تنشغل الدراسة، منذ البدء، بالبحث في التجربة الشعرية للشاعر البحريني قاسم حداد، وذلك من منحيين اثنين؛ منحى ينطلق من قراءة الناقد صبحي حديدي المُثبتة في مقدمة الأعمال الشعرية للشاعر والموسومة بـ: قاسم حداد، نهر جنح ضد عادة الماء، ومنحى آخر يتّجه صوبَ أعمالِ الشاعر لاستخلاص بعضِ التصوّراتِ النظرية الرئيسة التي ترتكز عليها ممارستُه النصية.
إن مسعانا، من خلال هذه الدراسة، هو تقديم لمحة عامة عن التجربة الشعرية الغنيّة للشاعر وما تمتاز به من تحديث سواءٌ على مستوى الشكل أو على مستوى الخطاب، وهو تحديث سيدفعنا لاحقا إلى تناول بعض المفاهيم الرئيسة في الممارسة النصية للشاعر مثل: مفهوم اللغة ومفهوم الكتابة، فانطلاقا منهما سنرصُد بعض الجوانب التي يختص بها كل مفهوم على حدة، ما يجعل القصيدة، لدى قاسم حداد، لها طابعُها المتجدّد المُنفتح على تجاربَ إنسانية عالمية، كما لها انشغالُها التحديثي المستمر في البحث عن كتابة شعريةٍ جديدةٍ قادرة على خلخلة المفاهيم السائدة وتكسير الخطاب المألوف.
1. قاسم حداد والتجربة الشعرية
1.1 تحديث النص الشعري
عمل قاسم حداد، منذ إصدار ديوانه الأول البشارة سنة 1970، على كسر الهيمنة التي كان يحظى بها الخطاب الشعري التقليدي في منطقة الخليج. فشكّل هذا الكسر مفتتحا لخطاب شعري جديد يراهن فيه الشاعر، منذ البدء، على تجديدِ شكلِ القصيدةِ ما يجعل قاسم حداد يقاربُ النصَّ الشعريَّ بوعيٍ منفتحٍ على تجاربَ إنسانيةٍ برؤيةٍ شعريةٍ متجدّدةٍ وإبداعيةٍ في آن.
من هنا، خص الناقدُ صبحي حديدي الشاعرَ بقراءةٍ نقديةٍ جاءت مقدمةً لأعماله الشعرية والموسومة بـ قاسم حداد، نهر جنح ضد عادة الماء. وهي قراءةٌ تهتم بمقاربة الدور التجديدي والريادي للنص الشعري، الذي أسسه قاسم حداد مع شعراء آخرين في منطقة الخليج، فلا « يذكر اسم الشاعر البحريني قاسم حداد إلا وتقفز إلى الذهن قضيتان: ريادة وتجديد وتحديث النص الشعري الخليجي، وترسيخ القصيدة المنشقة عن الخطاب المألوف في تمثيل هواجس الشخصية العربية في الخليج ».(1)
لهذا التجديدِ إسهامُه في ترسيخِ القصيدةِ الجديدةِ وفق رؤية شمولية مرتبطة بقضايا إنسانية، ومنشغلة، في الآن نفسه، بجماليات الإبداع، التي تجعل من تجربة قاسم حداد تجربة ناضجة « أتاحت له صناعة وتطوير سلسلة أخرى من الوشائج العميقة بين جماليات الهواجس الإبداعية من جهة، وأبجديات الهواجس الإنسانية (على اختلاف أنماطها: السياسية والمعرفية والشعورية والميتافيزيقية) التي تكتنف برهة الإبداع، أو تحيط بها إحاطة تامة ».(2)
وفق ذلك، فتجربة قاسم حداد الشعرية يسكُنها همّ التجديد الشعري، الذي لا يخرج عن التجارب الشعرية الأخرى في المركز الشعري، بل يربط تجربته بها ويحاورُها في آن. إنها تجربة تتجاوز القصيدة التقليدية وتسعى، باستمرار، إلى تحديث النص الشعري، بما هو نص يخرج عن « أعراف الكتابة الشعرية التي كانت سائدة هناك (في الشكل، واللغة، والموضوعات)، أو بمعنى ربط التجارب الشعرية الخليجية بحركة / حركات التجديد الشعري التي كانت تعصف بـ (( المراكز)) الشعرية في بلاد الشام والعراق ومصر».(3)
ونتيجةً لهذا الخروج، تعدّ تجربة قاسم حداد امتدادًا للتجاربِ الشعريةِ الأخرى، مثل تجربة أدونيس(4). فانطلاقا منها ومن خلالها تبحث تجربته عن سمات القصيدة وخصائصِها المتفردة في المستويات الشكلية والإيقاعية والدلالية. وهو ما يجعلها تشكّل تفاعلا عميقا بين المركز الشعري والمحيط، حيث كان اعتماد قاسم على « شكل قصيدة التفعيلة منذ البدء، واستمراره في تطوير خياره هذا في الأعمال اللاحقة، ومقاربته المزجية بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر في أعماله اللاحقة ».(5) لهذا، فهي تجربة تسعى إلى خلق ممارسة نصيّة مسكونة بهاجس البحث عن كتابة شعرية جديدة لها قدرة على خلخلة المفاهيم السائدة وتكسير الخطاب المألوف، لتكشف عن انفتاحها الشعري الذي يغامر ولا يهادن.
وبناء عليه، فإن تجربة قاسم حداد الشعرية تعمل على مواجهة الضغوطات المفروضة، وذلك بخروجه عن أعراف الكتابة الشعرية في منطقته، كما قامت بتكسير المفاهيم السائدة على المستويين الإبداعي الجمالي، والثقافي السوسيولوجي، لتشكل، بذلك، مثالا منشقا لا يطمئن ولا يركن للمألوف. يكتب صبحي حديدي في هذا الصدد: « من الإنصاف الحديث هنا عن دور ريادي مزدوج: الأول جمالي – إبداعي يتصل بضرب المثال الشعري كتابة وخيارات، والثاني ثقافي – سوسيولوجي يتصل بضرب المثال الانشقاقي سلوكا وإيديولوجية».(6)
يتسم المثال الانشقاقي بوضع مفاهيم جديدة تخرج عن سلطة المفاهيم المألوفة وتتجاوز سلطة المؤسسة، وفي الآن نفسه تؤسس لـ « سياسة التجديد التي تتجاوز مهام تكريس التيار الأدبي، وتكتسب وظيفة ثقافية – سوسيولوجية عميقة الأثر حين تعبر حدود تطوير الأساليب والأشكال والأغراض، وحين تحض على المقاومة في النص الأدبي مثل المقاومة في السلوك الإنساني، وتدافع عن مقترحات جمالية وأخرى فكرية، وترسل جوهريا رسالة الانشقاق البنّاء: عن السائد في الكتابة (مبنى ومعنى، شكلا ولغة وموضوعات)، وعن السائد خارج الكتابة (النظام والمؤسسة، السياسة والأخلاق) ».(7)
بعد عرض صبحي حديدي للدور الريادي التحديثي والسياسة التجديدية التي انخرط فيها قاسم حداد إلى جانب شعراء آخرين، في البحرين، سواء في المجالين الجمالي الإبداعي أو المجال الثقافي السوسيولوجي، ينتقل “صبحي” إلى رصد ملامح هذا التجديد لدى قاسم حداد، الذي يكمن في تقديم بدائل جديدة تعمل على تحطيم القديم وتهدم كل أشكال التعبير الراسخة والأوهام المتصلة بالتراث عبر انتقاله المرن بين «شكل التفعيلة وشكل قصيدة النثر؛ كانت بمثابة أمثولات بادية للعيان تماما، حاضرة في مشروعات التحديث المحلية الشابة (الخليجية) ومتواصلة مع مشروعات التحديث العربية».(8)
لذلك، فنموذج قاسم حداد « نموذج تمثيلي بليغ على ما كان يعتمل في المشهد الأدبي الخليجي من شدٍّ وجذب حول (( سياسة)) قبول أو رفض الجديد ». هذا الشد والجذب جعل تجربة قاسم حداد تواجه صعوباتٍ بالغةٍ في بيئة أدبية محافظة « لم تكن مستعدة لإلقاء السلاح بسهولة، الأمر الذي استدعى المقاومة على الجانب الآخر أيضا ».(9)
عن المواجهة بين القديم والجديد يكتب قاسم حداد: « منذ وعيت انحيازي للكتابة الشعرية، جابهت ضغوطا – تكاد تصير تقليدًا وقانونًا – تفرضها المفاهيم السائدة التي تضع المضمون في المقام الأول عند النظر أو الحكم على القصيدة»(10). ويضيف متحدثا عن تجربته الشعرية، التي تؤمن بكتابة شكل جديد وليس بموضوع جديد: « وجدت نفسي مأخوذًا بأهمية أن تصير طريقة القول عندي تجليا ذاتيا وإبداعيا. وأعتقد أن الأمر كان مبكرًا لدي، فبعد صدور كتابي الأول (البشارة)، بدأت لدي مشاعر عميقة، بأن مبرر كتابتي للشعر هو أن أسعى إلى اكتشاف قول التجربة بشكل جميل، وأن أحاول قول ما أريد بشكل جديد في كل مرة، أي أن أقول ما أريد بشكل جديد في كل مرة، أي أن أقول شكلا جديدًا وليس موضوعا جديدا».(11)
لهذه الشهادةِ مشروعُها التجديدي، الذي يرتكز عليه الوعي الشعري عند قاسم حداد، حيث تظهر أن التجربة الشعرية، لديه، تعتمد الشكل أكثر من اعتمادها على “الموضوع”. فهي، بذلك، تقوم على مقاربة تتبنى، منذ البداية، كتابة التجربة بشكل ينأى عن النموذج الثابت وينشق، في الوقت ذاته، عن الأصول الموروثة.
لا يقف صبحي حديدي عند مشروع تحديث القصيدة، بل يذهب إلى ربط هذا المشروع بالعوالم التي تصوغ هذه التجربة وتجعل منها مطرًا ترتوي منه أرض القصيدة. يكتب :« ولم يكن عجيبا، والحال هذه، أن تكون عوالم قاسم حداد تموزية، إذا جاز القول، أكثر منها صحراوية؛ وأن يكون المطر في قصائده ليس ذاك الذي يسقي عطش الصحراء فحسب، بل ذاك المطر الآخر (السيّابي ربما) الذي يغسل أدران الأرض قبل أن يسبغ الألفة على الوجود».(12) ويورد صبحي مقطعا من قصيدة “الصليب والقمر” وهي من ديوان البشارة يستشهد فيها بتلك العوالم التموزية التي تجعل من المكان منطلقا للتجربة الشعرية الحديثة:
“غصتُ في الأرضِ إلى أطولِ شعرةٍ
وشربتُ المطرَ المخزونَ في الأرضِ إلى آخرِ قطرةٍ
فرأيتُ القمرَ الميّتَ مِن مليونِ عامْ
ذلكَ الغائبُ عنْ عالمِنَا الممْدُودِ في عينِ الظلامْ
قمرُ الدَّربِ الطويلْ
مثلُنَا كانَ غريبًا ذلكَ الطفلُ الجميلْ
تحْتَ جلدِ الأرضِ مصلوبًا على أبوابِ قبرِهْ “(13)
بهذا المعنى، تكون تجربةُ قاسم حدّاد الشعرية مسكونة بهَمِّ التجديد، الذي يرى إلى القصيدة بوصفها أرضًا للكتابة تستند إلى بُعدين: بُعدٌ جمالي لا يطمئنّ إلا إلى الأشكال الجديدة؛ وبُعدٌ إنسانيّ يعيد من خلاله كتابة بعض التجارب الإنسانية السابقة ليقدّمها من جديد. بهذين البعدين تأخذ القصيدة موقعَها الشعري الجديد وسط محيطها الصحراوي.
2.1 القصيدة والأصوات الشعرية
يعثر صبحي حديدي في الأعمال الشعرية لقاسم حداد على «تمثيلات مركبة، متعددة الأبعاد والدلالات، لشخصيات (14) مثل الجاحظ، والحجاج، وامرئ القيس، والخنساء، وأسماء بنت أبي بكر وشهرزاد. ولكننا نعثر أيضا على شخصيات وأساطير مثل سيزيف وبنلوب وغيفارا».(15)
إن هذه التمثيلات المركبة، كما وصفها صبحي حديدي، هي أصوات شعرية تمثل ذواتا متكلمة يتكلم بصوتها الشاعر، ويعبّر من خلالها عن رفضه للاستعمالات الشائعة، التي تقدّمها برؤية نمطية ركيكة، وهو في الآن نفسه يكتبها بطريقة جديدة لها دلالات واسعة ومتعددة الأبعاد. يفسر صبحي هذه الدلالات فيقول:
« وإذا كان قاسم حداد يبيح لشخصية تاريخية مثل عبد الله بن الزبير أن تلتحم (في الرمز والمعنى والحكاية أيضا) مع شخصية أدبية مثل فدريكو غارسيا لوركا، فلأن شخصية الحجاج أوسع من دلالتها المحلية، ويمكن لتوسيعاتها تلك أن تصل بين غرناطة والخليج. وبالقدر ذاته يمكن لـ «طفول»، الاسم المعرف والشخصية والرمز والأسطورة، أن تكون المناضلة، وطفلة الشاعر، وطفلة جبال الأوراس أو مخيم اللاجئين الفلسطينيين».(16)
ويورد صبحي، كشاهد على ما يقول، مقطعا شعريا لقاسم حداد من قصيدة “الحجاج يقدّم أوراق اعتماده”، من ديوان خروج رأس الحسين من المدن الخائنة. يكتب:
“أخبرونَا، هلْ وراءَ الشَّجرِ اليابسِ عصفورٌ
وَهلْ قبرٌ يُصلِّي؟
لوْ قرأتمْ سورةَ الحجَّاجِ، لوْ نافذةٌ مثلَ بلادِي
ثمَّ آهٍ
حينَ نامتْ طفلةٌ فِي دمِ لورْكَا
واستفَاقَ الزِّنبَقُ الوحشِيُّ فينَا
كُسِرَتْ قافيةُ السُّلطانِ بالوردِ الجَمِيلْ
كيفَ لمْ نعرِفْ حكَايَاهَا وَكيفْ
زَيَّنُوا كلَّ شريدٍ فِي بِلادِي بشذَاهَا
لمْ تصِرْ (كانتْ) ولكنْ أصبحتْ جرحاً بهيجْ
آهٍ يَا لُوركَا،
أغانيكَ تصيرُ الآنَ دفئاً
لِتُرابِ الحُبِّ في غَرْنَاطَةَ أو في الخليجْ.”(17)
استنادًا إلى هذا المقطع الشعري، يظل حضور هذه الأصوات لافتا في الأعمال الشعرية، ذلك أنها تمثل خروجا واضحا عن الموروث الثقافي السائد، الذي ينظر إلى هذه الشخصيات من زاوية ضيقة سطحية. إن قاسم حداد يكتب هذه الأصوات ويقدّمها من منطلقٍ شعريٍّ ذاتيٍّ يحاور فيه الذوات الأخرى ويسائلها، فيما هو يصغي إلى تجاربها الإنسانية العميقة بلذة الاستكشاف والتوغل في أسرارها.
لهذا يمكن القول إن هذه الذوات هي ذات الشاعر الرافضة لكل سلطة والخارجة عن كلّ ما هو نمطي. يكتب قاسم حداد موضحا: «عندما أكتب، إنما أصوغ حالات تبتكر إعادة إنتاج الذات كل مرة بشكل مغاير، وفي كل نص أبدو أمام ذاتي في شكل يحاول أن يتجاوزني. هذه الحالات ليس نزوعا نحو معنى واضح أو مكتمل في الأصل، بل محض غوايات تستدرج الروح كي تكتشف مقاربات متعددة. والاختلاف في كل مرة، في كل نص، من شأنه أن يجعل المعنى الغائب احتمالا ممكنا ».(18)
وإذا كان قاسم حداد قد استلهم من الأصوات الشعرية قصائده، فإنه يجعل من صوت “طرفة بن العبد” صوتا شعريا ذاتيا أسماه “طرفة بن الوردة”، الذي يكتب الشاعر به رؤاه، وينسج عبره تصوّراته للقصيدة، وفيه يقارب بين الزمن الماضي والزمن المعاصر. ويقف صبحي حديدي عند هذا الصوت الشعري الحاضر بقوة في كتابات قاسم الشعرية، فيقول: «ثمة، أيضا، شخصية «طرفة بن الوردة» التي ابتكرها قاسم حداد لتكون اسمه الأدبي المستعار تارة، أو قناعه الشعري الذي يتيح هامشا تراجيديًا في التعليق على عذابات الشخصية الخليجية من داخل الموقف أو من خارجه، أو في منزلة مركّبة تجمع المنزلتين معًا».(19)
ويصف صبحي حديدي طرفة بن الوردة، هذا الصوت الشعري المستعار، فيقول: «وطرفة بن الوردة هذا كائن الفقد الإنساني، ورجع الرثاء، وقيثارة الشجن الروحي العميق؛ ولكنه، في الآن ذاته، بيان المقاومة الثقافية والجمالية والأخلاقية، وفنّانها الذي يحفر عميقًا في الجسد والروح».(20)
ونورد هنا شهادةً مهمة لقاسم حداد يتحدث فيها عن “طرفة بن الوردة” ورؤيته له من زاوية تجربته الشعرية. وهي رؤية يتمثل، من خلالها، التراث من موقعه كشاعر. يكتب:
«طرفة بن العبد، التجربة الإنسانية والشعرية، كان منذ لحظتي الأولى معه، حاضرًا معي، مستمرًّا في التجلي والتبلور والاحتدام والتقاطع مع منحنيات تجربتي في الحياة والشعر. هكذا رأيت إلى التراث وأنا أعيد خلق طرفة كما يراه شاعر الآن. وعندما تجاوزت معطيات أخبار الأسلاف واخترقت مروياتهم، إنما كنت أتصل بالجوهر الأصيل لمخيلة الإنسان / الشاعر وهو يصوغ حياته ويكتب تاريخه، بمعزل عن الزمان والمكان بوصفهما الثابت المستقر. حيث التراث هو ما تكتبه أنت وليس ما تقرأه عن سابقيك. بهذا الشكل فهمت (الأصول) كدلالة، فشعرية الكائن هي الأصل الذي يشي بحياته وأحلامه»(21)
من هنا، يمثل طرفة بن الوردة، كما يرى ذلك صبحي حديدي «قرائن اللقاء بين الحرية الفردية للفنان والحرية الجمعية للأمّة».(22) ويضيف: «وما تمثيله البارع لحالة التماهي الوثيق بين الفنان والمعذّب والرائي والثائر، سوى خلاصة كبرى للموقع الفريد الذي شغله صانع القناع – قاسم حداد- في وجدان أهله: وجدان الكارثة مثل وجدان الأمل ».(23)
وفق ما سبق، فإن الأصوات الشعرية تتخذ بُعدا دلاليا لها شسُوعها في التجربة الشعرية عند قاسم حداد. ولا يقتصر حضورها على تقديم الصوت وترديد ما قيل عنه سابقا، بل يجعلها امتدادا للتجارب الإنسانية، التي يجب اكتشافها والتوغل في أسرارها لإعادة خلقها وتقديمها من جديد.
3.1 السمات الأساس للقصيدة
يلاحظ صبحي حديدي أن صوت الشاعر بدأ يستقل تدريجيا من عمل شعريٍّ إلى آخر، بالإضافة إلى ذلك فإن القصيدة لدى قاسم حداد بدأت تتميّز بسمات أسلوبية «تمنح القصيدة حركة دوامية ونموّا عضويا هادئا؛ ويقيم حوارات بين ضمائر المتكلم والغائب والمخاطب، بالمفرد وبالجمع؛ ويبدّل التفاعيل داخل القصيدة الواحدة على نحو سلس متّسق أحيانا، ومتقطّع خشن الوقع أحيانا أخرى؛ ويضمّن الكتلة التفعيلية مقاطع نثرية مفاجئة؛ ويترك للغة أن تسترسل في ما يشبه الطواف اللفظي الحر؛ ويمزج في القصيدة الواحدة بين التركيب الدرامي – الحواري والتركيب الغنائي ذي الضمير المنفرد ».(24)
تلك أهم السمات التي انطبعت بها القصيدة في التجربة الشعرية، وتلك هي فرادة الممارسة النصية التي استخلصها صبحي حديدي من أعمال قاسم الشعرية. وهي سمات مبنية على الانطباع الذاتي للناقد القائم على الملاحظة التي لا تخضع لمعايير علمية مضبوطة بقدر ما تخضع للإنصات والتأمّل. وأما على مستوى”موضوعات” القصيدة فيقول عنها : «أما موضوعات قصائده فقد خرجت، مرّة وإلى الأبد في الواقع، عن تلك النبرة الخطابية الحارّة التي طبعت مجموعته الأولى، ومالت أكثر فأكثر إلى التمحور حول الرؤى الحلمية والصوفية التي تتشكل استنادًا إليها عوالم طرفة بن الوردة، ومنظورات رثائه لعصره، وتحوّلاته الميتافيزيقية في الزمان والمكان ».(25) وكاستدلال على ذلك يورد صبحي حديدي مقطعا شعريا من قصيدة “غنغرينا . وأول الماء حلم” وهي مثبتة في المجموعة الشعرية الدم الثاني. يكتب قاسم حداد:
“في طرْفِ القلبِ حلمٌ: أنا الطرْفُ الثالثُ للحلمْ
ماءٌ يسيرُ ويختصِرُ الموتَ والمهرجانْ
سأفصِلُ ما بينَ عصْرِ الوقوفِ وبينِي
ليَ الآنَ حريةٌ فِي الرحيلْ
لُغَاتِي ذائبةٌ وحدَهَا فِي الهواءْ
إذا شئتُ أدخلُ من فجوةِ الليلِ أوْ أستقيلْ
حوانيتُ توزعْ مرَضَ الحزْنِ والنومْ. ومِصحَّاتٌ
بحجمِ السأمِ المرابطِ تنشرُ سلالةَ الشرطيِّ
والصلاةَ والشفقْ واحتقانَ الأملْ في الوريدْ.
وتحتلُّ الغفلةُ جيلاٌ بِلاَ أسئلةْ.
أنا خَنْدَقٌ عمّقتْهُ السؤالاتُ والشكُّ أنَّ الطفولةَ ماءٌ
وأنَّ النخِيلَ طريقٌ إلى المَاءْ.”(26)
ويعلّق الناقد على هذا المقطع الشعري من ناحية “الموضوعات” الشعرية، فيرى « أن هذا الحس العالي بالشك والأسى والشجن (وبعض الذنب الشخصي أيضا) ليست سوى إرهاصات الطور القادم من اشتغال قاسم حداد على موضوعة الفقد، المركزية في تجربته الشعرية ».(27) هذه الموضوعة ستتطور، حسب الناقد، في منحيين: « عاطفي تعبّر عنه علاقات القصيدة الشكلية والموسيقية والتصويرية (التشكيلية بصفة خاصة)، وعقلاني تعبّر عنه شبكة العلاقات الدلالية وجملة الرموز والشخصيات ». (28)
تشكّل موضوعة الفقد، إذن، حسب صبحي حديدي، المحور الأساس الذي ترتكز عليه التجربة الشعرية لدى قاسم حداد، وهو ما أدّى به إلى « توسيع تجربته في كتابة القصيدة الطويلة المنقسمة إلى أجزاء أساسية ومقاطع فرعية قصيرة نسبيا، وذلك في مجموعة ((القيامة )) (1980). واستعارة المرأة، التي تتكرر في الجزء الثاني من القصيدة، هي عين الضمير الشخصي للشاعر إذا جاز القول ».(29)
لذلك، فإن قاسم حداد، بهذا الاشتغال على دلالية الفقد، يكون قد برع «حقا في تحقيق توازن مدهش في التعبير عن حريّة داخلية قصوى وسط هذا القدر من القيود التي استجمعها بنفسه. وثمة ارتقاء رؤيوي بليغ بالزمان والمكان، واندغام تركيبي رفيع بين حياة الشاعر وحياة الأمّة، ووحدة شعورية عالية تكتنف الحصيلة المزجية هذه، وتقودها إلى ما يشبه النشيد الملحمي الكوني ».(30)
2. تصوّرات قاسم حداد للممارسة النصية
يروم هذا المحور الوقوف على بعض التصوّرات النظرية، التي توجّه الممارسة النصية للشاعر قاسم حداد، وذلك انطلاقا من مفهومين رئيسيين هما: الكتابة، واللغة. بهذا التناول نسعى إلى مساءلة هذين المفهومين ومناقشتِهما من خلال النصوص النثرية، التي يعلن الشاعر فيها بوضوح عن تصوّره النظري لها، ثم استخلاص التصوّر العام الذي يؤطر التجربة الشعرية لديه.
1.2 مفهوم الكتابة
بتصفحنا للمؤلفات النثرية نعثر على تعاريف عدة لمفهوم الكتابة لدى قاسم حداد. ومن خلال هذه التعاريف سنعمل على بناء المفهوم قصد تحديد التصوّر النظري العام، الذي يؤطر اشتغال الشاعر في ممارسته النصية.
يعرّف قاسم حداد الكتابة فيقول: « الكتابة هي نوع من المتعة في حالين، حال الكتابة وحال القراءة. وكلما تحققت المتعة للأديب فيما يكتب، تحققت المتعة للقارئ فيما يقرأ. وهي متعة لا تتحقق إلا بعناصر الخيال والجمال والدهشة لقول ما لا تقوله اللغة العادية، هذا هو سرّ الاحتفاء باللغة وضرورته ».(31)
يضع قاسم حداد في هذا النص تصوّراته النظرية العامة للمفهوم، وذلك من خلال عدّ الكتابة متعة لا تتحقق إلا بالعناصر الآتية: الخيال والجمال ثم الدهشة. وارتباطُ الكتابة بهذه العناصر يُخرج اللغة من القول العادي إلى قول ما لا يقال. بذلك تصبح الكتابة متعة ولذة في آن، وهو ما يفسِّره تصريح قاسم حداد الآتي: « في الكتابة يلذّ للكاتب أن يتمتع بكل العناصر الفنية المتاحة والمكتشفة في لحظة النص. الكتابة هي لذّة الكاتب قبل أن تصبح متعة للقارئ، وهذه اللذة لا تتحقق من دون كامل الحريات التي يستدعيها النص، من أصغر الحروف إلى أقصى المخيّلة ».(32)
يمدّنا هذا التصوّر بملاحظة أساسية تذهب إلى أن الكتابة ممارسة لا تخرج عن الفعل المادي، ذلك أن الذات لا تحقق متعتها ولذّتها إلا بها. ففي الكتابة تتفاعل العناصر كلّها من أجل إثارة الدهشة لدى القارئ. وبهذا التفاعل تخرُج اللغة من القول المألوف إلى قول مالا يقال.
ونعثر في موضع آخر على تعريف صريح ينظر فيه قاسم حداد إلى الكتابة من وجهة يجعلها ممارسة شخصية وحميمية. يكتب قاسم حداد: «فعل الكتابة شأن شخصي حميم».(33)
ارتباطا بما سبق، نرى أن الكتابة، من منظور قاسم حداد، ترتكز على أساسين اثنين: أساس المتعة، وأساس إخراج اللغة عن قول ما لم تقله اللغة العادية. بهذين الأساسين يراهن قاسم حداد في تصوّره للكتابة، بما هي ممارسة ترقى باللغة إلى خلق علاقات جديدة بين الأشياء وذلك بواسطة الكلمات. وهذه العلاقات يلخّصها هذا النص، الذي يحدّد ملامح هذا النسج من جهة، ويضفي على لغة الكتابة سِمتها المتفرِّدة من جهة أخرى. يكتب قاسم حداد:
« وربما كان الفرق بين الكلام والكتابة يكمن في هذا السر الصغير الذي أشار إليه جويس، فعندما تضع أمامك جملة مشحونة بالكلمات المألوفة، ستعبر عن شيء ما يوازي دواخلك، لكنك إذا جعلت هذه الكلمات المألوفة تأتي بضرب من العلاقات الجديدة، غير المألوفة، سوف تحقق ذاتك بقدر كبير من الصدق والخصوصية من جهة، ومن جهة أخرى ستقترح على القارئ شكلا جديدًا من الصور، وتدفعه لتشغيل أدوات خياله إلى الحدّ الذي يرى في نصك آفاقا تمنحه المتعة التي لا يصادفها في تلك الكلمات في حياته اليومية العابرة. الكاتب إذن، لا يخترع الكلمات. إنه ينسج علاقات جديدة لتلك الكلمات، وهذا ليس شأنا متاحا للجميع، لجميع الكتاب خصوصا، إذا هم لم يأخذوا هذا الأمر مأخذ الجدية والتأمل ».(34)
نتغيا من هذا الاستشهاد المطوّل توضيح الفرق بين الكلام والكتابة لدى قاسم حداد، وهو ما يفضي بنا إلى استكمال التصوّر النظري، الذي يجعل الكتابة ممارسة لها قانونُها المخالف لقانون اللغة العادية. هذا التصوّر يرى إلى الكتابة بوصفها خلقا لعلاقات جديدة غير مألوفة تنبني على صور لها شكلُها الجديد. فبالصور تتحقق المتعة، التي لا تحصل مع اللغة العادية.
لا تكتفي الكتابة بخلق علاقات جديدة، بل تتجاوز ذلك إلى عدّها طريقا لنسيان الماضي من أجل استشراف المستقبل، حيث الكتابة استسلام وانقياد لفعل المخيّلة وشهوتها. وهي بهذا المعنى، طريق للاكتشاف خارج حدود العقل والعقيدة. يكتب قاسم حداد: «ما أعرفه أن الكتابة طريق جميلة لمقاومة محو ذاكرة المستقبل. الكتابة أيضا، انقياد حميم لبهجة المخيلة وهي تتقمص طبيعة تلتبس على الكاتب، لتكون غامضة في حضرة القارئ. لذا ستظل الكتابة، بوصفها شهوة المخيلة، طريقا لاكتشافات القلب لا سبيلا لاستجداء جلافة العقل ومزاعم الوعظ واليقين ».(35)
يحدّد قاسم حداد، في هذا النص، شرط الكتابة المتمثل في ضرورة وجود فعل المخيّلة، بما هي شهوة لا تتحقق إلا بالانقياد التام لها. من هذا الانقياد يمارس الكاتب فعل الكتابة بما هي نسيان للماضي واستشراف للمستقبل، ومن ثم فإن الكتابة « هي، في آن معا، منشط للذاكرة وقوة للنسيان ».(36) وهي قوّة لا تتحصّل إلا بفعل المخيّلة التي تجعل الكتابة طريقا للاكتشافات الجديدة. ونستفيد هنا من رؤية جاك دريدا لفعل المخيلة ونشاطها، حيث يقول:
«للقبض على فعل المخيِّلة بأقرب ما يمكن، يجب، إذن، الالتفات إلى الداخل غير المرئي للحرية الشعرية. يجب الانفصال بغية الالتحاق بالأصل الأعمى للعمل، في ظلامه أو ليله. هذه التجربة في التحوّل، التي تؤسس الفعل الأدبي (كتابة وقراءة) هي من الخصوصية (…) ذلك أن الأمر يتعلق هنا بخروج عن العالم، في اتجاه موضع لا يشكل لا- موضعا ولا عالما آخر، ولا يوتوبيا ولا تعلّة. إنه (…) ((خلق كون ينضاف إلى الكون)). خلق لا يدل على شيء آخر سوى النفاذ إلى الكل، إلى ذلك العدم الجوهري الذي لا يمكن لكل شيء أن ينبثق انطلاقا منه، وأن ينتج نفسه داخل اللغة ».(37)
يفيدنا هذا التصوّر في تكوين رؤية واضحة عن عمل المخيِّلة وفعلها في الكتابة، حيث المخيّلة تتوغّل في دواخل الأشياء وتتعمّق بغية اكتشاف اللامرئي فيها. هذا الاكتشاف لا يتم إلا بالحريّة الشعرية، فمن خلالها يصبح اللامرئي مرئيا. إلى جانب هذا يجب الانفصال والخروج عن العالم من أجل خلق عالم لا يتجه إلا إلى العدم الجوهري، الذي تنبثق منه الأشياء من جديد.
إن فعل المخيّلة، من خلال تصوّر جاك دريدا، لا يذهب إلا إلى اللامرئي في الأشياء، وفي هذا الذهاب يحدث الانفصال عن عالم الواقع وحقيقته الظاهرة، بحيث يصبح الانفصال طريقا للاكتشافات الجديدة، التي لا تنضبط لقانون العقل وقواعد العقيدة.
تصبح الكتابة، إذن، بفعل المخيّلة، خارجة عن كل طريق، وخارجة عن كل مألوف. بذلك فهي تغامر من أجل اكتشاف طرق جديدة لها اختلافها كما لها تعدّدها. وضمن هذا الأفق، لا تكون الكتابة إلا ممارسة خاصة بالذات، حيث الانتقال من اللغة العادية إلى قول ما لا يقال، عبر خلق علاقات جديدة، اشتغالٌ مستمرّ له أفقه المفتوح لدى الشاعر.
2.2 مفهوم اللغة
نعثر في أحد المؤلفات الحوارية، التي تتناول التجربة الشعرية لدى الشاعر، على تعاريف وضع من خلالها قاسم حداد تصوّره النظري للغة، بما هي ممارسة للحرية، وأساس الخلق الشعري. يكتب قاسم حداد في تعريفه للغة:
« دائما كنت أشعر أن ما يبقى من صنيع الشاعر، بعد كل شيء، هو اللغة. اللغة بمعنى الروح الخاص بالشاعر في هذا الجسد اللغوي الحي الممتد عبر الكتابة المترامية الأطراف. فما يميِّز الشاعر عن غيره هو حساسيته التي يستطيع أن يصوغها عبر تجاربه المختلفة، قدرته على اقتراح اجتهاداته الخاصة في ممارسته حرية الخلق في لحظة اللغة وهي تولد في هذا النص أو ذاك. حريته بمعنى أنه لا يقف من اللغة موقف العبد، ولكنه يتصرف مع اللغة كما لو أنه في حضرة مليكة تعشقه بالذات وأنه حرّ في هذه الحضرة لكي يمارس حريته معها بلا حدود ».(38)
يكشف هذا النص المسار الذي تشتغل فيه اللغة عند قاسم حداد. وهو مسار تنحفر فيه اللغة بفعل التجربة وتتجسدن، منادية على ممارسة لها حريّتها المفتوحة على اللامحدود. فاللغة، كما يراها قاسم حداد، مُنبنية على التصوّرات الآتية:
1. اللغة جسد لغوي حيّ لا يمتد إلا بالكتابة.
2. اللغة اجتهاد لا يتحقق إلا بحرية الخلق.
3. اللغة لا تولد إلا في النص.
4. على الشاعر أن يقف من اللغة موقف العاشق لا موقف العابد.
5. اللغة ممارسة للحرية بلا حدود.
تمدّنا هذه التصوّرات بالتوجّهات الأساس، التي تنطلق منها الممارسة النصية لدى قاسم حداد. وهي توجّهاتٌ ترى أن اللغة لا ترسم مسارها ولا تفعل فعلها إلا داخل النص، حيث الحرية هي المحدّد الأساس للحظة الخلق الشعري، الذي لا يتأتى إلا بخرق النموذج وهدم المعايير السابقة وإبداع لغة لها جماليتها التركيبية. بذلك تفتح الممارسة النصية إنتاجها على اللامحدود، وبهذا ترتبط اللغة بالخلق والولادة، فمنهما تنطلق، وبهما تتوجّه.
وتسمح هذه الأسس، كذلك، باستقصاء التصوّرات التي تؤسس لمفهوم اللغة، بما هي تصوّرات تستند بشكل خفي إلى المرجعية النظرية لجان كوهن ورؤيته إلى اللغة حيث ترى أنها هي المحدد الأساس للشعر، ومن خلالها تكتسب الأشياء شعريتها وتتحوّل عن منطقها المألوف. يكتب جان كوهن: « والذي ينبغي قوله هو أن الأشياء ليست شعرية إلا بالقوة، ولا تصبح شعرية بالفعل إلا بفضل اللغة، فبمجرّد ما يتحوّل الواقع إلى كلام، يضع مصيره الجمالي بين يدي اللغة، فيكون شعريا إن كانت شعرًا، ونثريا إن كانت نثرًا ».(39)
حينما يرى جان كوهن أن الأشياء لا تكتسب شعريّتَها إلا بالقوة، فإنه ينطلق من كوْن اللغة لها أهمية رئيسة في الممارسة النصية قبل كل شيء، لأن من خلالها يُصنّف الشعريُّ من النثريِّ. ويعني ذلك أن اللغة لا تنهض إلا بالكتابة، حيث الأشياء تخرج عن طبيعتها العادية عندما يتحوّل الواقع إلى كلام، بذلك تصبح اللغة جسدًا لغويًا حيّا لا يمتدّ إلا عبر الكتابة. وبهذا الامتداد تصير اللغة « هي الأهم في النص كما في الحياة. إنها أجمل الثروات وأخطرها في آن. الشاعر لا يستطيع أن يتحقق، ويؤكد للآخرين، قدرته على الحضور الشعري خارج اللغة ».(40)
وإذا كانت اللغة أساس الممارسة النصية، فإن هذه الممارسة لا تحقق إبداعيّتها إلا من خلال حرية الخلق الذي لا يتأتى إلا بالاجتهاد، فبه يُخرِج الشاعرُ اللغةَ من القول المألوف إلى القول الإبداعي، وهو ما يستند إلى ما كتبه جان كوهن عن الشعر حينما عدَّ الشعر لغة لا يبدعها إلا الشاعر. عن ذلك يكتب: « ليس الشعر اللغة الجميلة لكن الشعر لغة يبدعها الشاعر لأجل أن يقول شيئا لا يمكن قوله بشكل آخر ».(41) ولهذا فالخلق الشعري لا يستند إلا إلى « تكسير الهياكل الثابتة للغة وقواعد النحو وقوانين الخطاب ».(42)
تُفصح اللغة في تصوّر قاسم حداد عن اشتغال مستمرٍّ لعملية الخلق الشعري، الذي يتأمل الأشياء كي يعيدَ بناءها من جديد. ووفق هذا التأمل يخلق الشاعر باللغة « تلك العلاقات اللامرئية والمتوهّجة بفعل تجربة العشق الكثيفة التي لا يطول كنهها إلا شاعر يصوغ تدفقات روحه، فيما يمزجها بلحظته الذاتية المتناهية العمق والطفولة في آن ».(43)
إن اللحظة الذاتية، بالنسبة لقاسم حداد باعتبارها لحظة للخلق الشعري وليدة لغة تنهض على التجربة الباطنية، التي تصوغ علاقاتٍ لامرئية بين الأشياء، ومن هذه الزاوية تتفرّد اللغة الشعرية عن اللغة العادية. عن ذلك يكتب جان كوهن « يعتمد قانون اللغة العادية على التجربة الخارجية في حين أن قانون اللغة الشعرية يقوم، عكس ذلك، على التجربة الباطنية. إنه يختصر المتشابهات أو التعارضات الكيفية الثلاثية كما تبرزها إحساساتنا ».(44)
وعلى هذا الأساس، تأخذ اللغة أهميّتها في الممارسة النصية لدى قاسم حداد، باعتبارها محوِّلا للأشياء. فهي إبداع مستمرّ يعمل على اكتشاف اللامرئي، وفي الآن نفسه يضفي علاقات جديدة بين الأشياء، ليُخرج اللغة من القول العادي إلى القول الشعري. بهذه العلاقات تحيا اللغة، وبذلك فهي « في الكتابة تظل حيّة مثل الإنسان ».(45) من هنا يمكن القول، إن الشعر لا يحيا إلا باللغة التي تكشف الخبايا المجهولة والأسرار المدفونة.
نمضي في استكمال التصوّر النظري لمفهوم اللغة الذي أثثه قاسم حداد. ونورد في هذه اللحظة نصّا جاء مكمِّلا للنصوص الأخرى، حيث يشبّه فيه اللغة بالثمرة التي يجب على الشاعر تحويلها إلى طاقة حياة. عن ذلك يكتب قاسم حداد:
« اللغة في الكتابة تظل حيّة مثل الإنسان، لكن ما إن يعجز هذا عن بلورتها، ويتأخر عن إطلاق طاقاتها المتأججة، حتى تدخل دائرة الامتثال للتقليد، وإذا رأينا إلى جانبها الإيجابي، فسوف نشبهها بالثمرة في الشجرة، عندما يصل النضوج حدّه الأقصى، ويغيب من يقطف الثمرة، فإنها سوف تسقط من تلقاء نفسها، وبعد ذلك يكون صاحب الحظ الأجمل، وقرين الخيال والجرأة، هو الذي سيمنح هذه الثمرة (اللغة) فرصة التحوّل إلى طاقة حياة، إما عبر زراعة جديدة في أرض خصبة، أو عبر غذاء جسد يزدهر ».(46)
يستكمل هذا النص باقي التصوّرات التي تجعل من مفهوم اللغة مفهوما له حضوره البارز في التجربة الشعرية لدى قاسم حداد، كما له امتداده المفتوح على التجارب الشعرية الأخرى. بهذا الحضور نستخلص باقي الأسس التي يعتمد عليها قاسم حداد في تصوّره للغة، ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1. لا تحيا اللغة إلا في الكتابة.
2. طاقة اللغة تكمن في خروجها عن دائرة الامتثال للتقليد.
3. لا تتحوّل اللغة إلى طاقة حياة إلا بالخيال والجرأة.
أولى القضايا التي يصدر عنها مفهوم قاسم حداد هو أن اللغة حياة لا تحيا إلا في الكتابة، وهذا يعني أن اللغة لا تموت بل تتجدّد وتتطوّر وتظل “حيّة مثل الإنسان”، ولا تكتسب هذه الصفة إلا إذا اقترنت بالكتابة. فاللغة، من هذا المنظور، لا تحيا خارج الكتابة، ولا تقاس درجة حياتِها إلا إذا ارتكزت على التصوّرات النظرية لمفهوم الكتابة. من هنا تتقاطع اللغة مع الكتابة وتلتقي. وهذا التصوّر يتفق مع ما يتصوّره أدونيس لمفهوم اللغة، حيث يرى كذلك أنها « كائن حي متجدّد».(47) وهو تجدّد لا يحصل إلا إذا كان «الشعور الجديد يعبِّر عن نفسه تعبيرًا جديدًا فإن هذا يعني أن له لغة خاصة متميِّزة».(48)
بالحياة تأخذ اللغةُ حضورَها في الكتابة عند قاسم حداد، ومن خلال ذلك فهي مرتبطة بالإنسان في تجدّده وتطوّره المستمر، حيث إنها كائن متجدّد لا يحيا إلا باستشراف المستقبل ونسيان الماضي. من هنا، فحياة اللغة مشروطة بالخروج عن دائرة الامتثال للتقليد. فكلما التزمت اللغة بمعاييرها النمطية المألوفة ماتت واندثرت، وكلما خرجت عن دائرة التقليد تجدّدت وتطوّرت. وبهذا التجدّد تحيا اللغة وتسمو. وفي هذا يكتب أدونيس: « هكذا يؤمن الشاعر العربي الجديد أن على اللغة أن تساير تجربته بكل ما فيها من التناقض والغنى والتوتر. وهو في ذلك يفرغ الكلمة من شحنتها الموروثة التقليدية، ويملؤها بشحنة جديدة، تخرجها من إطارها العادي ودلالتها الشائعة».(49)
لا تبقى اللغة حيّة إلا إذا أفرغها الشاعر من الموروث التقليدي، وأعاد ملأها وفق اشتغال متجدّد، يضفي على الكلمة نسقَها المغاير والمختلف في آن، وذلك بحرية الخلق وتفجير طاقة الجمال الكامنة في اللغة عبر مسارين اثنين: الخيال والجرأة، اللذان يخرجان الأشياء عن طبيعتها عبر الاكتشافات اللامحدودة الكامنة في طاقة اللغة. على هذا الأساس، تكون للشاعر « حرية أن يتصرّف، لحظة الكتابة، كما لو أن اللغة ملكية خاصة له، يعمل بها من غير الخضوع لوهم أية سلطة تعترض على ذهابه الإبداعي وخروجياته عن مألوف النص ».(50)
إن الخيال، وهو ينقل الأشياء بطريقته الخلاّقة، دون خضوع ودون امتثال، يعمل على خلق نسق جديد للغة، عبر شحن الكلمات بدلالات جديدة تخرج عن المألوف، وفي الآن نفسه يفتحها على لانهائية المعنى. فليس الخيال هنا شيئا منفصلا عن اللغة بل هو مرتبط بها وبشسوع دلالتها، ذلك أن « الخيال يشبه الرحم: كما يتكوّن الجنين في الرحم، تتكوّن المعاني في الخيال، وتتشكل بصور مختلفة. هكذا ينقلنا الخيال من المعلوم إلى المجهول».(51)
من هنا، فإن اللغة تغدو بالخيال خلقا شعريًا له تعدّده الدلاليُّ وله معناه الواسع، الذي يخرج فيه عن الخضوع لوهم السلطة والامتثال للموروث التقليدي. ذلك أن الخيال يسعى إلى نقل الأشياء بطريقة جديدة ليعْبُرَ بها من المعلوم إلى المجهول الشعري. وبهذا المعنى تصبح اللغة، كما يتصوّرها قاسم حداد “حيّة مثل الإنسان”.
خاتمة:
يظهر لنا، في ضوء ما تقدم، أن تحديث النص الشعري، لدى الشاعر قاسم حداد، قام على تصوّرين متوازيين: تصوّر أول توجّه نحو تحديث القصيدة من حيث الشكل، فيما التصوّر الثاني ذهب إلى تغيير الصورة البدوية التائهة في الصحراء وإبدالها بصورة لها دلالات إنسانية أوسع.
بهذا المعنى، فالشاعر اتخذ من الأصوات الشعرية بُعدًا دلاليا لها امتدادُها العميق في التجارب الإنسانية القائمة على مرتكز رئيس يرى أن الكتابةَ مشروعٌ شعريّ ينهض على أساسين اثنين: أساس المتعة، وأساس إخراج اللغة عن قول ما لم تقله اللغة العادية، وبالتالي يمكن عدّ تجربة قاسم حداد تجربة ترقى باللغة إلى خلق علاقات جديدة بين الأشياء، وهو ما دفعها لأن تكون مشروعا تحديثيا مستمرّا لا يقف عن التجديد ولا يحيا إلا باستشراف المستقبل ونسيان الماضي.
الهوامش:
1. قاسم حداد،2000، الأعمال الشعرية،ج1، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ص.7
2. المرجع نفسه، الصفحة ذاتها
3. المرجع نفسه، ص.ص. 8.7
4.يمكن الرجوع إلى مؤلف الشاعر ما أجملك أيها الذئب وهو يتحدث عن هذه التجارب ابتداء من ص. 104 حتى الصفحة 155.
5. قاسم حداد، الأعمال الشعرية،ج1، م. س. ص. 8
6. المرجع نفسه، ص.ص.9.8
7. المرجع نفسه، ص. 9
8. المرجع نفسه، الصفحة ذاتها
9. المرجع نفسه، ص. 11
10. قاسم حداد، 2012، مكابدات الأمل، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص.221
11. المرجع نفسه، الصفحة ذاتها
16. قاسم حداد، الأعمال الشعرية،ج1، م. س. ص. 12
12. المرجع نفسه، ص. 81
13. وسميناها أصواتا شعرية حتى لا يلتبس الأمر ويختلط الشعري بما هو سردي.
14. قاسم حداد، الأعمال الشعرية،ج1، م. س. ص. 13
15. المرجع نفسه، ص.ص.14.13
16. المرجع نفسه، ص.ص. 159.158
17. قاسم حداد،2006، ما أجملك أيها الذئب، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ص. 18
19. قاسم حداد، الأعمال الشعرية. م.س. ص.14
20. المرجع نفسه، ص.14
21. قاسم حداد، 2011، الامتلاك والفقد (سيرة كتاب طرفة بن الوردة)، البحرين، مطبعة الشرقية، ص.ص. 20.19
22. قاسم حداد، الأعمال الشعرية، ج1، م.س. ص.15
23. المرجع نفسه، الصفحة ذاتها
24. المرجع نفسه، ص. 20
25. المرجع نفسه، الصفحة ذاتها
26. المرجع نفسه، ص. ص. 202.201
27. المرجع نفسه، ص. 21
28.المرجع نفسه، الصفحة ذاتها
29. المرجع نفسه، ص.ص.22.21
30. المرجع نفسه، ص. 22
31. قاسم حداد، 1997، ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر، الكويت، دار قرطاس. ص. 54
32. قاسم حداد، مكابدات الأمل. م.س. ص. 232
33. قاسم حداد، ما أجملك أيها الذئب. م.س. ص. 33
34. قاسم حداد، ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر. م.س. ص. ص.61.60
35. قاسم حداد، ما أجملك أيها الذئب. م.س. ص. 23
36. جاك دريدا، 1988، الكتابة والاختلاف، ط1، ترجمة: كاظم جهاد، البيضاء، دار توبقال. ص. 127
37. المرجع نفسه. ص. 138
38. قاسم حداد، 2008، فتنة السؤال، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ص.ص. 127.126
39. جان كوهن، 1986، بنية اللغة الشعرية، ط1، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري، البيضاء، دار توبقال. ص. 37
40. قاسم حداد، فتنة السؤال. م.س. ص. 127
41. جان كوهن، بنية اللغة الشعرية. ص. 155
42. المرجع نقسه. ص. 176
43. قاسم حداد، ما أجملك أيها الذئب. م.س. ص. 70
44. جان كوهن، بنية اللغة الشعرية. م.س. ص. 202
45. قاسم حداد، ما أجملك أيها الذئب. م.س. ص. 87
46. المرجع نقسه، الصفحة ذاتها
47. أدونيس، 1983، ط3، زمن الشعر، بيروت، دار العودة. ص. 40
48. المرجع نفسه، الصفحة ذاتها
49. المرجع نفسه، الصفحة ذاتها
50. قاسم حداد، ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر. م.س. ص.24
51. أدونيس، 1989، ط2، الشعرية العربية، بيروت، دار الآداب. ص. 70
لائحة المصادر والمراجع:
الأعمال الأدبية:
قاسم حداد، 1997، ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر، الكويت، دار قرطاس
قاسم حداد،2000، الأعمال الشعرية،ج1، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر
قاسم حداد،2006، ما أجملك أيها الذئب، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر
قاسم حداد، 2008، فتنة السؤال، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر
قاسم حداد، 2011، الامتلاك والفقد (سيرة كتاب طرفة بن الوردة)، البحرين، مطبعة الشرقية
قاسم حداد، 2012، مكابدات الأمل، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر
المراجع بالعربية:
أدونيس، 1983، ط3، زمن الشعر، بيروت، دار العودة
أدونيس، 1989، ط2، الشعرية العربية، بيروت، دار الآداب
المراجع بالأجنبية المترجمة:
جاك دريدا، 1988، الكتابة والاختلاف، ط1، ترجمة: كاظم جهاد، البيضاء، دار توبقال
جان كوهن، 1986، بنية اللغة الشعرية، ط1، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري، البيضاء، دار توبقال
طارق فتوح