l›Association internationale des études françaises, 1995, n°47. pp. 371-389.
27 – المرجع السابق
28- CENDRAS, Blaise, L’ABC du cinéma, Les écrivains réunis, Paris, 1926. ذكرته Jeanne Marie Clerc, p. 9.
29 – RABEAU, Sophie (Direction), L›intertextualité, GF Flammarion, Paris, 2002, p. 24.
30 – نفس المرجع، ص. 40
31 -نفسه، ص. 25
32 – BARTHES, Roland, « Théorie du texte «, Encyclopedia Universalis, 1973.
33 -, إنظر هامش رقم 28، Rabau ص. 16
34 – نفس المرجع.
35 – KRISTEVA, Julia, « Le mot, le dialogue et le roman », Semeiotike : recherches pour une sémanalyse, Paris, Seuil, 1969) p. 82-112.
36 – إنظر Rabau، ص 43
37 – دينا جلال «إحياء النص من خلال الصورة : قراءة اقتصادية لأفراح القبة»، محاضرة بسمينار شبكة آمون للباحثين في الأدب والسينما، جامعة القاهرة، 25 نوفمبر 2017
38- إنظر هامش رقم 1 ، Francis Vanoye ، ص. 13
39- إنظر Rabau ، ص. 135
40 – المرجع السابق، ص. 29
41 – «الاقتباس في تاريخ السينما»، فصل من كتاب دراسة الاقتباس الفيلمى بقلم Laurent Mellet وShannon Wells-Lassagne ، ترجمة سلمى مبارك، «فصول» العدد 97، خريف 2016، ص. 360
42 – إنظر الهامش رقم 47، Laurent Mellet وShannon Wells-Lassagne
سلمى مبارك *