أولا: المقدمة
خلال التفكير بهذه الرواية القصيرة، دار في خلدي سؤال ما كان في الوسع تجاهله: كيف يمكن وصف حالة حيث التشوق إلى الرحيل هي الفكرة الوحيدة ذات مغزى، ولكن شريطة عدم الانزلاق إلى شرك العاطفية أو الحنين (النوستالجيا)؟ ففي حالة كهذه، حيث الفرار هو سبيل الخلاص، أو صون الرشد الوحيد، فإن الاستسلام لبلاغة التحسر الذاتي أو ندب ماض مفترض المجد، أو شكل آخر من التعبير عن كل من العاطفية والحنين، يكون مغريا . فإذا ما حصل أمر كهذا غدت العواطف المبرر الأساسي، بل وربما الوحيد، للسرد، في حين أن السرد نفسه يصير محض تابع للكلام الشائع التداول في أوقات الضعف والاستسلام.
كان هذا السؤال مصدر قلق لم ي صر إلى التغلب عليه إلا بعد اللجوء إلى فن التهكم. فالتهكم على حالة ميؤوس منها، وهي الحالة المقصود وصفها، لا ي ظهر حد اليأس الذي بلغته فقط وإنما أيضا يبين أن الندم والحزن والغضب والتحسر الذاتي لا طائل تحتها. بل انه لا يغفر أمر ما خلا السرد التهكمي . الذي لا يستحسن أي حكم تشددي ، أو وصف وضعي، للحالة المعنية وحتما لا تغفر وصية حول ما ينبغي أن تكون عليه الأمور، اللهم إلا إذا كان الغرض هو السخرية من أحكام ووصايا متداولة وشائعة. و هذا ما يبرهن أيضا على أن القلق المشار إليه لم يصدر عن كيفية إنتاج سرد يتجنب شرك العاطفية والحنين، ولكن أيضا اللجوء إلى أحكام توكيدية. ولكن أية أحكام توكيدية كان من المقصود تجنبها في سبيل استواء سرد كهذا؟
أولا ، هناك الأحكام المتعلقة بحالة من الميؤوس ربطها بمعنى واضح أو أي معنى على الإطلاق. ولكن، ثانيا ، وما هو أهم بالنسبة للكتابة الفلسطينية، التوكيد على الهوية الفلسطينية. هذا النمط من الأحكام يمكن أن ي ستشف في الرواية من خلال شخصية أحمد. فعلى الرغم أن أحمد ملتزم بالسياسة الوطنية الفلسطينية (والأصدق القول القومية الفلسطينية، هذا على الرغم أن أحدا لم يستخدم مثل هذا المصطلح، نظرا إلى غياب المصداقية السياسية، على الأرجح) إن هذه الشخصية لا تظهر خلال كامل الرواية بأفضل من شخصية بهلول. بل أن التزامه السياسي، المخلص هذا، هو ما يجعله يظهر كشخصية من هذا الطراز. فالتزامه بهذه السياسة يفرض عليه ضرورة التوكيد على أولوية الهوية الوطنية (أو بالأحرى القومية الفلسطينية)، وهو ما يعمي بصره عن حقيقة الوضع برمته، ومن ثم، انعدام جدوى ما ي قبل على فعله. فعنده أن ما نفعله أو نقوله يخضع لمعادلة واحدة تنطبق على السياسة والفن، بل وعلى مجمل السلوك العادي والكلام المتداول: أن ما نقوله أو نحجم عن قوله، ما نفعله أو نعدل عن فعله، ينبغي أن يوافق تمام الموافقة حقيقة أننا فلسطينيون. مثلا هو يرى بأن من الخطأ على راوي القصة (باسم) أن يفكر بالرحيل، وأن يتعاطى المخدرات أو أن يرتبط بأولئك الناس الذين يتعاطون المخدرات، بل ومن الخطأ أيضا أن يكتب قصصا سوريالية- هذا على رغم أن القصص التي يكتبها باسم ليست بسوريالية، ولكن بالنسبة لأحمد فإن كل ما لا ي فهم أو غير واقعي لهو ضرب من السوريالية. أن باسم على خطأ، بحسب أحمد، لأننا نحن فلسطينيون ولا يحق لنا فعل أمور كهذه. فتعاطي المخدرات أو التفكير بالرحيل أو كتابة قصص سوريالية لهي من قبيل خديعة هويتنا وما تمليه تلك الهوية علينا. هذا بالمناسبة هو موقف جل المثقفين الفلسطينيين والعرب الذين، من حيث يقصدون أو لا يقصدون، يقل صون الفلسطيني الى محض هوية سياسية، ومن ثم يجردونه من هويته الإنسانية الأرحب.
الفارق الوحيد ما بين أحمد والمثقفين المذكورين أن أحمد لا يعاني إلا من قدر قليل من الفساد والنفاق. وفي هذه الرواية بالذات، هناك من يقاطعه قائلا: "ألن تخلصنا من هذا الكلام الفارغ؟" ولكن لم ينبغي أن ي قاطع على هذا النحو الفظ؟ ل م السخرية من التوكيد على أولوية الهوية الفلسطينية؟
الجواب على هذا السؤال هو الجواب نفسه على السؤال حول مقتضيات تجنب التوكيد على الهوية السياسة في الكتابة الفلسطينية. ذلك أن الهوية الفلسطينية قد تم التأكيد عليها، ولم يعد ثمة حاجة إلى فعل ذلك بعد. هناك أولا حقيقة أن ليس من قوة سياسية، محلية أو دولية، فاعلة أو ذات صلة، ت نكر بعد وجود الشعب الفلسطيني. ثانيا ، أن الأجيال الماضية من الكتاب الفلسطينيين لم تفشل في المرافعة باسم هذه الهوية. فأن ي كرر ما سبق التوكيد عليه من أمر الهوية، هو ما يصر البعض عليه، فإن ذلك ما يجعل الكتابة فائضة عن الحاجة، في أفضل الأحوال كالحة المعنى وشحيحته- فهي لا تقدم معنى جديدا بل ولا تساهم في إعادة تشكيل المعنى المتواضع عليه. لهذا فإنه حينما ي نهى أحمد عن "الكلام الفارغ"، فإنه لا ي نهى بسبب مضمون ما يقوله، ولكن لتكرار ما قد قيل، وسلم به، باعتباره من الأمور المتواضع عليها.
لم تعد الهوية الفلسطينية بالأمر الرئيسي. هذه حقيقة يفشل أحمد في استيعابها، ومن ثم فإنه يظهر وكأنه ينتمي إلى عالم لم يعد ثمة وجود له. وإنه لهذا السبب يبدو وكأنه أقرب إلى شخصية ضلت طريقها من قلب رواية ك تبت قبل عشرين أو ثلاثين عاما . وهو لو كان قد ظهر في رواية تعود إلى ذلك الوقت فإنه ما كان ليبدو شخصية تثير السخرية، وإنما التقدير والإعجاب. إن شخصية أحمد لهي، بمعنى ما، مجاز لما يتوجب على الكاتب الفلسطيني ألا يكونه، كاتبا ملتزما بإخلاص بالهوية القومية، ولكنه فاشل تماما فيما يتعلق بالعالم الذي يعيش فيه والتحديات التي يواجه. ونحن نعلم جيدا بأن الالتزام السياسي والإخلاص ليسا كافيين لاستيفاء مقتضيات الاستقلال الفني- المقصود بالاستقلال الفني هو "أن تختار ما لا تكتبه وما تتركه خارج النص«. واختيار التهكم في هذه الرواية القصيرة سبيلا لتجنب توكيد الهوية السياسية لهو من قبيل التعبير عن الاستقلال الفني المنشود.
خلافا لجل الأمم في القرن العشرين لم يسع الفلسطينيون أن يسلموا بهويتهم تسليما يقيني ا . ومنذ عام 1948، العام الذي شهد اختفاء فلسطين، خضع الفلسطينيون لسيادات أجنبية وفقا لما قد ر لكل منهم، كأفراد ومجموعات، من شروط الإقامة وإمكانيات الارتحال، وبما جعلهم على وعي دائم بوجودهم المضطرب: مأساة الماضي، انعدام اليقين في الحاضر واستحالة التكهن بشأن المستقبل، وما أملى حقيقة أن من العسير عليهم أن يمضوا نحو أي نمط من الاستقرار قبل البت في أمر هويتهم. ذلك أن مسألة الهوية فرضت نفسها على كافة أوجه الحياة الفلسطينية، الخاصة والعامة على السواء. بل كانت مسألة من الإلحاح بحيث أمست المقياس الرئيسي في قياس صلة الكتابة الفلسطينية بالواقع السياسي والاجتماعي. ومن ثم كان من الطبيعي أن ينظر إلى الكتاب الذين تجاهلوا مثل هذه المسألة وكأنهم يقيمون في كوكب آخر.
على أن الكتاب الفلسطينيين أحس وا بأن من واجبهم تمثيل الهوية الفلسطينية وتعزيزها. وحتى أولئك الذين رفضوا الزعم القائل بأن من واجب الفن تمثيل حقائق اجتماعية وسياسية، ما كان في وسعهم تجاهل مثل هذه المسألة. جبرا إبراهيم جبرا مثال ناصع على ذلك. فهذا الروائي والشاعر وكاتب المقالة المميز، فضلا على ترجماته لبعض روائع الأدب الإنكليزي والأميركي، جادل باستقلالية ما هو جمالي في النص الأدبي. لقد كان جبرا تلميذا للأدب الإنكليزي نموذجيا . ولا عجب في الأمر، فلقد درس الأدب الإنكليزي في إنكلترا وشايع مدرسة "النقد الجديد"، وعنده فإن العمل الفني لا يقد ر وفقا لنجاحه أو إخفاقه في تمثيل السياسة والمجتمع ولكن وفقا لمزاياه الفنية. فأن ي حال عمل أدبي على الواقع، فإن هذا ما يعني تجاهل حقيقة أنه إنتاج الخيال، ومن ثم اختزال بنائه الفني إلى مجموعة أجزاء من الحقائق، أو حتى محض ناقلة لرسالة سياسية أو اجتماعية. وإذا ما كان لا بد من إحالة عمل أدبي إلى مرجع ما فلتكن الإحالة إلى أعمال من الطبيعة ذاتها، إلى أسلاف وتقاليد أدبية.
هذه هي الحجة التي يمكن نسبها إلى جل أعماله، خاصة روايته الأولى "صراخ في ليل طويل". وعلى الرغم أن هذه الرواية كتبت عام 1946، مع ذلك فليس ثمة إحالة على الحوادث الدامية التي شهدتها فلسطين في تلك الحقبة، وفي الحقيقة فليس ثمة إحالة على أي واقع فلسطيني أو عربي ما خلا أسماء الشخصيات الروائية. فتبدو حوادث القصة وكأنها تدور في عالم غريب، بل ان تشديد الرواية على المسألة الطبقية يكشف عن تأثر مسرف بالرواية الإنجليزية. مع ذلك، وكما سبق وأشرت، فإن ما من كاتب فلسطيني استطاع تجاهل مسألة الهوية، وجبرا لم يكن استثناء . ففي روايته الثانية "صيادون في شارع ضيق"، وهي كتبت بعد 12 عاما على حرب عام 1948، ثمة إحالات كافية على الواقع التاريخي ومسألة الهوية، على نحو خاص، هذا على رغم أن الرواية ك تبت أصلا باللغة الإنكليزية، أي لمتلق ، على العموم غير فلسطيني وعربي، ونشرت أولا في لندن.
تجري رواية "صيادون في شارع ضيق" في بغداد في عقد الخمسينيات، وبطلها فلسطيني أكاديمي ومثقف، يلوح للوهلة الأولى وكأنه قد اندمج في طبقة المتعلمين والنخبة العراقية في ذلك العهد. غير أننا منذ البداية نحس بأنه أسير سر مثير للاضطراب. هذا السر هو الماضي، من حيث أنه فلسطيني. وفي لحظة غاية الدرامي ة ينفجر الماضي على شكل صور صادمة: صورة القدس خلال حرب عام 48، صورة بيت مدمر وصورة يد امتدت من تحت الركام، اليد هي يد خطيبة بطل الرواية. وإنه على شكل هذه الصور يصار إلى الإقرار بمسألة الهوية الملحة في هذه الرواية وفي جل أعمال جبرا.
على أن مواجهة مسألة الهوية على هذا النحو لم يكن نتيجة تخلي المؤلف عن نظرته إلى الأدب، ولا كانت بفعل لحظة ضعف وعاطفية. فجبرا لم يقبل يوما بمفهوم "الفن الملتزم"، كما أن ثمة في السرد القصصي مستوى من العقلانية كفيل بأن يدفع عنه أدنى شبه عاطفية وضعف. كل ما في الأمر أن جبرا، وشأن أي كاتب كبير، ما كان في وسعه أن يكون معدوم الصلة. جبرا في النهاية كان مؤلفا ذا فضول معرفي لم يهن حتى آخر حياته. لقد كان دائما متشوقا لأن يطلع على مدارس وأشكال فني ة جديدة، وأن يقد مها إلى القارئ العربي. ولا جدال في أن أجيالا من القراء والكتاب العرب يدينون إليه في معرفتهم للأدب الإنكليزي الحديث- تكفي الإشارة هنا إلى الدور الذي لعبته ترجمته لرواية وليم فوكنر "الصخب والعنف" في إغناء السرد القصصي العربي بتقنيات حديثة. وفي رواية "صيادون في شارع ضيق" ثمة نقاشات حارة حول علاقة الأدب بالمجتمع.
على أن ما جعل جبرا وثيق الصلة بالواقع التاريخي، ومن ثم مسألة الهوية، ليس فقط اهتمامه بما كان يطرأ على الأدب والفن، أو الجدل حول العلاقة ما بينهما والمجتمع، وإنما أيضا حقيقة إيمانه بتلقائية الكتابة الإبداعية ومحدودية القصد، ومن ثم في استقلالية المعاني التي تظهر وتأخذ شكلا بمعزل عن إرادة المؤلف. وأحسب أن هذه الحقيقة تنير السبيل المؤدي إلى مواجهة مسألة الهوية- في صار إلى الإقرار بإلحاحها من خلال ذلك الانفجار المفاجئ للصور، وعلى نحو يبين عجز البطل عن دفعها بعيدا عنه. بل ان هذا الانفجار ليبدو أقرب إلى صورة مجازية للنحو الذي فرض مسألة الهوية نفسها على مخيلة الكاتب الفلسطيني.
وإذا كان جبرا في تمثيله، أو إقراره بمسألة الهوية من حيث أنها تلقائية الصلة، لم يتنازل عن الاستقلال الفني، فماذا عن الكتاب الفلسطينيين الذين اختاروا بمحض ارادتهم تمثيل الهوية- بل رأوا بأن من واجبهم أن يعززوا هذه الهوية ضد تهديدات الزوال؟ هل اضطروا للتنازل؟ هل اضطروا للاستغناء عن حقهم في "اختيار ما لا يشاءون كتابته أو ما يستبعدونه عن أعمالهم"؟
لقد كان من المتوقع في الأدب الفلسطيني بأن يكون الكاتب ذا صلة بما هو أساسا ، وعموما ، واقع سياسي واجتماعي، وفي القلب من هذا الواقع مسألة الهوية. ولكن إذا ما استغنى الكاتب عن استقلاله الفني وضحى بحقه الأساسي في أن يختار ما لا يشاء كتابته، وما يحق له استبعاده عن نص ه، فإن ليس له من زعم الكتابة سوى القليل، وان ما ينتجه لا ينتمي إلى الفن أصلا .
على أن الإصرار لأن يكون الكاتب على صلة بالحقيقة الاجتماعية والسياسية لم يؤد دوما إلى التضحية بالاستقلال الفني. وأعمال غسان كنفاني، مجتمعة، تبين أنه مهما اختار الكاتب أن يكون على صلة، فإن هذه الصلة ليست بالمعيار النهائي. كان كنفاني واحدا من الكتاب الذين قصدت أعماله أن تصف الأوجه المتعددة للوجود الفلسطيني بعد عام 1948. رواياته القصيرة وقصصه تعاملت بأسلوب مباشر مع الماضي والحاضر، مع الخاص والعام، وغالبا ما هدفت إلى الإجابة عن أسئلة سياسية طارئة الطبيعة. لذا فإن أعماله لا تقر بمسألة الهوية فحسب، وإنما أيضا تحض على إعادة تشكيلها وتعزيزها. الفلسطينيون تحدد هويتهم حقيقة أنهم شعب ذو ماض وحاضر مشتركين وحيث لا حرية للفرد من مصير المجموع. على هذا يقع التشديد في أعماله القصصية وغير القصصية، وانطلاقا من هذا التشديد قرأ كنفاني ويصار إلى قراءته- ككاتب ملتزم وظف موهبته في خدمة القضية الفلسطينية. ولا إجحاف كبير في مثل هذا القراءة، غير أنها تفشل في تفسير سر دوام أعماله.
لعل واحدة من أدق الملاحظات التي قيلت بشأن كنفاني، أنه كان كاتبا محترفا – الاحتراف هنا لا يعني أنه كان يحصل رزقه من الكتابة وإنما فهم بأن الكتابة لهي حرفة بحد ذاتها. ومنذ حياته المبكرة ككاتب، أظهر كنفاني نضجا في الأسلوب لا يكتسب غالبا إلا من خلال خبرة في الكتابة طويلة. فقد أظهر في طريقة السرد، المعجم اللغوي، وعلامات الوقف، درجة من الرصانة وإحساسا بالتوازن بما كان نتيجته حكايات مشغولة بحرفة لا يسع المهتم بالكتابة الحسنة إلا أن يقدرها القدر الذي تستحق. ولا شك بأن كنفاني كان ذلك الكاتب الذي آمن بأن الصلة السياسية ذات حق لا ينكر على الكاتب الفلسطيني. غير أنه كان في دخيلة نفسه يدرك جيدا بأن ثمة حدودا لمثل هذا الحق، وأن حرية "أن تختار ما لا تكتب، وما تستبعد عن النص«، أمر لا غنى عنه. لقد كان يدرك بأن ليس من الكافي أن تكون على صلة سياسية واجتماعية، ومن هنا إقباله المبكر، والمسرف أحيانا ، على التجديد في السرد- استخدام تقنيات جديدة وراديكالية للسرد. وإذا ما عاد فضل تقديم فوكنر إلى العربية إلى جبرا، خاصة من خلال ترجمته الرائعة لرواية "الصخب والعنف"، فإن سبق الاستخدام لتقنية السرد متعدد المستويات يعود إلى كنفاني. هذا الاستخدام المبكر لأسلوب مغرق في حداثته كان لا بد وأن يقلل من شأن الرسالة السياسية المقصودة، مع ذلك فإن كنفاني لم يتوان عن الإقدام عليه. ولا أخفق كنفاني في أن يتبين وجه اللعب في الفن. فلقد أدرك جيدا بأن في ملكوت الخيال، يحق للمرء أن يأتي من الأمور ما لا يسعه إتيانه في الواقع- أن يلعب، بكلمات أخرى. فروايته السيكولوجية "الشيء"، وبعض مقالاته الهجائية القصيرة، ومسرحياته ذات الاستدارة الميتافيزيقية والفانتازية، وكلها ك تبت خلال انضوائه في العمل السياسي، تدل على استعداد للاستغراق في الوجه اللعبي للفن.
لقد تعامل جبرا وكنفاني، وعموم جيلهما من الكتاب الفلسطينيين، مع مسألة الهوية بقدر كبير من النجاح، فأكدوا ما كان ثمة حاجة للتوكيد عليه. غير أننا اليوم حينما نعود إليهم لا نعود في سبيل ما أكدوا عليه من أمر الهوية السياسية وإنما لمظاهر الاستقلال الفني التي تمد أعمالهم بأسباب الدوام. وما إنجازاتهم إلا لتتمثل في حقيقة وثوق صلتهم اليوم بقدر وثوق صلتهم في الأمس، وإن كان وثوق اليوم نتيجة مظاهر الاستقلال الفني وليس الولاء السياسي والاجتماعي. غني عن الإضافة بأن الاستقلال الفني ليس قيمة مجردة، أو مطلقة، وإنما ثقافية واجتماعية ي صار إلى اكتسابها من خلال الأجيال اللاحقة. فالاستقلال الفني هو ذاك الذي يم د العمل الفني بأسباب الدوام وما يؤسس في النهاية التراث الذي تنهل منه، أو على الأقل، تعتمد عليه الأجيال اللاحقة. إنه ما يجعل عالم اليوم أغنى مما كان عليه عالم الأمس.
وكما سبق وأشرت فإن اللجوء إلى فن التهكم في هذه الرواية القصيرة لهو تعبير عن استقلال فني – اختيار عدم توكيد الهوية، بفعل انعدام الحاجة إلى توكيد كهذا. وهذا ما يقودني إلى الكلام على دواعي نشر هذه الرواية في كتاب مشترك مع الكاتب الإسرائيلي إتغار كيريت (وقد نشرت "يوم عطش الوحش" إلى جانب مجموعة من قصص كيريت في كتاب واحد صدر مؤخرا باللغة الانكليزية عن دار "ديفيد بول" في لندن). ولا شك بأن ثمة دواع سياسية طارئة لمثل هذا التعاون الفني. فكلانا، أنا وكيريت، منضو في حركة السلام العربية-الإسرائيلية، وشأن كل الناشطين في هذه الحركة كان فشل مفاوضات "كامب ديفيد" في صيف عام 2000، ومن ثم اندلاع الانتفاضة الثانية فضلا على وصول شارون إلى السلطة وغرق إسرائيل والمناطق الفلسطينية في دائرة من العنف العبثي ، ما أثار إحباطنا وبما حضنا على ضرورة تعاون من نوع آخر، تعاون كتاب وفنانين، ومن هنا كانت فكرة هذا الكتاب.
على أن الدافع الأساسي يعود إلى ما هو أعمق من التحولات السياسية الطارئة، مريعة كما هي عليه هذه التحولات. إنه دافع الاستقلال الفني الذي يعفينا من الخضوع إلى ما سبق وعمل عليه الجيل السابق من الكتاب الفلسطينيين والإسرائيليين. فالسرد في قصص كيريت، فضلا عن العديد من الشخصيات، لا ينطلق من التسليم بأولوية الهوية القومية، تعيين الهوية الإسرائيلية وتعزيزها، وإنما من منطلق أن مثل هذه المسألة استوفت حاجتها من الاهتمام. جدير بالإضافة أن مسألة الهوية شغلت من الأهمية في السرد الإسرائيلي ما شغلته في الأدب الفلسطيني، وإن هناك اليوم جيلا ، بل ثقافة بأكملها، تلك التي تعرف بـ "ما بعد الصهيونية"، تسعى إلى تعريف للذات يتجاوز، وإن ليس بالضرورة يدحض أو يلغي، تعريف الأيديولوجية الصهيونية. وقصص كيريت إنما تنتمي إلى هذه الثقافة حتى وإن لم يقصد الكاتب نسب قصصه إليها. و"ما بعد الصهيونية" لا تتمثل في مجموعة كتاب وأعمال فكرية وفنية وإنما بمناخ جديد طرأ على إسرائيل في غضون العقدين الأخيرين وصير إلى التفاؤل بإمكانية تكريسه عشية المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية. والحق فإن "ما بعد الصهيونية"، ومن حيث قصد دعاتها أم لم يقصدوا، تر هص ليس فقط للمجتمع الثقافة الإسرائيلية بعد أيديولوجية الدولة الصهيونية، وإنما للمنطقة بعد الصراع العربي الإسرائيلي، أي لـ"ما بعد الصراع العربي الإسرائيلي"، إذا جاز التعبير. وكتاب "بلوز غزة" إنما ينتمي إلى هذه الثقافة، ثقافة ما بعد الصراع، وما كان تجس د في ظهور حركة سلام عربية إسرائيلية يلعب الفلسطينيون اليوم فيها دورا مشرفا . أما العنف الصادر عن الطرفين فهو، وعلى ضراوته وخطر ديمومته، من العبثية ما يجعله فاقد التبرير.
– ثانيا النص:
I
كنت أحب الإصغاء إلى احمد.
كنت أحب الإصغاء إلى احمد كثيرا ، خاصة بعدما أتناول قرص "راهبينول".
وكان أحمد يقول أشياء تجعلني أوقن بأنني إذا لم أرحل عن هذا البلد فإنني سأصاب بالجنون لا محالة.
خذ على سبيل المثال تلك المرة حينما جعل يخبرني بمبلغ تدهور الأمور. فهو كان على يقين تام بأن حربا شاملة لا بد وأن تنشب في المنطقة. لكنه حينما أحس بأثر ما كان يقوله علي ، سارع إلى الزعم بأن كل شيء سيكون على ما يرام بعد وقوع تلك الحرب التي لا مهرب من وقوعها.
"فقط انتظر قليلا حتى نفرغ من هذه الحرب!" قال محاولا طمأنتي.
"ولكن متى سيحصل كل ذلك؟ متى ستستقر الأمور على خير ما يرام؟" سألت، ولم أكن أقل قلقا.
"لا أظن أن الأمر سيحتاج إلى أكثر من عشرين، أو ربما، ثلاثين عاما !" رد بهدوء وثقة.
"ثلاثون عاما ؟" هتفت بهلع.
"على الأكثر!"
"على الأكثر!" رددت قوله، موقنا بأنني إذا لم أغادر هذا البلد سأصير مجنونا لا محالة.
وكنت في الحقيقة قد قمت ببعض الإجراءات في سبيل دخول ألمانيا. غير أن الأمر، ولسوء حظي، لم يكن مضمونا .
II
"بات دخول ألمانيا مستحيلا على حملة هذه الوثيقة!"
قال لي صاحب مكتب لمعاملات السفر. رغم ذلك فلقد طمأنني بلهجة ملؤها الثقة بأنه سيحصل لي على تأشيرة دخول لقاء مبلغ خمسين ألف ليرة. داخلني إحساس فوري بأنه نصاب، غير أنني أودعته وثيقة سفري ونقدته المبلغ المطلوب. ولم تراودني الجرأة لإبداء الشك في وعده المزعوم، إلا حينما رأيته يدس حزمة الأموال النقدية في جيب سترته الداخلية. عندها لم أتمالك نفسي فسارعت إلى التساؤل بأنه إذا ما كان من المستحيل على أمثالي الحصول على تأشيرة دخول إلى ألمانيا فكيف سيفلح هو في الحصول عليها.
كان في نبرة صوتي تردد وارتياب ما كان في وسعه تجاهلهما. حد ق في طويلا من دون أن ينطق بكلمة، وبنظرة تنم عن عزم وتصميم عمد إلى إخراج حزمة النقود من جيبه، وألقاها أمامي.
"إذا كنت لا تثق بي فمن الأفضل لك أن تبحث عن وكالة سفر أخرى." قال بنبرة صارمة، مشددا على كلمة "وكالة"، ثم أشاح بوجهه جانبا وكأنما لكي ي فهمني بأن اجتماعنا قد انتهى، وبأن لا جدوى من محاولتي ثنيه عن قراره النهائي ذاك.
الآن بت على يقين لا يتزعزع بأن الرجل نصاب بالفعل، غير أن نفسي لم تطاوعني على الانسحاب، وهو ما كان ينبغي علي أن أفعله، م هنئنا نفسي على النجاة من براثن وكيل تأشيرات دخول وهمية. ولكن كان في أدائه المسرحي ما أثار إعجابي. ولطالما أحسست بالضعف أمام هذا النوع من البشر. إلى ذلك فإن الرجل قد منحني الأمل الوحيد بإمكانية العثور على سبيل للرحيل عن هذا البلد. ولبثت جالسا هناك محاولا إصلاح الأمور. وبصوت معتذر، متلعثم، جعلت أوضح له براءة مقصدي. وبدا الرجل وكأنه كان يتوقع سماع مثل هذا الكلام بالذات. إذ رد على الفور، وبصوت الواثق، بأنه يدير مكتبا محترما ، وانه ما كان ليضحي بمصلحته وسمعته في سبيل مبلغ تافه الشأن كالمبلغ الذي نقدته إياه. وجعل ي قسم بقبر أبيه وحياة زوجته وأولاده بأن نصف هذا المبلغ سيذهب إلى جيوب موظفي السفارة الألمانية في قبرص، وان النصف الآخر سيكون لقاء تكاليف رحلته إلى هناك. وأحسست بالشفقة تجاهه وكدت أن أعده بأنه ما أن يحصل لي على التأشيرة المطلوبة فإنني سأعطيه مبلغا مكافئا . غير أنني اكتفيت، ولحسن حظي، بأن اعتذر له من جديد على سوء تقديري له وشك ي. ثم استدركت قائلا بأننا نعيش في زمن وسخ، وأن من الصعب على المرء أن يثق بالناس، بل وبأقرب المقربين منهم إليه. وفكرت أن من المتعين علي ذرف القليل من الدموع، بيد أن الدموع لم تستجب لرغبتي.
وعدت أقول بأن الناس فقدت الشرف وأن الدنيا صارت حقيرة بالفعل.
هز رأسه موافقا . ثم متشجعا بنبرة اعتذاري، أقبل على التقاط حزمة النقود وأودعها في جيب سترته الداخلية (في حركة أثارت يقظتي مرة ثانية) وانبرى يخبرني عن عدد التأشيرات التي تمكن من الحصول عليها في غضون الأعوام القليلة الماضية.
"هل تذكر فلانا ابن فلان الذي كان يعمل في مصلحة البريد؟"
لم أتذكر فلانا هذا. في الحقيقة لم أكن أعرفه، غير أنني هززت رأسي بالإيجاب.
"إنه الآن في أستراليا!" قال بلهجة المنتصر، "وهل تعرف علانا ابن علان الذي كان يمتلك بسطة خضار في السوق؟"
لم أكن أعرفه أيضا ، غير أنني هززت رأسي بالإيجاب.
"العام الماضي حصلت له على فيزا إلى النمسا! وأنظر إليه الآن! أنظر إلى أهله! أقسم بأعز ما في حياتي، وصدقني في حياتي الكثير مما ومن أعز، إنه يحول لهم ما لا يقل عن مبلغ ألف دولار شهريا !" قال وابتسامة انتصار كبيرة على وجهه.
كنت اعلم بأنه كان يكذب. غير أنني كنت احب الإصغاء إلى الكاذبين.
III
احمد لم يكن كاذبا. غير انه كان يقول كلاما اشد إثارة للجنون من الكذب.
وكنت احب الإصغاء إليه.
كنت بالفعل أحب الإصغاء إلى أحمد. وما أن خرجت من مكتب السفريات حتى ازدردت قرص راهبينول ويممت شطر المقهى أملا بمجالسته. كنت بأمس الحاجة إلى سماع كلامه المعهود. وكنت على يقين بأن ما سيتفوه به سيجعلني أحس بأن وثوقي بذلك النصاب لقاء أمل واه بالرحيل مجازفة لها ما يبررها.
"إن الوضع مريب للغاية!" قال لي أحمد فجأة.
"أي وضع؟" سألته ببلاهة.
"المفاوضات الفلسطينية الأميركية طبعا" رد بهدوء وثقة.
"هاه!"
"هاه ماذا؟ يجب أن نحترس!" قال مؤكدا بهزة من رأسه، "هذا الـ.. عرفات لا يؤمن له جانب. يكفي أن يبتسم له الأميركيون حتى يبيع الانتفاضة ويبيع كل شيء ويركض وراءهم."
"أهذا ما ترى؟"
"آه، نعم!" قال بنبرة تأكيد، "يجب أن نبقي عيوننا مفتوحة عليه وإلا غافلنا وذهب معهم!"
ووعدت أحمد بأنني سأحرص على إبقاء عيني مفتوحتين على عرفات. غير انه لم يبد ترحيبا بوعدي هذا. وفي الحقيقة فقد رماني بنظرة امتعاض، وكأنما لم يعجبه تدخلي في شأن يخصهما وحدهما، هو وعرفات. وكان أحمد، وشأن جل أعضاء "فتح" الذين كنت أعرفهم، لا يطيق سماع كلمة واحدة من الآخرين ضد عرفات. أما هو فإنه ما كان ليبدد أدنى فرصة سانحة لكي يتهمه أبشع التهم ويكيل له الشتائم.
"وماذا تتوقع من رجل كان خاله الحاج أمين الحسيني؟ ألا يقولون بأن الأبناء للأخوال؟" قال لي مرة، بعدما صرح عرفات بأنه مستعد للتخلي عن أسلوب العنف المسلح.
كنا جالسي ن في المقهى الذي اعتدنا ارتياده منذ تعارفنا. وكان صاحب المقهى لا يحب حضورنا، إلا انه كان يحاول دائما تجاهلنا. لم يكن الرجل يحب الفلسطينيين، ولكنه لم يحب المشاكل أيضا .
"ماذا تتوقع بعد ذلك؟" سأل أحمد فجأة. وكان غالبا ما يسأل أسئلة مفاجئة.
"هاه؟" همهمت حاثا إياه على الكلام.
"إن الوضع مريب للغاية." قال من جديد ثم شرع يخبرني بأمر المسرحية التي يعمل على إنتاجها.
"وعما هي هذه المسرحية؟" قاطعته متصنعا البلاهة.
"عما هي هذه المسرحية؟ وعما تظن؟" سأل بنبرة استهجان وكأنه ما كان يتوقع أن يبدر هذا السؤال عني أنا بالتحديد.
"عن شعبنا، عن قضيتنا العادلة بالطبع!" أجاب كمن يؤكد واحدة من بدائه الحياة.
"ماذا؟ مسرحية أخرى عن قضيتنا العادلة؟" هتفت باحتجاج مشددا على كلمة "قضيتنا".
"نعم، ولكن هذه ستعجبك كثيرا !" قال بصوت المغتبط.
ونظرت إليه متسائلا .
"لن تصدق!" قال بذاك الصوت المختنق اغتباطا .
"سأصدق!" أكدت له بالصوت الأبله نفسه.
"أصغ إلي جيدا ، إذا ، إنها "أم سعد"!" ونظر إلي نظرة من يتوقع مني أن أرقص طربا .
"أم سعد؟!"
"نعم" وأضاءت وجهه ابتسامة كبيرة.
"تقصد رواية غسان كنفاني؟"
"نعم!" قال مؤكدا ، "وأنا اعرف كم انك تحب غسان كنفاني"
"أحب غسان كنفاني، لكنني لا أحب هذه الرواية!" علقت بصوت اقرب إلى التمتمة.
"ماذا؟" هتف باحتجاج.
"نعم، هذه أسوأ رواياته!"
نظر إلي محتارا . وبدا وكأنه يشاء أن يقول شيئا مهما ، غير انه عدل مؤثرا الصمت، وقد استولت عليه الخيبة. ثم أشاح بعلامة يأس مني. وداهمني إحساس بالندم لأنني خيب ت أمله. وحاولت أن أطيب خاطره ببعض ما أسعفتني به الكياسة من كلمات. وقلت له بأن الناس قد ملت من هذا الكلام، وإننا يجب أن نبحث عن لغة مخاطبة جديدة.
وحدق في كمن يتوقع مني أن أوضح ما قصدته بحكاية "اللغة الجديدة" تلك، أو أن أعطيه مثالا . غير أنني لم أتمكن من إضافة كلمة واحدة. وكنت في الحقيقة قد التقطت هذه العبارة من مقالة تقريظ نقدية لمجموعة شعرية صدرت حديثا . وكانت هذه هي العبارة الوحيدة التي فهمتها من المقالة كلها. غير أنني كنت أكره الاسترسال أيضا ، وغالبا ما ألفيتني أكف عن الكلام قبل أن أتم ما كنت بصدد قوله. كنت فجأة أحس بالسأم من الكلام، فأصمت. وكان ذلك ما يثير إزعاج أحمد.
"المشكلة انك سوريالي !" قال بنبرة مريرة.
"سوريالي؟"
"نعم! سوريالي!" قال بنبرة تصميم كمن يستعد لخوض نقاش جدي ، "ويجب أن تعلم أن السوريالية لا تتوافق مع هذه المرحلة من قضيتنا!"
"أهذا ما ترى؟"
"الواقعية هي الأسلوب الملائم لنا!"
قال وصمت منتظرا ردي .
"لكنني لست سورياليا ، أنا واقعي، أنا، في الحقيقة، واقعي جدا"
"واقعي أنت؟ هاه" وهز رأسه باستنكار، "وماذا عن تلك القصة التي كتبتها قبل أيام؟ رجل يلتقي بامرأة من المريخ يعشقها وتعشقه ثم تأخذه معها إلى بلادها! أي هراء هذا؟"
"وما العيب في ذلك؟" قلت ورحت أحرك فنجان القهوة كمن يستعد لجولة تبصير.
وتمتم بكلمات مفادها بأنني مسطل، وبأن الكلام معي عبث بعبث. وهب واقفا ومضى.
IV
كنت أعرف بأنه سيعود.
سيعود! قلت لنفسي.
كان لا بد له أن يعود لكي يخبرني المزيد عن تلك المسرحية التي تعرض لقضيتنا العادلة، أو أي شيء من هذا القبيل. ولم يكن في وسعه الحديث عن أمر كهذا مع أحد سواي. وكان الآخرون، كلما حدثهم بهذا الشأن، يسارعون الى الانفضاض عنه، أو يصغون إليه لوقت قصير، ثم يشرعون في التأفف والاحتجاج: "ألن تخلصنا من هذا الكلام الفارغ؟"
وتمنيت أن يعود. وأردت أن أصغي إليه.
كنت أحب الإصغاء إلى احمد. وكان احمد متسامحا معي وكريما ، وكثيرا ما كان يمد لي يد العون ويخرجني من محن مالية ما برحت أعاني منها. وكان احمد مرتاحا ماديا . كان يحصل على مرتب من "التنظيم" وآخر من "جهاز الأمن المركزي". وفي تلك الأيام كان في وسع المرء أن ينتمي إلى جهازين مختلفين، أو حتى ثلاثة إذا كان ذكيا كفاية. وكنت أعرف من الناس ممن كانوا ينتمون إلى ثلاثة أحزاب مختلفة، وإلى جهازين من أجهزة كل من هذه الأحزاب. كانت الرزق وفيرا ، في تلك الأيام. وأحمد كان يحب الأموال، ولحسن طالعه كان شقيقاه ي غدقان عليه بالحوالات المصرفية. وكانا قد سافرا إلى أميركا، منذ أعوام عديدة، ولبث هو مقيما مع والدته في المخيم.
كان احمد يحصل على الكثير من النقود. وكان يعتني بوالدته. غير أن والدته لم تكن راضية عنه أبدا . وكثيرا ما كانت تتشاجر معه وتتهمه بقلة الفائدة والكسل. وكان يأتيني من وقت إلى آخر مهموما ، ويبادرني على الفور، قائلا: "أن القضية تمر بواحدة من أحلك مراحلها!"
وكنت أدرك بأنه لا بد وقد تشاجر مع والدته، وأنها اتهمته بقلة الفائدة والتبطل. ومرة سألته لماذا لا يرتاح منها. إلا انه قال لي بأنه لا يستطيع فعل ذلك لأنه يحبها ولا يمكنه أن يتصور وجود العالم من دون وجودها أو وجود لسانها الطويل.
V
كان أحمد يحصل على الكثير من النقود.
وكان أحمد يحب النقود كثيرا . وقبل شهرين فقط كان قد اتفق مع أبي شيفان، الأمين العام ل-"حزب التحرير الكردستاني"، لكي يصدر له نشرة سياسية تنطق باسم الحزب. كان أبو شيفان ممعنا في البحث عن شخص أهل لتولي مهمة إصدار النشرة الموعودة، فلم يجد خيرا من احمد.
في البدء فوجئ أحمد بالطلب. صحيح أنه كان يشتغل في إعلام "التنظيم«، وكان يشرف على إصدار نشرات وبيانات كثيرة، ولكنه لم يحدث له أن أصدر نشرة باللغة الكردية. وما الذي يعرف هو عن الكردية؟ احتار أحمد في أمر أبي شيفان هذا. لماذا هو بالذات؟ ثم لماذا يريد الرجل إصدار نشرة وعدد أعضاء حزبه لا يتجاوز السبعة أو الثمانية. على الأقل كان هذا عدد الأعضاء المقيمين في قاعدة الحزب في المخيم.
"إنها ليست للأعضاء في قطاع لبنان." قال أبو شيفان بصوت خافت كمن يسر بسر خطير، "إنها للرفاق هناك!"
"هناك أين؟" سأل احمد بصوت خافت، مقلدا أبا شيفان.
"كردستان طبعا !"
"وكم عدد الرفاق في كردستان؟" سأل أحمد بالصوت الخافت نفسه.
ونظر أبو شيفان اليه نظرة تشي بأن هذا سر ما كان ليفشيه لأمه التي ولدته.
"هم !" هم هم احمد وأومأ بعلامة الفهم. غير أنه ما انفك يشك بأن يكون "حزب التحرير الكردستاني" في قطاع كردستان أكثر عددا منه في قطاع لبنان.
ولكن ما شأنه هو وعدد أعضاء "حزب التحرير الكردستاني"؟ فكر أحمد، وحل ل. المهم الحصول على المزيد من النقود! فلقد تراءت له هذه فرصة سانحة للحصول على مبلغ من النقود إضافي. وكان احمد يحب النقود. وكان بعض الناس يشيعون بأن عنده في البنك نصف مليون دولار. وكانت هذه مناسبة لزيادة ذلك المبلغ، مقابل نشرة بالكردية أو التركية، فل م لا؟
غير أن الشك في سهولة اغتنام هذه الفرصة، جعل يتسرب إلى نفسه. فلقد كان يعلم بأن أبا شيفان رجلا بخيلا للغاية. وكان ي شاع عنه بأنه لا يدفع رواتب أعضاء حزبه إلا بشق الأنفس. بل وقيل بأن الرجل كان يسرق تموين الحزب الذي كان يحصل عليه من "فتح«. وكانت "فتح"، في تلك الأيام، تزو د كل من هب ودب بالأموال والتموين.
كان ابو شيفان يسرق التموين، يأخذه إلى بيته أو يبيعه في السوق. وكان أعضاء حزبه يلبثون في القاعدة يتضورون جوعا ، ويكركرون بالكردية، يشتمون، على الأرجح، سوء طالعهم الذي أتى بهم من جبال كردستان إلى هذه الأرض المقطوعة.
وزادت حيرة أحمد في أمر أبي شيفان هذا. فلماذا يريد رجل بخيل مثله أن يصرف قرشا واحدا على نشرة ستنتهي إلى الاستخدام في لف سندويتشات الفلافل؟ كانت النشرات العربية التي تصدر لا تقرأ، فما بالك بنشرة كردية؟ وكان احمد يعرف ان جل البيانات والنشرات التي تصدر، غالبا ما تنتهي كأوراق للف سندويتشات الفلافل. وكان كثيرا ما يبدي الاسف لان "الجماهير"، على ما كان يسمي الناس، لا تقرأ هذه المطبوعات فتعلم طبيعة المرحلة التي تمر بها قضيتنا.
كان أحمد يقول هذا الكلام ويهز رأسه أسفا .
وكنت أحب الإصغاء إليه.
"يجب أن نصدر نشرة ناطقة باسم الحزب مهما كلف الثمن!" قال أبو شيفان فجأة، ثم أضاف بعد تردد: "أتعرف ما يقوله لينين؟"
"وما الذي يقوله لينين؟« سأل احمد بفتور.
"لا بد للحزب الثوري من جريدة سياسية!"
"هاه!" قال أحمد، ولم يكن يعرف إذا ما كان لينين قد قال مثل هذا الكلام أم لا. ولم يكن يحفل بالأمر. وما شأنه هو بما قاله وما لم يقله لينين؟ في الحقيقة فان أحمد لم يكن يحب أيا من لينين أو كارل ماركس. كانا ملحدين، أما هو فكان يرى بأن على المرء ألا يضع ثقته في أولئك الذين لا يؤمنون بالله. لكنه الآن كان مستعدا لان يصرف النظر عن هذه المسألة. المهم في الأمر أن أبا شيفان قد صر ح بأنه يريد نشرة بأي ثمن. وهذه هي العبارة التي أحيت الأمل في نفس أحمد بإمكانية الحصول على مبلغ جيد.
"مهما كلف الثمن؟" ردد احمد عبارة أبي شيفان بتساؤل.
"مهما كلف الثمن!" أكد أبو شيفان.
فسارع احمد الى اغتنام الفرصة وطلب منه مبلغ أربعين ألف ليرة على الحساب.
"أربعون ألفا ؟" هتف أبو شيفان بهلع.
"هاه!" رد أحمد، من دون أن يرف له جفن.
"أربعون؟" كرر أبو شيفان الرقم وكأنما لكي يتأكد بأن لم يصب بالصمم بعد. ولربما تمنى لو أنه قد أصيب بالصمم فعلا ، وأن المبلغ المطلوب أقل من ذلك بكثير. ولكنه سرعان ما أذعن إلى حقيقة أن سمعه ما زال سليما تماما ، ومد يده إلى جيبه مخرجا مبلغا لا يزيد عن الثلاثة آلاف، مقسما بشرف أبيه بأنه لا يملك سواه. غير أن أحمد لبث يحدق في وجهه بنظرة تصميم ولسان حاله يقول: "أما الأربعون ألفا أو لا جريدة ثورية!"
وكانا، أحمد وأبو شيفان، جالسي ن في المقهى، في ذلك المقهى الذي لا يحب صاحبه الغرباء.
وأيقن أبو شيفان بأن لا طائل من المراوغة. وجعل يدس يده في جيوب ملابسه، مخرجا خمسة آلاف من جيب البنطال وخمسة من جيب السترة الداخلي وهكذا. فيما سارع أحمد إلى التقاط لفافات النقود ودس ها في جيوب فيلده الكبير، وكأنما خوفا من أن يغير أبو شيفان رأيه.
كان احمد يرتدي هذا الفيلد دائما . وكان ارتداؤه له بمثابة علامة على انهماكه في العمل في سبيل القضية. وكانت جيوب الفيلد محشوة دائما بالبيانات والنشرات. الآن صار فيها أربعون ألف ليرة أيضا . وكان أحمد يحب النقود كثيرا . كان يحب النقود ولم يكن ينفق الكثير. لكنه كان يرتدي هذا الفيلد العتيق دائما، ليس من باب البخل وإنما لأنه الزي الأنسب لمن يعمل في سبيل القضية، عموما ، وفي هذه المرحلة بالذات، أو هذا ما كان يقوله كلما سألته عن سر تمسكه بهذا الفيلد العتيق.
وكنت أحب الإصغاء إلى أحمد.
ولم يكن احمد مضنا تجاهي.
كان في الحقيقة متسامحا وكريما ، وكان ينتشلني من محني المادية، وغالبا ما ألفيتني في محن مادية. كنت أنفق الكثير من النقود على أقراص الراهبينول. لم أكن أستطيع العيش من دونها وكانت باهظة الثمن. وكان سليم العراقي يحضرها لي، وكان عنده أنواع كثيرة من الأقراص وبعض الكميات من الهيرويين. وكان سليم يعطف علي أحيانا فيعطيني أقراصا من غير مقابل. غير أنه هو نفسه كان مدمنا ، وكان في عوز دائم إلى النقود لكي يبتاع ما يحتاجه. وكانت قيمة الراتب الذي يحصل عليه من "التنظيم" في انحدار دائم بسب هبوط قيمة الليرة اللبنانية المتواصل. وما كان يشتريه بألف ليرة في أسبوع كان يكلف ألفين في الأسبوع التالي. وقد حاول سليم أن يعوض عن تدهور قيمة راتبه بالسطو. وجعل يسطو على بيوت المسؤولين. وكان يعتبر الأمر مشروعا .
"أخوات الـ.. يقبضون بالدولار ويدفعون لنا بالليرة اللبنانية!" قال لي آخر مرة رأيته فيها، مبررا سطوه على بيت أبي عمر. وكان أبو عمر المسؤول التنظيمي، غير أنه كان صديقه أيضا .
ولأيام جعل أبو عمر ومرافقوه يتعقبون سليما محاولين استعادة الفيديو والتلفاز اللذين سرقهما من منزل أبي عمر.
وكان سليم قد تسلل إلى بيت أبي عمر خلال غياب هذا في مهمة سرية. هذا ما قاله الناس في حينها. وكان أبو عمر غالبا ما يغيب في مهمات سرية يتوقف عليها مصير قضيتنا العادلة، على ما كان الناس يزعمون. غير أن بعض الناس كانوا يقولون بأنه كان يذهب لقضاء بضعة أيام في حضن عشيقته. وأن عشيقته هذه كانت بالأصل عاهرة، وأن أبو عمر اشترى لها شقة محترمة، وأمرها بعدم ممارسة الدعارة بعد ذلك.
وكان الناس يقولون أشياء كثيرة.
VI
"ق ل لصديقك الحش اش بأنني حينما اقبض عليه سأقدمه إلى محاكمة عسكرية!" قال لي أبو عمر بعد يومين من حادثة السرقة.
"قل لصديقك بأنه سيحاكم محاكمة عسكرية!" عاد أبو عمر يهدد خلال التحقيق معي.
وكان مرافقوه قد رأوني في المخيم، وكانوا يعلمون بأنني صديق سليم. تحلقوا حولي على الفور وراحوا يسألوني عن مكانه غير أنني لم اكن اعرف. لم يصدقونني، وركلني أحدهم، ثم إنهم أمسكوا بي وجر وني إلى مكتب أبي عمر بغية استجوابي بشكل مضبوط.
"أنت تعرف اكثر مما تقول.." قال لي أبو عمر بلهجة وشت بخبرة واسعة في استجواب عملاء الموساد.
نعم كنت أعرف أكثر مما كنت أقول. وكان النعاس قد استولى علي، ولم أسمع نصف الأسئلة التي راح يمطرني بها. وحينما لاحظ الرجل بأنني كدت أكبو ظن بأنني كنت معبأ الرأس.
"هذا خالص!« قال وأشار إلى مرافقيه بأن يسحبونني من أمامه.
وسمعته يصرخ: "قل لصديقك الحشاش بأنني سأقدمه إلى محاكمة عسكرية!«
ولم أسمع بأخبار سليم لبضعة أسابيع، أو ربما لبضعة أيام. لا أدري! فلقد اختلطت علي الأمور. وكنت قد أسرفت في تناول الأقراص بما جعل ذاكرتي نهبا للنسيان. وكان القلق قد استبد بي خوفا من اختفاء سليم إلى الأبد، وكان مصدر حصولي الوحيد على تلك الأقراص. أين سأحصل على ممول جديد، تساءلت بهلع كبير، ثم إنني أكره التعرف إلى ناس جدد. في الحقيقة فإنني لطالما ظننت بأنني كنت أعرف من الناس أكثر مما أريد. ولقد ضقت ذرعا بمعظم الذين كنت أعرفهم، وكثيرا ما سعيت إلى التخلص من معرفة شخص أو اثنين، فما بالك بالتعرف على بشر جدد؟
لا، وألف لا! حدثت نفسي وأقبلت على أحمد أرجوه بأن يستفسر لي عن مصير سليم. أردت أن أطمئن إلى أن جماعة أبي عمر لم يقبضوا عليه. وكنت أخشى بأنهم إذا ما امسكوا به فإنهم سيقضون عليه لا محالة.
"وما لك وهذا العراقي الحشاش؟" سألني احمد بنبرة انزعاج.
"إنه صديقي."
"صديقك؟ أتظن أن هؤلاء الناس يعرفون معنى الصداقة؟" انبرى احمد هازئا . "أقول لك أن هذه الثورة قد خلقت من الأوبئة ما يجعل الواحد ييأس من تحقق أدنى نصر."
تحقيق نصر! وهل لديك أدنى أمل بتحقق النصر؟ كدت أن أسأله، غير أنني لذت بالصمت مقاوما رغبة ساحقة في الانفجار بالضحك. فلم أشأ إغضابه فيحجم عن الاستفسار عن مصير سليم.
"الأطفال يستشهدون في الانتفاضة والثورة تعشعش بمثل هذه الحثالة. أهذا كلام هذا؟" عاد أحمد يقول بنبرة تأفف غاضبة، "وربك الوكيل انهم يأتوننا من كل مكان، أفاقون ومجرمون وحثالة بشرية! ومن تظن السبب في كل ذلك؟"
كنت اعرف بالضبط من يقصد، غير أنني لم أشأ إفساد متعته الشخصية في ذكر الاسم المقصود بنفسه.
"انه الكارثة النقالة، الجالس في تونس اليوم يحاور الأميركيين!" قال أحمد بعد قليل.
وكان أحمد كثيرا ما ينعت ياسر عرفات ب-"الكارثة النقالة". وفي إحدى المرات قال لي: "أتعرف يا باسم- وكان ينادني باسما ، رغم إن اسمي ليس باسما – هناك كارثتان في تاريخ شعبنا: نكبة عام 1948، والكارثة النقالة عرفات."
وعلى نحو أوتوماتيكي مضى يشتم عرفات وكل من خطر بباله! ولم يهدأ إلا بعدما أقسم لي بأنه سيقطع لسانه إذا لم يبع عرفات كل شيء ويركض وراء الأميركيين. وتخيلت أحمد وقد صنع ذلك فعلا . تخيلته بعد انقضاء أعوام وقد تبين أن عرفات لم يبع كل شيء ويجري وراء الأميركيين، تخيلته، يخرج لسانه ويقطعه أمام الناس وفاء بقسمه.
ومد احمد يده إلى فنجان القهوة واخذ رشفة طويلة.
وجعلت أقاوم الرغبة المتصاعدة في الانفجار ضحكا ، وقلت لنفسي بأنني أحب الإصغاء لأحمد.
وكنا جالسين في المقهى الذي كان صاحبه يكره الفلسطينيين يتمنى لو أن الأرض تنشق وتبتلعهم جميعا .
وانبسطت أسارير احمد فجأة، واعترى الحبور صوته وهو يخبرني بأمر المسرحية. وقال لي بأن فكرة رائعة خطرت إلى باله الآن بالضبط.
"الآن بالضبط؟" سألته مستغربا ، وكدت أن أضيف بأنني لم أحسب أن الكلام على عرفات سيلهمه أفكارا رائعة، غير أنني آثرت السكوت.
وقال بأنه يفكر بأن ي لصق صورتين كبيرتين على جانبي المسرح: صورة مكبرة لبطاقة الإعاشة على اليمين وأخرى لبطاقة الهوية على الشمال.
"ولكن لماذا على جانبي المسرح؟ لماذا لا تضعهما الواحدة فوق الأخرى؟" سألت ببلاهة.
"لا، هذا سيفقد الأمر مغزاه!" أجابني بجدي ة، "يجب أن تعلم أننا بتعليق الصورتين على جانبي الخشبة إنما نرمز إلى واقع حصارنا ما بين هاتين الحقيقتين!«
"هاها!"
"هاها، ماذا؟ الرمزي ة هي الأسلوب الأمثل بالنسبة لنا في هذه المرحلة!" قال مؤكدا .
"كنت أظنها الواقعية؟" قلت بصوت مهموس وكأنني أتحدث إلى نفسي.
"نعم الواقعية، ولكن الواقعية الرمزية!" رد على الفور بثقة من كان مدركا بأن ليس ثمة من تناقض ما بين ما يقوله الآن وما كان قاله من قبل.
"ولكن ماذا عن الواقعية الاشتراكية؟"
"لا، هذه لا تصلح إلا في المجتمعات الاشتراكية."
"والواقعية النفسية؟"
"ماذا؟" سأل محتجا "ذلك الهراء الفرويدي عن الابن الذي يريد أن يقتل والده و يتزوج من والدته؟ أهذا حقا ما نريد الكلام عليه في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ قضيتنا؟"
"الآن عرفت: الواقعية السحرية!"
"لا هذه تضيع قوة الخطاب السياسي."
وكدت أسأله عن أي "خطاب سياسي" يتكلم، غير أنني خشيت أن يغضب مني ويمتنع عن الاستفسار عن سبب اختفاء سليم. وتذكرت سليما ونظرية "الواقعية السحرية" التي أتاني بها يوما . تذكرت وحزنت، وكنت غالبا ما أحزن كلما تذكرت أمرا من هذا القبيل. وكنت أرتاح كثيرا للذكريات التي تثير الحزن، ولم يكن ثمة من شيء يثير اشمئزازي أشد من استعادة ذكريات سعيدة.
تذكرت سليما والنظرية التي جاءني بها، وحزنت!
وكان سليم قد قرأ لتوه رواية أوسكار وايلد "صورة دورين غراي" وأعجب بها أشد الإعجاب.
"أتعرف من هو مؤسس الواقعية السحرية؟" سألني سليم ونحن جالسان في مقهى ذلك الرجل الذي كان كلما رآنا تعتري وجهه نظرة من يفكر ويقول في سر ه: "لماذا ابتليتنا يا رب بهؤلاء الغرباء؟"
"ماركيز، بورخس، كورتاثار، استورياس، كاربنتيه، يوسا.." جعلت أردد، على وجه أوتوماتيكي، أسماء كت اب أميركا اللاتينية الذين كنت قد سمعت بهم.
"لا..! لا..أوسكار وايلد!« قاطعني ونظرة انتصار كبيرة على وجهه.
"أوسكار وايلد؟"
"نعم أوسكار وايلد" أكد من جديد وانحنى مقتربا مني وكأنما ليسر لي بأمر لا يريد أن يسمعه أحد سواي: "على من تظهر علامات الشيخوخة والشر في رواية صورة دورين غراي؟"
لم افهم مغزى سؤاله. ثم ما علاقة ذلك بالواقعية السحرية؟ نظرت إليه متسائلا ، فسارع إلى القول: "على اللوحة!"
"لم أفهم!"
"ليس على دورين غراي نفسه وإنما على صورته! تخيل إن الصورة هي التي تتغير وليس الإنسان!"
"هاها!"
"هاها! الرواية بشكل عام هي رواية أحداث واقعية، لكن هذه الحكاية بالذات هي حكاية فانتازية، ومن ثم فإن الواقع يختلط بالفانتازيا تماما كما في الواقعية السحرية." خلص سليم إلى القول وتراجع إلى الخلف وكأنما لكي يفسح لي من المجال ما يكفي لكي أستوعب أهمية ما قاله.
"اختلاط الواقع بالفانتازيا هو الواقعية السحرية إذا ؟" علقت بعد وقت قصير.
"بالتأكيد!" أجاب مؤكدا .
"بالتأكيد!" رددت مقلدا صوته، ثم أضفت بعد قليل: "أتريد رأيي الصريح؟"
أومأ بالإيجاب.
"نعم؟" سألت، ولم أستطع مقاومة إبداء رأيي الصريح: "خراء عليك وعلى أوسكار وايلد وعلى الواقعية السحرية وعلى كل من شجعك أن تقرأ الرواية بهذا الشكل."
وباغته الوجوم، وبدا وكأنه يريد أن يقول شيئا غير انه لم يستطع أن يحرك شفتيه.
وتذكرت الآن نظرة الوجوم التي غشت وجهه فأحسست بالندم.
كان سليم كريما معي، غير أنني بتعنتي المعهود لم أستطع مجاملته مبديا الإعجاب بنظريته الحمقاء تلك. وجعلت أشتم نفسي، بل وتمنيت لو أنني أ صاب برصاصة طائشة في اشتباك ما بين تنظيمين محليين. وكنت أعلم بأنه إذا ما حدث أمر كهذا، فإن صوري ست علق على الجدران بوصفي شهيدا سقط وهو يقاوم العدو الصهيوني. وقلت لنفسي بأن أهلي سيستفيدون من الراتب الذي ي صرف عادة باسم الشهداء، وتذكرت ما كان أحمد يقوله عن دم الشهداء والثورة والمال الذي ي هدر وكأنه مال حرام.
ثم شتمت نفسي من جديد، وكأنما لكي أختم حالة الهذيان التي أصابتني فجأة بالطريقة التي بدأتها. شتمت نفسي في البداية وشتمت نفسي في النهاية. ثم جعلت ألح على احمد لكي ي جد في الاستفسار عما جرى لسليم. لم يعد الخوف على فقدان مصدر حصولي على الأقراص ما دفعني إلى ذلك وإنما الإحساس الممض بالذنب لأنني لم اكن لطيفا تجاهه. بل وكادت العاطفية أن تستولي علي في تلك اللحظة إلى حد أنني صممت بأنه حينما يظهر من جديد، سأعمل على ترتيب موعد له مع دلال.
وكان سليم يحب دلال ويريد أن ينام معها. وكنت أحار من أمر اشتهائه لها، فلقد كان هو وسيم الطلعة بينما كانت هي أشبه بالقرد. بل أنها كانت تتعالى عليه وتسخر منه. وكانت لكنته غير المألوفة تثير سخريتها، وكثيرا ما كانت تقلده في غيابه. وفي المرة الأخيرة التي قلدته فيها أمامي غضبت منها، وقلت لها بأن حذاء سليم يساوي عشرة نساء مثلها.
حزنت وبكت وقالت لي بأنني لا افهم شيئا .
غير أنني كنت أفهم. كنت افهم جيدا بأنها تحبني وأنها تأمل بأنني في النهاية سأتزوج منها. وكنت أقول لنفسي بأنني لا تكفيني مصيبة الحياة في هذا البلد وإنما أحتاج إلى مصيبة أخرى فأتزوج من هذه القردة. وفكرت بأنني إذا ما شئت ترتيب الأمور ما بينها وبين سليم، فإن علي أن أسترضيها أولا . سأعتذر لها وأطيب خاطرها، ثم أشرع بمحاولة إقناعها أن سليما لهو شخص رائع، وانه يحبها بجنون وأنه الرجل الوحيد الذي يمكنه أن يفيها حقها ويدخل السعادة الأبدية إلى حياتها. وفكرت بأن أقول لها كلام كهذا أو ما هو شبيه به مما يمكن أن تقع يدي عليه في أدب المنفلوطي. وحسبت أن الإنشاء الذي صاغه صاحب "النظرات« كفيل بإذابة قلب أية امرأة، حتى تلك القردة دلال.
وعقدت العزم على الذهاب لرؤيتها في اليوم التالي. غير أنني لم اذهب، لا في اليوم التالي، ولا في اليوم الذي تلاه. ولا اعلم على وجه التحديد متى ذهبت لملاقاتها أخيرا . فلقد اختلطت علي الأمور بفعل إسرافي في تناول تلك الأقراص اللعينة.
المهم أنني في النهاية ذهبت.
ذهبت إلى المخيم وانتظرت أمام الحانوت المواجه لبيتها مترصدا ظهورها. وخلال انتظاري ظهر لي شاب كنت قد التقيت به مرات عديدة من قبل، غير أنني لم أتذكر اسمه. أقبل علي مصافحا واخبرني بأنه كان يبحث عني في طول المدينة وعرضها. وقال بأنه قد أنهى الدراسة التي كان قد اخبرني عنها من قبل، وانه الآن في أمس الحاجة إلى رأي مثقف مثلي. وأضاف بعد قليل بأن هذا المخيم مليء بالبهائم وانك لا يمكن أن تعثر فيه على مثقف محترم واحد.
كنت قد نسيت أمر الدراسة التي يتحدث عنها. ولا بد وانه لاحظ حيرتي، فشرع يقول: "ألا تذكر؟ ألا تذكر الدراسة التي حدثتك عنها حينما التقينا عند أبي رمزي؟"
لا لم أتذكر الدراسة، وإنما تذكرت أبا رمزي. تذكرت بأنه يعيش وحيدا بعدما فر ت زوجته مع فدائي من الضفة الغربية. وفكرت بأن من الممكن أن اطلب من دلال بأن توافيني إلى بيت أبي رمزي فأجد الفرصة الملائمة لمفاتحتها بأمر سليم.
وكان أبو رمزي رجلا شهما . وكان يفهم الوضع، على ما كان يؤكد لي في كل مرة اضطر فيها إلى المبيت عنده. وكنت كلما تشاجرت مع أهلي، اذهب إليه فيقول لي على الفور: "إنني افهم الوضع..افهم الوضع!" ثم يشير إلى إحدى الغرف الخالية فآوي إلى النوم من دون إزعاج.
"ألا تذكر؟" عاد ذلك الشخص الذي لم أتذكر أسمه يلح بالسؤال، "دراستي عن البنية الطبقية للثورة الفلسطينية؟"
"آه..!" هتفت متظاهرا بأنني قد تذكرت أخيرا ، وان كل شيء قد اصبح واضحا ، بالنسبة إلي، وضوح البلور.
ومتشجعا بهذه الـ"آه.." طفق صاحبي هذا يخبرني بالمزيد من أمر دراسته وابتسامة انشراح تضيء وجهه.
كنت منشغلا بمراقبة بيت دلال ولم أصغ إلى كلمة واحدة مما كان يتفوه به. ولم يطل الأمر، فلقد أطلت دلال فجأة. خرجت من بوابة البيت وولجت زاروبا مجاورا . وودعت صاحبي على عجل، قائلا له بأنني يهمني شخصيا أن اقرأ دراسته المهمة هذه، وأنني ساكون ممتنا إذا ما وفر لي نسخة منها.
"ولكن أين اتركها؟" هتف خلفي.
لم اعرف بما أجيب فسارعت إلى الإشارة إلى الحانوت: "هنا! احتفظ لي بنسخة هنا عند صديقي صاحب الدكان!« هتفت وأنا اعبر الطريق ميمما شطر الزاروب الذي دخلته دلال.
وكانت دلال قد لمحتني من بعيد غير إنها واصلت السير متجاهلة وجودي. وسرت خلفها إلى أن اطمأننت بأننا قد ابتعدنا بما يكفي لكي أن أدنو وأحدثها من دون أن يرانا أحد من أهلها أو جيرانها. وقلت لها بأنني أود مفاتحتها بأمر مهم، وحثثت الخطى مشيرا لها بأن تتبعني. غير أنها أصر ت على تجاهلي. وجعلت تتلكأ وكأنما لكي تبرهن لي بأنها لم تحفل بدعوتي لها، إلا أنها ما أن رأتني جادا في السير وغير مستعد لان أعود إليها متوسلا ، حتى سارعت في اقتفاء اثري.
طرقت باب أبي رمزي ورحت أراقبها وهي تدنو حانية الرأس. وقلت لنفسي: "يا إلهي إنها بشعة فعلا !"
وحينما فتح أبو رمزي الباب هممت بأن اشرح له الأمر غير انه رفع يده وبادرني بالقول: "إنني افهم الوضع..افهم الوضع.." وأفسح لنا سبيل الدخول مشيرا إلى إحدى الغرف الخالية. ولم يراوده أدنى فضول بأن يلقي نظرة واحدة إلى رفيقتي. وقلت لنفسي حسنا فعل، فمن يريد أن يتصبح بوجه مثل وجه دلال.
وكان أبو رمزي يقيم وحده في هذا البيت الواسع. وكان الناس يقولون بأنه قد أقسم على ملازمة البيت منذ فرت زوجته مع ذلك الفدائي من الضفة الغربية. وكان الناس يقولون بأن أهالي الضفة عكاريت لا يؤمن لهم جانب. ولكن الناس كانوا يقولون أشياء أخرى كثيرة. وكانوا يشيعون عن أبي رمزي نفسه أمورا لا تصدق.
وقالت لي دلال بأنها لا تحب أن تكون هنا. وان الناس إذا ما لمحوها تخرج من هذا البيت فإن سيرتها ستصير على كل لسان في المخيم. وهي جعلت تتظاهر بالحياء وتدعي الارتباك منذ بتنا لوحدنا في الغرفة. دنوت منها وقرصتها، فضحكت وقرصتني، وصفعتها على ذراعها العارية فسارعت إلى رد الصفعة، وعضضت عنقها فعضت عنقي، ثم ارتمينا على الأرض المغطاة ببساط كالح. واستلقينا هناك لبعض الوقت، رأسها يحاذي رأسي. وجعلت أفكر، ما لي والسفر إلى ألمانيا؟ لماذا لا أبقى في المخيم وأتزوج من هذه القردة؟ أنام معها كل ليلة فتنجب لي عشرة أطفال، ونتشاجر كل يوم إلى أن تأتي إسرائيل مرة أخرى وتدمر المخيم فوق رؤوسنا فنرتاح من حياة الزفت هذه.
وكنت قد نسيت غرض المجيء بدلال إلى هنا. نسيت سليما ومحاولة ترتيب الأمر له معها. نسيت قلقي على مصيره وإحساسي بالذنب تجاهه.
VII
نسيت أمر سليم إلى أن جاءني أحمد بعد أيام أو أسابيع، لم أعد أذكر.
اندفع إلى المقهى وهو ينفض المطر عن فيلده الواسع ويمس د شعره المبتل. وكان المطر يهطل بغزارة في الخارج. وفكرت بأن دخول أحمد على ذلك الوجه إنما كان هربا من المطر. غير انه لم يجلس، بقي واقفا بمحاذاة الطاولة ونظرة قلق تعلو وجهه.
"لقد اعتقلوا سليما !" ألقى علي الخبر، لاهثا متعجلا ، وشرع يلتفت إلى الخلف.
"متى؟ من؟"
"ومن تظن؟" هتف بنفاد صبر، وعاد يلتفت إلى الخلف. وقال بأن عليه أن يذهب على الفور. وقال بأنه جاء فقط لكي يخبرني بما جرى لسليم. وسعيت إلى معرفة المزيد، غير انه استدار وجعل يبتعد، ثم لو ح بيده قائلا بأن لن يستطع أن يبقى وانه سيعود إلي في الغد.
وسألته عن أمر المسرحي ة، وكنت في الحقيقة أود تشجيعه على البقاء.
"ليس الآن..ليس الآن!" قال ومضى مسرعا بالسرعة التي أقبل بها.
وكان صاحب المقهى يراقب ما يجري ويهز رأسه بيأس.
احترت في أمر أحمد. فلقد كانت هذه المرة الأولى التي يبدد فيها فرصة سانحة للكلام عن المسرحية أو أي أمر آخر يتعلق بقضيتنا العادلة. وكان أحمد يهوى الكلام عن قضيتنا العادلة، وكان كلما تحدث عنها غشته نظرة من يتمتع بلذة عارمة حتى لتظن بأنه كان يمارس العادة السري ة. كنت أقول لنفسي بأن من المطمئن للنفس أنه لا يزال هناك من يحب أن يتكلم عن قضيتنا العادلة بهذا القسط من المتعة الشخصية.
وكنت أقول لنفسي بأنني أحب الإصغاء إلى أحمد.
غير أنني الآن كنت محتارا في أمره. كيف يبدد فرصة للكلام كهذه؟ وتساءلت إذا ما كان أحمد قد تغير ما بين ليلة وضحاها. وقلت ماذا لو أن احمد قد تغير؟ ماذا لو أن العالم قد تغير؟ غير أن لا أحمد قد تغير ولا العالم! وحيرتي لم تدم طويلا . إذ سرعان ما أطل أبو شيفان، متلفتا يمنة ويسرة محملقا في وجوه الزبائن. من الواضح بأنه كان يبحث عن أحمد.
وما إن رآني حتى توج ه نحوي برشاقة ما كانت لتتناسب مع جسمه السمين. وفكرت بأن كل هذه السمنة هي فائض الغذاء الذي كان يحصل عليه من التموين الذي يسرقه. وتمنيت لو انه في يوم من الأيام يغص بكل ذلك الطعام فيختنق ويموت. نعم، تمنيت لو انه يختنق أكلا ، ولا أعلم لماذا تمنيت أمرا كهذا. ولكن لم يكن بالغريب علي أن أتمنى أمنيات كهذه.
"هل رأيت أحمد؟" بادرني بالسؤال قبل أن يلقي التحية.
"لا!" أجبت مشيحا بوجهي عنه مخافة أن يضبطني وأنا أنظر إلى كرشه الكبير.
"لا؟ هل أنت متأكد؟"
"نعم أنا متأكد. لم أره منذ أسبوعين.« قلت بلهجة جافة.
وراح يحملق في بتعجب.
ثم ما لبث أن جذب الكرسي المواجه لي وأراح جسمه الثقيل، مطلقا زفرة كبيرة.
"أتعلم ما الذي فعله صاحبك أحمد؟« سألني أبو شيفان بنبرة تنم عن خيبة أمل كبيرة.
نظرت إليه من دون أن أجيب.
"أكل علي خمسين ألفا !"
"أربعون!" رددت بصوت مهموس وكأنني أتحدث إلى نفسي. وفكرت في تلك اللحظة بأنه يتوجب علي الذهاب إلى وكيل السفريات.
"نعم! نعم! أربعون ألفا !« سارع أبو شيفان إلى الاستدراك متلعثما ، "ولكن كيف عرفت؟ هل أخبرك بالأمر؟"
لم أجب وكنت مشغول البال بأمر ذلك النص اب الذي وعدني بالحصول على تأشيرة دخول إلى ألمانيا مقابل مبلغ خمسين ألف ليرة. وكنت قلقا أيضا على مصير سليم. وكنت أخشى أن يقتلوه، وجعلت أفكر بطريقة أخلصه بها من شر أبي عمر.
"منذ شهرين وهو يعدني بإصدار جريدة للحزب" عاد أبو شيفان يشرح الأمر لي، "ولكنه حتى الآن لم يصدر ورقة واحدة. أخذ النقود ولم يأت بنتيجة!"
كان من غير شك يتوقع مني أن استنكر ما فعله احمد. غير أنني لم أتفوه بكلمة. وجعلت أفكر بأحد يمكنه أن ينقذ سليما .
"يا رفيق باسم!« شرع أبو شيفان يخاطبني بالاسم وكأنه لاحظ انشغالي عنه فأراد أن يسترد انتباهي من جديد.
"يا رفيق باسم، أنت شاب مثقف وتعرف كم من المهم أن يكون لحزبنا جريدة، بل أنها للقضية الكردية نفسها!"
"نعم! نعم!" أجبت، فقط لكي أبرهن له بأنني كنت أصغي له.
"يا رفيق باسم أن القضية الكردية هي القضية التوأم للقضية الفلسطينية. وما فعله أحمد لهو طعنة في ظهر القضيتين معا ."
بل هو طعنة لجيبك يا سارق الدجاج المثلج! رددت في سري . وجعلت أفكر بوكيل السفريات الذي اخذ مني مبلغ خمسين ألف ليرة. وقلت لنفسي بأنني يجب أن اذهب لرؤيته، فإن لم يكن قد حصل على التأشيرة فإنني سأطالبه بأن يعيد إلي المبلغ كاملا . لكنني عدت أفكر بأنني يجب أن أتصل بأحد ما لكي أنقذ سليما .
"حاول أن تقنعه بأن يعمل لنا تلك الجريدة!" راح أبو شيفان يرجوني، "أو على الأقل أن يعيد إلي النقود. لقد اقتطعتها من طعام أولادي! صدقني!"
بل سرقتها من أعضاء حزبك أيها اللص! قلت في سري.
ونهض أبو شيفان متثاقلا . وقال بأن عليه الانصراف لمهام حزبية عاجلة.
"هل أنت ذاهب إلى المخيم؟" سألته بصوت جهدت في أن أجعله ودودا .
أومأ بالإيجاب.
"هل يمكنك أن تأخذني معك؟" سألته، وأردفت على الفور، "سأحاول العثور على أحمد وإقناعه بإعادة النقود إليك."
ولم اكن أنوي فعل ذلك. طبعا ، لم أكن أنوي فعل ذلك. كل ما في الأمر أنني أردته أن يقلني بسيارته إلى المخيم لكي أحاول أن أساعد سليما . وخشيت بأنني إذا لم أتظاهر أمام أبي شيفان بأنني ذاهب إلى المخيم من اجله، فقد يرفض اخذي معه. أو انه قد يوافق شريطة أن ادفع له أجرا . ولفرط ما سمعت عن دناءة هذا الرجل فإنني لم استبعد بأننا ما أن نصل إلى المخيم حتى يهتف بصوت أشبه بأصوات سائقي سيارات التاكسي: "خمسون ليرة، لو سمحت!"
كان أبو شيفان رجلا دنيئا . كان رجلا دنيئا فعلا ، وحينما علم بأنني ذاهب لأتكلم إلى أحمد بشأنه وافق بكل ترحيب.
VIII
كانت لا تزال تمطر. وكانت حفر الشوارع قد امتلأت بالمياه.
وفي البداية جعلت أشتم الدنيا ومخلوقاتها، غير أنني سرعان ما رحت اشكر العناية الإلهية التي جعلت للقضية الفلسطينية شقيقة توأما مثل القضية الكردية، وجعلت لهذه القضية حزبا مثل "حزب التحرير الكردستاني" يرفع رايتها ويناضل من اجلها، وجعلت لهذا الحزب أمينا عاما مثل أبي شيفان عنده هذه السيارة التي كان يقلني بها إلى المخيم فلا اغرق في المطر.
وحسبت لو أنني قلت كلاما مثل هذا أمام احمد لكان جن جنونه. "إنها دماء الشهداء هذه التي يغدقونها على طفيلي مثل أبي شيفان!" لكان أحمد هتف محتج ا .
وكان أحمد غالبا ما يردد قولا كهذا كلما علم بأمر شخص حصل على ميزانية من "فتح".
"دماء الشهداء يحولونها إلى أموال مهدورة على مرتزقة يعتاشون على حسابنا!" كان احمد يقول دائما .
وكنت أحب الإصغاء إلى أحمد.
غير أنني حسبت أن احمد لا يؤمن بأن تزويد الأمين العام ل-"حزب التحرير الكردستاني" لهو دعم للقضية الكردية بما هي الشقيقة التوأم لقضيتنا العادلة. بل أدركت أن في استيلائه على نقود أبي شيفان، إنما كان يحاول استرداد دماء الشهداء.
"يستردها من الطفيلي أبي شيفان ليضعها في جيبه." قلت لنفسي، وضحكت، "لعن الله إبليسك يا أحمد!"
وتذكرت بأنه ينبغي علي أن اذهب لرؤية نصاب السفريات الذي وعدني بنبرة واثقة بأنه سيؤمن لي سبيل الدخول الى ألمانيا. ولكن يتوجب علي أن أنقذ سليما أولا . قلت لنفسي، وما لبثت أن تنبهت إلى قولي "علي أن أنقذ سليما !" لقد استخدمت هذه الجملة مرات عديدة! فكرت وشرعت أضحك مثل المجنون.
ومن كنت أظن نفسي، بحق السماء؟
"كزبرة الثعلب"؟ ذاك الذي اشتهر بإنقاذه لأبناء الطبقة الأرستقراطية من مقصلة الثورة الفرنسية؟
وتأملت إذا ما كان في وسعنا اعتبار الثورة الفرنسية الشقيقة الكبرى للثورة الفلسطينية. وجعلت أفكر بمن ستكون الشقيقة الصغرى في هذه الحالة. الثورة الإيرانية ربما؟ وقلت لنفسي بأن لثورتنا شقيقات كثيرات. ثم استدركت، قائلا ، بأن ثورتنا ليست بذلك السوء. وقلت بأنها لم تستخدم المقصلة بعد، هذا رغم أن المستقبل ما يزال أمامها! وقلت بأننا محظوظون بالفعل، ثم تمنيت لو أن عندي مقصلة. وقلت بأنني لو رزقت بمقصلة، فإنني حتما سأنشغل بالناس لبضعة أعوام!
وهززت رأسي وكأنما لكي انفض عنه غبار هذه البلاهات.
وكانت لا تزال تمطر ورحت أغذ الخطى.
وكنت قد قررت أن أذهب لرؤية أبي العز طلبا لمساعدته في أمر سليم. وكان أبو العز مسؤولا عسكريا بارزا . ولم يكن في وسع أحد من المسؤولين أن يرفض له طلبا . ومرة خطفت "جبهة النضال الشعبي" شابا مسيحيا من بلدة مغدوشة، فتوسط أهله عند أبي العز لكي يصار إلى إطلاق سراحه. وعلى الفور اتصل أبو العز بأبي الهول، مسؤول جبهة النضال في المخيم، وأمره بإطلاق الشاب من دون تلكؤ. إلا أن أبا الهول رفض متذرعا بأن الشاب كان عميلا للموساد. وعبثا حاول أبو العز إقناع أبي الهول بأن الشاب ليس بعميل، وان الكثير من أصدقائه في مغدوشة قد أكد له بأن المخطوف شاب مسالم ليس له ولا عليه، وان أهله من خيرة الناس. غير أن أبا الهول أصر على موقفه، بل انه قال لأبي العز بالحرف الواحد انه لن يطلق سراح جاسوس إسرائيلي لكي يبيض هو، أبو العز، وجهه أمام أصدقائه أهالي مغدوشة، فيشكرونه ويدعونه إلى بيوتهم، فيسكر معهم ويتلصص على نسائهم. طار صواب أبي العز حينما سمع هذا الكلام. وأقسم على رؤوس الأشهاد بأنه لن يكتفي فقط بتحرير المخطوف، بريئا معافى، وإنما سيقلن أبا الهول درسا لن ينساه.
وكنت كثيرا ما أسمع هذه العبارة: "سألقنك درسا لن تنساه!" وكان قادة الفصائل والجبهات في المخيم كثيرا ما يلقنون بعضهم البعض دروسا لا تنسى. وفي تلك المناسبة بالذات كاد أبو العز أن يفلح في مسعاه، فيحرر الشاب المعتقل ويلقن أبا الهول درسا لن ينساه. غير أن الأمور لم تسر على ما شاء أبو العز. ففي اللحظة الأخيرة تدخلت بعض الفصائل مطالبة إياه بأن يسحب مقاتليه على الفور. وكاد أبو العز أن يذعن لمشيئتهم، وقد التموا عليه، غير انه ولحسن حظه، تدخلت فصائل أخرى لصالحه. ودار القتال من جديد. ولم تعد المعركة مقتصرة على قوات أبي العز وقوات أبي الهول، وإنما شملت قوات جل الفصائل في المخيم.
واندلع القتال على اكثر من جبهة. ووقعت اشتباكات بالأسلحة الخفيفة أولا ، ثم دارت معارك بمدافع الهاون، واستمر القتال ثلاثة أو أربعة أيام. وسقط خمسة قتلى وأربعة وعشرون جريحا . ووصف القتلى فيما بعد بأنهم شهداء، وألصقت صور كبيرة لهم على حيطان المخيم وقد ك تب اسفل كل صورة "الشهيد البطل فلان الفلاني.. ولد في بلدة كذا.. واستشهد وهو يتصدى للعدو الصهيوني."
دامت المعركة لأيام. ولولا الأوامر الصادرة من تونس بإيقاف القتال على الفور لكانت المعارك استمرت لأسبوع أو أسبوعين، أو حتى لشهر بأكمله، فكل المشاركين كان متحمسا لهذه المعركة. وكانت معنويات المقاتلين عالية، بل إن بعضهم جعل يحارب وهو يصغي إلى أم كلثوم تغني: "عودت عيني على رؤياك!"
دامت المعركة لأربعة أيام فقط، وكان من الممكن أن تدوم لأسابيع وأشهر وأعوام. ولكان وقع المزيد من الشهداء ولألصقت صور أخرى.
كان أبو العز راضيا عن نتيجة المعركة.
كان أبو العز راضيا لأنه تمكن من اقتحام قاعدة الجبهة وتحرير الشاب المعتقل. بل انه اعتقل كافة أفراد الجبهة بمن فيهم أبي الهول نفسه. وجعل أبو العز يد عي أمام أهالي مغدوشة بأن أبا الهول قبل يده وراح يتوسله بألا يقتله. وكان قد ذهب بنفسه إلى مغدوشة لكي ي عيد الشاب سالما . وشكره أهل البلدة على صنيعه، وأبدوا أسفهم لحصول ما حصل. غير أن أبا العز قال لهم بالا يحملوا هم ا ، مؤكدا لهم بأن ما جرى كان لا بد وان يجري. فهو كان يتحين الفرصة لكي يلقن أبا الهول درسا لن ينساه، وقد تسنى له فعل ذلك الآن.
وشكروه مرة ثانية وثالثة. وأقبلت والدة الشاب المحرر وقبلته على خده، فاحمر وجهه خجلا . ودعوه الناس إلى تناول كأس عرق معهم، فلبى الدعوة ممتنا . وجلس يحتسي العرق ويتلصص على النساء.
تذكرت هذه الحادثة فتفاءلت بالخير.
تذكرت هذه الحادثة وقلت لنفسي انه إذا ما كان أبو العز قد خاض معركة حامية الوطيس كهذه في سبيل أصدقائه في مغدوشة فإنه لن يتوانى عن خوض معركة أحمى في سبيل إرضائي وإرضاء أهلي وذكرى صداقته الوطيدة لخالي المقيم في أميركا.
وكان أبو العز صديقا لأهلي ولخالي خصوصا . واذكر انه كثيرا ما كان يتردد علينا حينما كنا لا نزال نقيم في المخيم. كنت حينها في السابعة أو الثامنة من العمر. وكان يأتي برفقة خالي وكانا رفيقين في منظمة واحدة وصديقين أيضا ، وظلا كذلك حتى بعدما ترك خالي المنظمة وسافر إلى أميركا بغية متابعة دراسته. وكثيرا ما كان أبو العز يبدي أسفه لان خالي قد هجر سبيل النضال مستجيبا لطموحاته الشخصية. وكان يقول بأنه إذا ما فعل كل واحد منا ما فعله خالي، فمن سيحرر فلسطين. ومرة سأل هذا السؤال أمام جارنا الأعرج أبو حسن، فما كان من هذا الأخير إلا أن أجابه أنه إذا ما أفلح كل واحد منا أن يصنع ما صنعه خالي، فليس ثمة حاجة بعد إلى تحرير فلسطين. ورماه أبو العز بنظرة احتقار، وهز رأسه مرة أخرى مبديا أسفا مضاعفا حيال ذلك الإحساس بالعبث الذي جعل يلم بالجماهير.
وكان أبو العز مثل أحمد يسمي الناس جماهيرا . ومرة قلت لنفسي بأنني لو كنت صديقا لأبي العز لكنت أحببت الإصغاء إليه كما أحب الإصغاء إلى أحمد. ولكن أبا العز تغير أيضا . ومع انقضاء الأيام كان إحساسه بالأسف يتقلص ليحل محله إحساسا بالحسد. وكان أبو العز يعلم بأن خالي قد أنهى دراسته وانه قد حصل على وظيفة في إحدى الشركات الكبرى في ميتشغان، وانه قد تزو ج من أميركية وحصل على الجنسية.
كان يعلم ذلك، ولا شك بأن الحسد كان يساوره.
كنت على يقين بأن أبا العز سيعمل على إطلاق سراح سليم. وقلت لنفسي بأنه يكفيني أن اخبر أبا العز بأن سليما مناضل التحق بصفوف الثورة منذ بداية السبعينات وانه قد حارب في معارك الجبل وأصيب بجراح كادت أن تودي به لولا عفو الله. كان يكفي أن اخبره بأمر كهذا حتى يسارع إلى الاتصال بأبي عمر ويأمره بإطلاق سراح سليم على الفور. كان أبو العز يتباهى دائما بأنه من المقاتلين الذين حاربوا في الجبل. وكان يتحسر على تلك الأيام التي كان للحرب فيها معنى.
كنت واثقا بأن أبا العز هو الرجل القادر على إطلاق سراح سليم.
كنت واثقا من ذلك، غير أنني لم اذهب لطلب مساعدته. فجأة، وأنا أسير تحت المطر قررت أن اذهب لرؤية دلال. تخيلت نفسي في فيلم سينمائي وقررت ألا أذهب لرؤية أبي العز، وإنما لرؤية دلال. ولا بد وأن المطر جعلني أفكر بأن دلالا أقل بشاعة مما هي عليه في الصيف. سأذهب إليها وهي أقل بشاعة، قلت لنفسي، سأقف أمام حانوت الخضار المقابل لبيتها إلى أن تلمحني هناك فأناديها، طبعا ستتجاهلني في البداية، غير أنها سرعان ما تتبعني، ونذهب سويا إلى بيت أبي رمزي. وكنت اعلم أن أبا رمزي لن يمانع مجيئنا إلى بيته. كنت متأكدا بأنه سيفهم الوضع، كما دأب على القول. سيفهم الوضع ويفسح لنا الطريق لدخول إحدى الغرف الخالية حيث اقرصها فتقرصني، أصفع ذراعها فتصفع ذراعي، أعضها فتعضني ثم نرتمي على البساط الكالح اللون.
IX
ونسيت سليما .
نسيت سليما ، ولا اعرف كيف نسيته. فجأة اصبح اسمه عندي اسما لشخص عرفته معرفة عابرة. وحتى حينما أخبرني احمد بأنهم قد قتلوه، فإنني لم أحس بغضب أو حزن اشد مما كنت أحس حينما أسمع بمقتل شخص غريب. وفي الحقيقة فإنني نادرا ما غضبت أو حزنت لموت شخص لا أعرفه، وفي بعض الأحيان لشخص أعرفه معرفة جيدة. وكنت على إيمان لا يتزعزع بأن هناك الكثير من البشر، أكثر بكثير مما نحتاجه، وأن الموت لرحمة كبرى للجميع.
لا، لم أحس بالغضب أو الحزن.
هززت رأسي وكأنني أؤكد لأحمد بأن كل شيء قد بات طي الماضي، وان ليس من داع بعد الآن للقلق. وبدت ملامح الحيرة على وجه أحمد. وكان من الجلي بأنه قد فك ر طويلا قبل أن يخبرني بما يعرف. لم يشأ أن يصدمني فعمد إلى المداورة في الكلام والتروي حتى يجد اللحظة المناسبة لكي يبلغني فيها الخبر المريع. كنت قد رجوته بأن يستفسر لي عن مصير سليم، ولكنني الآن أتصرف وكأن الأمر لا يعنيني بتاتا . ولا ريب أن احمد قد ظن بأن صدمة داخلية قد أصابتني وأعجزتني عن التعبير بمبلغ حزني أو ألمي. غير أنني جهدت لكي أبرهن لأحمد بأنني بالفعل لا احفل بما جرى لسليم.
وكنا في المقهى. ورحت أنظر باحثا عن صاحب المقهى. أردت أن أرى تلك النظرة اللئيمة النافدة الصبر التي تعلو وجهه كلما رأى فلسطينيا . وكنت أعلم بأن الحقير يتمنى، في دخيلة نفسه، لو أن إسرائيل تعود وتجهز على البقية الباقية من الفلسطينيين. رحت أنظر في كل الزوايا غير أنه لم يكن هناك، وحينما سألت النادل عن سر غيابه أخبرني أنه في المستشفى. وفكرت بأن ترددنا على المقهى لا بد قد جلب له المرض. وكدت أن أفضي بالأمر إلى أحمد وارى أثر ذلك عليه. وكنت أعلم بأنه سيغضب ويشتم صاحب المقهى وكل أعداء شعبنا، أو جماهير شعبنا المناضلة، على ما كان يقول دائما .
وكنت أحب الإصغاء إلى أحمد غير أنه عاد يخبرني بالمزيد عما حدث لسليم. بدا وكأنه عازما على أن يثير عطفي على صديقي الذي ق تل، لا لشيء إلا لأنني لم أظهر أدنى حزن عليه. لم يكن احمد يطيق سليما أو أي شخص آخر من شاكلته، غير انه فك ر بأن من المتوجب علي أن اظهر بعض الحزن لموته. وقلت لنفسي بأنه حينما يتصل الأمر بالنفاق فإن أحمد لهو رب النفاق!
وقال لي بأن سليما كان قد تعرض للتعذيب، وانه لمن الممكن أن يكون قد قضى تحت التعذيب. وقال بأنه اعترف قبل أن يموت بأنه كان يسطو على بيوت المسؤولين وعلى القواعد العسكرية ومخازن السلاح. واخبرني انه تسلل مرة إلى إحدى القواعد وكان الجميع نياما ، فما كان منه إلا أن لم كافة البنادق التي وجدها. وانه في مرة أخرى ملأ صندوق السيارة الخلفي بصناديق الذخيرة. وانه كان يبيع السلاح المسروق لكل من يرغب ابتياعها وبسعر التراب. وراح يبدي الأسف لأن في الثورة محل لأمثال سليم. غير انه سرعان ما استدرك، مبديا الأسف لموته.
وجعل يحدق في لكي يرى اثر هذه الأخبار علي . وازداد حيرة حينما أيقن بأن شيئا مما قال لم يثر انفعالي. وكنت في الحقيقة قد ضقت ذرعا بحكاية سليم وأردت تغيير الموضوع فسألته عن سير المسرحية.
"ماذا؟« سأل باستغراب، وكان لا يزال حائرا إزاء عدم اكتراثي لما جرى لصديقي الميت.
غير انه سرعان ما انبسطت أساريره. وكنت اعلم بأن احمد ما كان ليبدد فرصة للحديث عن المسرحية، أو عن أي أمر وثيق الصلة بقضيتنا العادلة، حتى لو كان الميت اقرب المقربين إليه. وانبرى يزف إلي خبر دنو موعد الافتتاح. واخبرني بأنه قد تسنى له رؤية البروفات النهائية، وان كل شيء بدا رائعا ، وكما كان قد خطط له تماما . وأضاف بأنه لم يكن مصيبا في أمر في حياته إصابته في إناطة "فرقة النضال الفنية« مهمة أداء المسرحية. وبالفعل فقد بدا راضيا عن نفسه تماما ، وجعل يتحدث عن مبلغ براعته في إدارة كافة شؤون المسرحية. وقال لي بأن مخرج المسرحية قد أظهر من الوعي السياسي والفني المتكافئ ما يثير الإعجاب حقا . وقال لي بأن الممثلة الفلانية التي ظهرت على التلفزيون في أدوار ثانوية هي التي ستلعب دور "أم سعد«. وان فلانا ، الشاب الموهوب ذو المستقبل الناجح في العالم الفني ، هو الذي سيلعب دور سعد، وان علانا سيلعب دور المختار وهكذا. ولم اكن قد سمعت بأي منهم. غير أن احمد كان يخبرني بأمرهم كما لو كان من المتوجب علي أن أعرفهم معرفة أقاربي اللزم.
"الفن..! الفن هو الذي سينتشلنا من حالة الردة التي نعيشها!" طفق يهتف بصوت مختنق بالحبور.
"وماذا عن الانتفاضة؟« سألت منبها إياه إلى انه في غمرة احتفائه ببراعة المسرحية التي يشرف على إنتاجها قد اغفل "الانتفاضة". وهو كان يعتبر الانتفاضة الرد الوحيد على حالة الانحدار التي نعيشها.
"نعم الانتفاضة أيضا !" قال مستدركا ، "لكن الانتفاضة نفسها عمل فني ." أضاف بعض قليل وقد اتسعت نظرة الرضا الذاتي التي ما انفكت تعلو وجهه منذ بدأ الكلام عن المسرحية.
وقلت لنفسي بأن رضاه عن نفسه هذا لم يكن نتيجة تخلصه من شرك السؤال، وإنما لما أبداه من سرعة الخاطرة. غير أن رضاه لم يدم طويلا ، وكنت أضمرت بالا اجعله يدوم. ولقد حدق في متوقعا أن أبدي إعجابا بما قاله، أو بالطريقة التي قالها. غير انه لابد وقد لاحظ بأنني كنت أنظر إليه كمن ينظر إلى شخص قد أطلق ريحا كريها من فمه. وكنت في غير مناسبة قد أخبرت أحمد بأن هناك من الناس من يتكلم ويظن بأنه يقول أشياء مفيدة، غير انه في الحقيقة يخرج أصواتا كريهة من فمه. وفي مرات كنت اقصد أولئك الناس الذين كانوا يجالسوننا من دون استئذان ويشرعون بالكلام عما يظنون ويتوقعون، وفي مرات أخرى كان المقصود هو نفسه. وقلت لنفسي انه لا ريب قد تذكر قولي هذا، وان النظرة المشمئزة التي قابلت بها قوله بأن الانتفاضة لهي عمل فني ، إنما مغزاها أن كلامه هراء في هراء. وتراءت الخيبة على وجهه، وبدا محرجا ، فسارع يمد يده إلى جيب فيلده الكبير مخرجا مغلفا سميكا، فتحه وسحب منه بطاقتين بيضاوين وناولني إياها.
"بطاقة لك وأخرى لصديق إذا ما أحببت إحضار صديق معك!"
وكانتا بطاقتي دخول إلى المسرحية. وجعلت اقرأ ما خط عليهما: "يتشرف الاعلام المركزي وفرقة النضال الفنية بدعوتكم.." وقبل أن أكمل القراءة سارع إلى القول بأن موعد العرض يوم الخميس القادم الساعة السابعة مساء .
"لا تنسى!" قال بنبرة صوت تشي بأنه يعلم بأنني سأنسى أو سأختلق عذرا لكي أتهرب من الحضور.
غير أنني لم أعتذر ووعدته بأنني سأحضر من غير تلكؤ. وقلت بأنني سأذهب أولا لرؤية وكيل السفريات، ومكتب هذا إنما هو قريب إلى المسرح.
"أما زلت مصرا على السفر؟" سأل احمد بنبرة أسى.
وأحببت تلك النبرة، ولم أظن بأن أحدا سيأسى لرحيلي. فلا شك بأن أهلي سيكسرون جرار الفخار خلفي، شاكرين الله لأنهم قد أفلحوا في التخلص مني أخيرا . أما مسؤول الحزب الذي كنت أنتمي إليه فإنه سيبارك هذه الخطوة طالما إنها ستوفر على ميزانيته الراتب الذي يدفعه لي. وقد يبرر سعادته برحيلي قائلا انه يأمل أن اشرع بتأسيس نواة للحزب في ألمانيا.
وكان مسؤول الحزب هذا غالبا ما يحدثني عن الرفاق الذي ذهبوا إلى هذا البلد أو ذاك وأسسوا نواة حزبية أضحت اليوم من أهم فروع الحزب وأكبرها. وعلى رغم أن حزبنا لم يكن اكبر من "حزب التحرير الكردستاني" بكثير إلا أن المسؤول كان على يقين لا يتزعزع بأن للحزب أنصارا في كل أنحاء العالم. ولطالما سمعته يد عي بأن رفاقنا في الضفة الغربية لهم مساهمة فع الة في الانتفاضة، وأن رفاقنا في موسكو يؤدون من الأنشطة ما بين الطلاب الفلسطينيين هناك ما أثار إعجاب الرفاق السوفييت. وكنت حينما اسمعه يقول كلاما كهذا اعرف بأن الرجل يوطن الأمل على لقاء الرفيق غورباتشيف نفسه.
وكنت أقول لنفسي بأنني إذا ما أفلحت في الرحيل فإنني لن أعود أبدا . غير أنني كنت أقول لنفسي أشياء أخرى كثيرة، غالبا ما كنت أنساها بعد ثوان من قولها.
"خسارة! خسارة..« شرع أحمد يتحسر من جديد، "إننا نخسر طاقاتنا النضالية يوما بعد يوم!"
استولت علي الدهشة لدى سماعي هذا الكلام، وجعلت أحدق فيه لأرى إذا ما كان جادا في ما يقول. فلم اكن أتصور بأنني طاقة نضالية، أو أية طاقة على الإطلاق. وكانت الأقراص التي دأبت على تناولها قد هد ت قواي الجسمانية وأوهنت ذاكرتي بحيث أمسى من العسير علي في كثير من الأحيان أن أتذكر إلى أين أنا ذاهب، أو من أين أنا قادم، أو حتى أن أعرف إذا ما كانت ذاهبا أم آيبا أصلا .
وخشيت أن يتمادى أحمد في التحسر على فقداني كطاقة نضالية لا تضاهى، فجعلت أبحث عن شيء ينسيه حكاية سفري هذه.
تمنيت أن يعود إلى الكلام عن المسرحية، أو القضية العادلة، أو أي شيء آخر ما عدا خسارتي كطاقة نضالية. وقلت لنفسي بأنني أحب الإصغاء إلى أحمد، خاصة حينما يتكلم عن قضيتنا العادلة.
وتذكرت حكاية أبي شيفان. فابتهجت في سري مدركا بأن ذلك كفيل بأن يشغل احمد عن أمري. وسألته إذا ما كان قد رأى أبا شيفان، وأخبرته انه كان يبحث عنه لكي يستعيد منه الخمسين ألفا التي أخذها منه. تعمدت أن أقول خمسين ألفا عوضا عن أربعين فقط. وكما قد رت أن تكون ردة فعله، فلقد جن جنونه وطفق يشتم أبا شيفان وحزبه الحقير والثورة التي أمست وكرا لأمثاله من الحثالة، وعرفات طبعا ، الذي لم يترك نصابا في الأرض إلا وتبن اه وأنعم عليه بالعطايا. ثم راح يتحسر على أرواح الشهداء الذين ما برحت دماؤهم ت نفق على راحة الطفيليين وشذاذ الآفاق القادمين من كل أصقاع الأرض.
وغمرني الحبور فجأة. وقلت لنفسي هذا هو أحمد الذي أحب الإصغاء إليه!
وأصر احمد أن يخبرني بحقيقة ما جرى.
وقال أن أبا شيفان لم يعطه غير أربعين ألفا . وانه اشترى بها أدوات وحاجات كثيرة بغية إصدار تلك النشرة الملعونة التي يريدها أبو شيفان. وان المبلغ الذي حصل عليه منه لم يكن يكفي لذلك فإنه اضطر أن ينفق من جيبه الخاص. وجعل يشتم أبا شيفان من جديد. واخبرني بأن السبب الوحيد الذي حال دون إصدار النشرة هو انه لم يستطع العثور على كردي واحد يجيد الكتابة. بل واخبرني بأن أبا شيفان نفسه لهو رجل أ مي .
"وما الذي كان يتوقعه مني؟" سأل احمد، "أن اكتب بالكردية!"
وراح يشتم. شتم أبا شيفان والأكراد والثورة الفلسطينية والـ.. عرفات. وقال لي بأنه لن يهدأ له بال إلا بعد أن يخرج العكروت أبا شيفان من المخيم. بل انه أقسم أمامي بأنه منذ تلك اللحظة بالذات سيكرس طاقاته النضالية في سبيل إخراجه من المخيم.
"هذه هي قضيتي من الآن فصاعدا !" هتف بعزم وتصميم، وضرب الطاولة بقبضته المضمومة.
ولقد ازداد فرحي. وسعيت جاهدا لكي أتمالك نفسي فلا أنفجر ضاحكا . وقلت لنفسي بأنني حقا احب الإصغاء إلى أحمد. وفكرت بأنه إذا ما تسنى لي الرحيل فإن كلام احمد لهو الشيء الوحيد الذي سأفتقده. أين سأعثر على احمد آخر في العالم؟ تساءلت وجعل الحزن يغشاني. غير أنني كنت موقنا بأنني ما أن أرحل عن هذه البلاد حتى أنسى كل شيء. سأنسى احمد قبل غيره. وإذا ما تذكرته على الإطلاق فإنما من باب التندر والسخرية. فقد نسيت سليما وأنا لا أزال هنا، فلماذا لا أنسى احمد كأنه مجرد شخص عرفته معرفة عابرة. وربما من الأفضل أن أنسى!
نعم! قلت لنفسي، سأذهب إلى ألمانيا وأعمل عكروتا في أحد البارات وأنسى احمد وجميع الناس. وقلت لنفسي بأن على المرء أن ينسى وفكرت بأن من حسن حظي أنني أتناول تلك الأقراص التي تجعلني أنسى بسهولة. غير أنني رحت أفكر بالناس الذين عرفتهم، الناس الذين أحببتهم والذين كرهتهم. ويا الهي كم كرهت ناسا وتمنيت لو انهم يموتون فنرتاح من سمائهم.
X
غادرت المقهى تاركا أحمد جالسا لوحده.
تركت أحمد، ولا أعلم لماذا أو كيف تركته. ولا بد وأنني اختلقت عذرا ما كي اتركه لوحده. وجعلت أمشي في الشوارع على غير هدى. ولقد استولى علي دوار مفاجئ. وكان ثمة شيء ما يدق في رأسي. كان ضجيجا ، استولى علي ، وشغلني عن كل ما حولي. وفكرت بأن اذهب إلى البيت وآوي إلى الفراش. غير أن هذه الفكرة لاحت بالنسبة لي أشبه بكابوس لا ي طاق. وحسبت بأنني إذا ما عدت إلى البيت وأنا على تلك الحالة فإن لمن المحتمل أن أجهز عليهم جميعا . ومن دون أدنى إحساس بالخجل أو التردد تخيلت نفسي داخلا البيت، فأسمعهم يتشاجرون ثانية. عندها ادخل إلى غرفة النوم من دون أن أعير أحدا التفاتة، أجلب الكلاشنكوف وأطلق النار عليهم جميعا .
وراقت لي هذه الفكرة كثيرا ! أن أجهز عليهم جميعا ! قلت لنفسي. أطلق النار عليهم واذهب إلى المطبخ وأصنع لنفسي فنجان قهوة. أو لربما من الأفضل أن أطلق النار على نفسي، أو ربما أذهب إلى الشقة المجاورة وأطلق النار على أصحابها. فهم كانوا أيضا أخوات… كنت أريد أن أطلق النار على أحد ما. وتراءت لي صورة وكيل السفريات. ذلك النصاب! رددت بصوت مهموس ولكن مشبع بالمرارة.
وأقسمت بأن اذهب إليه فإذا لم يكن قد حصل على تأشيرة دخول إلى ألمانيا أقتله! وجعلت أحث الخطى باتجاه مكتب وكيل السفريات، غير أنني تنبهت إلى أنني لم اكن احمل سلاحا . وفكرت بأنني يجب أن اذهب إلى البيت أولا لكي اجلب الكلاشنكوف. واستدرت ورحت أسير باتجاه البيت، غير أنني لم أسر طويلا . ولقد داهمني إحساس بأنني إذا ما دخلت البيت وأنا على تلك الحالة، فإنني لن أ غادره قبل أن أقتل كل من فيه.
ووقفت في منتصف الطريق لا اعرف ماذا افعل.
وقلت لنفسي بأنني لا بد وقد أ صبت بالجنون. ولا بد وأنه جنون أشبه بجنون هاملت! قلت لنفسي، وقد راق لي أن أفكر بأنني اقف موقف هاملت نفسه: أسير أو لا أسير ذلك هو السؤال؟
وقررت فجأة أن اكتب قصيدة تبدأ على النحو التالي:
"ليتمجد اسمك يا هاملت!
فلو انك كنت تعيش في هذا البلد
لصرت عكروتا كبيرا
قو اد ثورة أو.. نضال!"
واحسست بنشوة تسري في جسدي. وقلت في سري بأن هذه علامة خير. وان كل شيء سيمضي على خير ما يرام من الآن فصاعدا .
وقررت أن اذهب لرؤية دلال.
وذهبت إلى دلال، ثم ذهبنا إلى بيت أبي رمزي. وقال لي أبو رمزي: "أنا افهم الوضع..افهم الوضع!«
ودخلنا إحدى الغرف الخالية.
وغرقت في نوم عميق.
نمت طويلا وعميقا . وحلمت بأنني في الجحيم، وأنني لقيت الشيطان وقبلت يديه وقدميه. وكان لقدميه رائحة مثل رائحة جسد دلال، ثم أنني طلبت المغفرة والصفح منه. وقال لي بأنه سيغفر لي شريطة أن أكمل القصيدة التي كنت قد شرعت في كتابتها. غير أنني كنت قد نسيت ما كتبت، بل ونسيت كل شيء عن تلك القصيدة. جعلت أتذرع بأنني لا أحب الشعر. بل أنني لا احب الشعراء. وقلت للشيطان بأن جل الشعراء لهم حفنة من الأدعياء الجهلة، وانه لو كان قي ض أمرهم لي لأمرت باحتجازهم في معسكرات العمل ولجعلتهم يعملون في سبيل تحصيل رزقهم عوضا عن الحياة الطفيلي ة التي يعيشون.
ووافقني الشيطان على رأيي وقال لي أنه هو نفسه قد ضاق بهم ذرعا ، ووعدني بأن يبت في أمرهم في أقرب فرصة، لكنه رجاني أن اكمل تلك القصيدة. وأعطاني ورقا ابيض. ومضيت منزويا في إحدى زوايا الجحيم ورحت اعتصر دماغي بغية إكمال القصيدة:
"ليتمجد اسمك يا هاملت!
فلو انك كنت في هذا البلد.."
غير أنني غفوت.
نمت نوما عميقا وحلمت بأنني جالس في المقهى. وحلمت أن صاحب المقهى يصرخ بي: "حل وا عن ظهرنا!"
غير أن احمد كان يشرح لي أهمية الفن الواقعي في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ قضيتنا العادلة. فرددت عليه بأن الواقعية هي فن الفاشلين. لكنه أصر على أنها الأسلوب الأنسب لقضيتنا، فما كان مني عندها إلا أن سألته بأن يدس قضيتنا العادلة في قفاه ويريحنا منها.
وفكرت بأن اكتب قصيدة أخرى تحمل عنوان "قضية عادلة في مؤخرة صديقي احمد!"
ونمت نوما عميقا .
وجعلت أهبط من نوم عميق إلى نوم أعمق. وقلت لنفسي بأنني في طريقي إلى الموت. ولكنني تنبهت إلى أنني ميت أصلا . وسألت نفسي هل يموت الأموات؟ وفكرت بأن هذا السؤال قد يصلح موضوعا لاستفتاء المثقفين العرب.
هل يموت الأموات؟
يسأل صحافي يعمل في صحيفة مشهورة بكثرة استفتاءاتها وقلة فائدتها.
مثقف رقم واحد: ما هذا الكلام الفارغ؟ هناك انتفاضة..هناك أطفال يواجهون العدو الصهيوني بصدورهم العارية وانتم تسألون هذه الأسئلة العبثية.
مثقف رقم اثنين: في تقديري هناك موت في الحياة. في حقيقة الأمر فإن الموت لهو وجه من وجوه الحياة، والحياة وجه من وجوه الموت. والموت درجات..
مثقف رقم ثلاثة: أظن بأن من المتوجب علينا أن نفك ك سؤال "هل يموت الأموات؟"
XI
ولكنني لم أمت.
نهضت ذات صباح ووجدت بأنني ما زلت حيا . وشعرت برغبة قوي ة في التقيؤ. ولكنني لم أفعل. خرجت من الغرفة ويممت شطر غرفة أبي رمزي، وطرقت الباب بتردد.
أطل علي وجه أبي رمزي، وديعا مسالما ، فأحسست بالاطمئنان. وسألته وأنا أحس بخجل كبير في أي يوم نحن. فقال لي انه يوم الجمعة، فأدركت بأنني قد نمت لمدة ثلاثة أيام، فازداد خجلي. وأردت أن اعتذر لأبي رمزي غير أن الرجل قال بأنه يفهم الوضع جيدا . وتشجعت فسألته إذا ما كان بوسعي الاغتسال، فأومأ بالإيجاب.
وذهبت إلى التواليت واغتسلت. وجعلت أفكر بأن أبا رمزي رجل طيب بالفعل ويعني ما يقول تماما . إن أبا رمزي يفهم الوضع جيدا ، قلت لنفسي، غير أن هذا ليس بوضع ي طاق. وقلت لنفسي بأنني يجب أن أتحرك. وعقدت العزم على الذهاب رأسا إلى وكيل السفريات. سأرى إذا ما كان قد حصل لي على تأشيرة الدخول إلى ألمانيا. سأكون واضحا وصريحا معه. سأقول له بأنني لا أتوقع منه أن يقوم بالمعجزات، وانه إذا لم يكن قادرا على الحصول على تأشيرة دخول إلى ألمانيا، فإنني مستعد لقبول أية تأشيرة دخول إلى أي بلد آخر، إلى الصين أو الصومال.
سأكون صريحا معه وأقول له دب ر لي أمر الخروج من هذا البلد من أي سبيل.
وأحسست بشيء من الاطمئنان. غير انه كان اطمئنانا لا يدوم. إذ سرعان ما جعل الشك يتسلل إلى نفسي. وخشيت ألا يكون هناك بلد واحد مستعد لان يمنحني تأشيرة دخول. أن توصد سفارات العالم أبوابها في وجهي.
"لا يمكننا القبول بشخص كهذا« سيقول موظفو السفارات والقنصليات الأجنبية الواحد تلو الآخر.
"عليك أن تبقى هنا!" سيقول موظف.
"عليك أن تموت هنا!" سيقول آخر.
وارتديت ثيابي على عجل. وقررت أن أتوجه إلى مكتب السفريات من دون تلكؤ. كنت أريد الاطمئنان إلى أن ثمة بلدا واحد على الأقل مستعد للقبول بي. وكنت واثقا بأن وكيل السفريات سيؤكد لي بأن هناك الكثير من السفارات التي تمنح تأشيرات الدخول لأي إنسان. سيكذب علي ثانية، ويقول هذا الكلام أو كلاما يشبهه. وكنت أريد أن اسمعه يقول كلاما كهذا، حتى وإن كان كاذبا . وداخلني الاطمئنان ثانية. ورحت أسير في الشارع وأنا أحس برغبة في إطلاق صفير ابتهاج. غير أنني لم اكن أجيد الصفير.
ولكن هل يدوم ابتهاجي وقتا طويلا ؟ هل أكون سعيدا لأكثر من دقائق معدودات؟
لا وألف لا!
لقد كتبت علي التعاسة منذ ولدت، قلت لنفسي، ما إن بلغت مكتب السفريات ووجدته مغلقا . وكنت أحب أن أقول لنفسي أشياء كهذه كلما واجهت محنة من المحن. وأحيانا كنت أحب أن اردد مثل هذا الكلام حتى من دون أن أتعرض لأية محنة، فما بالك وأنا أواجه محنة كهذه؟ وأي محنة أشد من هذه وقد أ قفلت أبواب العالم في وجهي؟
وهأنذا أقف أمام باب مكتب وكالة السفر، فأجد الباب مسدودا بألواح الخشب. هأنذا اقرأ الورقة الملصقة إلى جانب الباب. والورقة تفيد بأن هذا المكتب قد تم إغلاقه في تاريخ كذا وكذا بأمر من التنظيم الأمني التابع إلى..الخ. وان من عنده استفسار فليتوجه إلى مكتب التنظيم القائم في شارع.. إلخ.
ولم احتج إلى ذكاء العبقري لكي أعرف ما جرى. لقد كان وكيل السفر نصابا ، كما قدرت منذ البداية. لقد حسبته نصابا وتبين بأنه نصاب بالفعل. سرق الأموال التي حصل عليها مني ومن سواي واختفى. حكاية تقليدية لا تستحق أن ت ذكر أصلا .
غضبت وبكيت.
ولفرط ما بكيت سال دمع على خدي. وحدق الناس في وظنوا بأنني قد خرجت للتو من السينما بعدما شاهدت فيلما هنديا مزقت حكايته المأساوية نياط قلبي. لا بد وان الناس قد ظنوا ذلك. وكيف لأحد أن يبكي على هذا النحو ما لم يكن قد شاهد فيلما هنديا . غضبت وبكيت، غير أنني سررت وضحكت أيضا .
سررت لأنني قد أصبت الظن بأمر وكيل السفر. لم اكن قد أصبت الظن في أيما أمر منذ أعوام عديدة. وكانت ظنوني خائبة على الدوام. ولكنني أصبت الظن أخيرا: لقد حسبت بأن الرجل نصابا ، وقد تبين بأنه نصاب بالفعل. وفكرت بأن اذهب إلى أهلي وأخبرهم بأن ظني قد صدق في النهاية. وسأخبرهم بالأمر فتغمر السعادة قلوبهم ويحسون بالافتخار لأنهم أنجبوا ابنا مثلي.
سررت وضحكت، ورحت أطلق ضحكات هستيري ة عالية بينما كنت أنتقل من طريق إلى طريق. وحدق الناس في وظنوا بأنني قد شاهدت فيلما كوميديا . واستأنفت السير باتجاه المقهى وأنا ما أزال اضحك. وعقدت العزم على إخبار احمد ما جرى فيشاركني الضحك. وقلت لنفسي أن احمد شاب طريف ولا يفتقر إلى روح الدعابة. فهو على رغم ثرثرته المتواصلة حول قضيتنا إلا إنه لن يضيع فرصة للضحك كهذه.
وظللت أضحك إلى أن دنوت من المقهى.
وفجأة أبصرت أمام المقهى حشدا من الناس وسيارة عسكرية ورجالا مسلحين. وبدا لي بأن أمرا خطيرا قد وقع هناك. وما أن اقتربت حتى رأيت زجاج الواجهة الأمامية محطما ، وكانت الكراسي والطاولات في الداخل ق لبت رأسا على عقب. ورحت أتلفت حولي محاولا العثور على أحد من رو اد المقهى الذين كنت اعرفهم فأتبين سر ما جرى. ورأيت احمد بين الواقفين، فشققت طريقي نحوه. وسارع إلى إخباري بأن صاحب المقهى قد فقد عقله.
ج ن فجأة وطرد الزبائن وشرع يحطم الطاولات والكراسي، قال أحمد.
وتدخ ل شاب كان يقف بمحاذاتنا وأخبرنا بأن صاحب المقهى كان قد اكتشف بأن غلة المقهى قد س رقت فطار صوابه. كان قد ذهب إلى التواليت، وحينما عاد وجد أن الغل ة قد س رقت، فجن .
وتدخل شخص ثان واخبرنا بأن حكاية السرقة هذه غير صحيحة. وقال بأن الرجل كان مريضا وقد مكث في المستشفى بضعة أسابيع، وأنه منذ خروجه من المستشفى وهو لا ينفك يتهم الناس بالسرقة.
وتدخل شخص ثالث وقال لنا بأن الرجل قرف من المقهى، وأن هذا هو السبب الذي جعله يدخل المستشفى أصلا .
.. وكان هناك آخرون يقولون أشياء أخرى.
وقلت لنفسي بأن ترددنا على المقهى هو الذي جعله يقرف من المقهى ومن الحياة.
XII
لقد جن صاحب المقهى، إذا ، قلت لنفسي. وكنت أتوقع حدوث أمر كهذا ببالغ الصبر!
وأحسست بالسعادة.
وهز احمد رأسه بأسف وقال لي "هيا بنا!".
وجعلنا نبتعد.
وقال لي بأنه يعرف مقهى آخر يمكننا الذهاب إليه الآن، بل وممن الممكن التردد عليه في المستقبل. وسألت نفسي عن أي مستقبل يتكلم هذا الأحمق؟
وما إن سرنا قليلا حتى توقف فجأة، ونظر إلي وكأنه لاحظ وجودي للمرة الأولى.
"وماذا حصل لك أنت؟" سأل باستنكار، "أين كنت؟"
فكرت بأن اخبره بأنني نمت لمدة ثلاثة أيام. غير أنني أيقنت بأنه لن يصدقني. سيظن بأنني كنت اسخر منه. وأخبرته بأمر وكيل السفر، وكيف سرق الأموال وفر . وقلت له بأنني منذ ثلاثة أيام وأنا منشغل بهذه القضية. وأنه لهذا السبب بالذات لم استطع حضور المسرحية. وخشيت أن يستجوبني فيدرك بأنني كنت اكذب، فسارعت إلى سؤاله كيف سار عرض المسرحية.
"جيد! جيد!" أجابني باقتضاب وتحفظ .
وداخلني شك بأن الأمر لم يسر على خير ما يرام أبدا . وأحسست بالأسف تجاه أحمد. وكان أسفا جديا ، فقد كنت أعلم كم كان يعو ل على نجاح المسرحية. وسرنا صامتين إلى أن التفت إلي زافرا بثقل.
"لا يمكنك أن تتصور قلة ذوق بعض الناس!" قال لي فجأة.
"لم ؟ ما الذي حدث؟"
"تعرف أن المسرحية قد نالت إعجاب الجمهور عموما . غير انه كانت هناك قل ة حقيرة فعلا ."
قال وراح يخبرني كيف أن ستة أو سبعة شبان من المشاهدين لم يكف وا عن إطلاق التعليقات الساخرة طوال عرض المسرحية. وانه كلما كان الفدائيون يظهرون على الخشبة كان الشبان يصفرون ويهتفون بسخرية:
"حرروها! حرروها!"
"أما في النهاية، أي حينما تهتف أم سعد بابنها: إذا لم تناضل أنت وإخوانك الشبان من أمثالك فمن سيناضل ويحرر فلسطين؟..
أتعرف بما رد أحد هؤلاء السفلة؟" سألني احمد.
"ماذا؟" سألت، وكنت متشوقا لسماع الإجابة.
"بيجيبوا أكراد!" قال احمد بصوت ملأه الحزن، "هل يمكنك أن تتصور مستوى العبثية التي بلغها البعض منا؟"
لم اكن أتصور أيما شيء في تلك اللحظة. كنت فقط أغالب رغبة في الضحك ساحقة. وأحس احمد بما يدور في خلدي وهز رأسه بأسى.
ولم أتمالك نفسي في النهاية وانفجرت ضاحكا ، مرددا: "يجيبوا أكراد! يجيبوا أكراد!"
ونظر أحمد إلي نظرة عتب، فقلت له وأنا لا أزال اضحك: "لقد قلت لك بأن قضيتنا قد تجاوزت طور الواقعية الرمزية، وإنها قد دخلت طور السوريالية!"
"لعنك الله!" قال وقد انبسطت ملامحه قليلا .
"لماذا؟"
"لأنك عبثي مثلهم." قال وقد أضاءت وجهه ابتسامة مكر، وأردف بعد قليل: "وماذا عنك وعن وكيل السفريات الذي احتال عليك؟ أظن أن هذه سوريالية أيضا ؟"
"نعم سوريالية. كل شيء أصبح سورياليا الآن!"
"يا لك من مغفل!« قال ضاحكا بشماتة، "تضع ثقتك بنصاب لكي يوصلك إلى ألمانيا."
وضحكنا سويا . وفكرت بما أننا قد بلغنا هذا الحد من المزاح فلا بأس إذا ما أخبرته بحقيقة ما جرى لي في غضون الأيام القليلة الماضية. سر احمد في البداية. غير أنني ما إن أخبرته بأنني حلمت به وأنني كنت على وشك كتابة قصيدة تحمل عنوان "قضية عادلة في مؤخرة صديقي أحمد" حتى زايلته ملامح الانشراح واستولت عليه نظرة صارمة.
"أنت مجنون!" هتف بي غاضبا .
"وأنت نصاب مثل أبي شيفان!"
بوغت بهذا الاتهام، وجعل ينظر إلي بنظرة امتزج فيها الاستغراب بالغضب.
"مثل أبي شيفان؟« صرخ ولم يعد في وسعه تمالك أعصابه، ولكمني فهويت وأنا أحس بألم شديد أسفل حنكي.
"يلعن أبوك!« صرخت به والتقطت حجرا وقذفته به، إلا أنني لم أصبه. وحاولت التقاط حجر آخر فسارع إلى الفرار، ورحت أشيعه بالشتائم، ثم هتفت بأعلى صوتي: "يجيبوا أكراد!"
وانفجرت ضاحكا .
وبعد قليل نهضت نافضا الغبار عن ثيابي. وفكرت بأن اذهب إلى البيت، غير أنني عدلت عن الأمر وقررت الذهاب لرؤية دلال. واعتراني حزن مباغت. وكيف يمكن لأي امرئ إلا يعتريه الحزن حينما يفكر بامرأة مثل دلال؟ وقلت لنفسي بأنني سأعرض عليها الزواج. سنتزوج ونقيم في المخيم وننجب عشرة أولاد وسيموتون فتلصق صور هم على جدران البيوت ويكتب أسفل كل صورة "الشهيد البطل فلان الفلاني.. ولد في كيت وكيت واستشهد وهو يتصدى للعدو الصهيوني."
بعد ذلك تأتي إسرائيل ثانية، تدمر المخيم وتذبح أ ختنا، فنموت ونرتاح من حياة الزفت هذه.
XIII
سرت باتجاه المخيم وكان المساء قد بدأ ينتشر. وبقيت أمشي إلى أن سمعت هتافا صادرا من داخل المدرسة الابتدائية.
"وحوش.. وحوش.." بلغني صوت التلاميذ من الداخل.
وتسلقت سور المدرسة ونظرت فرأيت صفين من الأشبال في منتصف الملعب. وكانوا واقفين وقفة تأهب عسكرية، بينما كان المدرب يقف أمامهم، هاتفا بهم بين الحين والحين:
"جوعانين؟"
فيرد ون عليه بصوت واحد: "وحوش!"
فيعود ويهتف بهم سائلا:
"عطشانين؟"
فيردون بالصوت نفسه: "وحوش!"
وتذكرت بأنني كدت أن أصير شبلا في يوم من الأيام.
كنت أتسلل من البيت وأذهب إلى معسكر الأشبال لكي أتدرب مع الأولاد في سني. وكان أبي قد نهاني عن الاقتراب منهم. وكان أبي لا يحب الفدائيين ويعتبرهم معشر كسالى وعاطلين عن العمل.
ومرة ضبطني وأنا في المعسكر. رأيته ينظر نحوي من خلف السياج، ولم يكن في وسعي الاختباء أو الهرب. تركت طابور الأشبال من دون كلمة، وسرت باتجاهه منكس الرأس وأنا أتحسب العقاب الذي ينتظرني.
حسبت بأنني حينما أصل إليه فإنه سيمسك بي من أذني ويجرني إلى البيت. وهناك سينهال علي ضربا براحته الخشنة الثقيلة محذرا إياي بأنني إذا ما تجرأت على فعل ذلك ثانية فإنها ستكون نهايتي.
غير أنه لم يفعل.
حينما دنوت منه استدار ومشى أمامي، تبعته والخوف يملأ قلبي. ورحنا نسير في شوارع المخيم متجهين إلى البيت. ومررنا بمحاذاة بائع بوظة، فما كان منه إلا أن توقف واشترى قرطاسين كبيرين. ناولني أحدهما وأشار إلي بأن اقف في ظل البيت المجاور.
كان ذلك أكبر قرطاس بوظة قد حصلت عليه. ولم اصدق عيني. رحت ألعق البوظة مسترقا النظر إليه. ورأيته واقفا هناك يلعق البوظة وينظر إلى البعيد. وحينما فرغنا اقترب مني وسألني بصوت ودود لم أعهد منه قبل ذلك اليوم: "أتريد أن تعود إلى أصحابك؟"
كدت أن أجيب بنعم. أردت أن أجري عائدا إلى المعسكر منتشيا بالسرور.
"لا!" قلت له، "أريد أن أذهب معك إلى البيت!"
أردت أن أرضيه. ونظر إلي مبتسما.
"وحوش.. وحوش.." سمعت الأشبال يهتفون.
وأحسست بالعطش.
أحسست بالعطش والجوع. وكدت أصرخ "ليتني صرت شبلا !"
غير أنني وجدت نفسي أهتف:
"ليتني أرحل عن هذا البلد!"
سمير اليوسف (ناقد وقاص فلسطيني في انجلترا)