جيمس فيلان- ترجمة: كُـميل الحرز
نُشرت هذه الدراسة (اللاموثوقية التباعدية، واللاموثوقية التقاربية، وأخلاقيات «لوليتا») ابتداء في مجلة نَرَتِڤ (Narrative) المحكمة عام 2007م، ثم أُعيد نشرها ضمن مجموعة من الدراسات حول اللاموثوقية في السرد ضمّت في كتاب صدر عن دار والتر غرودر الألمانية بعنوان «اللاموثوقية في سرد الشخصية في روايات القرن العشرين» (2008م). وقد أعد الكتاب ونقّحه كل من إيلكا دُوكر وغونتر مارتنز. وكما يوحي العنوان، فإن هذا الكتاب يتناول مفهوم اللاموثوقية، الذي نحته بووث (1961م)، وهو أحد المفاهيم الذي لم ينل حظًا وافرًا من البحث والدراسة إلى حد ما. ويقدم هذا الكتاب قراءات مستفيضة للأعمال السردية التخييلية، التي أُنتجت تحديدًا في القرن العشرين ضمن سياقات الأدب الغربي.
وتعتمد هذه القراءات على مختلف المناهج والاتجاهات الأدبية، من أبرزها المنهج البلاغي والمنهج الإدراكي. كما تهدف هذه الدراسات المتنوعة في مجملها إلى إرساء أهمية مسألة اللاموثوقية ومقاربتها وتحديد ماهيتها. إذ تحاول – بصورة عامة – أن تقبض على ملامح مفهوم اللاموثوقية، وإعادة تعريفه، وتوضيح علاقته بمفهوم المؤلف الضمني والقارئ، وكيفية إدراكه من قبل القراء. كما تسعى إلى مقاربة اللاموثوقية في النص التخييلي وتحديد أنماطه، وخصائصه، ووظائفه. ويعد مؤلف هذه الدراسة، البرفسيور جميس فيلان أحد أبرز المساهمين في هذا الكتاب إضافة إلى عالم السرد الآخر أنْسغار نونينغ.
يتبنى فيلان في مقارباته للسرد التخييلي المنهج البلاغي. ويرى فيلان (1989، ص 8) أن هذا المنهج يؤكد على النظر إلى النص السردي بوصفه عمليّة تواصلية بين المؤلف والنص السردي والقارئ بشكل عام. فالقراءة البلاغية، كما يشير مؤلف الدراسة، لا تعني بأي حال من الأحوال توظيف الأدوات البلاغية بالمعنى الضيّق لكلمة (بلاغة)، أو النظر إلى النصّ السرد كمحض قصة، بل يركز المنهج البلاغي على أن نتعامل مع النص السردي كفعل بلاغي ينطوي على فعل القص والقاص والمناسبة والغاية والقارئ الافتراضي/الضمني. كما أن الفعل البلاغي للسرد ذو طبيعة مزدوجة. بمعنى، أن لدينا – من جهة – راويًا يقصّ حكايته للمروي له لغايات معينة. كما لدينا أيضًا – من جهة أخرى – مؤلفًا يقص حكاية الراوي تلك، التي تمثّل مجرّد لبنة من بناء المؤلف السردي، لجمهوره/قرائه لغايات محددة. وعليه، ما يجسد عالم الحكي/السرد على مستوى معيّن (قص الراوي)، فإنه في حدّ ذاته يجسد جزءًا من عالم المحكي/المسرود على مستوى آخر (قص المؤلف). وفي رأي فيلان (2005، ص 18-21)، يقوم المنهج البلاغي على جملة من الركائز أو المبادئ النظرية، التي يمكن من خلالها مقاربة (الموقف الأخلاقي) في المتخيّل السرديّ. أوجزها في الآتي:
أولًا، يرى فيلان أن الفهم البلاغي للعمل السردي يرتبط بالتعريف البلاغي التواصلي للسرد، الذي يفيد بأن السّرد هو عبارة عن قيام «شخص ما بإخبار شخص آخر عن حدوث واقعة معينة في مناسبة معينة ولغاية معينة». يلقي هذا التعريف الضوء على الطبيعة المزدوجة لنموذج التواصل السردي التي أشرت إليها أعلاه.
ثانيًا، يُحيل النظر للنص السرديّ كنص بلاغي إلى فرضيّة مفادها أن تشييد المؤلف للعالم التخييلي في السرد من خلال توظيف اللغة يرمي إلى التأثير على القارئ بطريقة معينة. تصبو المقاربة البلاغية للنص عندئذ إلى مساءلة خيارات السارد أو المؤلف الضمني في صنعته السردية، وما قد تثمر عنها من نتائج أو آثار جمالية على المتلقي. تهتم القراءة البلاغية – مثلًا – بالتساؤل عن: لمَ اختار المؤلف أو السارد هذا القالب للنص التخييلي، أو هذه التقنيات السردية، أو هكذا أسلوب؟ أو لمَ استعمل المؤلف هذه التراكيب اللغوية المعينة على وجه التحديد عوضًا عن أن يوظف مثيلاتها المتاحة له (راجع على سبيل المثال قراءة فيلان لراوية كوتْسي «في انتظار البرابرة» (1994)، ولرواية ڤتزجيرالد «غاتسبي العظيم» (2008))؟ فمن ثمّ، ما الأثر الذي يحاول المؤلف أو السارد أن يتركه علينا كقراء، أو نوع الاستجابة التي يود أن يستثيرها لدينا من خلال لجوئه لهكذا خيارات لسانية أو توظيفه لأساليب سردية معينة؟
ثالثًا، ثمّة احتمالية أن يتوصل القراء الحقيقيّون من لحم ودم إلى التأويل ذاته الذي قد ينشأ نتيجة للعلاقة ذات «الآثار المرتدة» بين المؤلف واللغة المتمظهرة في النص وتلقّي القارئ. حينما يكتب المؤلف نصه السردي، فهو يكتب وفي باله قارئ ضمني، أو (جمهور تأليفي) على حدّ تعبير فيلان. يحاول هذا القارئ بدوره أن يضع له موطأ قدم ضمن بوتقة ذلك الجمهور التأليفي. ويوضح فيلان هنا أن القراءة البلاغيّة لا تعني فقط أن يقوم القارئ بالتأويل أو صياغة الفرضيات المبنية على التلقّي القرائي، ومن ثم البحث في النص على ما يدعم استجاباته وانفعالاته. بل يتعيّن عليه أيضًا أن يمضي خطوة أبعد من ذلك، أن يضطلع بمقاربة تلك الاستجابات والانفعالات، ومقارنتها بما قد يبديه من استجابات ممكنة إثر القراءة فيما لو اتخذ النصّ مسارًا آخر، أو فيما لو تمت صياغته بصورة مختلفة.
رابعًا: يحيل الفعل البلاغي للسّرد إلى عملية تواصليّة بين المؤلف وقرائه، إذ تمتاز هذه العملية التواصلية بمستويات متعددة ومتداخلة فيما بينها. فالأحكام التي يطلقها الجمهور بحقّ شخصيّات العمل السردي أو مجرياته أو بحق السارد ذاته تتأثر بقيمهم التي يتبنونها، كما تتأثر بالقيم التي يعبر عنها السارد في النص أو تلك التي يؤمن بها المؤلف.
خامسًا، يرتبط الفهم البلاغي للسرد بـمفهوم (التسلسل السردي). ويعني هذا المفهوم تتابع أحداث النص السردي من البداية إلى النهاية، وكذلك المبادئ التي تحكم هذا التسلسل. حيث يتمثل في المنطق الداخلي للنص، وما يثيره هذا المنطق من استجابات معيّنة لدى الجمهور التأليفي حين تتم قراءة النص التخييلي أو اللاتخييلي (الواقعي التأريخي) من البداية إلى النهاية. بمعنى، أنه متعلق بمسألة مفاعيل العلاقة بين القارئ الضمني وتلقّيه لتتابع الأحداث في السّرد من أولها إلى آخرها وتأويلها.
سادسًا، تشير الطبيعة المزدوجة للعملية التواصليّة السرديّة، كما أشرت آنفا في حدّ ذاتها إلى تشعّب المسؤولية الأخلاقية وتعددها في السرد. فالكيفيّة التي يتناول بها الراوي الحدث السردي تعبر عن مواقفه ووجهة نظره تجاه القضايا والقيم التي يطرحها العمل الروائي. هذه المواقف ووجهة النظر بدورها تدلّ على التزامه الأخلاقي إزاء المرويّ له. كما أنّ الطريقة التي يتناول فيها المؤلّف الراوي والجمهور التأليفي تحمل في طيّاتها مسؤوليته الأخلاقية تجاه هذا الجمهور وعمليّة السرد. ويشير تلقّي القراء واستجاباتهم للنصّ التخييلي كذلك إلى مواقفهم ومسؤوليتهم الأخلاقية حيال المؤلف والراوي والنص السردي والقيم التي يعبر عنها النص.
أما فيما يتصل بمفهوم اللاموثوقية في السرد والذي يقاربه فيلان (2005م، 2007م) من هذا المنظور، فإنه يقدم تصورًا أعمّ وأشمل مما اقترحه بووث (1961م). يرى هذا الأخير أن اللاموثوقية هي ابتعاد الراوي عن القيم والمعايير التي قعدها المؤلف الضمني في النص السردي. تنشأ اللاموثوقية حينما لا ينسجم وصف الراوي للعالم التخييلي وتلك القيم والمعايير التي ينضح بها هذا العمل الروائي. بمعنى، إن ما يخبره لنا السارد يتنافى أو يتناقض وما يمكن أن يخبره لنا المؤلف الضمني فيما يخص مجريات العمل السردي وأحداثه، أو فيما يخص سمات الشخصيات ومواقفها، أو فيما يُعنى بالمنظومات القيّمية التي يعبر عنها ذلك العمل السردي. وعلى الرغم من أهمية ما ذهب إليه بووث، إلا أن تعريفه لمفهوم اللاموثوقية لا يخلو من الاختزالية، مغفلًا بذلك بعض التعقيدات الشائكة التي يمكن أن تتبدى في النص التخييلي. يبين فيلان أن اللاموثوقية من وجهة نظر بووث تنحصر في محورين أساسيين من العملية التواصلية السردية. وهما محور الوقائع والأحداث، ومحور القيم أو كلاهما معًا. بيد أن رؤية بووث هذه تظل عاجزة عن أن تضع في اعتبارها عامل معرفة الشخصية الساردة وتأويلاتها وإدراكها للأحداث. لذا، يطرح فيلان محورًا ثالثًا يمكن أن نرصد فيه اللاموثوقية، ألا وهو محور القراءة المغلوطة أو الناقصة. فالسّارد قد يقدم لنا قراءة خاطئة، من حيث كونها لا تتقاطع وما قد يرتئيه المؤلف الضمني فيما يرتبط بأحداث العالم التخييلي ووقائعه أو ما تصنعه الشخصيّات فيه أو ما تتمتّع به من خصالٍ أو مواقفها تجاه الشخصيات الأخرى في العمل، سواء كانت هذه القراءة المغلوطة للأحداث والشخصيات نابعة عن قصد السارد ووعيه بذلك، أو كانت نابعة من مجرد قصور معرفته وجهله بالأمور. وعليه، فإنّ اللاموثوقية من وجهة نظر فيلان تتجسد فيما يورده الراوي من سرد مغلوط أو ناقص، أو فيما يبديه من قراءات/تأويلات مغلوطة أو ناقصة، أو فيما يطلقه من أحكام تقييمية أخلاقية مغلوطة أو ناقصة.
المترجم
1. وين سي بووث، السرد اللاموثوق به، وأخلاقيات «لوليتا»
هل يمكننا أن نستغرب فعلًا من أنّ القراء قد أغفلوا مفارقات نابوكوف في روايته «لوليتا»، حينما مُنح همبرت همبرت كامل السلطة المطلقة على الموارد البلاغيّة؟.
من بين إحدى المباهج التي تتخللها هذه الرواية المبهجة والعميقة هي مراقبة همبرت، وهو على وشك أن يحاجج عن موقفه. إلاّ أن نابوكوف مطمئن بأن العديد من قرائه، وربما معظمهم، سيبوؤون بالفشل؛ إذ سيشبهون شخصيّة همبرت بالمؤلف أكثر مما كانت تشي به نية نابوكوف (391).
وين سي بووث، «بلاغة التخييل»، الفصل 13
كان من الأحرى أن أميّز على نحوٍ لا لبس فيه بين الاستنتاجات التي تنبثق عن المقاربات البلاغية من جهة، وتلك الاستنتاجات التي تمثل ببساطة التزاماتي الشخصية الراسخة من جهة أخرى.
يبدو أني أنسى أحيانًا – وعلى وجه التحديد في الفصل الثالث عشر– كم هي من الصعوبة بمكان أن ننصف التعقيدات الأخلاقية التي تتبدّى لنا في تجربتنا في القراءة، وفي دراستنا للمسائل البلاغية، وفيما نحمله من أفكار أيضًا حول القيم النسبية لأعمال فنية محددة تؤلف الذوات والمجتمعات وتنقدُها (419).
وين سي بووث، (الخاتمة)، «بلاغة التخييل»، الطبعة الثانية
يمكنك أن تعول دائمًا على قاتل في صناعة إسلوب نثر شعري (9).
فلاديمير نابوكوف، «لوليتا»
في عام 1961م، حين نشر وين سي بووث كتابه «بلاغة التخييل»، كانت النظرية الأدبيّة المهيمنة بالطبع آنذاك (النقد الجديد). كان يرى منظّروها الأعمال الأدبية الخالدة على أنها أيقونات لفظية أو زهريّات محكمة الصنع. كما كانوا يطلقون أحكامًا تقضي بأن التأويلات القائمة على تلقّي القراء الانفعالي العاطفي هي تأويلات متورطة بـــ (المغالطة التأثيرية). في ظل ذاك المُناخ السائد، شكّل الفصل الثالث عشر (أخلاق السرد الموضوعي) من كتاب بووث منعطفًا جذريًّا، حيث يطرح فيه قراءته لرواية «لوليتا». ويعود السبب في ذلك لمقاربته الأعمال السردية التخييلية، ليس بوصفها أعمالًا تتمتع باستقلاليتها، وإنما بوصفها أفعالًا تواصليّة، تتماهى سماتها الجمالية وآثارها الأخلاقية على القراء. وبالنظر إلى تسيّد مدرسة (النقد الجديد) حينذاك، فليس من الغرابة في شيء أن يواجه هذا الفصل من الكتاب جملة من الانتقادات من قرائه الأوائل، أو أن تمثل الملاحظات الواردة فيه حول رواية «لوليتا» الشعلة التي تهتدي بها تلك الانتقادات. وحتى إذا ما أخذنا تعليقات بووث في ذلك الفصل من منظور العام 2007م (تأريخ نشر الدراسة)، الذي يُعلي من شأن النقد الأخلاقي، فإنها ما تزال تستدعي الاعتراضات. كيف يمكن أن يعترف بووث بأن نابوكوف قد ميّز همبرت على أنه راوٍ غير جدير بالثقة، ويتشّكى في الآن ذاته من أخلاق لوليتا؟ أليس من الأجدر إذًا ألاّ تجرّح شخصية نابوكوف إثر إخفاقات قرائه؟! أَيقارب بووث هنا وطوال الفصل الثالث عشر المسألة من وجهة نظر أخلاقية ضيقة لفن الرواية؟
في الطبعة الثانية لكتابه (1983م)، لا يزيد بووث في (الخاتمة) على ما تناوله حول رواية «لوليتا»، سوى أنه أورد ردين فضفاضين على الاعتراضات التي طاولت الفصل الآنف الذكر. (1) يدافع بووث عن اهتماماته التي تتصل بالعلاقة بين التقنية والأخلاق بوصفهما منسجمين حدّ التمام وتصوره عن الرواية كفعل بلاغي. (2) يقرّ أيضًا بأن ثمة معضلتين تبطلان نفاذ حجّته. وكما يشير الاقتباس الثاني الذي تصدرت به هذه المقالة، فالمعضلتان هما: (أ) المزج بين اعتقاداته الذاتية وتحليلاته، و(ب) التهوين من شأن تعقيدات النقد الأخلاقي. أظن أن بووث في عرضه هذين الردين كان يسلك المسار الصحيح لبلوغ هدفه المنشود، كما أظن أيضًا أن مقاربته للرواية تغلب عليها معضلة التهوين من شأن تعقيدات النقد الأخلاقي أكثر من نظيرتها الأخرى. وعلى الرغم من أن بووث قد وجد «لوليتا» رواية «مبهجة» و«عميقة»، إلا أن تعليقاته تبين بجلاء كذلك أنه لا يجد أيّما متعة في الحدث الروائي الرئيس، ألا وهو انتهاكات همبرت الأخلاقية بحق دورلويس. آخذًا ذلك كله بعين الاعتبار، سأنصف بصورة أفضل في هذه الدراسة المعضلة الشائكة والمنوطة بالعلاقة بين التقنية والأخلاقيات في رواية «لوليتا». ويعني إنصاف هذه المعضلة من وجهة النظر البلاغية التي أشاطرها وبووث، إيجاد حلٍّ من شأنه أن يضع نصب عينيه بالتحديد مجموعتين بارزتين من القراء دون التسرع في توجيه النقد اللاذع لكل من أولئك القراء أو لنابوكوف ذاته. فالمجموعة الأولى من القراء هي من أعيت بووث؛ إذ انخدعت بسرد همبرت الفاتن. وأما المجموعة الأخرى من القراء، فهي – على حد علمي – المجموعة الأكثر شيوعًا في الوقت الراهن، ممّا كانت عليه آنذاك في العام 1961م. وعقد هؤلاء القراء العزم على ألاّ ينخدعوا بسرده. وإنما جابهوا بالشجب والرفض كل التماسات همبرت البلاغية، بما في ذلك التماساته التي تنشأ من إدانته لذاته، حينما يشارف خطابه السردي على النهاية. وعلى الصعيد النظري، ستعني مقاربة هذين النمطين من التلقّي في جوهره أيضًا مقاربة العلاقات بين نوعين من الجمهور، غالبًا ما كانت النظرية البلاغية تميّز بينهما: الجمهور التأليفي، والقارئ الحقيقيّ من لحم ودم.
سأطرح في معرض تناولي لقضية التقنية والأخلاقيات في رواية «لوليتا» تمييزًا جديدًا يُعنى بتقنية اللاموثوقية في السرد. وعلى وجه التحديد، سأميز بين (اللاموثوقية التباعدية) و(اللاموثوقية التقاربية) وأعني باللاموثوقية التباعدية، السرد اللاموثوق به، الذي يرسخ المسافة الواقعة بين السارد والجمهور التأليفي أو يعاظمها. بينما أقصد باللاموثوقية التقاربية، السرد اللاموثوق به، الذي يجسر الهوّة أو يقلّص المسافة بين السارد والجمهور التأليفي. أفترض هنا أن نابوكوف يؤصّل لفهمنا للوشائج بين جمهوره التأليفي ونموذجين من القراء الحقيقيين، سبق وأن أشرتُ لهما أعلاه، وذلك من خلال توظيفه الدقيق والمعقد لهذين النمطين من اللاموثوقية في السرد، وخصوصًا في (الجزء الأول) من رواية «لوليتا». لكن، وقبل الشروع في سبر غور هذه الفرضية، أعتقد بأن من الأهميّة بمكان أن أضع هذا التمييز بين اللاموثوقية التباعديّة والأخرى التقاربية في إطار السياق العام للمنهج البلاغي في دراسة اللاموثوقية في السرد.
2. اللاموثوقية التباعدية واللاموثوقية التقاربية ضمن إطار المنهج البلاغي للسرد
كما جادلت في كتابي «عشتُهُ لأرويه» (2005م)، يشبه السرد اللاموثوق به على العموم سرد الشخصية، ويعبّر عن صيغة للتواصل غير المباشر. يتواصلُ وجمهوره المؤلفُ الضمني أو – إن شئتْ – المؤلف فحسب (فالتمييز بين المؤلف الحقيقي والمؤلف الضمني ليس ذا قيمة تذكر من حيث ارتباطه بأهداف هذه الدراسة، إلا أنّي بالرغم من ذلك، أؤثرُ استعمال مصطلح المؤلف الضمني، كما سبق وأن أشرت في كتابي السالف الذكر)، وذلك من خلال صوت آخر يخاطب جمهورًا آخر. أي، إنّ بين أيدينا نصًا له صوتان (أحدهما صريح، بينما الآخر ضمني). كما أن له جمهورين، وغايتين في أضعف الأحوال. لا يتنبأ هذا النموذج من التواصل السردي بواقع العلاقة بين المؤلف الضمني والسارد في أي ضرب يجسد سرد الشخصية. بيّد أنه عوضًا عن ذلك، يقدم لنا تصورًا لتسلسل ممتد من العلاقات المحتملة، بحيث يتموضع في إحدى طرفيه ما اصطلح عليه (السرد المقنع). وأعني به الفعل البلاغي، الذي يوظف فيه المؤلفُ الضمني الشخصية الساردة كمتحدث رسمي يضطلع بمهمة طرح الأفكار التي يتبناها المؤلف الضمني. في الواقع، يستثمر المؤلف الضمني تخفيه خلف قناع الشخصية الساردة كوسيلة لإذكاء دلالات التأثير والإقناع المعبرة عنها في النص1. في حين على الطرف الآخر من هذا التسلسل، يتموضع السرد اللاموثوق به على امتداد أكثر من محور من المحاور الثلاثة الرئيسة من العملية التواصلية السردية. وتنطوي هذه المحاور على محور الحقائق والأحداث (إذ نعثر على السرد المغلوط أو السرد الناقص) ومحور الفهم/الإدراك (حيث نجد القراءة المغلوطة/التأويل المغلوط أو القراءة الناقصة أو التأويل الناقص)، وكذلك محور القيم (حيث نرصد التقدير المغلوط أو التقييم المغلوط/التحقير أو التبخيس).
في معظم المقاربات التي تناولت اللاموثوقية في السرد، مذ أن نحت بوث هذا المصطلح عام 1961م، تمحور اهتمام المنظرين والنقاد على هذا الطرف الآخر من التسلسل. خذ على سبيل المثال بعض النماذج المألوفة التي تدلل على السارد غير الجدير بالثقة: كالشخصية الساردة دَويل في رواية فورد مادوكس فورد «الجندي الصالح»، وشخصية وايتي في قصة رنغ لاردنر القصيرة، «قصة الشَّعر»، وشخصية جَيسن في رواية وليام فوكنر «الصخب والغضب»، وكذلك شخصية المربية في إحدى القراءات لرواية هنري جيمس القصيرة، «دورة البرغي». ثمة أسباب وجيهة لهذا التركيز: لا يعد استعمال نص واحد للتعبير عن هوّات واسعة بين سرد الراوي أو قراءته أو تقييمه وبين نظيرتها التي يضطلع بها المؤلف الضمني إنجازًا متواضعًا، ولكنه يظل عاجزًا عن توضيح دينامية العلاقة بينها، كما تشير لنا مطالعة تأريخ المماحكات النظرية حول السرد اللاموثوق به. يولي منظرو السرد منذ أطروحة بوث اهتماما بالغًا بهذه الدينامية دون أن يتوصلوا إلى إجماع حولها. إذ نجادل مثلًا فيما إذا كانت اللاموثوقية تقع عند القارئ أو عند المؤلف أو في النص أم في أحد مستويات العلاقة المتبادلة بينهم. ونحاجج أيضًا فيما إذا كان مفهوم المؤلف الضمني عائقًا أم عاملًا مساعدًا على فهم اللاموثوقية. ونناقش كذلك فيما إذا كان من المرجح أن نطلق على سرد دقيق، ولكنه غير مفهوم، ويرويه راوٍ ساذج، بالسرد اللاموثوق به أو بـ(ــالسرد المتباين)، أو تسميته أي شيء آخر2. قد تعلمت الشيء الكثير من المشاركة في هذه النقاشات، غيّر أني أخذت أفكر مؤخرًا بأن تركيزنا على هذه القضايا، كلٌ في مختبراته الخاصة بنظرية السرد، قد صرفنا عن إبداء اهتمام كافٍ لمسألة تنوّع السرد اللاموثوق به ووفرته، إذ إنه يوجد تقريبًا في عدد غير متناهٍ من الأعمال التخييلية التي تمثّل سرد الشخصية على مرّ تأريخ السرد (وبالتأكيد، يوجد مثل هذا التنوع أيضًا في بعض أنماط السرد الأخرى، التي لا تجسد سرد الشخصية).
وعليه؛ لا أسعى في مقاربتي لــرواية «لوليتا» إلى إعادة النظر في مجمل النقاشات التي تدور حول تحديد موضع اللاموثوقية أو استعراض الفائدة التي نجنيها من مفهوم المؤلف الضمني، بل أنا معنيٌ هنا بإجراء دراسة وصفية تتناول شعرية النص، متكئًا على المنهج البلاغي، ومن ثم الكشف عن تأثير هذه الشعرية، وذلك بالرجوع إلى مقاربة التباينات الناتجة عن تلقي (أخلاقيات) لوليتا. نقطة البداية التي أنطلق منها هي التمييز بين اللاموثوقية التباعدية واللاموثوقية التقاربية، والذي تطرقتُ إليه آنفًا. تشير لفظتا (التباعدية) و(التقاربية) إلى آثار اللاموثوقية في الوشائج القائمة بين الراوي والجمهور التأليفي. ففي النمط السردي الذي ينطوي على اللاموثوقية التباعدية، تعمل التناقضات بين سرد الراوي أو قراءته أو تقييمه، وكذلك استدلالات الجمهور التأليفي حول هذه الوظائف على نَأي عنصرين رئيسين في العملية التواصلية عن بعضهما بعضًا. يمكن أن نوجزها في كلمة واحدة (تباعدية). أو بصياغة أخرى، يدرك الجمهور التأليفي في هكذا سرد أن تبنّي منظور الراوي يعني التباعد عن منظور المؤلف الضمني. وبهذا المعنى، سيصبح هذا التبني بمثابة صافي الخسارة التي تتكبدها العلاقة ما بين المؤلف والجمهور. حين يقول وايتي، شخصية لاردنر، إن جيم كيندل كان «شخصًا فظًا، ولكنه صديق طيب القلب»، فإنه بذلك يبدي قراءة وتقييما مغلوطيْن. ولأن الجمهور التأليفي يتبنى بدلًا من ذلك وجهة نظر أشد حدة حيّال جيم، فإننا من ثمّ، نزيد من اتساع المسافة الأخلاقية والتأويلية بيننا وبين منظور وايتي.
بينما في نصوص اللاموثوقية التقاربية، يتمخض عن التناقضات بين سرد الراوي أو قراءته أو تقييمه، وكذلك استدلالات الجمهور التأليفي حول هذه الوظائف، مفارقة تقارب المسافة الأخلاقية أو العاطفية أو التأويلية بين الراوي والجمهور التأليفي. وهذا يعني، بالرغم من إدراك الجمهور التأليفي أن السارد غير جدير بالثقة، فإن لا موثوقيته تلك تتضمن بعضًا من وجهات النظر التي يتبناها المؤلف الضمني، ومن ثمّ يتبناها من ورائه الجمهور التأليفي. عندما يكتب ستيڤنس في نهاية رواية «بقايا اليوم»، أن «المزاح هو سر الدفء الإنساني»، فإنه يبخس من شأن تلك القيمة؛ إذ لا يرى أن دفء الإنسان يعول على ما هو أبعد من المزاح. ومع ذلك، تكشف لنا هذه العبارة عن أن ستيڤنس قد تعلم شيئًا في سياق السرد؛ فقد دنا أكثر من معتقدات إيشيجورو الأخلاقية حول العلاقات الإنسانية قياسًا على ذلك البرود الذي كان يبديه ستيڤنس حينها حيال مزاح السيد فارادي. وبينما يتحرك ستيڤنس صوب هذا الاتجاه، يتحرك كذلك الجمهور التأليفي صوبه، ليس أخلاقيًّا فحسب، بل عاطفيًّا أيضًا.
وكما يوحي التركيز على آثار هذه العلاقة، يقوم هذا التمييز بين اللاموثوقية التباعدية واللاموثوقية التقاربية على مسألة التأثير البلاغي للاموثوقية. لا يتأتى تقسيمي المنطوي على أنواع اللاموثوقية الستة التي سبق وأن ذكرتها أعلاه (السرد المغلوط، والقراءة المغلوطة، والتقييم المغلوط، والسرد الناقص، والقراءة الناقصة، والتبخيس) من تحليل الآثار البلاغية. وإنما ينشأ من مقاربة متغيرين رئيسين في عملية التواصل السردي بين المؤلف الضمني والراوي والجمهور التأليفي: (أ) محور التواصل حيث تكمن اللاموثوقية، و(ب) إذا ما كانت عملية التواصل هذه تشير إلى أن الجمهور التأليفي بحاجة إلى رفض تبني منظور الراوي أو إتمام منظوره. ونظرًا لوجود هاتين القاعدتين المختلفتين لتحديد نمطي اللاموثوقية، فإن التمييز بين اللاموثوقية التباعدية والأخرى التقاربية يتقاطع وجميع الأنواع الستة الآنفة الذكر. ببساطة، يمكن لأي نوع من الأنواع الستة أن يدل على اللاموثوقية التباعدية أو نظيرتها التقاربية.
وبما أن معظم الأعمال التنظيرية السابقة تمثل شواهد على ما اصطلح عليه باللاموثوقية التباعدية، فأرغب بالتركيز الآن على اللاموثوقية التقاربية، وذلك من خلال اقتراح ستة أنواع فرعيّة لها. سأنظر فيما إذا كان من المرجح أن يقع كل نوع فرعي على امتداد أحد محاور الاتصال الثلاثة، مقارنة بوجوده على طول المحورين الآخرين. ومن ثمّ، سأحدّد نوع المسافة أو الهوّة التي من المحتمل أن يجسّرها كل نوع. تجدر الإشارة، بأني لا أزعم هنا أن قائمة الأنواع الفرعية التي أقترحها هي قائمة مفصلة وشاملة، ولكنني آمل أن يساعد ذلك على توضيح مفهوم اللاموثوقية التقاربية وبيان أهميته.
3. أنواع اللاموثوقية التقاربية الفرعية الستة: آثارها المحدودة أو الشاملة
يستغلّ النوع الفرعي الأول نصًا واحدًا، له قاصان وجمهوران وغايتان، وذلك من خلال إحالة تواصل السارد إلى تواصل غير موثوق به (حقيقيًّا، ولكنه موثوق به مجازيًّا). عادةً ما يحدث هذا النوع على طول محوري الحقائق/الأحداث، والفهم/الإدراك. ويضطلع بإمكانية تجسير الفجوة الإدراكية، والأخلاقية، والعاطفية بين السارد والجمهور التأليفي. خذ على سبيل المثال، المقتطف الآتي من رواية كِنْ كَيسي «حلّق أحد ما فوق عش الوقواق»، حيث يصف الزعيم برومدن سلطة الممرضة راتشيد على الزمن في جناح الصحة النفسية.
تستطيع الممرضة الكبرى أن تضبط ساعة الحائط على السرعة التي تشاء، بمجرد أن تتلاعب بأحد أقراص الساعة على الباب الفولاذي. إذ ترغب في أن تعجّل بمجريات الأمور، فتزيد السرّعة. ومثل برامق في دولاب، تدور تلك العقارب بخفة متناهية حول قرص الساعة . . . . يُستنفر الجميع كالمجانين بغية مواكبة مرور الزمن الزائف؛ تزاحم فظيع للحلاقة، ووجبات الإفطار، والمواعيد، والغداء، وتناول الأدوية، ومدة عشر دقائق في الليل بالكاد تغمض عينيك فيها، قبل أن تنطلق صيحات صفارة المهجع إيذانًا لك أن تنهض؛ لتعاود التزاحم كرة أخرى. وتسير على هذا النهج كابن مومس، مزاولًا مهامك اليومية، ربما عشرين مرة في الساعة، إلى حين أن ترى الممرضة الكبرى أن الجميع باتوا على حافة الانهيار. حينها، ترخي من شد الصمام الخانق، لتبطئ من دوران العقارب حول قرص الساعة. كأنها طفل يعبث بآلة عرض سينمائية، وقد أصابه السأم من مشاهدة لقطات الفلم مسّرعة عشرة أضعاف سرعتها الطبيعية، متضجرًا من كل تلك الهرولة السخيفة، وأصوات صرير الحشرات التي يصدرها الحديث؛ ليعيد مشاهدة لقطاته بصورتها الطبيعية.
قد دأبتْ على أن تعجّل من وتيرة الأمور هكذا في الأيام – مثلًا – التي تستقبل فيها زائرًا، أو في الأيام التي يقيم فيها المحاربون المخضرمون عرضًا للمرضى من عروض بورتلاند. أوقات كهذه، ترغبُ أن تطيلها، غير أن تلك الأوقات هي ما تسرّع فيها الممرضة الكبرى من وتيرة الأمور.
بيَد أنه النقيض ما يقع عمومًا، إبطاء وتيرة مرور الزمن. ستضبط الممرضة الكبرى الوقت على لحظة يتوقف فيها الزمن، فتجعل الشمس هامدة هناك في الشاشة، حتى لا تتحرك قيد أنملة طيلة أسابيع، فلا تتلألأ ورقة على شجرة، ولا عشبة في مرج. تظل عقارب الساعة عالقة على الساعة الثالثة إلا دقيقتين، وربما تتركها هكذا عالقة هناك حتى تصدأ أجسادنا (70-71).
من الواضح أن الزعيم يقدّم هنا سردًا مغلوطًا للأحداث، لأن بإمكاننا أن نستدل على ذلك من خلال العديد من الإشارات الواردة، بما فيها تلك التناقضات الداخلية في ثنايا الاقتباس. سأقتصر على مثاليْن لأوضح أفظع الإشارات التي جاءت في النص. ليس بمقدور المرضى النوم لمدة عشر دقائق عشرين مرة في غضون ساعة، ناهيك عن تناول ثلاث وجبات عشرين مرة في غضون ساعة. ولا يمكنهم أيضًا البقاء على قيد الحياة دون نوم وطعام لأسابيع. وكما يحدث عادة مع السرد المغلوط، يصاحب هذا النوع من اللاموثوقية مثيله الآخر، ألا وهو القراءة المغلوطة. يمنح الزعيم الممرضة راتشيد سلطة على ظاهرة الزمن التي لا تتصف بالذاتية، وهي سلطة لا تتمتع بها الممرضة إطلاقًا. يسهم السرد المغلوط والقراءة المغلوطة كلاهما في فهمنا لمشاكل الزعيم النفسية، والأسباب التي تجعله مريضًا في جناح الصحة النفسية هذا. فهو يعاني من جنون الارتياب وتحقير الذات. تدفعه هذه الظروف التي جاءت نتيجةً لتجربته في مشاهدة العالم الأبيض، وهو يحيل أباه الذي كان قويًا ذات مرة إلى مدمن للكحول وفرد معدم الجدوى، إلى التظاهر بأنه أصمّ.
حين يَهْدي كيسي بوصفه المؤلف الضمني قراءة إلى هذه الاستدلالات التي تتصل بلاموثوقية الزعيم، فإنه يهدينا في الوقت ذاته إلى استدلالات أخرى تفضي بنا إلى إدراك أن الزعيم – بالرغم من لاموثوقيته – يلتقط بعض الحقائق الضمنية حول ما تعنيه الحياة في جناح الصحة النفسية، وحول دور الممرضة في تلك الحياة. أولًا، يصف سرد الزعيم بصورة فاعلة أن الجناح جدُّ منفصلٍ عمّا يدور خارج أسواره في العالم، بحيث يمكن للجناح أن يكون لديه أيضًا نسقه الزمني الخاص به، وبحيث يمكن أن تختلف التجربة الذاتية لإدراك وتيرة الزمن اختلافًا جذريًّا من يوم إلى آخر ضمن إطار ذاك النسق الزمني. ثانيًا، يشير سرد الزعيم إلى أنّ الممرضة راتشيد تتمتع بقدر بارز من السلطة. وإذا أضفنا إلى ذلك سرده لتلاعبات الممرضة بالمرضى حين تعقد لقاءاتها الجماعيّة بهم، فضلًا عن العديد من تفاعلاتها الأخرى، فسنشاطر تقييم الزعيم الأخلاقي تجاه الممرضة؛ لأننا ندرك أن ذلك ما يصادق عليه كيسي الضمنيّ. وتشبيه الزعيم للممرضة بالطفل المتبرم من آلة العرض السينمائية هو مثال ذو دلالة واضحة على ذلك. ومن وجهة نظر الزعيم، فإنّ دافع الممرضة في التراخي والإبطاء «من وتيرة دوران عقارب الساعة»، لا يمتّ بأيّ صلة لمساعدة المرضى. ولكنّه مرتبط ببسط سيطرتها عليهم، إذ تخفف من شد الخناق فحسب، حين تدرك أن الجميعَ صاروا على شفا الانهيار. وهي لا تقوم بذلك بدافع الرأفة بهم، وإنما تفعله بذات الحماسة التي تغمر الطفل الضجر من الدهشة التي تستحوذ عليه نتيجة مشاهدة لقطات الفلم، وهي تُعرض بسرعة متناهية.
في تصور الزعيم على العموم، تجسد سلطة الممرضة راتشيد على الزمن في الجناح جزءًا من عظيم دورها في (الائتلاف)، المصطلح الذي يطلقه الزعيم على جميع القوى المجتمعيّة التي تعمل على فرض التوافق السلبي على الأفراد. يميّز الزعيم جناح الصحة النفسية على أنّه إحدى مؤسسات ذلك (الائتلاف)، حيث يتم إصلاح أولئك الذين يقاومون قوى التوافق الاجتماعي. ويرى الزعيم أيضًا الممرضة راتشيد كمدير كفؤ ومكرّس ذاته باستمرار لإدارة تلك المؤسسة. مرة أخرى، يدعو كيسي الضمني جمهوره إلى إدراك أنّ الزعيم غير جدير بالثقة حقيقيًّا في فهمه (فلا وجود لهذا (الائتلاف)، إلّا أنه جدير بالثقة مجازيًّا في سرده وقراءته (يعمل الجناح على فرض التوافق على حساب الذكورية من بين عدة أمور أخرى). كما أنه جدير بالثقة في تقييمه (تخدم ألاعيب الممرضة راتشيد برمتها مسألة تقويض ثقة المرضى بأنفسهم واحترامهم لذواتهم). يفيد الأثر الشامل لسرد الزعيم بأننا نؤول جنون الارتياب لديه كشرط يمنحه امتياز الوصول إلى حقائق مجازيّة مهمة حول العالم التخييلي، والتمتع بقدرة موازية على إبداء أحكام أخلاقية دقيقة حيال شخصيات ذاك العالم. بعبارة أخرى، إن الزعيم راوٍ غير جدير بالثقة في سرده، إذا ما تعلق الأمر بالزمن في جناح الصحة النفسية، وإذا ما تعلق الأمر أيضًا بقراءته لسلطة الممرضة راتشيد. بيد أنّ الحقائق الإدراكية ذات الطابع المجازي، التي تكمن وراء تلك اللاموثوقية الحقيقيّة، تعزز من موثوقية تقييمه الأخلاقي لها. يساهم هذا الأثر مساهمة بالغة في تعاطفنا مع شخصية الزعيم. كما يساهم أيضًا في رغبتنا بأن يتحسن حاله.
يصبح هذا الجانب من تلقّينا على – وجه التعيين – جانبًا مهمًا، إذا ما أمعنّا النظر في الدينامية العاطفية والأخلاقية بصورتها العامة في سياق التسلسل السردي للأحداث لهذه الرواية. يخبرنا الزعيم عن أنّ سلطة ماكميرفي تُعطل من تلاعب الممرضة بالمرضى، وتخلّ بسيطرتها على الجناح. إلّا أنه يخبرنا أيضًا عن أن ماكميرفي يعي أن ممارسة سلطته بصفة مستمرة باعتباره شخصًا ملتزمًا بالإقامة في المستشفى تعني مخاطرته بالبقاء فيه للأبد. يبّين كيسي الضمني أيضًا أن الأمل الوحيد للمرضى في التحسّن والقدرة على الاعتماد على ذواتهم هو أن يستمر ماكميرفي في عمل تلك الإرباكات، ليريهم بالتالي أنهم ليسوا عاجزين كما يظنون. وبناء عليه، يضع كيسي الضمني جمهوره في موقف غير مألوف ينم عن الرغبة في أن يتخذ بطل الرواية المثير للتعاطف خيارات من المحتمل أن تفضي به إلى الهاوية. يعد تقاربنا وشخصية الزعيم أمرًا أساسيًّا لبلورة فعاليّة هذه الدينامية: فكلما شعرنا بالتعاطف تجاهه، كلما أردنا أن يظل ماكميرفي في طريقه إلى الهاوية، على الرغم من أننا ندرك حجم المخاطر التي يواجهها.
وعلى نحو مماثل، تصبح أفعال الزعيم في نهاية السرد ذات أهميّة حاسمة لفعالية خاتمة الرواية، وذلك بعد أن أزال القناع تمامًا عن الممرضة راتشيد، لتظهر لنا كامرأة مستبدة ومذنبة، وبعد أن أُخضع أيضًا لعملية الفصّ الجبهي للمخ جراء تمرده. يطلق الزعيم أحكامه التقييمية، ويمارس قوته الجسدية التي استعادها حديثًا؛ كي ينهي – أولًا– حياة ماكميرفي رحمةً به، وكي يهرب – ثانيًا – من المستشفى منتصرًا. وبذات القدر من الأهمية، يخلو سرد الزعيم لهذه الأحداث من جنون الارتياب، كما يتسم سرده أيضًا بالموثوقية تمامًا. «كنت متيقنًا من أمر واحد: ما كان ماكميرفي ليترك شيئًا مثل هذا قابعًا هناك في غرفة الترفيه في الجناح، وحاملًا اسمه لعشرين أو ثلاثين عامًا، حتى يمكن للممرضة الكبرى أن تستخدمه كمثال على ما قد يحدث لك إن خالفت النظام» (270). تفسح اللاموثوقية التقاربية بصياغة أخرى، المجال للموثوقية التقاربية لتتسيّد، بينما ينجح كايسي في نحت لوحة مثالية يتعانق فيها الحلو والمر ليختم بها روايته3.
أما أنواع اللاموثوقية التقاربية الفرعيّة الأخرى، تحديدًا النوع الفرعي الثاني والثالث والرابع، فتتمظهر بصورة جليّة في بعض المقتطفات من رواية مارك توين «مغامرات هَكلِبري فِن». سأستعرضها جميعًا، ومن ثم سأبدي بعض الملاحظات حول آثارها الشاملة. أصطلحُ على النوع الفرعي الثاني (المقارنة الهزليّة بين المؤلف الضمني والراوي). في هذه التقنية، يوظف المؤلف الضمني بشكل هزلي اللاموثوقية في السرد لجذب الانتباه إلى أوجه التشابه أو الاختلاف بينه بوصفه قاصًا، وبين الراوي بوصفه قاصًا أيضًا. وبالاعتماد على كيفية تطوير المؤلف الضمني للعلاقة بينه وبين الراوي، يمكن للمقارنة الهزليّة أن تسفر عن آثار إمّا تباعدية أو تقاربية. إذا كان المؤلف الضمني، على سبيل المثال، قد جعل السارد يبالغ في تقدير إمكاناته السردية كراوٍ، فمن المحتمل أن يكون بين يدينا سرد يحمل آثار اللاموثوقية التباعدية. يعد مطلع رواية توين مثالًا جليًّا على المقارنة الهزلية وآثارها التقاربية.
لن تعرف من أنا، إذا لم تقرأ كتابًا بعنوان «مغامرات توم سوير». ولكن لا يهم. ألّف ذاك الكتابَ السيد مارك توين، وقد روى فيه الحقيقة جلّها، رغم بعض المبالغات التي أوردها، إلّا أنه قد روى أساسًا الحقيقة. لا يستأهل الأمر أية أهمية. إذ لم أرَ أحدًا قط لم يكذب في حياته من حين إلى آخر، ما عدا ربما، الخالة پولي والأرملة، ماري. الخالة پولي – خالة توم – وماري والأرملة دوغلاس جميعهن سُطرن في ذاك الكتاب. وهو كتاب في معظمه يروي الحقيقة بجانب ما يشوبه من مبالغات، كما ذكرت آنفًا. (32)
هاك هنا راوٍ جدير بالثقة في سرده عن رواية «مغامرات توم سوير»، لكن قضية الموثوقية تغدو قضية مثيرة للاهتمام، حين نتأمل في أدوار هاك كقارئ ومقيّم أخلاقي. وبما أن هاك ذو سلطة نافذة في سرده، فلدينا إذًا مبرر مقنع كجمهور تأليفي؛ لتبني موقفه التأويلي والتقييمي على أنه جدير بالثقة. فمن يعرف إن كانت ثمة مبالغات في متن «مغامرات توم سوير» سوى هاك. وفي المقلب الآخر، إذا سلمنا بأن هاك راوٍ غير جدير بالثقة بالمطلق، حينئذ سيفضي بنا المؤلف الضمني إلى اقتفاء أثر الضعف الأخلاقي في تأليفه لـ«مغامرات توم سوير»، مهما كان ذلك طفيفًا. ولكن المخرج من هذه المشكلة المدهشة ليس بعيد المنال: ينطوي سرد هاك هنا على قراءة وتقييم يتسمان باللاموثوقية بعض الشيء؛ لكونه سردًا ناشئًا إثر تلاعب توين الضمني بالعلاقة بين المكون المُحَاكَاتي لشخصية هاك، ونظيره التخييلي. بالنسبة للجمهور التأليفي، تمثل شخصية هاك بناء تخييليًا مثله كمثل أحداث رواية «مغامرات توم سوير». لذا، يتهاوى الحدّ الفاصل بين الحقيقة والمبالغات الخياليّة في ذلك العالم الروائي. لا يدعو توين الضمني الجمهور التأليفي للعودة إلى ذلك الكتاب، ومن ثم البحث عن تلك المبالغات؛ لأننا لن نتمكن من العثور عليها. علاوة على ذلك، ندرك أن بمقدور هاك أن يتهم توين بنسج المبالغات – وأن يتغاضى أيضًا عن هكذا نسج – لمجرد أن توين يخوله لسرد ذلك. أي، تتضمن (المقارنة الهزلية) توظيف توين لتداخل مستويين مختلفين في السرد: يتيح لنفسه أن يظهر في مستوى العالم المَحكي، حيث يوجد هاك (وبهذا يتحول من مجرد مؤلف للراوية إلى صحفي/مترجم سيرة/مؤرخ يتقصى حياة توم ليكتب عنها لاحقًا)، في حين أنه يتكئ على جمهوره؛ كي يدرك هذا الأخير بأن المؤلف (1) يحتفظ بهويته كصانع لذلك العالم المَحكي (2) وكصانع في الآن ذاته يمنح هاك السلطة في العثور على تلك المثالب في عالمه المَحكي الموازي. عندما يجعل توين السارد هاك مخولًا لاتهامه بنسج المبالغات، وقادرًا أيضًا على أن يكون متسامحًا مع تلك الإخفاقات، فإن توين الضمني يحيل هاك إلى راوٍ غير جدير بالثقة بعض الشيء، وجذاب للغاية في الوقت ذاته. والمحصلة هي أن مطلع الرواية يفضي بنا إلى توطيد تقاربنا على الصعيدين العاطفي والأخلاقي مع هاك السارد من جانب، ومع توين الضمني من جانب آخر.
أما النوع الفرعي الثالث، فهو ما أطلق عليه (التغريب الساذج)، متأثرًا بمصطلح ڤيكتور شكلوڤسكي (التغريب) في دراسته (الفن بوصفه تقنية). غالبًا ما يحدث (التغريب الساذج) كنوع من القراءة التي تتصف باللاموثوقية. خذ على سبيل المثال، هذه الجملة الآتية من الفصل الأول من «مغامرات هَكلِبري فِن»: «لكن، كان عليك أن تصبر ريثما تطأطئ الأرملة رأسها؛ لتتذمر قليلًا من الطعام والشراب، بالرغم من أنهما على ما يُرام» (33). أخفق هاك بسذاجته في أن يدرك أن ما يسميه تذمر الأرملة دوغلاس هو مجرد تلاوة للصلاة قبل تناول الطعام. لكن طراوة وجهة نظره السردية تسمح له أن يكتشف هذه الحالة الروتينية، سمة الصلاة التي تفتقر للتدبر، حتى وإن صدرت من شخص خالص التدين كالأرملة دوغلاس. بعبارة أخرى، تعمل سذاجة هاك على نزع الألفة من فعل الصلاة وتغريبه على نحو تعترف فيه بوجود الهوة الإدراكية بينه وبين الجمهور التأليفي، وتجسيرها.
فيما يخص النوع الفرعي الرابع، فأصطلح عليه (الاستصغار الذاتي الصادق والمضلل). وكما يوحي هذا المصطلح، فإن هذا النوع الفرعي من اللاموثوقية التقاربية يحدث على طول محور الأخلاقيات/التقييم، ويتكئ على وجود حكمين أخلاقيين معًا في الآن ذاته. يتصل الأول بالاستصغار الذاتي الصادق، بينما يشير الآخر إلى السبب وراء كون هذا الاستصغار الذاتي مضللًا. تقدم المقتطفات الواردة في الفصل 31، التي تسرد قرار هاك بالذهاب إلى الجحيم، أمثلة بينة على ذلك.
أعلم يقينًا لِمَ لم تنسل [كلمات الصلاة] من فيّ؛ لأنها لم تكن نابعة من صميم قلبي، لأني لم أكن مخلصًا، لأني كنت شخصًا مراءٍ. أقول سأتوب عن خطاياي، ولكنني في قرارة نفسي أرتكب أشدها فحشًّا. كنت أحاول أن أجبر لساني على أن يقول سأفعل الصواب والعمل الطاهر، فأكتب إلى سيدة ذاك العبد الزنجي لأخبرها بمكانه؛ إلا أني كنت أعلم في أعماق ذاتي أنها كذبة – وكان يعلم الإله ذلك. لا يمكنك أن تتلو صلاة كاذبة – ذاك ما أدركته (200).
في هذا المثال، تظهر لنا الخطوات الأولى من توظيف توين للاستصغار الذاتيّ الصادق، ولكنه استصغار مضلل. يحكم هاك على نفسه بأنه يعاني من ضعفٍ أخلاقيّ، بينما يرشدنا توين الضمني لنحكم على عدم استطاعة هاك بأن يتصرف خلاف ما تقتضيه مصلحة جيم، بوصفها علامة تدل على أن هاك يتصرف وفقًا لمعايير أخلاقية سامية.
يكتب هاك بعدئذ رسالة إلى الآنسة واطسون، ويخبرها عن مكان جيم، حتى يتمكن من الصلاة أملًا في أن يطهر نفسه من الخطيئة، ويخفف من معاناته في الحال. ولكن قبل أن يهم بالصلاة، أخذت تتداعى أفكاره عن رحلتهما في النهر، لترسّخ موثوقيته هنا، كسارد وقارئ ومقيم، اللاموثوقية التقاربية السابقة، وذلك عبر توظيف الاستصغار الذاتي الصادق والمضلل.
وأخذت أفكر في رحلتنا في النهر. كنت أرى جيم ماثلًا أمامي طوال الوقت، في النهار، وفي الليل، أحيانًا تحت ضوء القمر، وأحيانًا أثناء العواصف. كنا نطفو فوق صفحة الماء، نتجاذب أطراف الحديث، نضحك ونغني. ولكن لظرف ما، كما يبدو لي، لم يحضرني ما يبعث القسوة في قلبي نحوه. بل على العكس تمامًا. وأخيرًا، تذكرت كيف أنقذت حياته لمّا كذبت على الرجلين بأن من على متن الرمْث يشكو من الجُدري. كان ممتنًا لي للغاية، وقال إني أفضل صديق عرفه جيم الكهل في العالم، وصديقه الوحيد الآن؛ ثم تصادف أني نظرت حولي ورأيت تلك الورقة (200–201).
ومن ثم؛ حين يتخذ هاك القرار بتمزيق تلك الرسالة، ويقيّم فعله بمنتهى السلبية، يتملكنا الشعور بالتعاطف الشديد وأفعاله، والنظر بعين الاستحسان والرضا عن خياره الأخلاقي.
«حسنًا، إذًا، سأذهب إلى الجحيم» – ومزقها.
كانت أفكارًا شنيعة، وكلمات شنيعة أيضًا، ولكنني قد قلتُها. ولم أتراجع عنها. لم أفكر أبدًا في تطهير ذاتي. طردت ذلك كله من رأسي، وقلت سأركب الشرّ مرة أخرى. ذاك ما دربت عليه، وما أحسنت صنعه. وما كنت أحسن خلافه (201).
في ذروة الاستصغار الذاتي هذا، تبلغ اللاموثوقية التقاربية، التي جاءت ابتداء في الفقرة الأولى، أقصى أوجها. فبينما يوقن هاك بأنه هالك لا محالة، يصبح جمهور توين أشد يقينًا من أن هاك يدرك خلاصه. تتكئ أحكامنا الأخلاقية على استدلالنا من أن هاك صادق تمامًا في نظرته لنفسه، إلّا أنه يبدي تقييمًا مغلوطًا لخياراته الأخلاقية.
يلقي الاهتمام الذي يبديه توين في توظيفه لأنواع اللاموثوقية التقاربية الفرعية المختلفة الضوء أيضًا على الجدل الدائر حول نهاية «مغامرات هَكلِبري فِن». فبالرغم من استمرار توين في توظيف اللاموثوقية التقاربية، التي تتمظهر في تغريب هاك الساذج للمكائد المفصلة التي يدبرها توم سوير، إلاّ أن توين يكف عن مواصلة توظيفه لهذا النوع الفرعيّ من اللاموثوقية إثر لجوئه إلى استعمال الاستصغار الذاتي الصادق. ولكن بدلًا من ذلك، يَقْبل هاك على نحو سلبي معظم المكائد التي يحيكها توم وقسوتهما العابرة تجاه جيم. بصياغة أخرى، يوظف توين اللاموثوقية التقاربية فيما يتصل بــــــهاك بوصفه مخطئًا في قراءته، وليس بوصفه مقيمًا أخلاقيًا. وعليه، تحافظ اللاموثوقية أثناء (الهروب) على المسافة الإدراكية، وتعمل على تقليصها. ولكن فيما يتعلق بمعاملة هاك لجيم، فإنها لا تقلص أية مسافة أخلاقية مهمّة. بالتأكيد، يطرح فشل هاك في تقييم المعضلات الأخلاقية المناطة بمعاملة توم لجيم مثل هذا التناقض الصارخ مع أثر التقارب الذي يوقعه الاستصغار الذاتي الصادق والمضلل في الفصل 31، إذ إنه يبدي أسبابًا وجيهة تدعو العديد من القراء إلى التشكي من أن (الهروب) يمثل نقيصة بحق قالب الرواية.
بالنسبة للنوع الفرعيّ الخامس من اللاموثوقية التقاربية، فهو ما أسميه (التقدم الجزئي نحو المعيار). يحدث هذا النوع الفرعي عادة إمّا على طول محور الأخلاقيات/التقييم، أو على طول محور الفهم/الإدراك. يعد تعليق ستيڤنس الذي جاء فيه: «المزاح هو سر الدفء الإنساني»، أحد الأمثلة التي تبين هذا النوع الفرعي. والمقتطف الآتي من رواية همنغواي «وداعا للسلاح»، هو أيضًا مثال آخر عليه.
ذاك هو ما صنعتَه. وافتك المنية. ولم تك تدري ما يعنيه كل ذلك الموت. لم يكن لديك أبدًا متسع من الوقت كي تتعلم. ألقوا بك هناك، ولقنوك القواعد. ومتى ما ارتكبت الغلطة الأولى، أردوك قتيلًا. أو قتلوك بلا مبرر مثلما قتلوا أيمو. أو منحونك مرض الزهري مثلما منحوه لرينالدي. ولكنهم قتلوك في نهاية المطاف. بإمكانك أن تتيقن من ذلك. ابقَ هنا بعض الوقت، وسوف يقتلونك (327).
أحد مواقف همنغواي الضمنيّة في هذه الرواية هو أن العالم مكان مدمِّر بطبيعته. وأفضل استجابة لمعرفة ذلك التدمير هو خلق معادل إيجابي بغرض مواجهته، مثل التعامل بكرامة. يُظهر سرد فريدريك هنا أنه قد أحرز تقدمًا هائلًا في فهمه لطبيعة العالم التدميرية منذ تلك الحقبة التي كان فيها مقتنعًا بأن الحرب «لم تكن أكثر خطورة بالنسبة لي من الحرب في الأفلام» (37). غير أن نبرة الشكوى في خطابه تبين أنه لم يطوِ بَعد المسافة كلها صوب وجهة نظر همنغواي الضمني– وهو ما يمكن تفهمه – لأنه، أي فريدريك، قد علم للتو بأن ولده من كاثرين، قد مات أثناء الولادة. ومع ذلك، فإن الأثر المهيمن الذي يظهر في هذا المقتطف هو تجسير الهوة الإدراكية والأخلاقية والعاطفية بين فريدريك والجمهور التأليفي. يعلم فريدريك، بعد فترة وجيزة من ذلك، أن كاثرين قد وافتها المنية أيضًا. حينها، يخالجه شعور مبدئي يدفعه إلى توديعها بصورة رومنطيقية، لكنه يفشل فشلًا ذريعًا في ذلك. فيقول: «كان يشبه توديع تمثال ما» (332). ثم ولظرفٍ ما، يصبح فريدريك قادرًا على أن يكمل خطواته الأخيرة صوب وجهة نظر همنغواي الضمني. فبإكماله المسير صوب الضفة الأخرى، منظور همنغواي الضمني، فإنه يطوي ما تبقى من المسافة الإدراكية والأخلاقية والعاطفية بين فريدريك والجمهور التأليفي. تعبّر السمة الصادقة والمحْكَمة للجملة الأخيرة من سرد فريدريك التي تتصف تمامًا بالموثوقية، عن قطعه للجزء الأخير من تلك المسافة. يبدو للوهلة الأولى أن الجملة الأخيرة لا تدل إلا على البُعد الإخباري للحدث. لكنها في السياق ذاته، تدل أيضًا على موقف فريدريك الأخلاقي حين اختار ألّا يدع فراق كاثرين يهلكه، بل آثر المضي قُدمًا، وهو معترف بخسارته: «بعد برهة، غادرت المستشفى عائدًا إلى الفندق تحت زخات المطر» (332).
أما النوع الفرعي السادس، فأصطلح عليه (التقارب عبر المقارنة المتفائلة)، مستفيدًا من أبحاث العلوم الاجتماعية حول استراتيجيات التصدي (پيرلن وسكولر). يحدث هذا النوع عندما يقارن السرد بصورة جلية بين اللاموثوقية التباعدية، وبين ما هو أدنى درجة تباعديًا. بوسعي أن أتعامل على نحو أفضل والوضع الذي أحياه مهما بلغت سوداويته، وذلك بمقارنته ببعض الأوضاع الحياتية البديلة التي تعد أقل تفاؤلًا. وعلى غرار ذلك، يمكن للمؤلفين الضمنيين أن يرشدوا قراءهم إلى أن يميزوا أحد أمثلة اللاموثوقية على أنه (أحسن) من غيره. ستعيدنا مثل هذه المقارنات التي تجري ضمن خطاب راوٍ واحد إلى مصطلح (التقدم الجزئي نحو المعيار). لهذا السبب، أقترح استعمال مصطلح (التقارب عبر المقارنة المتفائلة) للدلالة على المقارنات التي تحصل بين مختلف الرواة في عمل سردي واحد. حين يقارن فوكنر، على سبيل المثال، في روايته «وأنا على فراش الموت» بين سرد آنْس وسرد دارل، فإن أوجه القصور لدى آنْس في محور الأخلاقيات تجعل من مثيلتها العابرة لدى دارل في المحور ذاته، وفي محور الإدراك أيضًا، فاتنة بعض الشيء. وكما يشير هذا المثال، فإن النتيجة العكسية للتقارب عبر المقارنة المتفائلة تعني التباعد الذي يتأتى نتيجة إجراء المقارنة السلبية. إذ لا تعمل المقارنة هنا بين سرد دارل وسرد آنْس على توطيد تقاربنا من دارل فحسب، بل وتعمل أيضًا على تعميق اغترابنا عن آنْس.
4. اللاموثوقية التباعدية والتقاربية، وأخلاقيات «لوليتا»
كيف يمكن إذًا للتمييز بين اللاموثوقية التباعدية والأخرى التقاربية أن يبين الظاهرة المزدوجة للقراء، المنخدعين في همبرت بسهولة متناهية من جهة، والمناهضين تمامًا له من جهة أخرى؟ أفترض هنا في (الجزء الأول) من الرواية، بأن نابوكوف يوظف بنسق متكرر الموثوقية التباعدية، واللاموثوقية التقاربية، ونسقًا تشفيريًا معقدًا في بعض الأجزاء من خطاب همبرت السردي. وفي هذا النسق التشفيري، لا يمنح همبرت السرد العديد من العلامات الدالة على اللاموثوقية التقاربية فحسب، بل ويشير له أيضًا على أنه يمثل اللاموثوقية التباعدية. ولكي يؤتي هذا النسق المعقد مفعوله، ينبغي أن تكون علامات اللاموثوقية التقاربية في السرد مقنعة كفاية للحد الذي يرتئي الجمهور التأليفي فيه جديًا التقارب من منظور همبرت على النأي عنه. يكاد الجمع بين الموثوقية التقاربية، واللاموثوقية التباعدية، وكذلك هذا النسق الشائك أن يضمن أن الكثير من القراء الحقيقيين من لحم ودم، سينخدعون في همبرت – ليس لأنهم سيغفلون عن ملاحظة العلامات الدالة على اللاموثوقية التباعدية فحسب. بل سينخدوعون أيضًا لأنه بمجرد أن يتم العثور على أية دلالة تشير إلى اللاموثوقية في السرد، فإنه من السهولة بمكان استخلاص أن المرء واعٍ لحيل الراوي. لذا، لن يقع ضحيّة لها. يجيب هؤلاء القراء على همبرت بقولهم: «أتفقُ، ولكن»، في حين يطلب نابوكوف الضمني من الجمهور التأليفي أن يتخذ خطوة أخرى في رده: «أوشكتَ أن تجعلني أقول ‹أتفق، ولكن›، غيّر أني واعٍ لحيلك». أضف إلى ذلك، أن تقنية النسق التشفيري المعقد بجانب اللاموثوقية التباعدية المتسيدة في النص، تضمن أن مجموعة أخرى من القراء سيعدون دفوعهم لرفض جميع التماسات همبرت. ومن ثمّ سيتّخذون قرارًا مضمونه أن جميع ما جاء في متن سرد همبرت ينطوي بالأساس على أثر تباعدي، بما في ذلك (الجزء الثاني) من الرواية. إذ يبدو أنه يحرز تقدمًا جزئيًّا تجاه المعايير الأخلاقية للجمهور التأليفي.
وعلى النقيض من الزعيم برومدن، أو هاك فِن، أو ستيڤنس، أو فريدريك هنري، فإن همبرت راوٍ شديد الوعي بذاته، رغم تمتعه بسلطة جمالية محدودة. بمعنى، أن همبرت مدرك تمامًا لصنعته السردية وغاياته ككاتب، إلّا أن إمكانيته الفنية محدودة من أجل أن يبلور النتائج والغايات التي يصبو إليها. والسبب يرجع إلى أن غاياته تلك تختلف تمامًا عن غايات نابوكوف. تتمثل إحدى نتائج هذا الاختلاف في أن توظيف النوع الفرعي (التقارب عبر التغريب الساذج) هو خيار غير متاح لنابوكوف. بينما تتمظهر النتيجة الأخرى في أن استعمال اللاموثوقية التقاربية من خلال المقارنة الهزلية، من المرجح أن يكون أسلوبًا آسرًا للغاية. في الواقع، يوظفه نابوكوف في الصفحة الأولى من الرواية، حيث يكتب همبرت «يمكنك أن تعول دائمًا على قاتل لصناعة أسلوب نثر شعري» (9). تسلط المقارنة الهزلية الضوء على أوجه التشابه – واختلاف واحد مهم – بين نابوكوف وهمبرت. كلاهما واعٍ لأسلوبه الرفيع. ويقصد كلاهما المفارقة من جملة همبرت تلك. كما يتلذذ كلاهما بها. ويفصحان أيضًا عن أمر مهمّ في الوقت الذي يلفتان فيه الانتباه إلى أسلوبهما. وكجمهور تأليفيّ، نبدي تقديرنا لهزلهما ومهارتهما السردية للحدّ الذي ننجذب فيه نحو همبرت. ولكن همبرت قاتل، بخلاف نابوكوف. وتشير مفارقته هنا إلى أن الجمهورَ التأليفي بحاجة إلى توخّي الحذر بشأن أحكامه الأخلاقية، لأن جملته تلك تعبث بالأفكار التي تفيد بأن القتل أدنى أهمية من الأسلوب، أو أن الأسلوب هو مجرد تعويض عن جريمة القتل. وللاطلاع على المزيد من آثار اللاموثوقية التقاربية هنا، يجدر بنا النظر إلى السياق العام الذي جاءت فيه.
تتذيل جملة همبرت تلك الفقرة الثالثة من خطابه الروائي، وتجيء بعد اعتكافه على سبْك بعض من كلامه. كما تأتي جملته تلك مباشرة كمتابعة لتوضيح نظيرتها السابقة، التي تتضمّن أنه قابل سلف دولوريس «قبل أن تولد لوليتا بأعوام، تماثل تقريبًا ما كنت أبلغ من العمر في ذلك الصيف» (9). لكن هذا التعقيب لا ينطبق على تلك المواربة الذكيّة فحسب، وإنما ينطبق أيضًا على الإبداع في كلتا الفقرتين الأولى والثانية من النص الروائي. تتميز الفقرة الأولى بخطابها الغنائي المباشر وبنيتها النصية الموازية والمرصوفة، وتتصف كذلك بالجناس الاستهلالي: «لوليتا، يا نور حياتي، ونار أحشائي. يا روحي، وخطيئتي» (9). كما تتميز الفقرة كذلك باحتفال همبرت بالمجد اللغوي لاسمها: «لو ــــــ لي ــــــ تا. طرف اللسان وهو يقوم برحلة من ثلاث خطوات أدنى الحنك لينقر على الأضراس ثلاثًا. لو. لي. تا» (9). تستمر الفقرة الثانية في التلاعب اللفظي باسمها، حيث ينتقل همبرت إلى ألقابها الأخرى: لو، لولا، دولي، دولوريس، إلى أن يعود مرة أخرى إلى اسم لوليتا. «كانت لُو، مجرد لُو في الصباح، تتبدى مرتدية جوربًا واحدًا، طوله متر وأربعة وعشرين سنتمترا تقريبًا. ولولا حين ترتدي بنطالها. ودولي في المدرسة. ودولوريس في الوثائق الرسمية. لكنها بين ذراعي، كانت دائمًا لوليتا» (9).
وبناء عليه، عندما يعبّر همبرت عن رأيه: «يمكنك أن تعول دائمًا على قاتل لصناعة أسلوب نثر شعري»، فإن هزله يلفت الأنظار إلى مهارة أسلوبه السردي. كما أنه يلفت الأنظار أيضًا إلى التشابه بينه وبين القاتل استنادًا إلى مقياس الأسلوب هذا على الأقل. ولكن هزله من جانب آخر، يجذب كذلك الانتباه إلى العلاقة بين الأسلوب والتصورات الإدراكية الحادّة، التي يعبر عنها حيال دولوريس. ومن ثمّ، فإنّ أحد إرهاصات المقارنة الهزلية هي تقارب همبرت ونابوكوف الضمني على طول محور الإدراك. ولكي يتيقن نابوكوف من فهمنا لذلك، فإنه يضمّن في الفقرات القليلة الأولى بعض العلامات المهمة، كما هو الحال من إدراج عبارة «يمكنك أن تعول دائمًا»، التي تحذر من التقارب وهمبرت أكثر ممّا ينبغي من ناحية المحور الأخلاقي (يثير سرده التساؤل عمّا إذا كانت صورة لوليتا بين ذراعيه هي ذاتها صورة تلميذة يبلغ طولها مترًا وأربعة وعشرين سنتمترا تقريبًا). لكن أثر التقارب من ناحية محور الإدراك يظل أشد وقعًا. بعبارة أخرى، يوظف نابوكوف الضمني المقارنة الهزلية؛ بحيث إن أحد عناصر جماليات الرواية، أسلوب نابوكوف الإبداعي الذي سمح لهمبرت بمشاركته، يدفع الجمهور التأليفي إلى تصور همبرت كموؤل جدير بالثقة. يخضع الدفع باتجاه هذا التصور بالطبع للتغيير حين نوغل أكثر في الرواية، ولا سيما أنه لا ينتج تلقائيًّا تصورًا يحيل همبرت إلى مقيِّم أخلاقي جدير بالثقة في ضوء تلك العلامات التحذيرية التي يوردها نابوكوف. ولكن استراتيجية نابوكوف بوجه عام، تشجع هنا على تقاربنا المبدئي من همبرت.
هذا التقارب تشجعه أيضًا المقارنة المتفائلة مع سرد جون رَيه الابن، الذي يؤطر سرد همبرت في (التوطئة). تستأهل العلاقات المتبادلة بين الموثوقية ونقيضها في سرد رَيه في حدّ ذاتها تحليلًا موسعًا. ولكن تماشيًا مع أهداف الدّارسة هنا، فإن السّمة ذات الصلة الوثيقة بسرد رَيه هي انتفاء اتساق أسلوبه. تتغير هذه السمة من إجراء شكلي أخرق («العنوانان اللذان تلقى بموجبهما كاتب هذه التوطئة الصفحات الغريبة لهذه القصة»؛ «يمكن إعفاء هذا المعلق من التكرار» [3، 5])، إلى فعالية أخلاقية مباشرة («شخص حقير، ومنحط» [5])، وإلى تكرار الابتذال: «يجب على ‹لوليتا› أن تجعلنا جميعًا – نحن الآباء والأمهات والإخصائيين الاجتماعيين والمعلمين – أن نكرس أنفسنا بمزيد من اليقظة والبصيرة لمهمة تنشئة جيل أفضل في عالم أسلم» (6). والمحصلة التي نخرج بها هي أننا أمام راوٍ نتساءل عن تصوراته الإدراكية، وأحكامه القيّمية، حتى لو لم تكن لدينا معلومات كافية لبناء وجهات نظر بديلة وواضحة. على العموم، بعد أن قدم لنا نابوكوف ثلاث صفحات من سرد جون رَيه الابن في (التوطئة)، جعل كلا الجمهور الحقيقي والآخر التأليفي متأثرين عاطفيًّا بخطاب همبرت البلاغي. وحين يوظف نابوكوف تقنية المقارنة الهزلية في الصفحة الأولى من سرد همبرت، فإنه يشجعنا على التقارب الشديد من منظور همبرت.
ولكن نابوكوف في معظم بقيّة الفصول الأولى من الرواية، يستعمل استراتيجية النسق التشفيري المعقد. نجد مثالًا بيّنًا على ذلك في الفصل الخامس، حيث يشرح همبرت نظريته عن الحُويرات (حوريات صغيرات).
الآن أود أن أقدم الفكرة التالية: ثمة فتيات صغيرات تبلغ أعمارهن ما بين التاسعة والرابعة عشرة. ويبدنّ لبعض المسافرين المسحورين، وكأنهن أكبر سنًا بضعفين أو أكثر. ويكشفن الغطاء عن طبيعتهن الحقيقية، التي ليست بالطبيعة البشرية، وإنما هي طبيعة حوريّة (تلك طبيعة شيطانية). هذه المخلوقات المصطفاة أقترح أن أطلق عليها الحُويريات.
من الملاحظ، أني أستعيض عن المصطلحات الزمنية في دلالتها على الحدود العمرية باستعارات مكانية. أود من القارئ أن يرى سني (التاسعة) و(الرابعة عشرة) وكأنهما تخوم – الشواطئ بمياهها الصافية والصخور الوردية – جزيرة سحرية، تقطنها حويرياتي، ويحيطها بحر شاسع يعلوه الضباب. وهل الفتيات الصغيرات ما بين سني (التاسعة) و(الرابعة عشرة)، كلهن حويريات؟ بالطبع لا. ولو كان الأمر كذلك، لأصابنا، نحن العارفين والمغامرين وحدهم، والمهووسين بشغف الصغيرات، الجنون منذ أمد بعيد. كما أن الجمال لا يشكل أي فارق؛ وأما الابتذال، أو هكذا ما يسميه مجتمع معين، لا يبخس بالضرورة ما يتحلين به من الخصال الغامضة، العذوبة الغريبة، الفتنة الخبيثة والمشظية للروح والمواربة التي تميّز الحويرية عن أتْرابها أولئك من يحيين في العالم الواقعي بأبعاده الزمكانية، مقارنة بذلك العالم الخيالي الموازي، الجزيرة السحرية المعزولة، حيث تلعب لوليتا وأقرانها. (16-17)
بعد أن وظف نابوكوف الضمني المقارنة الهزلية ليدفعنا باتجاه قبول تأويل همبرت، يستغل نابوكوف الضمني ذلك التوجه لصالحه هنا. ليس لدينا أدنى مشكلة في أن ندرك أن همبرت غير جدير بالثقة حقيقيًّا – من الواضح أن التمييز بين الحويريات الشيطانية وبين الفتيات الصغيرات هو تمييز باطل بالمعنى الحقيقي – إلّا أن نابوكوف يدعونا إلى النظر فيما إذا كان ذاته جديرًا بالثقة مجازيًّا. ربما همبرت الذي يتحلّى بشدة الملاحظة، بصدد إدراك أمر مهم. وبالتأكيد قد أمعن الكثير منّا، ذكورًا وإناثًا، النظر في الأفكار التي تدور حول فرز الجنس المرغوب به في مجموعات خاصة. ويعني إمعان النظر في هذه الاحتمالية أيضًا الاعتراف بأن التماس سرد همبرت يكْمن في قدرته على أن يستفيض فيما يقوله. بمعنى، أن بوسعه أن يوضح لنا الخصال المحكيّة لهذه المجموعة من الحويريات، ووقع أعضائها على المسافرين المسحورين. بعبارة أخرى، لا يعني التقارب وهمبرت هنا أن تصبح مسافرًا مسحورًا، بل يعني أن ترى العالم بعين هذا الأخير.
لكن نابوكوف يبني سرد همبرت حول نظريته عن الحويريات، بحيث يكون في نهاية المطاف سردًا يسفر عن أثر تباعدي بدلًا من الآخر التقاربي. وفي المقتطف الذي أوردته، تكمن الإشارة الرئيسة في أن سمات تلك الفئة مواربة بالمطلق. فوجود تلك «الخصال الغامضة» هو ما يحيل فتاة ما إلى حويرية، بينما يحيل انتفاؤها فتاة أخرى إلى محض بشرية. ولا يجب أن تكون «الفتنة الخبيثة والمشظية للروح» جد «مواربة» للحد الذي تصبح فيه جليّة فحسب للمسحورين، إلّا إذا كان لا وجود بالطبع لكائنات كهذه الحويريات، بالمعنى الحقيقي أو المجازي، وتكون هذه الفتيات أيضًا مجرد أداة لإشباع الرغبة الجنسية لدى من يمارس المثلية الجنسية مع الأطفال. كلما أمعن المرء التفكير في مزاعم همبرت هنا، كلما بدت هذه المزاعم وكأنها تبرير لممارسة تلك المثلية الجنسية، حتى لو لم يدرك همبرت تمامًا قيامه بذلك. في الفقرة التالية، تصبح علامات التباعد أشد وضوحًا.
ونظرًا لأن فكرة الزمن تلعب مثل ذلك الدور السحري، فالأجدر ألاّ يُدهش الطالب حين يعرف أنّه لا بد من فجوة زمنية بين الفتيات الصغيرات والرجل، فجوة لا تقل عن عشرة أعوام على الأحرى، وتمتد إلى ثلاثين أو أربعين عامًا، أو تسعين عامًا في بعض الحالات النادرة؛ لكي يقع المرء تحت طائلة سحر الحويرية. فالمسألة في جوهرها هي مسألة ضبط بؤرة الرؤية، مسألة وجود مسافة معينة تنتشي العين الباطنية لتطويها، وتناقض معين يدرك كنهَه العقلُ، وهو يطلق شهقة سعادة مجنّحة. عندما كنت طفلًا وكانت آنابيل طفلة، لم تكن تلك الصغيرة حويرية في عيني … (17)
هنا تتعرى نظرية همبرت عن الحويريات بأكملها، لتظهر كتبرير مستفيض لممارسة المثلية الجنسية مع الأطفال. فحين جعل نابوكوف همبرت يؤكد على فارق السن، فإن نابوكوف يسترعي الانتباه إلى الفروقات بين «الفتيات الصغيرات والرجل» من ناحيتي الجسد والقوة. وعندما جعله يوسع الفجوة الزمنية بين «الفتيات الصغيرات والرجل» لتبلغ تسعين عامًا، فإنه، أي نابوكوف، يلفت الأنظار إلى أن ادعاءات همبرت تنافي العقل. ونتيجة لذلك، فإن فكرة أن يقع المرء تحت طائلة سحر الحويريات تنتمي إلى السرد المغلوط، والقراءة المغلوطة، والتقييم المغلوط. وأمّا الأثر الشامل الذي يتركه هذا المقتطف فهو تباعد الجمهور التأليفي عن منظور همبرت من جهة، وتباعده عن أحد أساسيات دفاع همبرت في (الجزء الأول) من الرواية من جهة أخرى.
يواصل همبرت بالطبع محاولته في الدفاع عن نفسه في (الجزء الأول)، ويمنحه نابوكوف لذلك مقتطفات متفرقة تحمل آثار اللاموثوقية التقاربية، على الرغم من أنه يواصل أيضًا النسق التشفيري الشائك. ولكن انخراط همبرت، كما جادلت في كتابي «عشته لأرويه»، بسرد تجاربه مع دولوريس منذ نهاية (الجزء الأول) فصاعدًا، يفضي به إلى أن يرى بجلاء ما ألحقه بها من أذى يتعذر مداواته. وبناء عليه، لا يمكنه في نهاية المطاف أن يحافظ على الهدف الذي يرمي إليه، ألا وهو تبرئة نفسه. لذا، يكف عن تبرير سلوكه، ليأخذ على عاتقه مسؤولية تدمير حياتها. يصاحب هذه التغييرات توظيفُ نابوكوف المطرد لتقنية اللاموثوقية التقاربية، والتي تتجلى في استعماله للتقدم الجزئي نحو المعيار الأخلاقي للمؤلف. وأبرز مثال على هذه الاستراتيجية قوله: «لو كنتُ قد مثلت أمام نفسي، لحكمت بالسجن على همبرت لمدة خمسة وثلاثين عامًا بتهمة الاغتصاب، ولأسقطت بقية التهم عنه» (308). لم يكن همبرت بالطبع متهمًا بجريمة الاغتصاب، غير أنه متهم بقتل كلير كويلتي. تبين رغبته بدحض تهمة القتل عنه بأنه ما يزال مقيِّمًا أخلاقيًّا غير جدير بالثقة، فيما يخص أفعاله. إلّا أن رغبته بالحكم على نفسه بالسجن لمدة خمسة وثلاثين عامًا بتهمة الاغتصاب – ورغبته بالتأكيد باستخدام لفظة «اغتصاب» لأول مرة – تشير إلى أيّ مدى قد رحل إليه قصيًّا عن تبريراته حول فتنته بالحويرية. وكما حاولت أن أبيّن في كتابي «عشته لأرويه»، فإن قدرة نابوكوف على أن يعرض لنا تطور همبرت منذ بداية سرده إلى هذه النهاية، وقدرته أيضًا على أن يجعلنا متأثرين بتبدل حاله تعد إنجازًا باهرًا.
وبالرغم من ذلك، إذا كنت مصيبًا فيما ذهبت إليه بشأن توظيفه لاستراتيجية النسق التشفيري المعقد في سرد همبرت في (الجزء الأول)، فليس مستغربًا إذًا أن يريد بعض القراء الذين قد أدركوا هذا النمط أن يدفعوا هذا التقدم الجزئي نحو المعيار الأخلاقي التقاربي إلى الخلف باتجاه التباعد. ومن ثمّ؛ فإن ما أعتبره الاستصغار الذاتي الصادق هو مجرد حيلة للمراوغة بالنسبة لهؤلاء القراء، مجرد خطوة أخرى في محاولة همبرت لكسب تعاطف المروي له. ومثل أولئك القراء الذين انخدعوا في اللاموثوقية التقاربية في (الجزء الأول)، يبدو لي أن هؤلاء القراء الرافضين لالتماسات همبرت يُبدون قراءة مغلوطة للرواية. لكن في كلتا الحالتين، أقترح أن القراءة المغلوطة تتمخض عنها عواقب سلبية غير مقصودة بشأن تجريب نابوكوف المتألق لتقنية اللاموثوقية التباعدية والتقاربية.
إذا كانت هذه المقاربة تصيب الهدف المنشود منها، فإنها تعيدنا إلى الأسئلة الكبرى التي تتصل بأخلاقيات التقنية في رواية «لوليتا». هل من المنصف أخلاقيًّا أن نُحمّل نابوكوف المسؤولية عن العواقب السلبية غير المقصودة التي تمخضت عن أسلوبه؟ وعلى ذات المنوال، هل من المنصف أخلاقيًّا أن نقول إنه لا يتحمل أية مسؤولية أخلاقية، على أن نقول بصوت عالٍ ما يقوله المؤلفون جميعًا: «حذارِ أيّها القراء»؟ لا أريد أن أجيب بــ«نعم» على أيّ من هذين السؤالين، لأني أعتقد بأن ثمة خطأ في صياغتهما. يكمن الخطأ، كما أظن، في أن السؤالين يفرضان حدًا فاصلًا بين المؤلف الضمني والجمهور الحقيقي، بينما يؤدي فعل القراءة البلاغية إلى اعتمادهما المتبادل. بعبارة أخرى، يتحمل كل من نابوكوف وقرائه بعض المسؤولية جراء القراءات المغلوطة، بقدر ما يتحمل كلاهما بعض المسؤولية عن نجاح عملية التواصل السردية. ونظرًا لأن تجريب نابوكوف في منطقة السرد اللاموثوق تنصب الفخاخ التأويلية والأخلاقية للقراء، فإن عليّه أن يتحمل بعض المسؤولية عن القراء الذين يقعون ضحية لها. لكن تجريبه كذلك يتحدى القراء أن يتعرفوا على تلك الأشراك، ومن ثم يتجنبون الوقوع فيها. كما يتحداهم أيضًا أن يتحملوا بعض المسؤولية، إن كانوا أهلًا للتحدي. والخلاصة الأهم هي أن تجريب نابوكوف القائم على توظيف اللاموثوقية التقاربية والأخرى التباعدية يؤكد على مدى حاجة النقد الأخلاقي للأخذ بعين الاعتبار العلاقات المتبادلة بين المؤلف الضمني، والسارد، والجمهور التأليفي، والقراء الحقيقيين من لحم ودم في مقاربته للسرد.