يونس البوسعيدي واحد من الشعراء الطامحين لاحتلال مركز مرموق في خارطة الشعر العماني الشاب في هذه المرحلة. وهو يملك من الحس المرهف والأدوات الشعرية ما يمكنه من ذلك حقا، خصوصا إذا ترك لنفسة فرصة أكبر للتأمل وكتابة القصيدة لدواع نفسية وفنية حقيقية، وليس لدواعي المناسبة العابرة أو الموضوعات المشكوك في صدورها عن رغبة أكيدة في الكتابة والتعبير عن حاجة روحية وإبداعية ضاغطة، ورؤيا يفيض فيها معنى العبارة وإيحاءاتها المرافقة عن حجم كلماتها.
ومع إحساسنا بأن لدى الشاعر ما يقوله حقا، فان طغيان المظهر اللفظي، وعدم القدرة على إعطاء تصور محدد عن القصيدة موضوعا وبناء، هو الذي يقف أحيانا بين قصيدته، وبين القارئ والناقد المتطلع إلى مزيد من التفاعل والتمثل للغة القصيدة والمكونات الشعرية الأساسية فيها.
وأول ما ينبغي ملاحظته هنا هو أن قصيدة البوسعيدي، لاسيما الطويلة منها، بحاجة إلى مزيد من الضبط على صعيد البنية الإيقاعية والدلالية. فبعض هذه القصائد تنطوي على مزج بين الشكل العمودي والقصيدة الحرة، دون توفير قدر كاف من التناسب بين الشكل الموسيقي المتبع والدلالة الرئيسية أو الحافة. أعني ضرورة اختلاف الصيغة اللغوية والموسيقية المقترحة باختلاف الأحاسيس والدلالات المرافقة. على اعتبار أن الإحساس الموسيقي يورث إحساسا مقابلا بالبنية اللغوية التي تولد الفكرة والصورة، وترتبط معهما برباط لا ينفصم.
ونحن نقول ذلك مع إحساسنا بأن الشاعر يمتلك، في قصائد اخرى، أذنا مدربة وإحساسا موسيقيا جيدا وغنيّا، حتى إذا كان الخطاب الشعري لديه يميل غالبا، كما في القصيدة العمودية، إلى الارتفاع، وما يؤدي إليه تراكم الكلمات على بعضها من ضعف القدرة على تبيّن دلالاتها بغير الصوت الدال، والنغمة الموسيقية المرافقة.
ومع أن ديوان البوسعيدي ( هاجس الماء والمرايا ) يمثل نقلة واسعة في التطور الشخصي للشاعر على صعيد بناء القصيدة وموضوعها، فإن ما سننتظره منه سيبقى، في تقديري، هو الأهم والأكثر تعبيرا عن جوهر تجربته الشعرية.
ونحن نقول ذلك اعتمادا على ما رأيناه للشاعر في هذا الديوان من قصائد مفردة أو مقاطع شعرية معينة في قصائد أخرى.
وحينما نقرأ له مثل هذا المقطع :
( أفتح أمسي
روحي خضراء، قلبي طفل
وقلوب من قصب السكر، لا تعب فيها لا نصبُ
وعيون تشرب قوس قزح
يُطوى أمسي.
وأرى ظلي يقعد في الكرسيّ أمامي
ويحاورني. . . لا يقنعني
ويناورني، لايقتلني )
أقول حينما نقرأ هذا المقطع من قصيدة البوسعيدي الطويلة (كولاج الغريب) نشعر بقدرة الفن التصويري في هذا (الكولاج) على تسجيل بعض من أشكال الغربة في حياة الشاعر عبر هذا التقابل الدائم بين الماضي والحاضر. . هذا الحاضر الذي لا يكفّ عن إظهار وجه الشاعر في المرآة بمظهر الغريب، وذلك الماضي الذي يحاصر بحضوره حياة الشاعر ويعيدها إلى زمن الطفولة الأولى، حيث الخوف الدائم من فقدان الأم، والمطر الذي يأتي ولا يأتي، والرجفة التي تأخذه صوب المنفى، وغير ذلك من ذكريات تحوّل الطفل إلى كهل، بنفس الطريقة التي تحول الكهل إلى طفل :
نايً غرغرة. . )
صوتي وصداي أمامي
يتهدج كهل ينظر في المرآة، يخاف غريبا ينظر في المرآة إليه
بكى : أمي. . أمي. .
يستنجد : أمي. . أمي. .
يستصرخ أمي. . أمي. . أمي. . أمي. .
يترجى مطرا لايأتي
ويخاف الرجفة تأخذه نحو المنفى.
قلبي يمشي فوق الجمر كمنفي الأرض الأبدية.
* * *
أمشى فوق الماء بغير هدى، بوصلتي ريحُ
بالأمس تركت القلب الطفل على المهد، ولم يكبر
من ذاك الطفل الباكي ؟
من ذاك الطفل الكهل ؟)
غير أن هذا الشاعر المثقل بكل هموم هذه الطفولة. . أفراحها وأتراحها، والمترددة حياته كالبندول، بين قرية (الفيقين) التي أتى منها، و(مسقط ) المدينة التي يعيش فيها، لا يمتلك دائما مثل هذا الصوت المعبر عن دراما القلق الناتج عن حياة من هذا النوع. فهو لا يستطيع أن يتحرك دائما في قصيدته، هكذا، متحررا من الألاعيب الذهنية والزخارف اللغوية اللفظية. هذه الألاعيب التي من شأنها التفريط بقدرة القصيدة على التركيز، وخلق نواة شعرية يمكن متابعتها وفهمها، وتصوّر حياة الشاعر ورؤيته الشعرية، بطريقة أفضل، من خلالها.
نعم، هناك صور ومجازات شعرية كثيرة تنطوي عليها هذه القصيدة، ولكنها غالبا ما تبدو كما لو كانت مهارات عضلية لا تعطي قارئها انطباعا كافيا بأن صاحبها مشغول بأزمة روحية أو فكرية، وقلق وجودي حقيقي.
والمشكلة لا تتصل فقط بعدم قدرة الشاعر على إجراء المصالحة بين جانبين يظلان متباعدين في حياته وشعره. . التحليق عاليا في السماء من جانب، والنزول إلى القعر، في الجانب الآخر، على ما ينطوي عليه ذلك من مبالغة وإمعان في التردي في الغواية اللفظية التي تجمع المتناقضات، التي يتقابل فيها (الولي) مع (البغي) داخل المدينة:
( بمسقط، يقهرني الرمل حتى أكون وليا
ويقهرها الرمل في مسقط كي تكون بغيا ) !
أقول إن المشكلة لا تقف عند هذا الحد الذي تبدو فيه اللحمة إذا هي انعقدت بين بين افراد المجتمع وهما يلتقيان بعيدا عن القرية في غابة المدينة، دون أن يجرؤ أحدهما أن يقول لصاحبه بعد الصلاة الكلمة التي تقال بالسواحلية في مثل هذه الحالات «سلام عليكم خباري نزوري» :
( بمسقط تنبت يقطينة فوق عري الغريب
ففي مسقط يجد العربيُّ البلوشيَّ،
تعقد بينهما لحمة،
فمسقط أم الغريب اليتيم
وقد يشربان معا قهوة عند سور اللواتيا
وقد يمضيان كما الغرباء
فلا أحد يقول لجاره بعد الصلاة معا:
«سلام عليكم خباري نزوري» ).
نعم، المشكلة لا تتمثل هنا في سعة فضاء مدينة مثل مسقط، و(غربة) الإنسان و(يتمه) فيها، بقدر ما تتمثل في ضيق الأفق الثقافي والفكري الذي يصرّ ابن القرية المقيم في هذه المدينة على الانطلاق منه، والتمسّك به على صعيد الفضاء المكاني والاجتماعي، وما يرافق ذلك ويخالطه من تضخّم الأنا، والشعور بمشاعر الذات المستوحدة والمستوحشة من خطاب الآخر، وإجراء الحوار معه داخل المدينة أو خارجها.
وذلك يحدث حتى مع خطاب الآخر، والحوار معه أو (معانقته) :
يا أنت: أنت أخي، يا أنت، أنت أناما ضرّ قلبك لو عانقتك الآنا
وما يجعل مثل هذا الحوار مقطوعا أوغير ممكن، هو صعوبة الاتصال مع ذات يتصور صاحبها أنه يغوص، مثل سميّه النبي (يونس)، في بطن الحوت ويجعل منه (وطنا) :
لي صورة في مرايا الماء تسألنيهل آثر الضوء بطن الحوت أوطانا
وهذه العلاقة بين الشاعر والنبي أو الشاعر (نصف النبي) ليست نادرة في هذا الديوان، بل هي تتكرر بألوان وأشكال مختلفة، ومن خلالها يجري التأكيد على تميّز الذات واختلاف الكتابة الشعرية، وتميّزها تبعا لذلك:
ألقيتُ ألواح موسى، ليت قبّرتي مزمار داود، زريابا ولقمانا
وحين يضيف الشاعر إلى ذلك هذا البيت الآخر من أبيات هذه القصيدة :
وما أبرّئُ نفسي، حين آمرها بالشعر تأمرني بالحب برهانا
يتبيّن لنا أن الشاعر يدرك، على نحو ما، أبعاد المشكلة التي تعاني منها كتابته الشعرية. فهذه النفس التي تطالب صاحبها بالحب ( برهانا ) لكي تنطلق وتجود بخيراتها، تدرك هي الأخرى، فيما يبدو، أن هذا (الحب) الذي يجري الحديث عنه طوال الوقت، يحتاج إلى (برهان) للخروج من نفق الذات التي لا تحب، في الواقع، غير ذاتها، ولا تستطيع التواصل مع غيرها.
وهكذا، فهذه الذات المتضخمة تمثل الثيمة الأساسية، وهمزة الوصل التي لا تكاد تخلو منها أية قصيدة من قصائد الديوان. وتمظهرات هذه الذات المتضخّمة لا تقتصر على التعبير المباشر المتمثّل في ضمير (الأنا) المحلقة في فضاء القصيدة المؤثثة بالكبرياء وتزاحم الكلمات وتقابل الأضداد، وإنما أيضا في حركة الأفعال والمواقف التي تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن الإحساس بكثافة هذه الأنا التي يصدر عنها ويرجع إليها كل شيء في معمار هذه القصيدة وبنيتها الداخلية ودلالتها المركزية أو الحافة.
لو طواني الردى، وصرت حكايا فاقرأوني في وحي شعري المبينٍ
وهذا آخر بيت في قصيدة البوسعيدي التي يخاطب بها شعره تحت عنوان ( يا قوافي )، وهي آخر قصيدة في الديوان، أيضا.
ولا أدري لماذا يستعجل الشاعر موته، ويتحدث عنه كثيرا بهذه الكيفية أو بغيرها، في هذه القصيدة وفي سواها ؟ ولماذا يكون الموت ( فرصتنا اللذيذة كي نعيش كما نشاء ) ؟ كما يقول في قصيدة اخرى.
لماذا يريد الشاعر أن ينتهي قبل أن يبدأ. . أن يموت قبل أن يحيا، مع أنه ليس عاجزا عن بذل مزيد من الجهد لاحتواء حياته وتصفية لغته، وما تنطوي عليه من قدرة وآفاق شعرية رحبة ؟
وحينما يقول الشاعر في مطلع قصيدة أخرى ( وغدا ستسألني السحابة. . ) :
( وغدا ستسألني السحابة:
أكتفيت من الحياة ؟ )
أقول حينما يضع الشاعر هذا السؤال الدال على لسان هذه السحابة، فهو يدرك أيضا أنه في بداية الشوط، ولم يكتف من الحياة، ولذلك فإن روحه التي لم (تلتفت إلى قلق هذه السحابة. . ) كما يقول، لا تعبر عن حقيقة موقفه من الحياة ومن الشعر. فصوت هذه السحابة هو صوته، وسؤالها هو سؤاله، وقلقها هو قلقه، حتى إذا جاء مواربا وغير مباشر.
وما يقوله الشاعر في خطابه الموجّه إلى سمير القنطار ورفاقه في الأسر في قصيدته ( إصباح بنكهة الذاكرة) :
( لا شيء جدّ. .
سوى الحياة بنبضها، وحي
له صفة الرسول يهيب بي :
مارس حياتك. . . أنت حر )
هذا الخطاب الذي يدعو إلى ممارسة الحياة هكذا في عالم الحرية، لا ينبغي أن يكون موجّها إلى سمير القنطار ورفاقه فقط، بل هو خطاب صالح للتوجيه أيضا إلى كل الأسرى، بمن فيهم أولئك الذين يعانون من سجن الذات وأخطاء التصورات الفردية الضيقة، وليس من أسر السجون المادية، فقط.
نعم ليس هناك (سوى الحياة بنبضها )، حتى إذا جاءت الدعوة إليها على لسان الشاعر، وليس مواربة، على لسان (وحي له صفة الرسول)، حسب عبارة الشاعر.
وكما قلت، ستكون القدرة على توحيد الرؤية على صعيد مضمون الكتابة الشعرية وشكلها، وتصفية لغة القصيدة من الزوائد والهوامش اللفظية التي لا لزوم لها، هي التحدي الذي يواجه يونس البوسعيدي في مستقبله الشعري وهو يستمر في تلمّس طريقه بين لغة الواقع الإشارية من جهة، وصورته الشعرية القائمة بين الماء والمرايا، من جهة أخرى ؛ هذه المرايا التي لا يني نرجس يرى صورته دون توقّف في مياهها الصافية أو المعتمة، فيهجس بالكلمات فرحا أو تألما بما يراه، أو ما لا يراه، معتقدا أنه يراه.