منذ نشأة السينما، اتخذ النقاش حول طبيعة العلاقة بين النص الأدبي والاقتباس السينمائي شكلا» دائما» بين الشد والجذب أشبه بالعلاقة التي تتسم بالكراهية والحب في آن واحد. وعلى الرغم من أن الدراسات السينمائية والتنظير السينمائي كما نعرفهما اليوم لم يصبحا جزءا مستقلا في معظم جامعات العالم وخاصة الغربية منها حتى أواخر ستينات القرن الماضي، فإن موضوعة اقتباس السينما لأعمال روائية أو توجهات قصصية مكتوبة ابتدأت بشد اهتمام العديد من المهتمين بفن السينما، سواء بين السينمائيين أنفسهم أو ضمن أوساط النقاد والمنظرين في هذا الحقل، منذ بدايات نشوء السينما وتحولها السريع إلى فن جماهيري واسع التأثير والنفوذ بين معظم طبقات المجتمع. ومع التغيرات التي كانت تطرأ على الأطر العامة للتنظير السينمائي، كان موضوع الاقتباس من الأعمال الروائية والأدبية، يرفد في توجهاته ويتفاعل إلى حد كبير مع المتغيرات الطارئة على أولويات البحث السينمائي في المراحل المختلفة التي مر بها هذا التنظير.
ومن الواضح أن موضوع الإقتباس في السينما من الرواية وكذلك من مصادر غير روائية (مثل القصة التشخيصية (autobiography)، وكتب الدين، والمسرحيات، ووقائع وقصص التاريخ، والكوميكس وغيرها) هو من أقدم وأكثر الممارسات السينمائية استمرارية وشعبية. فمن ضمن تنوع مصادر الاقتباس السينمائي، نرى أمثلة كثيرة ومفصلية تشهد لمركزية الرواية الأدبية في هذا المجال، وذلك منذ بدء الاهتمام بالترجمة السينمائية للرواية الفيكتورية في أوائل القرن العشرين. ونذكر في هذا المجال على سبيل المثال روايات دراكولا لبرام ستوكر(Bram Stoker) وشرلوك هولمز لآرثر كونان دويل (Arthur Conan Doyle)، وفيما بعد آغاتا كريستي (Agatha Christie) وستيفن كينغ (Stephen King) وانتهاءاً بالاقتباسات الأكثر معاصرة لروايات هاري بوتر لـ ج.ك. رولينج (J.K.Rowling) وسيد الخواتم لجون ر. تولكين (John r.r. Tolkien) وغيرهم الكثيرين.
وفي السينما العربية خصوصا خلال فترة ما بعد سقوط النظام الملكي في أوائل الخمسينات كان للاقتباس السينمائي لأعمال عدد هام من الروائيين العرب المعاصرين مثل توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، ويوسف ادريس، ويوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس، ولطفي الخولي وغيرهم أثر في إغناء السينما العربية وإعطائها عمقا وسعة في قدرتها على التعاطي مع واقعها الاجتماعي والسياسي. وحتى مع التراجع النسبي خلال الحقبتين الماضيتين لنفوذ القصة الأدبية في الأوساط الشعبية وبالتالي تراجع الاهتمام باقتباس أعمال أدبية للسينما في العالم العربي، فما زال من وقت لآخر يظهر وبشكل عرضي بعض الاهتمام من قبل بعض المخرجين في اقتباس أعمال روائية معروفة لبعض الكتاب )اقتباس يسري نصرالله لرواية الياس خوري في فيلم «باب الشمس»، أو اقتباس مروان حامد لرواية «عمارة يعقوبيان» للكاتب علاء الأسواني أو لروايات أحمد مراد في أفلام «الفيل الأزرق» و «الأصليين» وأخيرا في «تراب الماس».
أن المظاهر الأولى لبدايات التنظير السينمائي، بدأت من الاستقصاء والملاحظة إلى الدراسة والاستدلال ووصولا إلى التعميم النظري بالنسبة لشكل السينما ولموقعها ولدورها كوسيلة جديدة للتعبير والاتصال تتميز بخصائص وأبعاد متنوعة في دينامياتها وتأثيرها، أتت بشكل أساسي على شكل رصد لموقعها داخل البنية الأيديولوجية للمجتمع. وبالتالي فإن الاهتمام بالسينما من الناحية النظرية اتخذ منذ بداياته طابع دراسة موقعها ضمن التناقضات السياسية والاجتماعية والفنية القائمة في العالم. وقاد هذا إلى بدء التنظير لإرساء أسس بديلة للابداع السينمائي تتجاوز في مفهومها العام الدور الذي حددته لها ديناميات الربح المادي في إطار علاقات الإنتاج الرأسمالية السائدة. وأدت المتغيرات الأساسية التي طرأت عبر سياق متدرج على التوجهات الأساسية للتنظير والدراسات السينمائية خصوصا بعد مرحلة الستينيات من القرن الماضي وحتى اليوم، إلى تهميش الاهتمام ببحث أو بدراسة موضوع الاقتباس داخل أطر النقد والدراسات السينمائية بما في ذلك مناهج الدراسات السينمائية المتخصصة على المستويات الجامعية. وعلى الرغم من أن معظم أشكال الاهتمام النظري السينمائي بالاقتباس بقيت منحصرة إلى حد كبير وفي معظم مراحلها على طروحات تقليدية مشابهة إلى حد ما لما كان يحصل في الدراسات الأدبية، (أي تناول طروحات «الإخلاص للنص» أو «المشابهة» او «خصوصية اللغة»)، فإن تعاطي التنظير والدراسات السينمائية مع الموضوع كان في معظمه يحاكي (بطريقة أكثر مباشرة من رديفه الأدبي) موضوع الأيديولوجيا وعلاقتها بالسينما. ودفع هذا التوجه المعرفي والمنهجي العام بالدراسات السينمائية إلى أن تركز على طبيعة السينما كفن يستحوذ على اهتمام ونفوذ جماهيري واسع وذلك انطلاقا من خصوصية تقنياتها التي تميزها عن أشكال الفنون الأخرى التي سبقتها، مثل الرواية. وبقي هذا التوجه العام يهيمن على اهتمامات أعمال النقاد والمنظرين الذين أبدوا شغفا بدراسة السينما منذ بداياتها الأولى.
الاقتباس في المراحل التكوينية للنقد السينمائي
منذ العقود الأولى لظهور السينما وحتى قبل وضوح معالمها الأساسية المكونة، بدأ الحديث من قبل بعض السينمائيين والفنانين والناشطين السياسيين عن ضرورة العمل لفرز أطر بديلة لما هو سائد في الصناعة السينمائية سواء على صعيد الأسلوب، التوجه، أو الدور السياسي. واستمر هذا النقاش دائرا وأدى تدريجيا إلى بروز تيارات ومجموعات سينمائية عديدة وضمن عدة مراحل من تاريخ السينما تنادي بإطلاق توجهات مغايرة للسينما السائدة سواء على الصعيد المحلي أو العالمي. ونادت بعض هذه الاتجاهات بوجوب تخطي السينما لدورها الذي فرض عليها كونها ولدت ضمن أطر العلاقات الاقتصادية الرأسمالية المهيمنة وحدد بالتالي دورها وبالدرجة الأولى كأداة للترفيه وللتسلية. ورسم البعض تصورات أكثر تحديدا لأشكال تجاوز الأطر الاقتصادية التقليدية لتمويل وإنتاج وتوزيع الافلام مشيرين إلى إمكانية بل وضرورة تشجيع ظهور سينمائيين وأفلام مستقلة لا ترتهن بهيمنة مقاييس الربح والخسارة.
فبعد أكثر بقليل من عقدين على ظهور السينما، وأقل من سنتين على ظهور أول فيلم روائي طويل بالمعنى العام المتوافق عليه اليوم والذي أخرجه عام 1915 الأميركي د. غريفيث (D.W. Griffith) بعنوان «ولادة أمة» (Birth of a Nation)، والذي جاء اقتباسا لرواية توماس ديكسون (Thomas Dickson) الكلانزمان، انفجرت في روسيا القيصرية أول ثورة شعبية قوامها الأساسي من العمال والفلاحين وتقودها مجموعات اشتراكية ماركسية التوجه في فكرها وسياستها. وكان لترسخ سيطرة الحكومة المنبثقة عن هذه الثورة أثر كبير في اتساع نطاق التأييد للحركات العمالية ذات الطابع الماركسي داخل وخارج روسيا. وساهم هذا أيضا وعلى المدى العالمي في توسع نطاق انجذاب الكثيرين من العاملين في الحقول الأكاديمية والفنية للتوجهات العامة للتنظير الماركسي. وقام بعض السينمائيين بإعلان انحيازهم لتكوين سينما تستلهم الواقع الاجتماعي والسياسي الذي تعيش ضمنه. وجادلت هذه الأصوات من أجل سينما جديدة ملتزمة بقضايا الفئات المهمشة في المجتمع، والتي يتم بشكل عام تجاهل اهتماماتها وحتى وجودها في السينما التقليدية السائدة. وكان للتصريح الشهير للزعيم الأول للدولة السّوفييتية فلاديمير لينين عام 1922 عن كون السينما «أهم نوع من الفنون» وقعا كبيرا كرس الدور الذي حاول من خلاله السينمائيون السوفييت رسم توجه جديد في عملهم يتلاءم مع أهداف الثورة الاشتراكية. واعتمد هذا التوجه الجديد بشكل أساسي على النظرإلى السينما ليس كمشروع تجاري يهدف إلى جني الربح، بل كمشروع سياسي اجتماعي وتثقيفي يمارس دورا في تثوير فكر المجتمع وفِي دعم عملية التحول الاقتصادي والاجتماعي بالاتجاه الاشتراكي.
وهنا لا بد من الاشارة، إلى أنه حتى ذلك الحين، فان العديد من النجاحات التي كانت قد بدأت تطبع سينما هوليوود وفيما بعد في فرنسا وألمانيا، حاولت أن ترفد نجاحها عبر اقتباسها لأعمال وروايات معروفة في ذلك الحين. ومما لا شك فيه أن الاميركي د. دبليو غريفيث، والذي يعتبر تاريخيا الأب العملي والروحي للسينما الروائية السردية بشكلها الهوليوودي، اعتمد في أهم فيلمين له وهما «ولادة أمة» (Birth of A Nation) عام 1915 و «التعصب» (Intolerance) عام 1916 في المرة الأولى على رواية معاصرة معروفة، وفي الثانية على مقاطع قصصية من التوراة والعهد القديم. وضمن هذا السياق، وفي اطار وضوح الاهتمام لدى بعض السينمائيين الأوروبيين أيضا بفكرة الاقتباس السينمائي كما أشرت مسبقا، فقد كان من الطبيعي أن تثير فكرة الاقتباس السينمائي لأعمال روائية من مراحل تاريخية سابقة بشكل عام بعض الشكوك والتوجسات لدى الأوساط السينمائية الشابة داخل روسيا البلشفية وتدفعها لأن تحاول خلق سبل ومصادر بديلة تستطيع من خلالها التوجه نحو الجمهور بما يساعده على القطع مع السينما التي اعتاد عليها، بما في ذلك تلك التي تستلهم أعمالا روائية تنتسب لمرحلة سابقة للثورة الروسية. ويمكننا القول أن الرعيل الأول من السينمائيين الذين عملوا في روسيا بعد اندلاع الثورة البلشفية ساهم بفرز التوجهات العامة للتنظير السينمائي، وساهم منذ البداية بربطها بالأسئلة المتعلقة بالأيديولوجيا، وبالتالي ساهم بوضع معالم لفك ارتباط التنظير السينمائي كنظير ثان أو دوني للرواية.
واتخذت النقاشات في هذه الفترة شكل التركيز على خصوصية الشكل السينمائي سواء على صعيد البناء الروائي أو على صعيد أساليب استعمال الكاميرا والقطع والتوليف. وفي هذا السياق فان لكتابات المخرج الروسي سيرجي آيزنستاين ومنها على وجه الخصوص مقالته عن سينما المخرج الأميركي غريفيث 1949) (Eisenstein, بالمقارنة مع روايات الكاتب الانجليزي تشارلز ديكنز دورا في رسم المعالم الأولى لمحاولة فرز مكامن التشابه فيما بين الرواية التقليدية و»السينما التقليدية» لهوليوود. فجاءت مساهمة آيزنستاين لتضع أسسا سردية وشكلية خاصة بالسينما تركز على التميز عن الرواية الفيكتورية وترسم أسسا لبدائل سينمائية «ثورية» في مضمونها وأسلوبها. وضمن محاولته التنظير لسينما ثورية بديلة، ركز المخرج السوفييتي دزيغا فيرتوف(Dziga Vertov ) بدوره، و في إطار اهتمامه بدور وشكل الفيلم الوثائقي، على ضرورة أخذ السينما إلى مسافة أبعد عن تمخضاتها الروائية وبالتالي عن جذورها الاقتباسية في هوليوود…على الأقل حتى ذلك الوقت. فاعتمد فيرتوف في توجهه العام على أن السينما وأداتها الأساسية، أي الكاميرا، يجب أن لا تخرج أو تنفصل في أدائها عن كونها أداة فنية حداثية قادرة على تبوؤ جزء فاعل ومتفاعل في خضم «الصراع الايديولوجي» الذي يطبع الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي للانسانية في مرحلة تحولها الثوري الجديد.
واستلهم دزيغا فيرتوف -في مقالته الهامة والتي نشرت في مجلة «كينو- فوت» ) 1971 (Vertov, التوجه الثوري الجديد في البلاد ليركز على القطع الجذرى بين السينما ومختلف أشكال ووسائل التعبير الفني الأخرى، وبشكل غير مباشر مع تمثلاتها الروائية، ليطرح توجها جذريا مضادا بالكامل لما رأى السينمائيون التقليديون وأولئك الذين يبتغون الربح في العمل السينمائي فيه دورا رئيسيا لهم. فاعتبر أن الأفلام القديمة التي تعتمد على الرومانسية، أو ذات التوجه المسرحي وما شابه، مصابة بمرض الجذام، وبالتالي فانه من الضروري الابتعاد عنها بشكل مطلق. أما البديل فيكمن في القدرة على استيعاب الواقع، والشكل الحقيقي للأشياء، وتفصيلات الحركة ووقعها في الحياة وفي العمل.
«الواقعية الجديدة» و«الموجة الجديدة» وتوسع الشرخ المعرفي للتنظير السينمائي مع موضوعة الاقتباس
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية في أوروبا انبثق تيار هام ساهم في طروحاته بشكل أو بآخر في التركيز على ربط الممارسة والتنظير السينمائيين بأدواتهما وخلفياتهما الخاصة. فقام عدد من السينمائيين الإيطاليين في حينه بانتاج أفلام تضع في صلبها توجهات سردية تختلف عما جرت عليه العادة في السينما الإيطالية أو الأميركية. فعوضا عن الحكايات التي تتناول أبناء وبنات الطبقات الوسطى أو العليا، ركز هؤلاء السينمائيون على الفئات الاجتماعية الآتية من الطبقات العاملة والفئات المهمشة على أنواعها. وما جعل هذا النوع من الأفلام أكثر تميزا هو الأسلوب والوسائل التي اتبعها لتقديم قصصه. إذ تأثر اُسلوب صنع هذه الأفلام إلى حد كبير بافتقار مخرجيها لوسائل الدعم المالي أو الفني. فلجأوا مع بدايات عملهم في منتصف الأربعينات إلى استعمال ما هو متوفر من آلات تصوير، واستعملوا أماكن سكن واقعية لأبناء الطبقات الفقيرة بدلا عن التصوير داخل الاستديو، واعتمدوا على الإضاءة الطبيعية والمتوفرة. كما تفادى هؤلاء السينمائيون توظيف ممثلين محترفين، واستعاضوا عنهم بأشخاص عاديين أتوا بمعظمهم من قلب المناطق التي كانوا يصورون فيها. وأتى شكل الأفلام التي صنعها كل من المخرجين روبرتو روزيليني وفيتوريو دي سيكا ليشكل صدمة إيجابية في وقعها على عالم السينما لما مثله من واقعية أشبه بما كانت معظم الأوساط السينمائية حينذاك تربطه بالسينما التسجيلية والوثائقية. وأصبح هذا التوجه السينمائي الجديد فيما بعد يعرف «بالواقعية الجديدة».
ضمن سياق تركيز معظم النقاد والباحثين السينمائيين في حينه على تناول موضوع إبداع الشكل السينمائي البصري كإطار أساسي في تقييمهم لأهمية حركة الواقعية الجديدة، فان تهميش الاهتمام بالعلاقة بين السينما والنصوص الأدبية لدى المهتمين بالبحوث السينمائية، تاريخية كانت أم نظرية، كان يبدو أكثر وضوحا. فعلى الرغم من أن مناصري هذا التيار، والكثيرين ممن ساروا على خطاهم فيما بعد لم يعبروا عن رفضهم لاحتمالات الاقتباس السينمائي للرواية المكتوبة، فان تركيزهم بقي واضحا في اهتمامه بتطوير معالم بصرية وتقنية سينمائية تنبثق من طبيعة السينما وخصوصيتها كشكل تعبيري بصري في أساسه. حتى أن اقتباس المخرج فيتوريو دي سيكا لقصة توماس مان(Thomas Man) «الموت في البندقية» على سبيل المثال اعتبر من قبل الكثيرين من النقاد ابداعا بصريا لا يربطه بأساسه الأدبي المكتوب إلا خيط رفيع من الخلفية المرجعية. ويمكن قول الشيء نفسه بالنسبة للروايات الهامة التي اقتبسها من يعرف اليوم برائد الواقعية الجديدة في العالم العربي صلاح أبو سيف في أفلام مثل «القاهرة 30» أو «بداية ونهاية»، حيث طغت خصوصية الاطار الفيلمي ليس فقط على موضوع مضمون القصة نفسه واختيارات جزئياتها، بل أيضا على شكل تجسيدها سينمائيا، والذي خرج بالنهاية وبرأي معظم النقاد في حينه وحتى اليوم مجسدا لشغف أبو سيف في رسم معالم المكان والبيئة، أكثر بكثير من شغف نجيب محفوظ مثلا برسم الملامح التفصيلية لشخصيات الرواية نفسها.
ولعب أيضا ظهور تيار أو «موجة السينما الجديدة في فرنسا» في أواخر خمسينات القرن الماضي بدوره في رفد اهتمام السينمائيين ومن ثم النقاد السينمائيين بمعالم خصوصية التعبير الفيلمي نفسه، وفي الابتعاد المستمر للاهتمام النقدي والنظري بالعلاقة الفيلمية مع عملية الاقتباس من الرواية والنص الأدبي. فاهتمام رواد هذا التيار كان منذ البداية مركزا على ظهور تقنيات الـ 16 ملم وعلى ما بدأت توفره هذه التقنية لناحية مرونة الحركة وقلة كلفة الانتاج، وكذلك على علاقتها بالنسبة إلى طرح مسائل ذات العلاقة مع الأسلوب السينمائي بشكل عام. فالهاجس الأهم بالنسبة للحركة ارتبط كما سابقتها «الواقعية الجديدة» إلى حد كبير بأسلوب التعامل مع التقنية نفسها. اذ ركز جان لوك غودار) (Jean Luc Godard والذي بالإضافة لكونه أكثر أعضاء المجموعة اهتماما بالبعد النظري والسياسي لعملها، على سبيل المثال، على تفصيلات تمايز أسلوب «الموجة الجديدة» ولغتها السينمائية في استعمالها لأطر شكلية محددة، مثل التصوير في الأمكنة الطبيعية عوضا عن الاستديوهات، واستعمال الإضاءة الطبيعية والمتوفرة، والتوليف «غير النظيف»، واستعمال الكاميرا المحمولة، وإقحام أدوات التصوير والفنيين داخل الكادر. بيد أن النقلة الأكبر التي أحدثت نقلة نوعية في شكل تركيز تعاطي النقد والتنظير السينمائي مع «التأليف السينمائي» كإطار ذي خصوصياته التي لا يصح مقاربتها بالتأليف الروائي المكتوب حتى لو وجد أساسه في اقتباس لنص أدبي سابق، تجسد في بروز نظرية المؤلف في أوائل ستينيات القرن الماضي.
سينما المؤلف
مع استقرار مكان السينما كواحد من الأطر الجديدة للتعبير الفني والثقافي خلال النصف الأول من القرن العشرين، بدأت أصوات عديدة سواء من العاملين في السينما أو من النقاد بطرح موضوعة تنادي بالتعامل مع الأفلام بأسلوب يحاكي جدية طريقة التعامل مع الفنون الأخرى كالآداب والرسم والموسيقى والمسرح. ففي السينما يكون المخرج هو الدافع الرئيس والحاسم في الرؤية العامة للفيلم. وهو بالتالي الفاعل الأكثر قربا في طبيعة عمله إلى الكاتب أو الشاعر او الناحت أو حتى الكاتب المسرحي. فبالرغم من وجود عناصر فاعلة متعددة في الصناعة السينمائية والتي تسهم بتكوين جزئيات متعددة وهامة في الشكل النهائي للفيلم، فان المخرج يفترض أن يلعب الدور الحاسم في تكوين الرؤية النهائية للعمل السينمائي ) طبعا، فان نسبة القدرة على الحسم في هذا المجال متغايرة وترتبط بعوامل عديدة لن نتطرق اليها الآن (. وكما ضمن الفنون الأخرى، رأى العديد من النقاد أن بين من يستعمل أدوات التعبير السينمائي نجد أيضا من قد يتميز بأسلوب وبنظرة وبتوجه خاص يفرض أن يجري التعامل مع نتاجه كما يجري التعامل مع «المؤلف» (Author) أو المبدع ضمن تلك الفنون.
التركيز إذا هنا كان على السينمائي كمؤلف، وبالتالي فإن منهجية التعامل مع الفيلم كان من الطبيعي أن تحكمها القدرة على استشفاف مكامن التميز في أعمال هذا المؤلف بوجه عام، وكذلك ما يجمع فيما بينها من رؤى وثيمات مشتركة وشبه ثابتة. فالفيلم بالنهاية، وإن اعتمد في مراحل تطويره الأولى على كتابة السيناريو وربما على نص أدبي روائي، «فالكتابة» الأساسية هي الكتابة البصرية والتي يقودها المخرج ويجري فيها تحديد شكل استعمال الكاميرا، وتحديد تحرك وأداء الممثلين، ومدة كل لقطة وتركيب المشهد ضمن السياق العام للعمل، وكل هذا يرسم الفيلم شكلا ومضمونا. وضمن هذا المسار النقدي العام دأب بعض العاملين في النقد السينمائي على محاولة ايجاد منهجية للتحليل قادرة على التمييز بين الأعمال السينمائية التي يمكن وصمها بالفنية وتلك التي لا ترقى إلى مثل هذا التوصيف.
وكان لمقالة فرانسوا تروفو (Francois Truffault)بعنوان «اتجاه معين في السينما الفرنسية» والتي انتقد فيها الكثير من المخرجين الفرنسيين الذين يتحولون إلى مجرد مترجمين غير مبدعين سينمائيا لبعض الأعمال الأدبية، وبالمقابل عبر عن تقديره للمخرجين الذين عبروا في أعمالهم عن استقلالية ورؤية وبصمة خاصة لهم، وكان لهم دور في وضع أسس ومنهجية محددة للتعاطي مع موضوع «التأليف» في السينما، وبالتالي ساهم بنشر هذه الفكرة على نطاق عالمي اوسع. أما الناقد الأميركي أندرو ساريس (Andrew Sarris) في مقالته «ملاحظات حول نظرية المؤلف» والتي نشرها عام 1962، فيدعو إلى تمييز ثلاث صفات يجب أن تتوفر في أعمال المخرج قبل أن يمكن القول أن هذا السينمائي جدير بلقب المؤلف. وهذه الصفات «متداخلة» (Concentric) مع بعضها ضمن ثلاث دوائر وهي: دائرة خارجية وترمز إلى توفر التقنية الأساسية المتمكنة في تنفيذ العمل، ودائرة داخلية وسطى ترمز إلى وجود اسلوب Style شخصي للمخرج، وأخيرا دائرة داخلية وترمز إلى وجود معان داخلية تطبع الاهتمامات الثيمية لهذا المخرج. هذا الاتجاه في تنظير التعامل مع السينما فرض نفسه إلى حد كبير في المراحل الأولى التي شهدت اهتماما متزايدا بدفع الرؤية النقدية السينمائية باتجاهات أكثر وضوحا في منهجيتها. وقد ساهم هذا الاتجاه إلى حد كبير في رسم خطوط عامة قوية حتى في إطار تقييم أي فيلم كوحدة مستقلة بذاتها، وليس فقط كامتداد للاهتمام بتقييم أوسع لكل أعمال مخرج معين. وما زال نفوذ هذا التيار في التنظير السينمائي يهيمن بشكل أو بآخر اليوم على أسلوب قراءة الكثير من النقاد السينمائيين في الصحافة والإعلام الشعبيين للأفلام. إذ يركز الناقد في معظم الأحيان في تقييمه على رصد الصفات المشار إليها سابقا كأساس لتحديد وجهة نظر تجاه الفيلم الموضوع تحت المجهر. لكن هذا التوجه سرعان ما فقد جاذبيته بالنسبة للدراسات التحليلية والأكاديمية الصاعدة عن السينما والتي توافقت في ظهورها مع الميل المتزايد إلى التوسع في التعاطي مع أطر وأشكال التقييم لتطال رصد العوامل والمؤثرات المحيطة بالفيلم وبالثقافة السينمائية وكيفية مساهمتها في تحديد شكل قراءة الأفلام.
الدراسات السينمائية كاختصاص
فماذا عن مواقف التنظير السينمائي للإقتباس الأدبي وكيف تفاعلت هذه المواقف مع الأطر العامة للمتغيرات الفكرية السياسية التي رافقت (كما رأينا) تلك المواقف؟ من الواضح أن قضايا الاقتباس دائما ما كان يجري تلقيها ببرود من قبل معظم المهتمين بالنظرية السينمائية. وما نلحظه في هذا المجال تكرر وإعادة تدويرالأطر العامة للنقاشات في هذا المجال. وقد مر الاهتمام النظري بموضوع الإقتباس وأبعاده على متغيرات أولويات التنظير السينمائي بمسارات عديدة، خصوصا بعد ترسخ تخصصات الدراسات السينمائية منذ ستينات القرن الماضي في الجامعات الأمريكية الشمالية. حيث كان لأكاديميي دراسات الأدب الإنجليزي في هذه الجامعات دور» أساسي» في إنشاء معظم أقسام هذه الدراسات في المدن الرئيسية في الولايات المتحدة وفي كندا وإلى درجة أقل نسبيا في بريطانيا. واستلهمت العديد من هذه الأقسام في مراحلها الأولى منهجيات مماثلة لما كان مهيمنا في أقسام الأدب الإنجليزي في حينه لنواحي التركيز على التحليل النصي واللغوي، وإلى درجة أقل التحليل الاجتماعي والتاريخي للسينما.
لكن ازدياد وتفجر الحركات السياسية الراديكالية المعادية للحرب في فيتنام، وضد العنصرية، والمؤيدة للحقوق المدنية للسود وللمرأة وللمثليين في أواخر الستينات ومعظم السبعينات، ساهم بتثوير التنظير السينمائي وأطر تدريسه ودفع به الى التبني شبه العلني والمتكامل للتوجهات البنيوية الماركسية، خصوصا تلك التي كان يطرحها في حينه الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير (Louis Althusser) بالتناغم مع التطبيقات المرتبطة بنظرية التحليل النفسي (Psychoanalysis). وفي هذا الاطار جرى تناول الأيديولوجيا على أنها تحريف للرؤية الإنسانية لواقعها وأنها تمثل الحيز الذي تعيش ضمنه مختلف الطبقات والجماعات بما في ذلك الطبقات المهيمن عليها والتكوينات الاجتماعية المهمشة. وبالإضافة لتعميق تمركز اهتمام النقد والدراسات السينمائية في تلك الفترة حول تحليل ورصد عمل الأيديولوجيا كمساحة أساسية للتعامل مع النص السينمائي، ومع بدء خروج الأوساط الأكاديمية لتدريس السينما من عباءة هيمنة أكاديميين الأدب الإنجليزي، بدأت أيضا اتجاهات النقاش تتناول، وأحيانا بمرارة واضحة، استنكارها للنظرة الاستعلائية لبعض النقاد، والتي كانت تضع النص السينمائي دوما» في موقع الآخر السفلي inferior أو المتطفل على «النص الأصلي».
وركزت معظم النقاشات في هذه المرحلة على اعتبار منهجية البحث الأدبي تجاه الاقتباس السينمائي غير قادرة على تلمس معالم النص المرئي. وأشارت هذه النقاشات إلى أن التعاطي مع مسائل مثل المونتاج، وزوايا الكاميرا، والإضاءة، والتركيز (focus)، يجري تهميشه في الدراسات الأدبية لصالح التعاطي مع تركيب رسم الشخصيات، والحوارات، والثيمة القصصية. وبالنهاية فإن هذه التحليلات الآتية من منهجيات البحث الأدبي تنصب على دراسة مدى الانسجام واحترام العمل السينمائي لاهتمامات المؤلف الأصلي والزمن الذي كان يعيشه، في الوقت الذي تهمش فيه التعاطي مع السينما كأداة تعبير بصرية تلعب أيضا دورا مركزيا و»جماهيريا» )غير مسبوق بحجمه بالمقارنة مع الفنون الأخرى التي سبقته( في تحديد معالم وترسيخ وإعادة تدوير الأيديولوجيا في المجتمعات المعاصرة.
ولعل أهم الأطر النظرية لمناقشة موضوع الإقتباس الأدبى في السينما، تأتي من خلال صعود المرحلة البنيوية والسيميائية (semiotic)، حيث جرى التركيز على موضوع اختلاف وسيلتي التعبير جذريا بين الوسيط المكتوب والوسيط السينمائي. ورفضت النظريات البنيوية منذ البدء موازنة اللغة المكتوبة مع التعبير السينمائي، فاعتبر المنظر السينمائي كريستيان ميتز (Christian Metz) مثلا أن الرواية الأدبية تمثل تهديدا بطبيعتها لواحدة من أهم خصائص السينما الأساسية والتي تتميز بعدم وجود أساس قواعدي لها. فبعكس وجود قواعد محددة ومتكاملة للغة المكتوبة تساهم في تكوين المعنى، فإن نظام بنية الفيلم يتسم بالانسياب والانفتاح مما يفسح المجال لتطوير قواعد شخصية خاصة بالمخرج تحرره من الحديث أو التعبير عبر شيفرة محددة له مسبقا. ويقول ميتز «أن الفيلم لا يمكن فهمه من خلال فهم بناء الجملة (syntax)، فالجملة الفيلمية يمكن استيعابها من خلال استيعاب الفيلم. ويعطي مثلا على هذا، أن تقنيتي «الذوبان» (dissolve) و«تزاوج الصور» (Double Exposure) السينمائيتين لا يمكن لهما أن يوضحا مسار القصة السينمائية إلا إذا كان المشاهد قد تعرف وتعلم ذلك من خلال رؤيته أفلاما أخرى. ومن ناحية أخرى، فإن قوة القصة نفسها هي التي تتيح للمشاهد من خلال الرؤية البصرية للعالم أن يبدأ بفهم المغزى وراء كل من التقنيتين في حالات معينة. ورفض آخرون من المنظرين والسينمائيين توجهات المقارنة من أساسها (جان لوك غودار هو من أهم الأمثلة على الرافضين لهذه التوجهات)، حيث ركزوا على أن طبيعة اللغة المكتوبة نفسها تحمل بصمة أيديولوجية خاصة بها وبالتالي لا يمكن التعويل عليها كأساس لمقارنة عمل سينمائي بها.
الاقتباس في مرحلة ما بعد الحداثة
في خضم تزايد الاهتمام النظري منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي بموضوع «انتهاء الأيديولوجيات»، وترسخها وتوسعها فيما بعد في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وما مثله ذلك من ضربة للتوجهات التي جعلت من التوجهات النظرية الماركسية إطارا لتوجهاتها المعرفية والمنهجية، فقد شهدت فترة بداية التسعينات تحولات هامة في اهتمامات الباحثين والمنظرين في حقل السينما. وكما أشرنا في السابق، فإن الكثيرين من الذين تأثروا بتوجهات ما بعد الحداثة فقدوا إلى حد كبير اهتمامهم بموضوعة الأيديولوجيا كأساس لتقييمهم النظري لشكل وفاعلية السينما في مرحلة رأوا فيها انتهاء لصراع الأيديولوجيات. بيد أن فقدان الاهتمام بهذا الحيز النظري العام، من ناحية، شجع من ناحية ثانية فتح أطر كانت في السابق على هامش اهتمامات المنظرين المنهجية في مجال التنظير السينمائي. وإن كانت التجليات السينمائية للمقولات التي رافقت فترة ما بعد الحداثة، مثل «إعادة التدوير» واللعب العبثي» والاحتفاء بخلط الأزمنة والأمكنة والشكل والأسلوب والقصة والنوع، أصبحت الصفات الأكثر بروزا وتداولا في أفلام هذه الفترة وفي تقييمها. جاء ذلك في حيز كبير منه ضمن السياق العام للانحسار النسبي في اهتمام التنظير السينمائي بالتركيز على دراسة ما تمثله تلك الأفلام على المستوى الأيديولوجي في إطار نصوصها السينمائية أو بطبيعة الحال ضمن إطار أصولها الأدبية أو المكتوبة، في حال وجودها.
وضمن السياق نفسه فان هذا الجو الفكري العام أفرز أيضا توسعا في الاهتمامات البحثية بعملية تلقي الأفلام ومطالعتها سواء في الأطر النفسية والحسية للمشاهد )وذلك ضمن نظريات البحث «الإدراكية» أو «المعرفة الحسية» للسينما Cognitive Film Theory والتي دفع باتجاهها أولا نويل كارول (Noel Carroll) وفيما بعد دايفيد بوردويل ((David Bordwell)، وأيضا ضمن السياق الاجتماعي لعملية المشاهدة السينمائية في الزمان والمكان وكذلك وسائلها وتقنياتها. كما ركزت عليها وطورتها منذ اوائل تسعينيات القرن الماضي «نظريات المشاهدة والتلقي»Audience and Reception Theories بمنهجياتها واهتماماتها المتنوعة مع باحثين ومنظرين سينمائيين أو وفي مجال الإعلام والاتصالات امثال جاكي ستيسي (Jackie Stacey) و جودث مين (Judith Mayne) و جانيت ستايغر(Janet Staiger) وغيرهم.
من الواضح أن هذا الجو العام دفع باهتمامات المنظر السينمائي أكثر وأكثر باتجاه الصنو المقابل للشاشة، أي باتجاه المشاهد نفسه وإطار المشاهدة والتلقي نفسه. فماذا عن مواقف التنظير السينمائي في هذه المرحلة بالنسبة لموضوع الاقتباس الأدبي وكيف تفاعلت هذه المواقف مع الأطر العامة للمتغيرات الفكرية السياسية التي رافقت (كما رأينا) تلك المواقف؟ كما رأينا فيما سبق فان قضايا الاقتباس دائما كان يجري تلقيها ببرود من قبل معظم المهتمين بالنظرية السينمائية. وما يمكن ملاحظته في المرحلة «الما بعد حداثية» هو استمرار وتكرر الأطر العامة للمناقشات وإعادة تدويرها خصوصا لجهة جدوى وضع قضية المقارنة بين النصين السينمائي والأدبي ضمن اهتمامات الدراسات والأبحاث السينمائية. كما أعادت بعض النقاشات الجديدة الطروحات التي تتسم «بالمواقف الدفاعية» (defensive attitude) تجاه ما استمرت في اعتباره بمثابة «تعال» من قبل بعض دراسات الاقتباس السينمائي، وخصوصا في تجلياتها في دراسات الأدب والأدب المقارن، في التعاطي مع تجربة السينما وأبعادها النصية الخاصة بها أو الاستيعابية والمتعلقة بالمشاهد والمتلقي. وركزت معظم النقاشات في هذه المرحلة كما في السابق على أن منهجية البحث الأدبي تجاه الاقتباس السينمائي هي غير قادرة بطبيعتها على تلمس خصوصية النص السينمائي. وأشارت هذه النقاشات إلى أن التعاطي مع مسائل مثل المونتاج، وزوايا الكاميرا، والإضاءة، والتركيز (focus)، بالاضافية الى آليات وديناميات الانتاج والتوزيع والدعاية وتقنيات المشاهدة والتلقي، كلها يجري تهميشها في الدراسات الأدبية لصالح التعاطي مع دراسة الشخصيات، والحوار، والثيمات. وبالنهاية فإن هذه التحليلات الآتية من أكاديميات البحث الأدبي تنتهي إلى التركيز على التعاطي مع مدى الانسجام واحترام العمل السينمائي لاهتمامات المؤلف الأصلي والزمن الذي كان يعيشه.
ولا بد من التذكير هنا أنه منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى اليوم فقد ازداد بشكل غير مسبوق تنوع مصادر الاقتباسات السينمائية لوسائل روائية خارج نطاق الرواية والقصة بأشكالها التقليدية. ومن أهم الأمثلة في هذا المجال كتب الكوميكس (Comics) مثل «سوبرمان» و»باتمان» و»سبايدرمان» و»الإكس من» وغيرها، وألعاب الفيديو مثل «سوبرماريو براذرز» و»بوكيمون» وغيرها. وبالرغم من أن هذه الاقتباسات لم تستنفر الكثير من المناقشات التقليدية التي رأيناها وما زلنا مع الأعمال الروائية الأدبية «التقليدية»، خصوصا لجهة مواضيع «الإخلاص للنص» و»المشابهة» و»اللغة»، فإن تزايد هذه الاقتباسات أعاد التذكير بأهمية التعاطي مع موضوع الاقتباس في إطار التوسع الواضح في الممارسات الفنية «العابرة للنصوص» )intertext( وتداخلها وتفاعلها مع مكونات بعضها البعض إلى درجات غير مسبوقة سواء على مستوى الانتاج، «النص»، أو على مستوى أشكال التلقي والمشاهدة. وبطبيعة الحال، دفعت هذه المعطيات الجديدة باتجاه التعاطي مع موضوع الاقتباس السينمائي من قبل بعض الباحثين السينمائيين بتفاعل أكثر دينامية من ذي قبل.
فخلال الحقبتين الماضيتين خصوصا، ظهرت تغيرات في شكل التعبير عن التوجس التقليدي للمنظرين السينمائيين من التعاطي مع موضوع الإقتباس السينمائي. إذ يتكلم روبرت ستام (Robert Stam, 2004) عن التعابير اللغوية نفسها التي اقترن بها تاريخ تناول موضوع الاقتباس السينمائي مثل «عدم الإخلاص» )Infedilety(، «الابتذال» )Vulgarization(، «الخيانة» )Betrayal(، «التشويه» ion)Deformat(، و»الانتهاك» )Violation(، مشيرا إلى كونها تعابير من العصر الفيكتوري جري تدويرها في إطار عدم توفر أدوات ومنهجيات قادرة على التعاطي مع اختلاف الوسيط التعبيري الخاص بالسينما. وفي إطار منشأ توجهاته النظرية في «الدراسات الثقافية» (Cultural Studies) ، نلحظ في توجه ستام اهتماما بالتعاطي مع موضوع الاقتباس في اطار أقل تشنجا، على الأقل لناحية تركيزه على دراسة الموضوع في أطر تاريخية «عابرة للتخصص» )interdisciplinary( أكثر من الاعتماد على الجدل التوصيفي الذي كانت بعض الدراسات السينمائية السابقة تغرق به.
المدرسة الأخرى الهامة التي طبعت التوجهات العامة للنظرية السينمائية في العقدين الأخيرين لجهة التعاطي مع موضوع الاقتباس السينمائي، ارتبطت بنظرية «الاداء» )Performativity(، وبشكل خاص مع أعمال جوديث باتلر (Judith Butler التي تركز على وجه آخر للموضوع تصبح من خلاله القصة الأدبية والاقتباس السينمائي نوعين مختلفين من (الأداء) واحدا لفظي وآخر بصري/ لفظي/ وسمعي. وتقول باتلر انه كما لا يمكن تقييم «الأداء اللفظي» )Performance Utterance( على أساس الصحة أو الخطأ. فكما لا يقلد الأدب الأداء الذي تقوم به شخصيات القصة، بل يعيد تقديمها أدبيا، فإن الاقتباس السينمائي هو مجرد إطار آخر قوامه سمعي، لفظي، بصري خاص به ويعيد رسم الأداء الأصلي بأداء من نوع آخر مختلف جذريا. فكل نص هو عبارة عن نسيج خاص له طبيعته المميزة وتركيبته وجينيولجيته التي لا يمكن مقارنتها بالأشكال الأخرى إلا على سبيل التنويه.
آفاق لاعادة تمركز الاقتباس في الدراسات السينمائية
إذا نحن اليوم أمام عدد من الأسئلة:
* هل نحن في بداية افتراق جذري بين منهجين يفصل بشكل مطلق بين منهجية النظرية والدراسات السينمائية ومنهجية دراسات الأدب والدراسات المقارنة فيما يتعلق بموضوع الاقتباس السينمائي؟
* ما هو هدف او أهداف دراسة سينما الاقتباس، وهل هذه الأهداف ما تزال ذات مغزى أو ذات أهمية؟
* هل يمكن الاستمرار في التعامل التقليدي مع الاختلاف بين النص الأدبي والنص السينمائي في الوقت الذي تزداد وتتنوع فيه وبشكل مذهل أطر وأنماط وسائل التلقي التقني لكلا النصين، حيث يمكن قراءة النص الأدبي اليوم عبر نفس تقنية مشاهدة الفيلم، أي على الكمبيوتر والآي باد، والآي فون، وما شابه؟ وحين لم يعد هناك بالأصل وجود إلا «لنصوص افتراضية» )hypertext( لنصوص أصلية، سواء مكتوبة أو سينمائية؟
السؤال الوحيد الذي يمكن الإجابة عليه بثقة في هذا الوقت هو أن الاقتباس ما يزال يمثل أحد الأركان الأساسية الهامة والغنية للسينما وهذا ما نراه ربما أكثر من قبل من خلال نظرة سريعة للسينما اليوم. بيد أننا أصبحنا اليوم أيضا أكثر دراية، كما يجب أن نكون، بأن الاقتباس السينمائي لم يعد موضوع نص ومقارنة بين نصين، وأصبحنا أكثر انفتاحا على إمكانيات توسيع منهجياتنا لتشمل أيضا دراسة عملية الاقتباس حتى في نسخته المكتوبة التي لا غنى عنها، وهي السيناريو. والسيناريو نفسه ليس إلا الباب الأول لمسار طويل ومتحول يتضمن إعادة التأليف والكتابة بالتناغم مع عمليات: جذب المنتجين، والمخرج، والممولين. وهنا تجري عملية إعادة الكتابة إلى أن يصبح النص الأصلي في معظم الحالات نصا غريبا قد لا يكون له علاقة حتى بالسيناريو نفسه. فالواقع اليوم يدفعنا إلى بناء مفاعيل لتطوير البحث والنظرية السينمائيتين كتخصص باتجاه مزيد من التنوع في المواضيع وفي أبعادها ليس فقط في مجال النص والتلقي والمشاهدة، بل أيضا باتجاه توسيعها في أطر ديناميات تكوين النص المستبق ضمن عملية تطوير الإنتاج نفسها. فالعمل البحثي في إطاره الواسع لا بد وأن يكون جزءا من منظومة معرفية تقارب المؤسسة السينمائية بكل عناصرها (إنتاجية، توزيعية، دعائية، تقنية) بالإضافة للنص الفيلمي (وفي حالة الاقتباس النص الأصلي). وبهذا الاطار يصبح السؤال الاهم: كيف أصبح الفيلم مكونا بنيويا أساسيا في ثقافتنا الشعبية؟
والواقع أن التخصص والبحث السينمائي ما زال يتخبط في ما يبدو ظاهرا في أولويات متناقضة، فعلى الرغم من أن التوسع في مجالات البحث السينمائي في العقود الثلاثة الأخيرة فتح المجال لاستيعاب توجهات جديدة، فإن الغالبية (وحتي في شكل تعاطيها مع فكرة الأيديولوجيا في السينما) ما تزال تركز على قراءة النص بعيدا عن إطاره التاريخي والوضعي الأوسع. وأكثر من هذا، فبالرغم من أن العديد من القراءات المتنوعة للسينما قد وسعت وكانت ناجحة في التعاطي مع الأطر الاجتماعية للنص، بما في ذلك الأشكال التي يتفاعل من ضمنها النص مع المشاهد، فإن هذا لم يمنع من تعميق الهوة القائمة بين الدراسة السينمائية والعلوم الاجتماعية الأخرى وكذلك العلوم الإنسانية والأدبية.
فالنظر إلى السينما «كمسار إجتماعي» )social process(، وبالتالي تقييمها على أهميتها بناء على الدراسة التجريبية للمكونات الأوسع للمسار السينمائي، ما زال يوضع لعنصر «مناقض» )antithetical( أو بالحد الأدنى أقل أهمية وكإطار «مواز» )parallel( للتعاطي مع «النص» السينمائي حتى بمفهومه الأوسع شمولا. وهنا أشير الى مساهمات مدرسة برمنجهام البريطانية بشكل عام، وبشكل خاص مساهمات ريموند ويليامس (Raymond Williams) لأهميتها في التنظير لإعادة تمركز الأبحاث المتعلقة بالاقتباس السينمائي ليس فقط في مجال الدراسات السينمائية، بل أيضا ضمن البحوث الاختصاصية الأخرى في العلوم الإنسانية. فويليامس يعترف بضرورة ما يدعوه «التجزئة المؤقتة» )temporary isolation( لمواضيع متخصصة ضمن الأطر العامة للبحوث الثقافية، وذلك عبر بناء أولويات لتلك البحوث. لكن الأهم من هذا هو أن وليامس يرسم أيضا لوحة «علم اجتماع للثقافة» (sociology of culture) التي تعتمد على الوحدة المعقدة للعناصر التي يجري تفصيلها أو تجزئتها بهدف البحث المتخصص.
هناك تاريخ طويل لدراسة السينما في تخصصات الأدب والعلوم السياسية وعلوم الاجتماع، والفلسفة والتاريخ الذي لا بد أن يتطور في المرحلة المقبلة. في هذا الإطار تصبح دراسة السينما كنص ثقافي إمتدادا حقيقيا لعناصر اجتماعية وتاريخية متفاعلة (interactive). وتصبح دراسة أي «نص» سينمائي مكانا للتنقيب ion) xcavate(e ولفك عقد )untangle( العناصر الجدلية المعقدة والمترابطة التي تتمخض عن هذا النص، وتلك التي يتفاعل معها على أرض الواقع الإجتماعي والتاريخي. وكذا يصبح الفيلم نفسه سواء كنص سينمائي (مستقل) أوكنص سينمائي مركب (كاقتباس) شاهدا على جدليات متقاطعة عند الباحث والمنظر السينمائي.
مراجع مباشرة وإضافية للبحث
– BENJAMEN, Walter. «The Work of Art in the Age of Mechanical Reproduction”, Film Theory and Criticism, edited by Gerald Mast, Marshall Cohen, and Leo Braudy, New York: Oxford University Press, 1992, pp.682–89.
– BORDWELL, David. “A Case for Cognitivism: Further Reflections”, Iris, (Summer 1990), no. 11, pp. 107-112
– BUTLER, Judith. Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity. New York: Routledge, 1990.
– EISENSTEIN, Sergei., Film Form: Essays in Film Theory, New York: Hartcourt, 1949, Translated by Jay Layda.
– JAMESON, Fredric. Postmodernism, or, the Cultural Logic of Late Capitalism. Durham, N.C.: Duke Univ. Press, 1994
– SARRIS, Andrew. “Notes on the Auteur Theory in 1962”, Film Theory and Criticism, 1974.
– http://alexwinter.com/media/pdfs/andrew_sarris_notes_on_the-auteur_theory_in_1962.pdf
– STAIGER, Janet. Interpreting Films: Studies in the Historical Reception of American Cinema. Princeton, JJ: Princeton University Press, 1992.
– STAM, Robert and Allessandra Raengo (eds.). Literature and Film: A Guide to the Theory and Practice of Film Adaptation, New York: Wiley-Blackwell, 2004.
– TRUFFAUT, Francois. “A Certain Tendency of the French Cinema”, in Bill Nichols (ed.), Movies and Methods, Berkley: University of California Press, 1976.
– https://tcf.ua.edu/Classes/Jbutler/T440/TruffautInCahiers31/Truffaut%20A_certain_tendency_translated.pdf
– WILLIAMS, Raymond. Marxism and literature. London: Oxford Univ. Press. 1977.
– —–. Problems in Materialism and Culture: Selected Essays, London: New Left Books, 1980.
– VERTOV, Dziga. Art Council of Great Britain’s Art in Revolution: Soviet Art and Design Since 1917, London: Hayward Gallery, 1971, pp. 94–96.
مالك خوري *