يُمَثِلُ إنتاج الذات خلال عملية الاقتباس نموذجاً خاصاً لحالات «عبر الوسائطية» أو «التواسط» التي تتجلى في المنتجات الثقافية، لا سيما السمعية/البصرية منها. المدخل لفهم ماهية التواسط هو مفهوم «البين/بين» الذي يستخدمه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز(Gilles Deleuze) في كثيرمن أعماله، دون تفصيل دقيق لتعريف المفهوم. بإيجاز شديد: التواسط هو حالة «بين/بين».1
التواسط بين/بين
في عالم الاقتباس السينمائي من الأدب، ربما كان أبسط مثال على «البين/بين» هو حالة ذات، أو شخصية روائية، نرى تجليها كظل/صورة لجسد ممثل أوممثلة على الشاشة. فتلك الذات السينمائية في موقع يسهل تعيينه على نحو شامل. تتعين صورة الممثل(ة) على الشاشة، لكن الذات أو الشخصية الفنية واقعة بين ورق الرواية المطبوعة، وكلماتها، وتخيلات القارئ عنها، ونيجاتيف الفيلم، ونسخته البوزيتيف المعروضة على الشاشة وجسد الممثل(ة) أمام الكاميرا. شخصية مثل بطلة رواية «وا إسلاماه» لعلي أحمد باكثير وبطلة فيلم «واإسلاماه» للمخرج بومبا، المقتبس عن الرواية ذاتها بالعنوان نفسه، تمثل حالة الذات في عملية التواسط وفي منطقة البين البين. هكذا فإن شخصية جلنار، التي يتبدل اسمها إلى جهاد، والتي تجسدها على الشاشة النجمة المصرية لبنى عبد العزيز في «وا إسلاماه»، تقع «بين بين» كل هذه التجليات لفكرة الذات وجسديتها.
فـ«البين/بين» هو حالة، وليس موقعاً متعيناً بين نقطتين محددتين في مساحة مادية أو مجازية. و«البين/بين» ليس نقطة بين نقطتين أخريين في عالم الهندسة، ولا مساحة لها موقع محدد في الفضاء المادي أو في الفضاء بوصفه مجازاً معرفياً، ولا هو الباء في موقعها بين الألف والتاء في الترتيب الأبجدي. «البين/بين» هو حالة أو وضع أو موقف ليست له إحداثيات ولا يتحدد أو يتعين، وإنما يتم إدراكه ذهنياً فقط. أقرب تشبيه لحالة البين/بين هو العملية الكيميائية. كلنا يعرف أننا إذا خلطنا الحمض بالمعدن، تولد عن العملية ملح. هذه العملية الكيميائية تشبه التوسيط، أي الانتقال من وسيط إلى وسيط، أو – امتداداً للتشبيه الكيميائي الذي أستخدمه: التوسيط يشبه العملية التي ننتقل بموجبها من حالة وجود مادتين متمايزتين، إلى حالة اختلاط بينهما، إلى حالة تولد جديد عنهما وهو الملح. نفهم العملية ذهنياً، لكننا لا نستطيع أن نضع يدنا أو أعيننا على اللحظة التي يتم فيها تحول المعدن والحمض إلى ملح. إلا أن تلك اللحظة يمكن تصورها ذهنياً، وهذه اللحظة أو تلك الحالة أشبه بحالة التواسط: بين/بين، بين المعدن والحمض وبين المعدن+ الحمض والملح. والفارق بين التوسيط والتواسط هنا هو أن التوسيط -نظرياً- عملية انتقال من وسيط أول إلى وسيط ثان، بينما التواسط هو حالة «البين/بين» بين وسيطين أو أكثر.
لعل أقرب مفهوم في التراث العربي لفكرة «البين/بين» هو المفهوم القادم من علم الكلام عن المنزلة بين المنزلتين، حيث يمكن تحديد منزلة تقع بين منزلة المؤمن ومنزلة الكافر، وهي المنزلة أو المنطقة التي يحتلها الفاسق مرتكب الكبيرة. لكن تظل صورة تلك المنزلة قاصرة عن الإحاطة بفكرة البين/بين لأنها تشبه الدرجات الرمادية بين منزلة الأبيض ومنزلة الأسود، اي أنها تشير لطيف من الألوان الرمادية بين نقطتين محددتين.
أما المفهوم الدارج في العامية المصرية: «بين البينين» فيكاد يقترب من المفهوم الدولوزي. في مسرحية فؤاد المهندس الكوميدية «أنا وهو وهي»، وجه المحامي -الذي يلعب دوره فؤاد المهندس- إلى الخادمة زينب سؤالاً عن شخصية العشيق المفترض الذي رأته مع زوجة الفتوة – التي تلعب دورها شويكار- وهل كان لذلك العشيق المزعوم شارب أم لا. أجابت شخصية زينب قائلة: «زي ما تقول كده: بين البينين». أي أن العشيق شخص لا يمكن تعيينه: لأنه على تلك الحالة التي يمكن وصفها بالكلام وتخيلها، لكنها حالة غير موجودة عياناً: حالة الرجل الذي هو «بين/بين»: بشارب وبلا شارب وما بينهما. «موقع» التواسط هو هذا «البين بين».
أتمثل فيما يلي ثلاثة تعريفات/حالات للتواسط:
1 -حالة تنقل عمل معين عبر وسائط مختلفة، على سبيل المثال في حال اقتباس فيلم (وسيط سينمائي) عن رواية (وسيط طباعي). خلال عملية اقتباس كهذه، تتعرض الذات لتحولات تفرضها طبيعة الوسائط المادية. مثلاً، يمكن أن تتشكل ذات البطل(ة) بدقة من خلال وصف استبطاني لنفسية الشخصية في رواية، بينما تتولى الصورة الفيلمية تشكيل الذات نفسها في عمل سينمائي.
2 -حالة اللايقين التي تنشأ في الفاصل بين الذات والجسد الذي يمثلها في وسيط درامي، على سبيل المثال في حال التباس الحدود بين الشخصية الورقية والسينمائية وجسد الممثل(ة). مثلاً، قد يخلط المشاهد بين بطل(ة) رواية أو فيلم سينمائي مقتبس عنها وبين جسد الممثل(ة) الذي يؤدي الدور.
3 -حالة تحدي دور المؤسسات في التوسط بين الذات ورغبتها خلال عملية الإنتاج الثقافي، على سبيل المثال في حال روايات وأفلام تقاوم محورية الدولة كحافظ للأوضاع الاجتماعية وللقوانين التي تنظم سعي الذات نحو رغبتها. مثلاً، في الأفلام السينمائية النادرة التي تنقد فكرة ضمان الدولة لرفاهية الفرد أو حريته، قد تتشكل ذات البطل في منطقة بين- بين في الشرخ القائم بين مؤسسات الإنتاج السينمائي والفيلم المتحرر، وبين الدولة المركزية الأبوية وصحراء الحرية التي لا حامي لها.
جوهر الاقتباس ذاته يغرينا بدراسة الحالة الأولى، بما أن الاقتباس يعني عادة تحويل عملٍ كلياً أو جزئياً من وسيط إلى آخر. لكني أقترح تأمل الحالتين الثانية والثالثة نظراً للقلة النسبية للأبحاث التي تفحص البعد السياسي للرغبة وللجسدية عبر الوسائط.2
الرواية بين جهاد ولبنى
أركز تحليلي فيما يلي على تجربة «وا إسلاماه» كنموذج تطبيقي للقضايا التي يثيرها تجسد الذات في حالة التواسط، خلال تحول المنتج الثقافي من رواية إلى فيلم بالعنوان نفسه، دون التوقف عند تحولات شخصية «جهاد/جلنار» وتجسدهما عبر جسد النجمة لبنى عبد العزيز، بين رواية المؤلف علي أحمد باكثير وفيلم المخرج إينريكو بومبا. بل أركز على التعينات الملتبسة للذات الأنثوية الفاعلة بين شخصية جهاد/جلنار الورقية، الضحية الدائمة، وجسد لبنى عبد العزيز المتحرر نسبياً في مصر الستينات في مرحلة ما بعد الاستعمار، وشخصيتها الفيلمية التي تحمل في اسمها ذاته مفهوم الجهاد الإسلامي. كما أناقش المفارقة بين خطاب الدولة العروبي العلماني، وبين تأكيد الفيلم على مفردات دينية تبدو لنا اليوم منتمية لخطاب نقيض. تتعين هذه المفارقة في جسد النجمة التي يشكل تاريخها السينمائي المتخيل تمجيداً قومياً قُطْرِياً-مصرياً لتحرر امرأة الطبقة الوسطى كما تشكلت ذاتها في الفضاء العام بعد الحرب العالمية الثانية.
«وا إسلاماه» كفيلم وكرواية جزء من التراث الثقافي، الأدبي والبصري، للعرب المحدثين. يعرض الفيلم سنوياً على شاشات التلفزيون في المناسبات الوطنية ولعقود طويلة كانت الرواية مقررة على طلاب المدارس في مادة القراءة. مفهوم أن موضوعها العام هو حلقة من حلقات الفخر العربي باللحظات المشرقة في تاريخ العرب والمسلمين في العصور الوسطى. فاللحظة القوية في الرواية والفيلم هي لحظة تصدي البطل قطز للغزو المغولي لمصر وفتكه بجيوش التتار في موقعة عين جالوت في القرن الثالث عشر. وفي كل لحظات حياته من عزة أو انكسار، تصاحبه حبيبته جهاد، منذ أن كانا طفلين من أمراء آسيا المسلمة، وتحديداً مملكة خوارزم التي تقع في أفغانستان اليوم، ومنذ أن كان اسمهما محمود وجلنار، قبل أن يتغير الاسمان إلى قطز وجهاد، بعد نكبة حلت ببيت ملكهم.
تعرض الرواية بتفصيل لصداقة الطفلين، ثم تحول الصداقة إلى حب مراهقين، ثم توثق العلاقة بينهما لتصير غراماً عندما يبلغان سن الشباب. ويتوازى دائما الحب بينهما مع خطاب عن ضعف المسلمين بسبب تنافسهم وغياب الوحدة بينهم، مما يجعل الرابطة بين الحبيبين عوضاً عن غياب روابط سياسية إقليمية أكثر رحابة. يفترق الحبيبان حين يقعان في الأسر ويتم بيعهما كعبدين إلى نخاسين مختلفين. لكن قطز يصبح مملوكاً من ضباط أحد كبار أمراء المماليك ويبحث عن جهاد حتى يجدها في حريم السلطان. وتشاء الظروف أن تؤدي الصراعات على الحكم إلى سلسلة من الاغتيالات تجعل قطز هو المملوك الأكثر تأهلاً لتولي عرش مصر. فيتبوأ قطز العرش وإلى جواره –بمسافة- حبيبته جهاد، ويقود الجيش لطرد المغول.
رغم إفراد الرواية مساحات متقاربة لقطز وجهاد، إلا إن الإيجابية والحركية دائما من نصيب الرجل، قطز. أما في الفيلم، فجهاد هي أيضاً موضوع غرام قطز ومحرك شوقه، وتلعب دور المؤازر المحتضن المساند بينما قطز هو الفاعل والحامي. لكن نظراً لحضور لبنى عبد العزيز البصري بجمالها الأخاذ، ولتمثيلها لجيل الشباب من الأمة في لحظة جلاء الاستعمار (ظهر الفيلم بعد تسع سنوات فقط من حركة يوليو 1952 في مصر)، اكتسبت شخصية جهاد مكانة خاصة على الشاشة. يزيد من هذا أن رمزية اسم الشخصية «جهاد» كانت مفهومة في ستينات القرن العشرين على أنها الجهاد الوطني ضد الاستعمار، وأن الفيلم قد أفرد مشهد النهاية لجهاد وهي تنقذ راية الجيش المصري هاتفة: «وا إسلاماه»، بحيث أعادت بث الحماس في الجيش المنكسر، فما يلبث الجنود المصريون أن يستعيدوا زمام المبادرة ويختموا المعركة بانتصار ساحق على الغزاة.
قد يتساءل القارىء لماذا اخترت لبنى عبد العزيز نموذجاً للنجمة التي مثلت فكرة تحرر المرأة واستقلال الوطن ومجاز المرأة/الوطن، رغم أنها مثلت ما لا يزيد عن عشرين فيلما (18 تحديداً)؟ فهناك من هن أولى منها من نجمات السينما الخالدات في زمن الأبيض والأسود مثل فاتن حمامة أو شادية. وكلتاهما ظهرتا في تجليات عديدة للفتاة العاشقة من مختلف الطبقات داخل المدينة وداخل القرية، والتي تمثل باختيارها العاطفي فكرة التحرر والإرادة الفردية الحداثية. وكلتاهما جسدتا في لحظة ما صورة المرأة/الوطن. مثلاً، فاتن حمامة كانت الفتاة الشابة التي تقاوم الاستعمار والأمة الفتية كلها عشية استقلال الوطن في فيلم «لا وقت للحب». وشادية جسدت شخصية «فؤادة» التي تستخدم إلى اليوم كمجاز لمصر حين تقاوم استبداد الحاكم، في فيلم «شيء من الخوف». وكلتاهما أصبحتا نجمتين عربيتين تتمتعان بجماهيرية طاغية قبل ظهور لبنى عبد العزيز على الساحة الفنية.
لكن لبنى عبد العزيز تبدو لي أكثر نجمات السينما المصرية ارتباطاً بالبين/بين بسبب مفارقة ارتباطها بفكرة الجهاد التي تبدو لنا اليوم قرينة أكثر الأفكار السياسية تطرفاً، وتبدو حاضنتها الاجتماعية أكثر البيئات تزمتاً، بينما – ويا للمفارقة – لم تبرز لبنى عبد العزيز مفاتن جسدها بقدر ما فعلت في «وا إسلاماه» وربما أكثر مما فعلت في فيلم «عروس النيل». هذا التراوح العنيف بين إيروسية قوية وخطاب تم تحويره لصالح اليمين المتطرف (بحكم مصادفة اسم الشخصية: جهاد)، بين محدودية شخصية بعينها ورحابة الأليجورية التي تقترن شخصية المرأة المحورية بصورة الوطن ككل، وبين أقطاب متناقضة أخرى، هو تراوح يجعل لبنى عبد العزيز الأكثر جدارة بأن تمثل دور الجسدية السياسي في التواسط.
التواسط، الجسدية، الافتراضية
في فيلم «وا إسلاماه» المأخوذ عن الرواية بالعنوان نفسه، نحن بإزاء عملية تحويل للمادية والجسدية إلى افتراضية/احتمالية مستمرة. جسد السيدة لبنى عبد العزيزفي حالة من البين/البين المتوالي: فالشخصية الورقية تصبح «أصلاً» لجسدها بأثر رجعي، ثم إن جسد لبنى عبد العزيز المادي يتحول إلى وسيط وأداة في عملية التمثيل، ثم يتحول إلى جسد افتراضي لأن المشاهد لا يراها بشحمها ولحمها، لكن يرى جسدها الاحتمالي، أي صورة جسدها على الشاشة عبر وساطة كاميرا التصوير، ثم عبر وساطة آلة العرض. أضف إلى هذا أن الشخصية التي تلعبها لبنى هي مزدوجة بالضرورة لأن فيلم «وا إسلاماه» قد تم تصوير نسختين منه: الأولى عربية بعنوان «وا إسلاماه»، والتي يعرفها المشاهد العربي لاسيما بفضل تبني التلفزيون المصري لها عبر العقود؛ والثانية نسخة إيطالية بعنوان «سيف الإسلام»، يقوم ببطولتها ممثلون إيطاليون. أي أن للبنى قرين إيطالي، يزيد من «بين/بينيتها».
ثم إن حالة البين/بين حالة تاريخية ذات بعدين. أولاً، ببساطة، إن المشاهد الذي يرى لبنى عبد العزيز في فيلم «وا إسلاماه» عام 1961 يرى جسدها الاحتمالي على الشاشة، لكنه يرى أيضاً جسداً افتراضياً أعلى، يتكون من مجموع أجساد لبنى الافتراضية في أفلامها السابقة. أي أنه يربط بين لبنى في «وا إسلاماه» ولبنى في «الوسادة الخالية» (1957) و «هذا هو الحب» (1958) و»أنا حرة» (1959). تنوعت أدوار لبنى عبد العزيز بين أدوار الفلاحة وبنت المدينة، لكن لا شك أن أدوارها المحفورة في الذاكرة البصرية مرتبطة بصورة ابنة الطبقة المتوسطة المدينية في شرائحها المختلفة والتي تجلت في مجموعة من الأفلام التي كتب قصتها إحسان عبد القدوس وأخرجها صلاح أبو سيف.
يجوز لنا إذن أن نفترض أن من ينظر إلى لبنى في «وا إسلاماه» قد يشعر باستغراب/اغتراب حيال انتقالها من جسد الفتاة المدينية الحديثة إلى ماضي القصور في العصور الوسطى وإلى الزمن الخيالي/الافتراضي الذي تتجمع فيه تصورات الذاكرة عن الأحداث التاريخية الكبرى. وقد يضع المشاهد لبنى عبد العزيز في «وا إسلاماه» في متوالية تمتد باتجاه عكسي من حداثة الخمسينات إلى «أصول» هذه الحداثة في معركة عين جالوت. بمعنى أن المشاهد قد يصدق الحكاية المضمرة التي أنتجتها الناصرية، والتي بموجبها نعتبر أن تصدي قطز سلطان مصر للمغول وافتتاحه بانتصاره هذا عهداً من التقدم الاقتصادي، هو أصل لحدث تاريخي حديث: عندما تصدى ناصر رئيس مصر لعدوان فرنسا وإنجلترا وإسرائيل على قناة السويس، مفتتحاً بذلك عصراً من التنمية الاقتصادية والتصنيع. في نسيج تلك الحكاية، تظل لبنى تجلياً للمرأة الحديثة القوية التي تشارك الرجل في صنع الحداثة سواء كان ذلك في القرن الثالث عشر أو القرن العشرين.
ثانياً، هناك حالة بين/بين تاريخية بأثر رجعي، بمعنى أن مشاهد «وا إسلاماه» اليوم، يرى لبنى عبد العزيز في إطار جسد أعلى أكثر تعقيداً لأن «مفردات هذا الجسد» تضم -إلى جانب الأفلام السابقة- أفلاماً تالية من حيث تاريخ الإنتاج، لكنها جزء من ريبرتوار التلفزيون المصري: مثل «غرام الأسياد» (1961) و «آه من حواء» (1962) و«رسالة من امرأة مجهولة» (1962) و»عروس النيل» (1963) و «أدهم الشرقاوي» (1964). تظل لبنى مرتبطة بجسد المرأة الناصرية حاملة الاستقلال الوطني بالتوازي مع تحرير المرأة ومشاركتها في بناء الحداثة برعاية الدولة وبحماية الذكر واسع الأفق. ليست لبنى هنا بالضرورة ابنة القاهرة الحديثة، بل هي أيقونة تحرر المرأة واستقلالها النسبي، ومشاركتها في تحرير الوطن وسعيه للاستقلال، ضمن الخطاب القومي وأيديولوجية التحرر الوطني الناصرية.
مرة ثانية، تبدو لبنى عبد العزيز وكأنها تجسيد حرفي لخطابات ناصرية. من ناحية، بعد عودتها للتمثيل في القرن الحادي والعشرين، أدلت لبنى عبد العزيز في عام 2016 بحديث صحفي، صرحت فيه بالحرف الواحد: «أنا ناصرية الهوى» (3)3. بهذا ترفع النجمة كل التباس عن تفسير ميولها القومية ووعيها بالدور التاريخي الذي لعبته فنياً في الحقبة الناصرية. ومن ناحية أخرى، تبدو لبنى في متوالية تضم أدوارها في «أنا حرة» و«واإسلاماه» و«عروس النيل» و«أدهم الشرقاوي»: هي الجسد الافتراضي الأعلى للقومية المصرية ذات الأصول الفرعونية تارة (بأدائها دورهاميس في «عروس النيل»)، والقومية المصرية ذات الأصول الإسلامية/العربية تارة (بأدائها دورجهاد في «واإسلاماه»). كذلك تغذي لبنى عبد العزيز بناء الجسد الافتراضي الأعلى للقومية المصرية بتجسيدها لتضافر تحرر المرأة الاجتماعي (مثلما في فيلم «أنا حرة») وتحرر الوطن بمشاركة المرأة (مثلما في فيلم «أدهم الشرقاوي»).ففي المثالين الأخيرين، تجسد لبنى الأمة الشابة في مرحلة ما بعد الاستقلال. في «أنا حرة» هي الشابة التي يتشكل وعيها تدريجياً، ويتجلى سياسياً في تأييدها للحركة القومية المناهضة للاستعمار، ورغبتها في الخروج للعمل وللمجال العام واهتمامها بالعمل الصحفي. وفي «أدهم الشرقاوي» هي حبيبة البطل الشعبي الخارج على القانون التي تعيش إلى جواره لتؤازره وتنصحه وتخدمه بينما يتفرغ هو لصراعه مع ممثلي الاستعمار وحلفائهم في دوائر السلطة. أي أنها تجسد تجليات مختلفة ومتناقضة معاً لدور المرأة الحداثي في العالم العربي: المستقلة الخارجة للمجال العام، والمندمجة مع الرجل تساهم في مشروعاه التقدمية بوصفها شريكاً مؤازراً.
الدين والجهاد ومناهضة الاستعمار
معلم آخر من معالم البين/بين في حياة لبنى عبد العزيز الشخصية هو زواجها الأول من رجل ينتمي لديانة مختلفة عن ديانتها. تزوجت لبنى عبد العزيز من المنتج رمسيس نجيب في نهاية الخمسينات بعد أن انتهت من بطولة أول أفلامها، والذي كان من إنتاج رمسيس نجيب: الفيلم العلامة «الوسادة الخالية». وفي مطلع الستينات، حوالي وقت ظهور فيلم «وا إسلاماه» (الذي كان من إنتاج رمسيس نجيب أيضاً) وقع الانفصال بينهما. هنا نرى جسد لبنى سابحاً أيضاً في منطقة بين/بين بين المنطق الغالب في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة الذي يرفض زواج المرأة المسلم من رجل غير مسلم، وبين منطق حرية الأفراد الحديث في اختيار رفيق الحياة. ليس تاريخ لبنى عبد العزيز فريدا على هذا الصعيد. فالقصة الأشهر (والأسبق) لزواج ممثلة سينمائية مسلمة من سينمائي مسيحي هي قصة فاتن حمامة وعمر الشريف، الذي اعتنق الإسلام ليتمكن من الزواج بفاتن.
لكن المثير هو أن فيلماً بعنوان «وا إسلاماه» كان من إنتاج منتج مسيحي الأصول، وأن الفيلم يدعم نوعاً من القومية الإسلامية المعلمنة، بوصفها أصلا تاريخيا للقومية المصرية والقومية العربية تحت الريادة المصرية المعاصرة لزمن إنتاج الفيلم، لكن بطلته وتجسيد الجهاد/الكفاح التحرري فيه هي نجمة أقدمت في حياتها الشخصة على اختيار هامشي ألا وهو اختيارها للزواج من شخص لم يكن ينتمي أصلا لجماعتها الدينية.
لم يكن غريباً على مسامع الناس في ستينات القرن العشرين أن يستخدم مفهوم «الجهاد» بمعنى معلمن أي بمعنى النضال والكفاح في إطار حركة التحرر الوطني ومناهضة الاستعمار، دون أن يكون للمصطلح بعد ديني إلا من حيث الأصول التراثية لهذا المصطلح. وعليه كثر عدد الطفلات والأطفال المولدين في الخمسينات والستينات ممن حملوا أسماء «جهاد» و»نضال». لذلك لم يكن بمستغرب على مشاهد السينما في عام 1961 أن يرى شخصية « جهاد/جلنار» في رواية «وا إسلاماه» وقد تحولت إلى «جهاد» التي لعبت دورها لبنى عبد العزيز في الاقتباس السينمائي لرواية باكثير. المفارقة سوف تتجلى بعد نهاية عقد السبعينات في القرن العشرين، حين يتحول مفهوم «الجهاد» إلى مفهوم محوري لدى جماعات اليمين المتطرف، يهدف أول ما يهدف إلى طرد المسيحيين من البلاد ذات الغالبية المسلمة، بعد أن كان ذلك المفهوم مرادفاً من مترادفات «النضال» و«الكفاح» في إطار مناهضة الاستعمار.
الجهاد والعلم
في المشهد الأخير من الفيلم، يلعب صاري العلم والراية نفسها دوراً بصرياً ودلالياً محورياً. يستعيد الفيلم القصة التراثية عن الجندي الذي ظل يحمل الراية ويفديها بحياته حتى لا تسقط من يده وتدوسها الأقدام والسنابك. هنا يسقط حامل الراية فتسرع جهاد وتقبض على صاري العلم قبل أن يسقط العلم نفسه وفي لقطة متوسطة مقربة تهتف «إلى الجهاد يا مسلمين (هكذا في الفيلم)». يذكر المشاهد هنا المشهد السابق عندما توجه جهاد كلامها لقطز قائلة: «جهاد ده مش اسم، ده واجب».
يبدو صوت جهاد مسجلا في الاستوديو فتبدو هناك مفارقة قوية بين ملحمية المعركة في شريط الصورة وإحساس الاستوديو «المعلب، الصناعي» في شريط الصوت (ليب سينك)، مما قد يشجع مشاهد القرن الحادي والعشرين على الابتسام إحساساً بتلك المفارقة – رغم أن المشهد ما زال مؤثرا و«أصيلا» بالنسبة لمئات الآلاف من المشاهدين إلى يومنا هذا.
كذلك تبدو حركاتها وهي تحرك ذراعها في حركة نصف دائرية تشير تارة للجنود وتارة للعلم وكأنها تدعوهم بالإشارة للنظر إلى العلم (وبالتالي لحمايته) كوميدية أكثر منها مؤثرة وعاطفية مشحونة بالوطنية. تهافت حركات جهاد تنبع من المفارقة التقنية بين الصوت المسجل في الاستوديو والمشهد الحاشد الحافل بالمعارك، بالإضافة إلى أن حركات لبنى عبد العزيز في إشارتها للعلم الذي تحتضن ساريه تشبه حركات شارلي شابلن في تقطيعها و «تفصيلها» حين يشير إلى أداة يمسكها بيده في أفلامه الكوميدية الصامتة.
خاتمة:
هكذا تتجمع تجليات الشخصية وتجسدها السينمائي في منطقة البين/بين هذه: بين المصرية والعروبة والإسلام. فلبنى عبد العزيز بلهجتها المصرية وبجسدها السينمائي تغذي الفكرة القطرية المصرية، وكانت تستطيع أن تغذي الفكرة العروبية. لكن كتاب السيناريو والحوار اختاروا مفردات تراث الإسلام المعلمن من الحقل الدلالي للجهاد المفهوم بوصفه كفاحاً مسلحا للدفاع عن القطر ضد الغزو أو الاحتلال الأجنبيين.
لكن مرور الزمن يضيف بعداً مفهومياً جديداً لحالة البين/بين هذه. فمنذ الثمانينات ومفهوم الجهاد يرتبط بالإطار الفكري العام لجماعات اليمين المتطرف التي تستخدم مفردات الإسلام، مثل جماعة الجهاد الإسلامي. وبالتالي يحتار المشاهد العربي منذ ثمانينات القرن العشرين في تقييم موقف الشخصية التي تلعبها لبنى عبد العزيزفي الفيلم.
من ناحية أخرى تدرك العين المدربة أن الدولة المصرية الناصرية قد دعمت إنتاج أفلام كانت تسمى بالأفلام الدينية من «ظهور الإسلام» و«هجرة الرسول» إلى «الشيماء» و«فجر الإسلام»، سواء عن طريق مباشر بالإنتاج أثناء عهد القطاع العام السينمائي أو عن طريق الدعم المعنوي. «واإسلاماه» حلقة في هذه المتوالية التي كانت تدغدغ المشاعر الدينية لكن دائما بوصفها جانباً عاطفيا وأخلاقيا من عناصر الدولة القومة العلمانية الحديثة.
مفارقة مريرة أن اليوم يبدو فيلم «واإسلاماه» داعياً لأيديولوجية تهدف إلى هدم الدولة التي دعمت بنفسها الفيلم نفسه قبل عدة عقود بسببب تأكيده على وحدة الأمة الإسلامية – أي دعوته إلى قومية دينية – وبسبب وضعه موتيفة الجهاد (في الصراع على الأرض والسلطة) كمحوردلالي في الفيلم، يدور حول البطلة واسمها وفاعليتها طوال الأحداث. فالمعنى يتحول نتيجة لتغير سياق التلقي، والمفارقة تبدو وكأن الدولة الناصرية كانت تطلق النار على قدميها فتدعم فكرة الجهاد ككفاح ضد المستعمر، لتستولي عليها جماعات مناهضة للدولة وتجعل الجهاد فكرة للانقلاب على الدولة نفسها.
هوامش
1 – حول البين/ بين انظر مثلا كتاب جيل دولوز مع كلير بارنيه: حوارات
Gilles Deleuze et Claire Parnet. Dialogues. Paris. Flammarion. 1977
2 – لمزيد من التفاصيل عن هذه المفاهيم المختلفة للتواسط انظر رسالة وليد الخشاب عن المليودراما في مصر. الترحل والتواسط:
EL KHACHAB, Walid, Le mélodrame en Égypte. Déterritorialisation. Intermédialité, PhD. Université de Montréal, 2003.
3 – الحوار على موقع الرأي الإلكتروني بعنوان «لبنى عبدالعزيز للراي: أنا ناصرية الهوى» ومنشور بتاريخ 19 يونيو 2016 .
http://www.alraimedia.com/Home/Details?id=fe2e81f9-d7fb-408c-9bbf-6dd57b57e5cf
وليد الخشاب *